مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

اللفظ المذكورة فى تعريف الفن ، فتخرج عن تعريف الفن وهى منه ، ثم أشار إلى أن المقصود من الفن منحصر فى ثمانية أبواب ، ليقف طالبه على معانيه من تسامى الأبواب فى الجملة ، فإن ذلك مما يزيد الحرص فيه والبصيرة فى أموره ، ولم يعتبر التشبيه ولا تعريف الفن ، لعدم كونهما من المقاصد (وينحصر) المقصود من هذا الفن وهو فن المعانى (فى ثمانية أبواب) ولما كان الفن لا يصدق على الباب الواحد من هذه الأبواب كان حصره فى الأبواب من باب حصر الكل فى الأجزاء ؛ لأن الكل لا يصدق على كل جزء كحصر السرير فى الخشب والمسامير مع الهيئة ، لا من باب حصر الكلى فى الجزئيات كحصر الكلمة فى الاسم والفعل والحرف ؛ لأن الكلى صادق على كل جزئى ، ثم بين الأبواب فقال : أول الأبواب : (أحوال الإسناد الخبرى) وثانيها : (أحوال المسند إليه) وثالثها : (أحوال المسند) ورابعها : (أحوال متعلقات الفعل) وخامسها : (القصر) وسادسها : (الإنشاء) وسابعها : (الفصل والوصل) وثامنها : (الإيجاز والإطناب والمساواة) ، ثم أشار إلى وجه الحصر ، وهو استقرائى فقال (لأنه) أى : الكلام (إن كان لنسبته) التى هى تعلق أحد الطرفين ـ وهما المسند والمسند إليه ـ بالآخر على وجه التمام ، وذلك بأن يكون يحسن السكوت عليه معنى (خارج) فاعل لكان والمعنى الخارج : هو نسبة بين الطرفين تتحقق فى الخارج فى أحد الأزمنة الثلاثة من حال ومضى واستقبال (تطابقه) أى تطابق تلك النسبة الخارجية النسبة المفهومة من الكلام ، بأن تكون فى الخارج كما دل عليها اللفظ (أو لا تطابقه) بأن تكون على خلاف ما دل عليه الكلام (فخبر) أى : فذلك الكلام الذى له تلك النسبة خبر ، وذلك كقولنا : زيد قائم فهذا كلام له نسبة مفهومة هى اتصاف زيد بالقيام فى الخارج ، ثم القيام بالنسبة إلى ذات زيد خارجا إما أن ينتسب له على وجه الاتصاف به ، فتكون النسبة مطابقة لما فهم من اللفظ ، فيكون الكلام صدقا أو تكون النسبة بين القيام وزيد نسبته الانتفاء ، بأن لا يتصف زيد بالقيام ، فيكون الكلام كذبا فقد ظهر أن هذا الكلام له نسبة دل على وقوعها خارجا ، وفى نفس الأمر نسبة أيضا أى معنى فى الخارج يطابق فيصدق الكلام ، أو لا يطابق فيكذب ، فهذا الكلام حينئذ خبر (وإلا) يكن لتلك النسبة المفهومة

١٤١

من الكلام معنى خارج فى أحد الأزمنة الثلاثة ، بأن لا يقصد بالكلام حصول نسبة خارجية بل قصد به كون نسبته توجد باللفظ (فإنشاء) أى : فالكلام الموصوف بما ذكر إنشاء كقولك : «بعت» عند قصد إنشاء البيع «وقم» مثلا فإن نسبة البيع إلى الفاعل إنما وجدت باللفظ ، وكذا نسبة القيام للمخاطب على وجه الأمر إنما وجدت بنفس التلفظ ، من غير قصد إلى أن إحدى النسبتين حاصلة الآن أو فى المضى أو الاستقبال ، وفسرنا النسبة بالتعلق الخ ليعم الإخبار ، سواء كان إيجابا أو سلبا شرطيا كان أو حمليا ، وليعم الإنشاء مطلقا وأما تفسيرها بإيقاع المحكوم به على المحكوم عليه أو سلبه عنه ، فلا يصح ؛ لأن ذلك التفسير يوجب تخصيصها بالخبر الحملى دون الإنشاء والخبر الشرطى ، والمقصود أعم من ذلك ومما يزيدك تحقيقا فى انقسام الكلام ـ إلى الخبر الذى يوصف بالصدق والكذب ، وإلى الإنشاء ـ أن الكلام الذى يحسن السكوت عليه لا محالة يتضمن نسبة المسند إلى المسند إليه ، فإن كان القصد منه الدلالة على أن تلك النسبة المفهومة من الكلام حصلت فى الواقع ووقعت فى الخارج بين معنى المسند والمسند إليه ، فذلك الكلام خبر ، وإن كان القصد الدلالة على أن اللفظ وجدت به تلك النسبة فالكلام إنشاء.

فنسبة الخبر المفهومة من اللفظ يدل اللفظ على أنها كذلك فيما بين معنى المسند إليه والمسند خارجا ، لكن لما كانت الدلالة وضعية أمكن تخلفها بأن لا تكون كذلك فيما بين المعنيين فى نفس الأمر ، فيكون الكلام كذبا ، وأن تكون كذلك فيكون الكلام صدقا ، فإذا قلنا : زيد قائم فالمفهوم منه ثبوت القيام لزيد فى الخارج فإذا أردت تحقق المطابقة أو عدمها فاقطع النظر عما يدل عليه اللفظ. ويفهم بالذهن ، وانظر نسبة القيام لزيد خارجا ، فلا محالة تجد بينهما إما نسبة الثبوت بأن يكون هذا ذاك ، أعنى بأن يكون زيد قائما ، وإما نسبة السلب بأن لا يكون هذا ذاك فإن كان الأول حصل الطباق بين المفهوم وما وقع فى نفس الأمر فيثبت الصدق ، وإن كان الثانى لم يحصل الطباق فيثبت الكذب ، وإنما تأتى هذه المطابقة عند قطع النظر عن المفهوم فينسب الواقع عليه ، لأنهما حينئذ شيئان فيحصل الطباق بينهما ، وأما إن نظرت إلى المفهوم

١٤٢

وهو حصول النسبة فى الخارج فلا تعدد للنسبة فلا يطابق ، إذ لا يطابق الشيء نفسه ؛ لأن ما فى الخارج باعتبار دلالة اللفظ عليه هو هو ، وأما احتمال الكذب فهو عقلى لا مفهوم للفظ ، ثم قد سمعت فى تحقيق المطابقة أنها تكون بتحقيق وقوع تلك النسبة المفهومة للفظ خارجا ، فربما توهم أن ذلك ينافى القول المشهور وهو : أن النسبة بين الموضوع والمحمول من الاعتبارات التى لا وجود لها خارجا فيجب أن تعلم أن ذلك لا ينافيه ؛ لأن المعنى بالتحقق خارجا حصول تلك النسبة فى الخارج عن العقل ، واتصاف الموضوع بها ، لا كونها من الأمور الوجودية التى تحقق وجودها خارجا فى العيان.

وفرق بين قولنا : هذا الإمكان أو هذه النسبة حاصلة فى الخارج عن الذهن بمعنى : الاتصاف بذلك فى نفس الأمر ، فإنه صحيح لصحة اتصاف الوجوديات بالاعتبارات كالإمكان وعدم الوجوب وبين قولنا : هذا أمر محقق وجوده فى الخارج والعيان كبياض الجسم مثلا ، فالمراد بالوقوع فى الخارج : الاتصاف بالشيء فيه ، وهذا المعنى صحيح على كلا القولين ، أعنى : القول بأن النسبة وجودية خارجية وهو ضعيف ، أو اعتبارية فيه وهو الحق ، ألا ترى أنك إذا قلت : زيد قائم وصدق هذا القول لزم أن زيدا اتصف بالقيام ، وحصل له فى الواقع على كل حال ولا يسع أحدا إنكاره بعد ثبوت الصدق ، وإلا كان كذبا سواء قلنا : إن النسبة وجودية أو اعتبارية ، وهذا المعنى الذى هو وقوع الاتصاف الجارى على كل قول ، هو الذى نعنى بوجود النسبة أى : حصولها خارجا ، فيجرى على كل قول لا كونها من الأمور الوجودية خارجا ، حتى يختص بالقول بأنها من الأمور المحققة الوجود خارجا ، كالبياض مثلا تأمله ؛ فإنى قد أطلت فيه مع ضرب من التكرار لاستصعاب الناس فهمه من بعض الشروح.

ثم إنك قد سمعت أيضا أن الإنشاء هو الكلام الموجد لنسبته فيجب أن يعلم أن نسبة المسند إلى المسند إليه لا يوجدها الكلام إذ لا يوجب الكلام اتصاف أحد بصفة حقيقية كالقيام أو القعود فى «قم» أو اقعد مثلا أو البيع الذى هو الإبدال المخصوص فى «بعت» مثلا ، وإنما الذى يوجبه الكلام ويقتضيه أن تلك النسبة دل على تكيفها بكيفية عائدة فى حصولها إلى اللفظ فيوجب «قم» «واقعد» مثلا نسبة القيام والقعود للمخاطب

١٤٣

مكيفين بكونهما مأمورا بهما وكون الشيء مأمورا به كيفية يرجع فى وجودها إلى وجود صيغة الكلام وكذا البيع الذى هو الإبدال يفيد بعت نسبته إلى الفاعل مكيفا بكونه وجدت صيغة إنشاء بها اعتباره شرعا لدلالتها على الرضا به فتأمله ؛ فإنه من دقائق هذا المحل والله الموفق بمنه ، فإذا تحقق أن الكلام إما خبرا أو إنشاء احتيج إلى وضع باب للإنشاء ، وهو كاف فيه من حيث هو ، وأما الخبر فله باعتبار ما يعرض لجملته أو أجزائه أبواب أغنى عن ذكر ما يصح اعتباره منها فى الإنشاء ذكره فيها ، وإلى أبواب الإخبار أشار بقوله : (والخبر لا بد له من مسند إليه ومسند) فاحتيج إلى ما بين لجمع أحوالهما (و) لا بد له من (إسناد) فاحتيج إلى باب يشتمل على أحواله (والمسند قد يكون له متعلقات) كالمفعول والحال والمجرور والظرف ، وإنما تكون له متعلقات (إذا كان فعلا أو) ما (فى معناه) كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول ، وما أشبه ذلك كالصفة المشبهة واسم التفضيل ، فاحتيج إلى وضع باب لمتعلقات الفعل ، وهذا الكلام يوهم اختصاص أحوال المسند إليه والمسند إلى آخرها بالخبر ، وليس كذلك ضرورة وجودها فى الإنشاء ، غير أن غالب لطائف هذه الأحوال إنما هو فى الخبر ، فخص بذكرها فيه وما يوجد فى الإنشاء من الاعتبارات الراجعة لهذه الأشياء يستفاد من ذكرها فى الخبر. (وكل من الإسناد والتعلق إما) أن يكون (بقصر) لأحد المسندين وأحد المتعلقين على الآخر (أو) يكون (بغير قصر) لأحدهما على الآخر ، فاحتيج لباب القصر ، ولا يخفى أن القصر من أحوال أحد المسندين وأحد المتعلقين ، ولم يستفد من الكلام وجه إفراده بالباب حتى لم يجعل فى أحوال المسندين ومتعلقات الفعل.

والوجه فى الإفراد صعوبة أمره بكثرة مباحثه بخلاف نحو التعريف والتنكير والتقديم والتأخير مثلا (وكل جملة قرنت بأخرى إما معطوفة عليها أو غير معطوفة) فاحتيج إلى باب الفصل والوصل ، ولا يخفى أيضا أن الفصل والوصل من أحوال الجمل ولم يبين وجه إفراده بالباب ولا وجه إفراد الإسناد مع أن المناسب لكونهما من أحوال الجملة جمعهما ، والوجه الصعوبة فيهما وكثرة المباحث كما تقدم فى القصر ، وكذا الإنشاء ، فإنه من أحوال الجملة أيضا ، ووجه إفراده ما ذكر (والكلام البليغ إما زائد

١٤٤

على أصل المراد لفائدة أو غير زائد) يعنى لفائدة أيضا فاحتيج إلى باب الإطناب الذى هو أن يزاد الكلام على أصل المراد لفائدة ، والإيجاز الذى هو : تقليل اللفظ لفائدة ، والمساواة التى هى عدم الزيادة والتقليل لفائدة ، ومتى لم تكن الزيادة لفائدة كان تطويلا ، ولم يكن الكلام بليغا فالبلاغة تستلزم الفائدة ، ولكن زادها بعد ذكر بليغ لزيادة البيان ، وكذا الإيجاز والمساواة متى لم يكن إسقاط الزيادة فيهما لفائدة خرجا عن معنى البلاغة ؛ ولذلك نبهنا على التقييد بها فيهما ، ومعلوم أيضا أن هذه الثلاثة تتعلق بالمفردات ، أو بالجمل فهى من أحوالهما ولم يبين وجه الحالة إلى إفرادها عن أحوال كل من المفردات والجمل والوجه ما تقدم من كثرة المباحث ، ولما كان حاصل هذا الكلام حصر الأبواب من غير بيان وجه إفراد بعض الأحوال بالتبويب عن بعض ، وحصر الأبواب استقرائى ، لم يفد إلا ما يفيده عدها ، وقد تقدم كان لا طائل تحته مع ظهوره.

وقد أشرنا إلى وجه الإفراد وذلك هو الأهم ، ولما ذكر الخبر ومن وصفه المشهور الصدق والكذب مع الإشارة إلى معناهما بقوله : تطابقه أو لا تطابقه ، وفى ذلك ذكر الصدق والكذب إجمالا وضع لذكرهما تفصيلا تنبيها فقال هذا.

الصدق والكذب

في الخبر

(تنبيه) فى تفسير الصدق والكذب ، وفى ذكر ما يتعلق بهما من الاستدلال والرد والخلاف.

والتنبيه اصطلاحا : اسم لتفصيل ما تقدم إجمالا ، وهو يحتمل أن يراد به المعنى أو اللفظ الدال على ذلك المعنى لا يقال : فحينئذ لا يصح إطلاق التنبيه الاصطلاحى على هذا البحث ؛ لأن المذكور فيما تقدم إجمالا بعد التمحل السابق إنما هو مجرد الصدق والكذب ، لا الخلاف في التفسير والاستدلال والرد والواسطة ؛ لأنا نقول : لا يجب الاقتصار فى الترجمة على مدلولها ، بل يجوز أن يضاف إليه ما يناسبه ، وقد اختلف الناس فى الخبر فقيل : ينحصر فى الصدق والكذب ، وقيل : لا ينحصر بل منه ما ليس

١٤٥

بصدق ولا كذب به وهو الواسطة ، ثم القائلون بالانحصار : اختلفوا فى تفسير الصدق والكذب اللذين انحصر الكلام فيهما فقال الجمهور : (صدق الخبر مطابقت) نسبت (ه) الإيقاعية أو الانتزاعية (ل) لنسبة الكائنة بين الطرفين فى (الواقع) وما فى نفس الأمر ، وذلك أنك إن قطعت النظر عما يفهم من اللفظ من النسبة الحكمية ، فإنك تجد بين الطرفين فى الخارج وفى نفس الأمر نسبة ثبوت أحدهما للآخر ، أو نسبة السلب ، فإن كانت تلك النسبة مطابقة لما فهم من اللفظ ، فمطابقة تلك النسبة الخارجية المفهومة من اللفظ صدق ، وهو معنى قوله : الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وعدم مطابقة تلك النسبة للواقع كذب ، وإليه أشار بقوله (وكذبه) أى وكذب الخبر (عدمها) أى عدم مطابقة تلك النسبة للواقع ، وإنما قدرنا نسبة ؛ لأن الخبر لا مطابقة فيه باعتبار كونه لفظا ولا باعتبار مفرداته ، وإنما تتحقق فيه المطابقة أو عدمها باعتبار النسبة المتضمنة له ، وقد تقدم هذا المعنى فى الفرق بين الخبر والإنشاء (وقيل) : صدق الخبر هو : (مطابقته) أى : مطابقة نسبته المدلولة له (لاعتقاد المخبر) أى النسبة المعتقد للمخبر (ولو) كان ذلك الاعتقاد (خطأ) وجهلا لم يطابق الواقع (وكذبه) أى : وكذب الخبر (عدمها) أى : عدم مطابقته للنسبة المعتقدة ، سواء كانت تلك النسبة كذلك فى نفس الأمر أو لا فإذا أخبر الإنسان بما يبادر كل أحد إلى تكذيبه فيه للعلم بخلافه ضرورة ، وفرضنا اعتقاد مطابقته كان خبره صدقا ، كقوله : السماء تحتنا معتقدا لظاهره ، وإذا أخبر بما ظاهره صدق حتى عند الصبيان والبله معتقدا خلاف ظاهره ، فخبره كذب كقوله : السماء فوقنا ، ولا ينحصر الاعتقاد فى هذا الباب فى الجزم بل يشمل الظن ، وهذا التفسير للصدق والكذب يقتضى وجود الواسطة ، وهو خبر الشاك إذ لا اعتقاد له حتى يطابقه حكم الخبر أو لا يطابقه ، والقائل به ممن يقول بالانحصار ، ولكن إنما يرد عليه إن كان يسمى كلام الشاك خبرا باعتبار أن له نسبة مفهومة كسائر الأخبار ، وأما إن كان لا يسميه خبرا باعتبار أن لا نسبة له فى الاعتقاد لم يلزم ثبوت الواسطة ، وقد يجاب عنه بأن الشاك لما كان لا معتقد له ، صدق على خبره أنه لم يطابق معتقده ، إذ لا معتقد له يطابق ، فنفى الاعتقاد يستلزم عدم مطابقة النسبة للمعتقد ؛ لأن المطابقة للمعتقد فرع

١٤٦

وجود اعتقاده ، فإذا انتفى الاعتقاد انتفت مطابقته ، وهذا الجواب تمحل وتقدير عقلى لا مفهوم من الاستعمال عرفا.

وفى تسمية كلام الشاك خبرا احتمالان تقدم توجيههما وأظهرهما لغة وعرفا التسمية ؛ لأنه إذا كان كلام معتقد الباطل يسمى خبرا ، فأجرى كلام الشاك والقائل بأن صدق الخبر مطابقته للاعتقاد وكذبه عدمها وهو النظام من المعتزلة ، إنما قال ذلك (بدليل) قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)) (١) فقد كذبهم الله تعالى فى قولهم : إنك لرسول الله ، وهو خبر مطابق للواقع ومفهومه حق فالتكذيب لعدم مطابقته لاعتقادهم الفاسد ، فدل على أن كذب الخبر عدم مطابقته للاعتقاد ، فإذا كان الخبر قد جعل كذبا لعدم مطابقته للاعتقاد مع مطابقته للواقع ، فأحرى إذا لم يطابق الواقع والاعتقاد معا ؛ لأنه بالكذب أجدر ، وإذا تحقق أن الكذب مجرد عدم مطابقة الاعتقاد كان الصدق مقابله لعدم الواسطة بالاتفاق من الخصم ، فيكون الصدق هو تلك المطابقة ، فلا يرد أن يقال بعد تسليم أن الكذب ما ذكر لا يلزم منه أن الصدق مطابقة الاعتقاد ، بل ولا أن الكذب مجرد عدم مطابقة الاعتقاد ، لاحتمال أن الكذب هو عدم تلك المطابقة ، مع موافقة الواقع ؛ لأنه هو الموجود فى الدليل ، وهذا الاستدلال ليس من باب إقامة الدليل على التصور ، الذى هو انتقاش معنى التعريف فى القلب ؛ لأن هذا لا يقام عليه الدليل بل هو من باب أن هذا المعنى يسمى فى اللغة أو العرف بكذا ، وهو من التصديق لا من التصور.

(ورد) الاستدلال المذكور بالمنع وهو أنا لا نسلم أن التكذيب راجع لقولهم : إنك لرسول الله ، بل إلى خبر استلزمته الشهادة ، ولو كانت إنشاء وذلك (ب) تأويل (أن المعنى لكاذبون فى الشهادة) باعتبار ذلك الخبر المتضمن للشهادة ، ووجه التضمن أن الشهادة هى إظهار اللفظ الدال على علم الشاهد بمضمون المشهود به علما كالشهود بالعين ، فإذا قال القائل : أشهد إن زيدا لصالح ، فقد أظهر بهذه الشهادة اللفظية أنه عالم

__________________

(١) المنافقون : ١.

١٤٧

بصلاح زيد علما كالشهود ، ويؤكد ذلك إتيانه بالجملة التى أظهر العلم بمضمونها مؤكدة بأن واللام ، ومن لازم مظهر الشهادة بالوجه المذكور عرفا أنها حاصلة عن صميم اعتقاد ذلك المشهود به ، وواطأ ما فى القلب ما فى اللفظ ؛ لأن ذلك هو الغرض المتبادر للسامع من ذلك الإظهار ، ولما كان من لازم الشهادة هذا المعنى وهو أن صدورها من صميم الاعتقاد ، وهذا المعنى يصح الإخبار به فربما نزل صحة الإخبار به منزلة وقوع ذلك الإخبار ، فيعود التكذيب له ، ولهذا يقال : الشهادة تتضمن الإخبار ، وعليه يكون المعنى فى الآية الكريمة : لكاذبون فى الشهادة باعتبار استلزام حال الناطق بها عرفا أنها عن خلوص الاعتقاد وصميم القلب ، فالمكذب فيه هو هذا المعنى لا فى قولهم :

إنك لرسول الله ، وإنما كذبوا فيه ؛ لأنهم منافقون يقولون بأفواههم ويظهرون من حالهم ما ليس فى قلوبهم (أو) بتأويل أن المعنى لكاذبون (فى تسميتها) أى تسمية هذا الإظهار لهذا الإخبار شهادة ، وإنما ألزموا تسمية هذا الإظهار شهادة ؛ لأن من وقع منه معنى لزم صحة الإخبار عنه بأنه يسمى باسمه ، فيصح إن كان ذلك المعنى على غير ظاهره ، أو نزل منزلة ما هو على غير ظاهره أن يكذب الواقع منه ذلك المعنى فى تلك التسمية اللازمة ، ويحتمل أن يكون المعنى : لكاذبون فى تسمية متعلق نشهد ، وهو الخبر المشهود بمضمونه شهادة أى مشهودا به ؛ لأن من شهد بأن أظهر اللفظ الدال على أن المشهود به محقق ، فقد لزم من ذلك صحة الإخبار عن ذلك المشهود به أنه يسمى شهادة ؛ لأنه قام به معنى كونه مشهودا به ؛ فيصح تسميته شهادة ، بمعنى أنه مشهود به فكذبوا باعتبار هذه التسمية اللازمة ، لكن التكذيب فى ادعاء وجود معنى الشهادة الحقيقية وسرها الباطنى وهو التأويل الأول ، يستلزم التكذيب فى وجود التسمية الحقيقية المدعاة باقتضاء الحال لها ، فالتأويل الأول يغنى عن هذا ، على أنا لا نسلم أن التسمية تتوقف على كون الشهادة مطابقة فتصح مع غير المطابقة ، فلا يصح التكذيب فى التسمية ، وحمله على التكذيب فى التسمية الحقيقية ـ كما تقدم ـ تأويل فى ضمن تأويل ، وذلك مما يضعف ذلك التأويل ، وقيل ، المعنى : لكاذبون فى قولهم : «نشهد» لأنه إخبار عن الحال ، وهو ضعيف ؛ لأن الشهادة على الصحيح إنشاء (أو) نسلم أن التكذيب عائد

١٤٨

للمشهود به ولا يدل على المدعى ، وذلك بتأويل أن المعنى : لكاذبون (فى المشهود به) وهو قولهم : إنك لرسول الله لكن لا بمعنى أنهم كاذبون فيه لعدم مطابقته لاعتقادهم ، بل بمعنى : لكاذبون فيه باعتبار الواقع ، لكن لا باعتبار الواقع فى نفسه وحقيقته ؛ لأنه باعتبار نفسه وحقيقته صدق بل باعتبار الواقع (فى زعمهم) الفاسد ، ووهمهم الكاسد بمعنى أنهم صيروا بزعمهم واعتقادهم هذا الكلام الصدق كذبا فى الواقع ، ولو كان بغير اعتبار زعمهم صدقا فى الواقع فكأنه قيل : إنهم يزعمون أنهم يكذبون فى هذا الكلام الصدق أى : يزعمون أن هذا الكلام لم يطابق الواقع ، فقد ظهر أن الكذب هنا أطلق على عدم مطابقة الواقع بواسطة الزعم ، وكثيرا ما يقال : هذا الكلام المطابق للواقع فى زعم فلان إنه كذب أى : لم يطابق الواقع ، فمعنى لكاذبون على هذا : الزاعمون أنهم كذبوا فى هذا الخبر الصدق ، وإطلاق الكذب على زعم أن الخبر كذب شائع عرفا ، فقد اتضح هذا التأويل وأنه ليس اعترافا ؛ فإن الكذب هنا إنما هو باعتبار عدم مطابقة الزعم والاعتقاد ؛ وذلك للفرق الظاهر بين قولنا هذا الكلام لم يطابق زعم فلان ، وهذا الكلام لم يطابق الواقع فى زعم فلان ؛ لأن الأول يصدق فى الكلام الذى لم ينطق به فلان قط ولا شعر به ، والثانى لا يصدق إلا فى الكلام المشعور به ، واعتقد أنه ليس كذلك ، وفى المعنى الأول : المطابقة فيه تنسب وتعتبر بالقياس إلى الاعتقاد وفى الثانى : تعتبر بالقياس إلى الواقع ، ولكن نفى المطابقة بالزعم لا بما فى نفس الأمر مع معناه ، وقد أطنبت فى تقرير هذا المحل لصعوبته على بعض الأذهان ، ثم أشار إلى تفسير الصدق والكذب على مذهب من يثبت الواسطة فقال (الجاحظ) من المعتزلة ممن يثبت الواسطة قال فى تفسير الصدق والكذب : «والواسطة صدق الخبر» (مطابقة) نسبت (ه) للنسبة الخارجية (مع الاعتقاد) أى : مع اعتقاد أن مدلوله كذلك فى نفس الأمر ، فقد شرط فى الصدق أمرين المطابقة والاعتقاد معا (و) كذب الخبر (عدمها معه) أى : انتفاء المطابقة لما فى نفس الأمر مع اعتقاد أنه غير مطابق لما فى نفس الأمر ، فقد اعتبر فى الكذب والصدق معا الاعتقاد ، إلا أن الاعتقاد فى الصدق يتعلق بالمطابقة للواقع ، وفى الكذب يتعلق بعدمها ، والأقسام المتصورة ههنا فى المطابقة وعدمها ستة ؛ لأن مطابقة الكلام

١٤٩

للواقع : إما : مع وجود اعتقاد موافق ، أو مع وجود اعتقاد مخالف ، أو بدون وجود اعتقاد أصلا ، وعدم مطابقته للواقع : إما مع وجود اعتقاد موافق للكلام ، أو مع وجود مخالف له ، أو بدون اعتقاد أصلا ، فهذه ستة : ثلاثة فى وجود مطابقة الكلام للواقع ، وثلاثة فى عدم وجود تلك المطابقة ، وقد اشترط فى الصدق وجود المطابقة مع اعتقادها ، وهو الأول من ثلاثة أقسام المطابقة ، وفى الكذب عدم المطابقة مع اعتقاد ذلك العدم ، وهو الأول من ثلاثة أقسام عدم المطابقة ، وبقيت أربعة : اثنان من أقسام المطابقة ، واثنان من أقسام عدمها ، وهى الواسطة ، وإلى ذلك أشار بقوله : (وغيرهما) أى وغير هذين القسمين وهى الأربعة السابقة (ليس بصدق ولا كذب) بل هو واسطة ، فتبين بهذا أن تفسير الجاحظ للصدق أخص من تفسير الجمهور ، لأن مقتضى تفسيره : أن الصدق لا بد فيه من مطابقة الواقع والاعتقاد معا ، والجمهور قد اعتبروا مطابقة الواقع لا غير ، وإنما قلنا : إن مقتضى تفسيره ما ذكر ؛ لأنه لم يقل : مطابقته الواقع والاعتقاد معا ، لكن قوله : مع اعتقاد المطابقة يستلزم مطابقة الاعتقاد ، فإن من اعتقد أن ما فهم من الكلام صحيح وهو كون مدلوله كذلك فى نفس الأمر ، فقد طابق مفهوم الكلام اعتقاده ، ولو لم يكن كذلك فى نفس الأمر فأحرى إذا اتحد الواقع والاعتقاد ، وأيضا إذا اتحد الواقع والاعتقاد فمطابقته لأحدهما تستلزم مطابقة الآخر ، وإن تفسيره الكذب أيضا أخص من تفسيرهم ؛ لأنه اعتبر عدم المطابقة للواقع والاعتقاد معا ، وهم اعتبروا عدم المطابقة للواقع لا غير ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأنه ولو لم يصرح بالتفسير كذلك لكن لزم من كلامه ؛ لأن ما ذكر من اعتقاد عدم المطابقة يستلزم عدم مطابقة الاعتقاد الذى ذكروا ؛ وذلك لأن الواقع حينئذ والاعتقاد متحدان ، فمفهوم اللفظ إذا لم يطابق أحدهما فيلزم أن لا يطابق الآخر.

وأثبت الجاحظ الواسطة فى الجملة (بدليل) قوله تعالى حكاية عن الكفار.

(إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(١) فإنهم حصروا إخبار النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالحشر والنشر ، كما دل

__________________

(١) سبأ : ٧ ، ٨.

١٥٠

عليه ما قيل : أفترى فى الافتراء : وهو الكذب ، وفى الإخبار : حالة الجنون ، وإنما قلنا : فى الإخبار حال الجنون لا فى «أم به جنة» لأن الاتصاف بوجود الجنون الذى هو مدلول به جنة لا يصدق عليه الإخبار حتى ينحصر فيه وفى مقابله مثلا ، بل نقول : هو إنشاء باعتبار الأصل ، إذ المعنى : هل افترى علي كذبا أم هل به جنون؟ فأخبر حال الجنون ، فإن روعى الأصل لم يصح وصفه بأوصاف الخبر من الصدق أو غيره ، وإن روعى أن المعنى إما أنه مفتر وإما أن به جنونا لم يصح صدق الخبر عليه بهذا المعنى أيضا ، حتى يوصف بأوصافه ، فتعين إرادة لازمه وهو الإخبار حال الجنون وهو الموصوف بالصدق أو غيره ، فالمراد أن أمره دائر بين كونه أفترى أو أخبر حال الجنون ، فصورته صورة استفهام لطلب التعيين لاعتقاد أن الواقع أحدهما ، والمراد الحصر على وجه منع الخلو والاجتماع معا ، وإنما دل هذا الكلام على ثبوت الواسطة (لأن المراد بالثانى) وهو الإخبار حال الجنون (غير الكذب) وإنما كان المراد غير الكذب (لأنه) أى : لأن الثانى (قسيمه) أى قسيم الافتراء الذى هو الكذب ، وقسيم الشيء على وجه منع الجمع لا يصدق عليه ، وبهذا يعلم أن الحصر على وجه منع الجمع والخلو معا (و) المراد بالثانى أيضا وهو الإخبار حال الجنون (غير الصدق) وإنما قلنا : مرادهم به غير الصدق أيضا (لأنهم لم يعتقدوه) أى : لم يعتقدوا الصدق فى إخبار النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنهم كفار أعداء لا يعتقدون الصدق أصلا ، بل هو غاية البعد عن اعتقادهم لكفرهم لا يقال : عدم اعتقاد الصدق بعدم الاعتقاد أصلا فيتصور منهم التسليم بأن يكون غير معتقدين صدقا ولا عدمه ، فيصح أن يكون الحاصل فى نفس الأمر عندهم الصدق ؛ لأنا نقول : إنهم أعداء كفار معتقدون لعدم الصدق ، فعبر المصنف عن اعتقاد عدم الصدق بعدم اعتقاد الصدق ؛ للعلم بعنادهم ، ولو عبر به كان أظهر ، فإذا كان الإخبار حال الجنون لم يريدوا به صدقا ولا كذبا لما ذكر ، فقد أرادوا بذلك غيرهما وهم عرب يستدل باطلاقهم وإرادتهم ، لزم أن مرادهم بالإخبار حال الجنون ما هو واسطة ، فقد جعل عدم اعتقادهم للصدق المتضمن لاعتقادهم عدم الصدق دليلا على إرادة غير الصدق وهو غير الكذب أيضا لما ذكر ، فتم الدليل ، ولم يجعل عدم الاعتقاد للصدق دليلا على عدم وجود الصدق حتى يرد أن عدم اعتقاد الصدق لا يستلزم عدم وجوده ،

١٥١

وهو ظاهر ، وأنت خبير بأن هذا بعد تسليمه لا ينتج إلا ثبوت الواسطة فى الجملة لا ثبوتها على الوجه المذكور عند الجاحظ (ورد) هذا الاستدلال (بأن المعنى) أى : معنى قوله : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) (أم لم يفتر) فيكون مرادهم ـ لعنة الله عليهم ـ إن أخباره ليست من الله تعالى على كل حال بل إما أنه اختلق ذلك بالقصد أو وقع بلا قصد ، فعبر بالافتراء الذى هو الاختلاق عن قصد عن معناه ، وعبر عن مقابله وهو عدم الافتراء بوجود الجنة لاستلزامه عدم الافتراء على وجه الكناية وهو معنى قوله : (فعبر عنه) أى : عن عدم الافتراء (بالجنة لأن المجنون لا افتراء له) فعلى هذا يكون حصر الإخبار فى الافتراء وعدمه من حصر الكذب فى نوعيه ، وهما الكذب عمدا وهو الافتراء والكذب لا عمدا وهو المراد بعدم الافتراء ، وهذا ظاهر إن سلم أن الافتراء هو الكذب عن عمد ، وهو الأظهر ، فى أكثر الاستعمال لا يقال مقابلة الافتراء بعدمه لا تدل على أن المراد بعدمه كذب ، لا عن عمد لصدق عدم الافتراء بالصدق ، ولا تحسن مقابلة الشيء إلا بما يعانده صدقا ؛ لأنا نقول : كونهم كفارا معتقدين غير الصدق يعين أن المراد عندهم بعدم الافتراء الكذب لا عن عمد ، فكأنهم يقولون ليس ثم الإخلاف الواقع فإما أنه تعمده أو لم يتعمده لجنون فناسب المقابلة ، وقد رد الله تبارك تعالى عليهم ـ لعنة الله عليهم ـ مخبرا بضلالهم وأنهم الكاذبون متوعدا عليهم بقوله وهو أصدق القائلين : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)(١) ، ثم شرع فى الأبواب الثمانية وقدم منها أحوال الخبر عن الإنشاء ؛ لأن مباحثه أكثر ولطائفه كما يعلم بتتبع التراكيب أعجب ، ولأن الإنشاء فرع الخبر ؛ لأنه إما بنقل كنعم وعسى ، أو بآية كهل ، أو باشقاق كقم ، وقدم من أحوال الخبر أحوال الإسناد عن أحوال المسندين ؛ لأن البحث عنهما من حيث وصفهما بالإسناد ، ولا يتعقلان باعتبار الاتصاف بالإسناد إلا بعد تعقل الإسناد وأما كون الإسناد من النسب التى لا تعقل إلا بين المنتسبين ، فيلزم تأخر اعتباره عن الطرفين فذلك باعتبار ذات المسندين ، وبحثنا فى هذا الفن عنهما من حيث كونهما مسندين ، وهما من تلك الحيثية متأخران ؛ لا من حيث ذاتهما فقال :

__________________

(١) سبأ : ٨.

١٥٢

(أحوال الإسناد الخبرى)

وهو ضم كلمة أو ما يجرى مجراها إلى أخرى على وجه يفيد أن مفهوم إحداهما ثابت لمصدوق أو مفهوم الأخرى ، وإنما فسرناه بضم كلمة لا بإثبات مفهوم لمفهوم كما قيل للقطع بأن الإسناد من عوارض الألفاظ لا من عوارض معانيها ، والمراد بما يجرى مجرى الكلمة : ما يؤول بها ولو كان جملة فى نفسه ، كقولنا : زيد أبوه قائم وعمرو ضحك صاحبه ثم مهد لتفصيل أحوال الإسناد الخبرى قوله : «لا شك أن قصد المخبر» أى : المعلم بمضمون الخبر ، لا من يلقى الجملة الخبرية ويتلفظ بها فى الجملة ، فلا يتعين أن يكون قصده ما ذكر ؛ لأنه قد يلقى الجملة الخبرية لمجرد التحسر والتحزن ، كما قال تعالى حكاية عن امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى)(١) فمرادها إظهار التحزن على ما فات من رجائها ، وهو كون ما فى بطنها ذكرا ، ولغير ذلك كقوله تعالى حكاية عن زكريا ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام ـ (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(٢) وليس مراده الإفادة ، وإنما مراده التخضع وإظهار الضعف ، ومثل هذا كثير (بخبره) أى : مقصود بخبره فهو متعلق بقصد (إفادة المخاطب) خبر أن ، أى : إفادة المخبر المخاطب أحد أمرين (إما الحكم) : وهو وقوع النسبة أو لا ـ وقوعها لا إيقاعها ـ أو انتزاعها وإلا لم يتطرق إليه الإنكار والتكذيب ، وإنما كان المقصود ما ذكر ؛ لأنه مدلول الكلام ، وكونه مدلول الكلام مع قصد إفادته لا يقتضى وقوعه جزما ؛ لأن الدلالة وضعية يصح تخلفها.

ومن قال : الكلام لا يدل على وقوع النسبة أراد أنه لا يقتضى وقوعها جزما ، كما قلنا لا أنه لا يفهم الوقوع منه ، فإن ذلك هو مفهوم الكلام قطعا ، ولا يصح إنكاره ، فإنا إذا قلنا : زيد قائم فمفهومه ومدلوله ثبوت القيام لزيد ، وأما احتمال عدم الثبوت فليس مدلولا للفظ أصلا ، بل احتمال عقلى من جهة صحة تخلف الدلالة لكونها وضعية ، وقد تقدم التنبيه على هذا (أو كونه) أى : المخبر (عالما بالحكم) لأن

__________________

(١) آل عمران : ٣٦.

(٢) مريم : ٤.

١٥٣

أصل الإخبار اعتقاد المخبر لمعنى ما أخبر به ، فلا يرد أن يقال : خبر الشاك لا علم معه ، فلا يفيد الخبر علم المخبر ؛ لأن إفادة العلم بالبناء على الأغلب ، ويحتمل أن يراد بالعلم تصور النسبة ، فلا ينفك عنهما.

(ويسمى الأول) وهو الحكم (فائدة الخبر) ؛ لأنه مدلول اللفظ ، ومن شأنه أن يقصد إفادته لوضع اللفظ له ؛ لأن من شأن وضع اللفظ إفادة ما وضع له ، فلا يضر فى تسميته فائدة كونه قد يعلم أو لا (و) يسمى (الثانى) وهو كون المخبر عالما بالحكم (لازمها) أى : لازم فائدة الخبر ؛ لأن إفادة تلك الفائدة ، التى هى الحكم تستلزم إفادة كون المخبر عالما ، فإنه إذا قال القائل : زيد عالم بالنحو ، فقد أفاد السامع وصف زيد بعلمه النحو واستفادة العلم من الخبر إنما هو بتقييد المخبر غالبا ، وعند الشك بكونه هل هو عالم أو لا؟ يلزم العلم أن المخبر عالم أى : متعقل لمضمون الكلام ، ولذلك يقال : من أين علمت هذا؟ فيقال : من خبر زيد ، ولو قيل له حينئذ وما علم زيد بما أخبر؟ عد ذلك من باب التعنيت وإنكار ضروريات المشهورات ، فالمراد بكونه لازم الفائدة أن ذلك هو الغالب والجارى على العرف ، وأنه عند السماع من شأنه حصوله ، فهو فى حكم المعلوم بالضرورة ، فلا يرد أنه يجوز أن يسمع الكلام ويغفل عن كون مخبره عالما ، ولا أن يقال : قد يخبر بالكلام شاك أو جاهل ، وقد تقدم التنبيه على هذا فليتأمل بخلاف إفادة هذا اللازم ، فلا يستلزم إفادة الفائدة ؛ لأنها قد تكون معلومة قبل ، كقولنا لرجل حفظ القرآن : أنت حفظت القرآن لأنه عالم بحفظه وإنما الغرض إفادته أنا عالمون بحفظه ، وأما حضور الفائدة حالة إفادة اللازم المجهول بعد العلم ، فليس بعلم جديد ، بل هو تذكر فلا يعتبر حتى يقال اللازم يستلزم الفائدة أيضا فليفهم.

فإذا كان الحكم يلزم من العلم به العلم بكون المخبر به عالما بدون العكس تقرر بينهما ما يتقرر بين اللازم والملزوم ، فناسب أن يسمى كون المخبر عالما لازما ، وهو ظاهر ، ثم لما بين المصنف أن مدلول الكلام يسمى فائدته ، ويسمى علم المخبر بذلك المدلول لازمها ، ومعلوم أن العالم بهما لا يستفيدهما من الكلام ، والكلام الذى لا يستفاد منه ما يقصد به ليس من شأن العقلاء الخطاب به ، بين أنه قد يلقى الكلام للعالم

١٥٤

بهما لتنزيله منزلة الجاهل ، ولا يكون إيراد الكلام حينئذ خاليا عن الفائدة المقصودة للعقلاء فقال :

(وقد ينزل العالم) أى : وقد ينزل المتكلم مخاطبة العالم (بهما) أى : بفائدة الخبر التى هى مدلوله ، وبلازمها الذى هو كون المتكلم عالما بتلك الفائدة (منزلة الجاهل) بهما فيلقى إليه الكلام كما يلقى للجاهل المستفيد تنبيها على أنه هو والجاهل سواء (لعدم جريه على موجب العلم) بالفائدتين ، فإن فائدة العلم العمل بمقتضاه ، وبذلك تكون له مزية على الجهل ، فيكون ذلك الإلقاء كصريح التعبير والتوبيخ على عدم العمل بموجب العلم ، فيقال مثلا لتارك الصلاة : الصلاة واجبة يا هذا ، وإن كان عالما بوجوبها إيماء إلى أنه لا يتصور تركها إلا من الجاهل بالوجوب ، وإشارة إلى أنه هو والجاهل سواء ، ففى ذلك من التوبيخ ما لا يخفى ، هذا فى تنزيل العالم بالفائدة منزلة الجاهل بها ، وهو الأكثر استعمالا ، وقد ينزل العالم باللازم منزلة الجاهل ، كما إذا آذاك إنسان إذ ترى أنه لا يباشر به إلا من يعتقد مؤذيه كفره ولا يعلم الله ورسوله فتقول تنزيلا له منزلة من اعتقد جهلك بالله ورسوله : الله ربنا ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولنا ؛ لعدم جريه على موجب علمه بأنك عالم أن الله رب العالمين ، ومحمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رسوله ، ولو قلت فى هذا المقام : «أنا مسلم» كان مثالا لتنزيل العالم بالفائدة منزلة الجاهل ، كما لا يخفى ، وقد ورد كثيرا تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به ، ولو لم يكن ذلك الشيء فائدة الخبر ، ولا لازمها لاعتبارات خطابية مرجعها إلى التسوية بينه وبين الجاهل تعبيرا له وتقبيحا لحاله ، وذلك كقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(١) ففى هذا الكلام إثبات العلم لأهل الكتاب بأن لا ثواب لمن اشتراه ، ولما ارتكبوه نزلوا منزلة من جهل ، فنفى عنهم العلة مطلقا أو علمهم المخصوص فى قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢) تعبيرا لهم ، وليس فى هذا الخطاب إلقاء كلام مضمنه أن

__________________

(١) البقرة : ١٠٢.

(٢) البقرة : ١٠٢.

١٥٥

لا ثواب لمشتريه إلى من لم يعمل بموجب علمه به ، أو إلى من لم يعمل بموجب علمه بعلم المخاطب (بكسر الطاء) به حتى يكون من باب إلقاء الكلام لفائدة الخبر أو للازمها ، تنزيلا للعالم بهما منزلة الجاهل ، بل لما نزل عالمهم منزلة الجاهل نفى عنه العلم ؛ لأنه والجاهل سواء ، فرجع إلى أنه من باب تنزيل الشيء منزلة عدمه ، فينفى لا من باب تنزيل علم الفائدة أو لازمها منزلة الجهل بهما ، فيلقى لذلك المنزل كلام يفيدهما.

وتحقيق ذلك أن الخطاب لسيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه ليس هنالك ما يقتضى عدم عملهم بموجب علمهم به ، مع أنه لا دليل على علمهم بمضمون الخطاب حال توجهه لهم ، فتعين كونه من تنزيل الشيء منزلة عدمه فى الجملة ، ومثل هذا التنزيل الأخير أعنى تنزيل الشيء منزلة عدمه فينفى ، قوله تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١) نزل رميه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المشركين بقبضة الحصى يوم بدر بما ترتب عليه من الأمر الغريب ، وهو وقوع الحصى فى عين كل واحد من الكفرة منزلة عدمه ؛ لأنه بالنسبة لما ترتب عليه كالعدم إعلاما بأنه من خصائص القادر المختار تذكيرا للنعمة وتنبيها على الخصوصية الكائنة بالقدرة ، وإشارة إلى أن هذا الواقع بمحض القدرة سببه بالنسبة إليه كالعدم إذ لا يقاومه ، وأما حمله على معنى (وَما رَمَيْتَ) حقيقة بل (اللهَ رَمى) فليس من التنزيل فى شيء ؛ لأن المنفى كون الرمى بالتأثير وعلى الحقيقة ، وهو صحيح على ظاهره ، ولما بين الغرض الأصلى فى الكلام ، ومعلوم أن الزيادة على المحتاج فى كل شيء مما لا ينبغى ، رتب على ذلك أنه ينبغى أن يقتصر من الكلام على ما يفيد ذلك القدر فقال : (فينبغى) إذا كان الغرض الأصلى من الكلام ما تقدم (أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة) أى : أن يقتصر من ألفاظ التركيب على ما يفيد الغرض المذكور إذ هو المقدار المحتاج ، حيث لا يتعلق الغرض بالزائد فى المقام ، وإلا كان المزيد لغوا ، واللغو باطل مخل بالبلاغة (ف) حين وجب الاقتصار على القدر المحتاج (إن كان) الملقى إليه الكلام (خالى الذهن من

__________________

(١) الأنفال : ١٧.

١٥٦

الحكم) والمراد بالحكم : الاعتقاد ، ولو كان غير جازم وهو الظن (و) كان مع ذلك حالى الذهن من (التردد فيه) أى : الحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها ، فهو شبيه بباب : عندى درهم ونصفه ، ومعنى الخلو من الاعتقاد والتردد : أنه لم يخطر الحكم بباله على وجه التردد ، ولا خطر على وجه الاعتقاد ، ومعلوم أن التردد والاعتقاد متنافيان ، فلا يلزم من نفى أحدهما نفى الآخر حتى يستغنى بذكر نفى ذلك الآخر كما قيل ، نعم لو أريد بالعلم بالحكم : تصوره لزم من نفى تصوره نفى التردد فيه ، وليس ذلك هو المراد هنا ؛ لأن الذى يلقى إليه الكلام على الوجه الآتى لا يشترط فيه عدم التصور أصلا ، بل عدم الاعتقاد وعدم التردد الكائنين بعد التصور (استغنى) جواب إن (عن مؤكدات الحكم) لحصول الغرض : وهو قبول معنى الخبر بلا مؤكد ؛ لأن الذهن الخالى يتمكن منه الحكم بلا مؤكد كما قيل ، فوجد قلبا خاليا فتمكن (وإن كان) الملقى إليه الكلام (مترددا فيه) أى : فى الحكم بمعنى : أنه تردد في النسبة بعد تصور الموضوع والمحمول هل تلك النسبة تحققت فى الواقع بين الطرفين أم لا؟ (طالبا له) أى : لذلك الحكم متشوقا لحاله فى نفس الأمر ، ولم يحترز بالطلب عن شيء ؛ لأن الجارى طبعا أن المتردد فى الشيء متشوف له طالب للاطلاع على شأنه ، وإلا كان ملغيا منسيا غير متردد فيه (حسن تقويته بمؤكد) أى : إن كان السامع طالبا للحكم ، حسن في باب البلاغة تقويته بمؤكد دفعا لاستقراء أحد الترددين ، وإنما قال حسن ؛ لأن من لم يؤكد ـ والحالة هذه ـ لا يكون فى درجة التنزل عن البلاغة ، كحال من لم يؤكد فى الإنكار ، بل حال من لم يؤكد فى الإنكار نزل وإن كان كل منهما قد فاته ما يراعى فى باب البلاغة ، وهذا الذى ذكر المصنف من أن التأكيد يحسن عند التردد والطلب يلزم منه حسنه عند وجود الظن فى خلاف الحكم المؤكد من باب أحرى ، لكن يخالف كلام الشيخ فى دلائل الإعجاز ، فإنه إنما حكم بحسن التأكيد إذا كان المخاطب له ظن فى خلاف الحكم المؤكد لا عند الطلب ، قال : وإلا لزم أن لا يحسن قولنا : فرح مثلا جوابا لقول السائل : كيف زيد؟ بل يقال على مقتضى حسن التأكيد عند الطلب : إنه فرح (وإن كان) الذى أريد خطابه بحكم (منكرا) لذلك الحكم (وجب توكيده) أى : تأكيد

١٥٧

ذلك الحكم ويتفاوت التأكيد حينئذ (بحسب) تفاوت (الإنكار) قوة وضعفا ، فإن وقع الإنكار فى الجملة كفى فيه تأكيد يقاومه فى إزالته ، وإن بولغ فى الإنكار بولغ في التأكيد ، لإزالته ، وذلك (كما قال تعالى حكاية عن رسل عيسى) ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام ـ (إذ كذبوا فى المرة الأولى (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(١) وفي) المرة (الثانية) (رَبُّنا يَعْلَمُ (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)) (٢) ولا شك أن التأكيد فى قول الاثنين الأولين فى المرة الأولى : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أدنى من التأكيد فى قول الثلاثة فى التكذيب الثانى (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) لأن الأول ليس فيه إلا التأكيد بأن والجملة الاسمية ، لعدم مبالغة المرسل إليهم فى الإنكار ، والثانى فيه التأكيد بالقسم المتضمن لجملة «ربنا يعلم» لأنها فى تأويل تقسيم «بعلم ربنا» أو «بربنا العليم» ، وبأن واللام والجملة الاسمية لمبالغة المخاطبين فى الإنكار حيث قالوا (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)(٣) ففى هذا الكلام إنكار الرسالة بطريق الكناية التى هى أبلغ من الحقيقة لأن البشرية فى زعمهم تستلزم نفى الرسالة ، وقالوا (ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(٤) فبالغ المرسلون فى التأكيد إزالة لهذا الإنكار البليغ ، فلا يلزم كون التأكيد على قدر الإنكار فى العدد ، بل أن يقوى بقوته ويضعف بضعفه ، فلا يرد أن يقال هنا : زاد التأكيد على عدد الإنكار والمرسل الأول اثنان ، لكن الاثنين تكذيب للثلاثة ؛ لأن المرسل والمرسل به واحد فإنكاره مع الاثنين كإنكاره مع الثلاثة ، ولهذا صح ضمير الجمع فى قوله : «كذبوا» والقرية أنطاكية والمرسلان الأولان : شمعون ويحيى ـ عليهما‌السلام ـ ، والثالث المعزز به أى : المقوى به الاثنان قيل : بولش ـ عليه‌السلام ـ ، وقيل : حبيب النجار ـ رضى الله عنه ـ فإن قيل : إن قول المنكرين : «ما أنتم إلا بشر مثلنا» إنكار للرسالة من الله تعالى ؛ لأنها هى التى يرون منافاتها للبشرية ، والواقع أن الرسالة من عيسى ـ عليه‌السلام ـ ،

__________________

(١) يس : ١٤.

(٢) يس : ١٦.

(٣) يس : ١٥.

(٤) يس : ١٥.

١٥٨

ورسل عيسى لا ينكر المرسل إليهم مجامعة رسالتهم من غيره للبشرية ، فما تأويل هذا الكلام؟ فالجواب أنهم لما دعوهم إلى رسالة رسول الله بإذن نزلوا رسالة رسول الرسول كرسالة الرسول ؛ لأن التصديق بهذه تصديق بتلك ، فخاطبوا الأصل بواسطة خطاب الفرع بما يقتضى أصل الرسالة فى زعمهم تأمله.

(ويسمى الغرض الأول) وهو خلو الكلام عن عدم مؤكد عند عدم الإنكار (ابتدائيا) لأنه هو الواقع في الابتداء إذ الأصل خلو الذهن (و) يسمى (الثاني) وهو كونه مؤكدا استحسانا مع المتردد الطالب (طلبيا) لأنه للطالب (و) يسمى (الثالث) : وهو كون الكلام مؤكدا وجوبا مع المنكر : (إنكاريا) لوقوعه فى مقابلة الإنكار (و) يسمى (إخراج الكلام عليها) أى : على هذه الوجوه ، وهو الخلو من التأكيد فى الإلقاء الأول ، والاتصاف بتأكيد الاستحسان فى الإلقاء الثانى ، وبتأكيد الوجوب فى الإلقاء الثالث ، (إخراجا على مقتضى الظاهر) فصفة الكلام باعتبار تلك المقامات تسمى بالتسامى الأول ، والإتيان به باعتبار اتصافه بما يقتضى تلك المقامات يسمى إخراجا على مقتضى الظاهر ، أى مقتضى ظاهر الحال واحترز به عن إخراجه على مقتضى تنزيل غير المنكر كالمنكر فيؤكد ، أو المنكر كغيره فلا يؤكد ، فإن هذا إخراج على مقتضى الحال لا على مقتضى ظاهر الحال ، فمقتضى ظاهر الحال أخص من مقتضى الحال ؛ لأن مقتضى الحال فى الجملة يصدق بنوعين : مقتضى ظاهره بأن لا يكون ثم تنزيل شيء كغيره ، ومقتضى باطنه بأن يكون ثم تنزيل حال كغيره ، فظهر أن مقتضى الحال أعم مطلقا من مقتضى الظاهر ، فلو فرض تنزيل غير المنكر كالمنكر ومع ذلك ترك التأكيد لم يكن من مقتضى الحال فى شيء ؛ لأنه بعد التنزيل زال اعتبار الظاهر ، فلا يكون ترك التأكيد من مقتضى الحال أصلا ، وبهذا يعلم أن ظاهر الحال «مقتضى» إنما يكون المقتضى الحال «إن لم يكن ثم تنزيل» ، وأما «إن كان ثم تنزيل» لم تكن موافقة الظاهر مقتضى الحال ، إذ لا يعرف ذلك التنزيل إلا بإجراء الكلام على مقتضاه ، فتحقق بهذا العموم بالإطلاق بين مقتضى الظاهر والحال كما تقدم ، وإلى هذا التنزيل أشار بقوله (وكثيرا ما) أى : وزمانا كثيرا (يخرج) الكلام (على خلافه) أى : خلاف

١٥٩

مقتضى ظاهر الحال (فيجعل غير السائل كالسائل) فيؤكد الكلام معه استحسانا ، وإنما يخرج الكلام معه كذلك بتنزيله كالسائل (إذا قدم إليه) أى : إلى غير السائل (ما يلوح) أى يشير (له ب) جنس (الخبر) وذلك بأن يذكر له شيء من شأن صاحب الذكاء والفطنة التسارع منه إلى فهم جنس الكلام أو نوعه ، فإن تسارع إليه وتردد فيه بالفعل خرج عن التنزيل ، وإلا (ف) هو بحيث (يستشرف له استشراف المتردد الطالب) والاستشراف إلى الشيء أن ينظر إليه الإنسان رافعا رأسه باسطا كفه على عينه ، كالمتقى لشعاع الشمس ، وذلك نحو قوله تعالى ((وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)) (١) والخطاب لنوح أى : لا تكلمنى يا نوح فى شأن قومك ولا تشفع فى دفع العذاب عنهم ، وقد تقدم قوله أيضا (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا)(٢) فكان المقام مقام التردد فى أن القوم هل حكم عليهم بالإغراق أم لا؟ فقيل : ((إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ*)) بأن الجملة الاسمية وقد علم من قولنا : «فكان المقام مقام التردد» أن المراد بقوله «يستشرف» كون المقام مقام الاستشراف كما قررنا ، لا وقوع الاستشراف بالفعل ، وإلا كان المقام ظاهريّا لا تنزيلياّ وعلم من قولنا : «جنسه ونوعه» أنه يجب أن يكون بحيث يتردد فى شخص الخبر ونوعه ، سواء كانت نوعية الخبر أو شخصيته باعتبار ذاته ، أو باعتبار المخبر عنه ، بل يكفى كونه بحيث يتردد فى الجنس فى صحة الجواب بالشخص ، مؤكدا لتضمنه للجنس ، كقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(٣) فإن خطاب الناس بأمرهم بتقوى ربهم يشعر بأن ذلك الأمر مخوف ، فكان المقام مقام التردد هل أمامهم شيء عظيم يقع لهم إن لم يتقوا من غير تعيين ذلك الشيء؟ فقيل : إن زلزلة الساعة شيء عظيم مؤكدا مع تعيين شخص المخبر عنه تأمله.

(و) يجعل (غير المنكر) ودخل فيه خالى الذهن والطالب (كالمنكر) فيلقى إليه الكلام مؤكدا على سبيل الوجوب أما دخول الخالى فواضح ، وأما الطالب فلأن التأكيد

__________________

(١) هود : ٣٧.

(٢) هود : ٣٧.

(٣) الحج : ١.

١٦٠