مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ)(١) فإن إطلاق اليد على القدرة إيهام وتورية ؛ لأن إطلاقها على الجارحة أقرب إلى الفهم.

والتمشية الثانية : أن يكون قد شبه ما وقع به الإعجاز أو نفس الإعجاز ، بناء على أن الإعجاز أطلق على ما وقع به ، أو على نفس حقيقته من إطلاق المصدر على اسم المفعول أولا بالصور المستحسنة فى ميلان النفس وتشوفها لإدراكها ، فيكون إضمار التشبيه فى النفس استعارة بالكناية أيضا ، وذكر الأستار ترشيح للتشبيه لأنها مما يلائم المشبه به ، ويكون ذكر الوجوه تخييلية ، وإنما لم تجعل الأستار تخييلا فى هذه التمشية ؛ لأن الصور المستحسنة من حيث هى ليست الأستار من لازمها الخاص الذى يتقوم به وجه الشبه أو يتكمل ، بخلاف الأشياء المحتجبة تحت الستر كما فى التمشية الأولى ، ثم عطف على جملة كان قوله (وكان القسم الثالث) الكائن (من) مجموع الكتاب المسمى (مفتاح العلوم الذى صنفه) أى : مفتاح العلوم (الفاضل العلامة أبو يعقوب يوسف السكاكى) رحمه‌الله تعالى (أعظم ما صنف) هو خبر كان (فيه) أى : فيما تقدم ، وهو علم البلاغة وتوابعها (من الكتب المشهورة) وهو بيان «لما» أى : كان القسم الثالث أعظم المصنفات التى هى الكتب المشهورة فى ذلك الفن (نفعا) تمييز من قوله أعظم أى : نفع ذلك القسم أعظم أنفاع تلك الكتب المشهورة فى هذا الفن ، وإنما اعتبر المشهورات ؛ لأنه إذا كان أنفع المشهورات فغيرها أحرى ، وإنما كان أعظمها نفعا (لكونه أحسنها ترتيبا) أى : لكون ذلك القسم أحسن تلك الكتب فى ترتيب مسائلة وفصوله ، والترتيب وضع كل شيء فى مرتبته التى تنبغي له ، ولما كانت كل مسألة وكل كلمة يجوز أن تكون لها مراتب تناسب أن توضع فيها ، وبعض تلك المراتب أحسن من بعض جاز أن يكون تأليف أحسن من آخر فى ترتيب كلماته وفصوله ومسائله ، وربما تكون المسائل غررا وحسانا فى معناها ، ولكن لم توضع كل واحدة فيما ينبغى لها ، فتكون كلآلى عقد انفصم فانتثرت فيفتقر كمال حسنها إلى نظمها بالترتيب ولهذا يوصف تأليف الشيخ عبد القاهر مع بلاغة مؤلفة لما لم يراع فيه حسن الترتيب بأنه

__________________

(١) الذاريات : ٤٧.

١٠١

كلآلى عقد انفصم (وأتمها تحريرا) عطف على أحسن أى : لما كان نفع ذلك القسم أعظم لكونه أحسن من تلك الكتب ، ولكونه أتم منها فى تحريره ، والتحرير والتهذيب والتنقيح بإزالة موجبات التعقيد والخلل والتفاوت فى تمام التحرير إنما هو بالنسبة إلى مراتب القرب من التمام وإلا فبعد فرض تمام التحرير فلا تفاوت فيه حتى تصح الأتمية فيه.

(وأكثرها للأصول جمعا) أى : لما كان نفع القسم الثالث أعظم من نفع غيره لكونه كما ذكر ، ولكونه أيضا أكثر تلك الكتب فى جمعه لأصول الفن ، وذكرنا التحرير والترتيب والجمع مجرورة بالباء عند التقرير لبيان المعنى بسهولة ، وإلا فهى فى الإعراب تمييزات محولة فى الأصل عن الفاعل.

وقوله : للأصول ، متعلق بمقدر دل عليه جمعا ، ولم يتعلق بالمذكور ؛ لأن المصدر إنما يعمل فى مثل هذا بتقديره بأن والفعل فهو فى تأويل الموصول وصلته ، والموصول لا يتقدم عليه معمول صلته لكن الأصح جوازه فى الظرف ؛ لأن له خصوصية التوسع لما تقرر أنه ، كنفس الواقع فيه ؛ لشدة ارتباطه به معنى ، فصار لا ينفك عن عامله معنى ، فكأنه لم يتقدم عليه ؛ ولهذا قيل فيه : إن رائحة الفعل تكفى فى عمله.

(ولكن) ذلك القسم الثالث مع كونه موصوفا بما تقدم المقتضى للاستغناء به عن تأليف آخر فى معناه فيه عيوب أخرى تقتضى الحاجة إلى تأليف آخر فى معناه محرر من تلك العيوب وهى أن ذلك القسم (كان غير مصون) أى : غير محفوظ (من الحشو) وهو الزائد المستغنى عنه مع تعينه كقوله :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله (١)

فقوله : قبله يتعين للزيادة وهو غير محتاج إليه ، ويأتى إن شاء الله تعالى أن فيه قسمين مفسد ، وغير مفسد.

(و) من (التطويل) وهو الزائد بلا فائدة من غير أن يتعين كقوله :

__________________

(١) صدر بيت ، وعجزه : «ولكنني عن علم ما في غد عم» ، الزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٩ ، ولسان العرب ١٥ / ٩٦ (عمى) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٤٥.

١٠٢

وألفى قولها كذبا ومينا (١)

والكذب والمين بمعنى واحد ، فأيهما أسقط صح المعنى مع الآخر ، فلم يتعين أحدهما للزيادة ؛ فالفرق بين الحشو والتطويل التعين وعدمه ، مع كون الحشو قد يعرض فيه لتعينه إفساد المعنى وسيأتى ما فى ذلك إن شاء الله تعالى.

(و) من (التعقيد) والتعقيد الذى يتصف به الكلام وهو المراد ههنا هو : كون الكلام معقدا أى : مغلقا لا ينفهم إلا بتكليف. وهو على ما يأتى إن شاء الله تعالى قسمان : معنوى ولفظى وأما الذى يتصف به المتكلم فهو جعل الكلام كذلك.

(قابلا للاختصار) بإزالة ما فيه من التطويل (مفتقرا إلى الإيضاح) أى : محتاجا إلى إزالة تعقيده ؛ ليتضح معناه.

(و) مفتقرا إلى (التجريد) بإزالة ما فيه من الحشو فقوله : قابلا مفتقرا خبر إن بعد خبر وقد تبين أن فى كلامه النشر المخلوط ، ولو أتى بالمرتب لقال : مفتقرا إلى التجريد قابلا للاختصار مفتقرا إلى الإيضاح ، ولكن صنيعه أسدّ ؛ لأن الإيضاح بإزالة التعقيد والتجريد بإزالة الحشو يشتركان فى الافتقار أيهما لأن ضد كل منهما عيب تجب إزالته ، فناسب التعبير فى جانبهما بالافتقار والاختصار بإزالة التطويل ليس فى منزلة الافتقار إليه ، إذ ليس ضده بعيب تجب إزالته ، ولكونه أقرب من الآخرين قدمه فى الذكر كما يقدم الأيسر ، ليتفرغ إلى الأهم ، وأخرهما مجموعين فيما يشتركان فيه وهو الافتقار إليهما ؛ لأن ضديهما من العيوب.

(ألفت) كتابا (مختصرا) هذا جواب قوله : لما كان علم البلاغة إلخ أى : لما كان علم البلاغة رفيع الرتبة ، والقسم الثالث أحسن مصنفاته فيما تقدم وفيه التطويل والتعقيد ، والحشو احتيج إلى كتاب يزيل ما فيه فألفت مختصرا. (يتضمن) ذلك المختصر أى يشتمل على (ما فيه) أى : فى القسم الثالث (من القواعد) جمع قاعدة ، وهى الضابط ، والمراد به قضية تتضمن حكما كليا يشمل بعمومه جميع الجزئيات ، والمراد

__________________

(١) عجز بيت ، وصدره : «وقددت الأديم لراهشيه» ، والبيت لعدى بن زيد في ذيل ديوانه ص ١٨٣ ، لسان العرب ١٣ / ٤٢٥ (مين) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣١٠.

١٠٣

بالجزئيات هنا القضايا التى موضوعاتها مشمولة لموضوع القاعدة الكلية وذلك كقولنا بالنسبة إلى هذا الفن : كل حكم منكر يجب توكيده فإن هذا يشمل الحكم الذى هو ثبوت القيام لزيد عند إنكار عمرو ، فيثبت له حكم القاعدة ، وهو أنه يجب توكيده فيقال : إن زيدا لقائم (ويشتمل) ذلك المختصر (على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد) والفرق بين المثال والشاهد : أن المثال لا يشترط فيه كونه صادرا ممن يستدل بكلامه ، والشاهد يشترط فيه كونه صادرا ممن يوثق بعربيته ويستدل بكلامه ؛ فلهذا كان الأول أعم من الثانى ، وإنما افترقا بما ذكر ؛ لأن الغرض من الأمثلة إيضاح القاعدة لتتصور فصح بكل كلام ، والغرض من الشاهد تقريرها وتثبيتها فلا يصح إلا من كلام من يستشهد به ، ويلزم من التقرير التام الإيضاح دون العكس.

(ولم آل) فعل مضارع مجزوم بحذف الواو إذ هو من الألو وهو التقصير ، فضمن معنى المنع فمعناه لم أمنعك (جهدا) بضم الجيم وفتحها فحذف المفعول الأول وذكر الثانى وهو جهدا ، ويحتمل أن يكون على بابه فينصب جهدا بإسقاط الخافض أى : لم أترك شيئا من اجتهادى فى تحقيق هذا المختصر أى : تنقيحه عما لا ينبغى من الفساد معنى ولفظا (ورتبته) أى : هذا المختصر (ترتيبا أقرب تناولا من ترتيبه) أى : وجعلت مسائله ، وفصوله فى رتب هى فيها أسهل أخذ ، لكونها يستعان ببعضها على فهم بعض ، وينبنى إدراك بعضها على إدراك بعض من ترتيب السكاكى للقسم الثالث.

ولا شك أن الترتيب إن كان على الوجه المذكور كان المرتب أسهل أخذا مما لم يكن كذلك. (ولم أبالغ فى اختصار لفظه) أى : المختصر ، بل ارتكبت فى الاختصار طريق الاعتدال (تقريبا لتعاطيه) أى : انتفت منى المبالغة فى الاختصار لأجل قصد التقريب إلى الأفهام عند تعاطيه بالمدارسة. فالتقريب علة للانتفاء المفهوم من قوله لم لا علة لأبالغ ؛ لأنه يصير المعنى حينئذ : أن المبالغة الكائنة لأجل التقريب انتفت منى ، ولا ينافى ذلك وجود مبالغة كائنة لغير التقريب ، وليس هذا المعنى مرادا هنا (وطلبا لتسهيل فهمه على طالبيه) أى انتفت المبالغة فى الاختصار لما تقدم ، وانتفت لأجل الطلب ، والحرص على تسهيل فهم المختصر على الطالبين لفهمه ، فإن المبالغة فى الاختصار مما يوجب صعوبة

١٠٤

الفهم. وصعوبة الفهم مما يوجب منافرة الكتاب فيترك تعاطيه وتداوله. وقد وصف المصنف كتابه بأنه مهذب سهل المأخذ مع الاختصار وفى ذلك تعريض بأن لا تطويل فيه ، ولا حشو ، ولا تعقيد كما للسكاكى قال فى المطول : ولعمرى لقد أفرط المصنف فى وصف القسم الثالث بأن فيه حشوا ، وتطويلا ، وتعقيدا تصريحا ، ولا يعنى فى قوله ، «ولكن كان غير مصون إلخ» . وتلويحا ثانيا يعنى فى قوله «قابلا للاختصار إلخ» . وتعريضا ثالثا يعنى فى وصفه كتابه بضد ذلك (وأضفت) أى : ضممت (إلى ذلك) إلى ما تضمنه من قواعد القسم الثالث ، وما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد (فوائد) جمع الفائدة وهى : ما يتجدد مما له نفع. (عثرت) أى اطلعت من غير قصد طلبها بخصوصها. (فى بعض كتب القوم) ويعنى بالقوم البيانيين (عليها) أى : على تلك الفوائد (وزوائد لم أظفر) أى : لم أتصل ، ولم أفز (فى كلام أحد بالتصريح بها) أى : بتلك الزوائد (ولا الإشارة إليها) وذلك بأن يدل عليها كلام أحدهم ، ولو بمطلق الالتزام ، أو بالمفهوم وإلا ضعف فتؤخذ منه ولو لم يقصدها صاحب هذا الكلام ، ولا ينال فى ذلك كون أصل مدركها قواعد هذا الفن بممارستها وقواعد فن آخر ؛ لأن ما يدرك بممارسة القواعد ، ويحصل بها لا ينسب لأحد (وسميته) أى : هذا المختصر (تلخيص المفتاح) أى : تنقيحه ، وتهذيبه فى الجملة. وهذا المختصر المعين تلخيص المفتاح فإذا سمى بهذا الاسم طابق باعتبار معناه الكلى هذا المعنى الجزئى ، أو طابق هذا الاسم باعتبار معناه الجزئى معناه الكلى.

(وأنا أسأل الله تعالى) أى : سميته ، والحال أنى أسأل الله تعالى (من فضله أن ينفع به) كل طالب (كما نفع بأصله) أى : أسأل الله تعالى النفع به حال كون ذلك النفع كائنا من فضله وجوده ، لا لعمل ثقة بإخلاصه ، ولا لسعى ثقة بإتمامه ، بل بمجرد الفضل والكرم. كما نفع بأصله وهو المفتاح وكونه أصلا ؛ لأنه تلخيص للقسم الثالث منه. وما كان جزؤه أصلا لغيره فهو أصل لذلك الغير. وصح ورود الحال من أن ينفع مع تنكيره لتقدمه ، وخص السؤال بوقت التسمية ـ بعد التمام المشعرة بمدح المسمى ـ دفعا لما يخشى من عجب التمدح بالعمل الموجب لنقصان بركته ونفعه (إنه ولى ذلك)

١٠٥

أى : سألته تعالى ؛ لأنه متولى أمر ذلك النفع حصولا ونفعا. كما أنه المتولى لكل شيء ، ولا شريك له فى شيء ما البتة (وهو) أى : الله تعالى حسبى ، أى : كافى عن غيره فى كل شيء ، فلا أطلب مرادى من غيره (ونعم الوكيل) يحتمل أن يعطف على جملة هو حسبى فيكون المخصوص بالمدح محذوفا أى : ونعم الوكيل المفوض إليه فى جميع الأمور هو أى : الله تعالى ، ويحتمل أن يعطف على الخبر وهو لفظ حسبى ؛ لأنه فى تأويل الفعل ، فيكون فى تأويل الجملة بفاعله إذ التقدير ، وهو يحسبنى أى : يكفينى ، فيكون المخصوص هو الضمير الذى اقتضى العطف وجوده مقدما ، وكون المخصوص مقدما فيه خلاف ، قيل : يجوز وقيل : المقدم دليل المخصوص المؤخر ، وممن نص على الأول صاحب المفتاح ، وإذا كانت جملة وهو حسبى خبرا ، وكانت جملة نعم الوكيل إنشاء لزم ، سواء عطفت على خبر الأولى بالتأويل المتقدم ، أو على جملتها عطف الإنشاء على الإخبار وهو ممنوع ؛ لأن بين الإنشاء والإخبار كمال الانقطاع على ما يأتى ، وقد يجاب بجعل الأولى لإنشاء الثناء على الله تعالى بأنه الكافى فى جميع المهمات ولو كان الثناء بالجملة الاسمية قليلا ؛ لأن ارتكابه أخف من ارتكاب العطف مع كمال الانقطاع ، أو بجعل الثانية معطوفة على خبر الأولى بتقدير القول ، فتكون الجملتان خبريتين إلا أن الثانية مشتملة على إنشاء محكى فيكون التقدير : وهو حسبى وهو المقول فيه نعم الوكيل هو ، وارتكاب هذا أيضا مع ما فيه من التقدير المخرج عن الظاهر أقرب من عطف الإنشاء على الإخبار.

ثم شرع فى أجزاء المقصود بالذكر من التأليف ، وهى أربعة : مقدمة وثلاثة فنون لأن ما يذكر فى التأليف إما أن يكون من المقاصد فى الفن أو لا ، فإن لم يكن من المقاصد بل مما يستعان به على المقصود فهو المقدمة ، وإلا بأن كان من المقاصد فإن كان الغرض منه إدراك الأحوال التى يطابق بها مقتضى الحال ؛ ليحترز بذلك عن الخطأ فى تأدية المعنى الذى يراد زائدا على أصل المراد ، فهو الفن الأول المسمى بالمعانى ، وإن لم يكن الغرض ما ذكر بل شيء آخر ، فإن كان ذلك الشيء الآخر العلم بالأحوال التى بها يحترز عن التعقيد المعنوى ؛ فهو الفن الثانى المسمى بالبيان ، وإن لم يكن الغرض ما ذكر

١٠٦

فهو الفن الثالث ، والاعتماد فى الحصر على الاستقراء ، والخاتمة داخلة فى الفن الثالث عند المصنف ؛ لأنه نص فى غير هذا الكتاب على أنها من الفن الثالث ؛ لأنها راجعة إلى المحسنات اللفظية فلا يحتاج إلى جعلها جزء من المقصود كما قيل ، فبدأ بالمقدمة منها أولا فقال : هذه (مقدمة) فى بيان معنى الفصاحة والبلاغة ، وبيان انحصار العلم فى الفنون الثلاثة وغير ذلك مما ينساق إليه الكلام ، ولم يعرف المقدمة لعدم تقدم ما يشعر بها ، فكان المقام مقام تنكيرها ، وأصل التنكير إفادة الإفراد ؛ لأن المفرد أقل ما ينطلق عليه المنكر ، وذلك كاف فى الغرض ، أما كون تنوينها للتعظيم أو التقليل فلا يتعلق به الغرض ؛ لأن نسبة مقدمة كل فن وكل كتاب إليه لا تتفاوت غالبا ، حتى يكون مقامها بالنسبة إليه تارة يوجب كونها عظيمة ، وتارة يوجب كونها حقيرة ، فلا يتشوف إلا لوجودها لا لكونها عظيمة أو قليلة ؛ ولهذا لم يستعمل هذه مقدمة عظيمة لهذا الفن أو قليلة له ، ولو كان يمكن بالتكلف وصفها بالعظمة أو القلة على خلاف المعتاد من المؤلفين ، ولأجل برودة هذا المعنى فيها ؛ كان الخلاف فيه مما لا ينبغي أن يقع بين المحصلين ، وأما الفنون فلما انجر الكلام في آخر هذه المقدمة إلى ذكرها فى قوله : وما يحترز به عن الخطأ إلخ ، ناسب ذكرها بطريق التعريف ، لكن لم يذكرها باسم الفن ، وإنما ذكر مصدوقه لكن العهد مما يكفى فيه الذكر التضمنى ، وهو ظاهر غير أن إخباره عن الفن بأنه علم كذا إخبار بمعلوم لتقدمه فى آخر التقسيم ، وقد أجيب عنه بأن الإخبار فى الثانى والثالث جوزه بعدد العهد ، وفى الأول تبعية ما بعده له ، وههنا بحث وهو أن مقدمة العلم يتوقف عليها إدراك ذلك الفن ، وهذه الأمور المذكورة ههنا لا يتوقف عليه الفن ، فإن صاحب المفتاح ذكرها بعد الفنين وأيضا مقدمة العلم كما قيل : هى حد العلم وبيان غايته وموضوعه ، وهذه الأشياء لم يذكر فيها الموضوع بالتصريح ولا الغاية ، والجواب أن المراد بالمقدمة ههنا مقدمة الكتاب ، وهى طائفة من كلامه ، تتقدم أمام المطلوب لارتباط معناها به ، وانتفاع بذلك المعنى فيه ، ولا شك أن المقدمة إذا أريدت لهذا المعنى صدقت على هذه الطائفة المذكورة أمام المطلوب لارتباط معناها به الذى هو : تفسير البلاغة والفصاحة اللتين قصد معرفتهما من وضع هذا الفن إذ عما

١٠٧

منشأ غايته التى هى معرفة إعجاز القرآن وبيان انحصار العلم فى الثلاثة التى يوقف على معانى الفنون فى الجملة ، ولا يخفى ارتباط ما ذكر بالمقصود ، وأما مقدمة العلم ، وهى المعانى التى يتوقف عليها الفن ، فقد تكون نفس مدلول الألفاظ المتقدمة التى هى فى مقدمة الكتاب ، وقد يكون غيرها مدلولها ، وعلى أنا لا نسلم اشتراط التوقف الحقيقى ، بل المراد التوقف الكمالى ، ولا نسلم اشتراط كونها ذكر الموضوع والغاية والحد فقط ، فلا يرد البحث أصلا فتحصل فى الفرق بين مقدمة العلم ومقدمة الكتاب ، أن الأولى مرجعها إلى المعنى المتوقف عليه كمالا أو حقيقة ، والثانية مرجعها إلى الألفاظ الدالة على المعانى التى لها رابط بالمقصود ، فيتجه حينئذ أن يقال : إن بين مدلول مقدمة الكتاب ومقدمة العلم عموما من وجه ، أو يقال : إن بين الدال على مقدمة العلم ، ومقدمة الكتاب عموما من وجه ، وهذا الفرق مما خفى على كثير من الناس وفى هذا المقال مجال للبحث وما ذكر كاف فيه.

ثم مهد لتعريف الفصاحة والبلاغة تمهيدا ، بأن بين اختلاف كل منهما باختلاف الموصوفات ؛ ليتأتى تعريف كل على حدة ، إذ لا يمكن جمع الأشياء المختلفة فى المعنى فى تعريف واحد ، ولو اتحد اللفظ ، لعدم اشتراكها فى الفصل ، الذى تتميز به عما سواها ، ويعمها دون غيرها ، وإلا لم يتحقق اختلافها فى الفصول ، فإن العين الباصرة ، والنقد ، والماء الجارى ، لا يمكن تعريفها باعتبار هذه المعانى تعريفا واحدا.

الفرق بين الفصاحة والبلاغة

فقال : (الفصاحة) وهى فى اللغة : لا تخلو عن معنى الظهور ، فيكون فعلها لازما ، كقولهم فصح اللبن إذا ظهر من رغوته ، أو عن معنى الإبانة فيكون فعلها فى المعنى متعديا ، كأفصح الأعجمى أبان مراده ، ونقلت عرفا إلى وصف فى الكلمة ، والكلام ، والمتكلم ، لا يخلو ذلك الوصف من ملابسة وضوح وظهور ، فهى حقيقة عرفية. (يوصف بها المفرد والكلام) فيقال فى المفرد كلمة فصيحة ، وفى الكلام هذا كلام فصيح.

١٠٨

أما دخول المركب فى الإسناد المفيد فى الكلام فلا إشكال فيه ، وكذا دخول الكلمة الواحدة فى المفرد ، وأما المركب غير المفيد ، فقيل : داخل فى الكلام لأنه ربما يكون بيت غير مشتمل على الإفادة ، ومع ذلك فهو يوصف بالفصاحة ، فيدخل فى الكلام ، ورد بأن وصفه بالفصاحة لا يستلزم تسميته كلاما ؛ حتى يدخل فى مسماه ، وإنما المقتضى لدخول المركب الغير المفيد فى الكلام أن يقال فيه مثلا : هذا كلام فصيح لا وصفه بالفصاحة فقط ؛ لأن الوصف بالفصاحة أعم من التسمية بالكلام ، والأعم لا يستلزم الأخص ، فيجوز أن يكون وصفه بالفصاحة ؛ لكون كلماته فصيحة لا لكونه كلاما مركبا مع فصاحة الكلمات ، وقيل : داخل فى المفرد ؛ لمقابلته بالكلام ، والكلام إذا أطلق ينصرف عرفا للمفيد ، فيكون مقابلة ما ليس كذلك ، فيدخل فى المفرد المركب الغير المفيد ، وإنما جعلنا مقابلته بالكلام دليلا على ما ذكر ؛ لأن المفرد يذكر فى مقابلته المثنى ، فيراد به ما ليس بمثنى ، وفى مقابلته المركب ، فيراد به ما ليس بمركب ، وفى مقابلته الكلام ، وقد تقدم أن الكلام على الإطلاق ينصرف إلى المفيد ، فيراد به ما ليس بكلام مفيد ، فيدخل فيه المركب الغير المفيد ، ولكن يتوقف على تسليم هذه المقابلة ، والمشهور فى المقابلة مقابلته بالجملة ، وهى أعم من المفيد ، ويرد عليه أيضا لزوم دخول غير الفصيح من المركب الغير المفيد فى تعريف فصاحة المفرد فيما سيأتى ؛ لأنه قال فيه : فالفصاحة فى المفرد خلوصه من تنافر الحروف إلخ ، ولا شك أنه يصدق على مثل قوله فى المثال الآتى ـ إن شاء الله تعالى ـ

وليس قرب قبر حرب (١)

أنه خلص من تنافر الحروف إلى آخر القيود إذ الموجود فيه تنافر الكلمات لا تنافر الحروف ، فيكون مفردا فصيحا ، وليس كذلك : إلا أن يقال : تنافر الكلمات يرجع

__________________

(١) البيت هو :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

الرجز أنشده الجاحظ كما في دلائل الإعجاز ص ٥٧ ، وهو مجهول القائل ، ويدعى بعض الناسبين أنه لجنى رثى به حرب بن أمية جد معاوية بعد أن هتف به فمات.

١٠٩

إلى تنافر مجموع حروفها ، ثم على تقدير تمحل الجواب فى هذا يدخل فى التعريف ما لم يخلص من التعقيد اللفظى ـ تأمله.

(و) يوصف بالفصاحة (المتكلم) ـ أيضا ـ إذ يقال : هذا شاعر فصيح ، وكاتب فصيح. (والبلاغة) التى هى غير خالية عن معنى الانتهاء ، والوصول ، لا باعتبار اللغة ، ولا باعتبار ما نقلت إليه ؛ لأنها نقلت إلى بلوغ الكلام إلى المرتبة التى يجب مراعاتها فى المطابقة. (يوصف بها الأخيران) وهما الكلام والمتكلم (فقط) هو اسم فعل بمعنى انته فكأنه يقول : فإذا وصفت بها الأخيرين فانته عن وصف الكلمة بها إذ لم يسمع كلمة بليغة ، وقيل : إن العلة فى عدم وصف الكلمة بها ، أن معناها المطابقة لمقتضى الحال ، والمطابقة المذكورة إنما تحصل برعاية الاعتبارات الزائدة على أصل المراد ـ كما يأتى ـ فلا تتحقق إلا فى ذى الإسناد المفيد ، وذلك منتف عن الكلمة ، ورد بأن ذلك إنما يتم إن سلم أن لا بلاغة إلا ما ذكر ، فتخص بذى الإفادة ، فإذا جاز أن تكون ثم بلاغة أخرى يصح وجودها فى الكلمة ـ كما تعقل ذلك فى الفصاحة ـ لم يكن ذلك علة فى عدم وصف الكلمة بالبلاغة ، فإن قال : هذا المعلل لا معنى للبلاغة فى كلام العرب إلا هذا المعنى ، وهو محال فى الكلمة ، عاد إلى انتفاء السماع وهو الذى عللنا به ، ثم لما بين محال الفصاحة والبلاغة ، ليتحقق اختلاف معانى كل منهما باعتبار تلك المحال ، أفرد كلا منهما بتعريف فتعدد باعتبار تلك المحال لتعذر جمع المعانى المختلفة فى تعريف واحد ، إذ لا تشترك المختلفات فى فصل وإلا لم تخالف ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى ، ونظير ذلك تقسيم الاستثناء إلى : متصل ، ومنقطع ، ثم تعريف كل منهما ، على أن الاستثناءين يمكن جمعهما فى التعريف بالوقوع بعد إلا فيتميزان عما عداهما من الفضلات ، فليس كما هنا فى التعذر ، فقال : مقدما تعريف الفصاحة على البلاغة ، لكونها مأخوذة فى تعريف البلاغة ، وفصاحة المفرد على فصاحة الكلام ، والمتكلم ، لتوقف وجودهما على وجودها إن أردت معرفة كل منهما باعتبار محالهما.

(فالفصاحة) الكائنة (فى المفرد) هى (خلوصه من تنافر الحروف و) خلوصه من (الغرابة و) خلوصه من (مخالفة القياس اللغوى) أى : الضابط المتقرر من استقراء

١١٠

الاستعمال اللغوى ، كقولنا : كلما تحركت الياء ، أو الواو وانفتح ما قبلهما قلبا ألفا ، ويجرى مجرى ما دخل فى القياس ما ثبت عن الواضع التزامه ، ولو كان مخالفا للقياس كإبدال الهاء همزة فى ماء مثلا ، ثم إن الجارى على لسان بعضهم أن الفصاحة هى : كون الكلمة جارية على الاستعمال المشهور المتقرر عمن يوثق بعربيتهم ، وعليه يكون تفسيرها بالخلوص عن هذه الأمور الذى هو عدم تلك الأمور تفسيرا بالخاصة العدمية على وجه التسامح ، ولو قيل بأنها نفس الخلوص عما ذكر لم يبعد ؛ لأن هذه الأمور أسام اصطلاحية لا حجر فيها ، ولما كان هذا التفسير مرجعه إلى التفسير بالعدم المضاف ، وهو إنما يفهم بمعرفة ما يضاف إليه شرع فى بيان هذه الأمور المضاف إليها الخلوص ، فقال : إن أردت معرفة هذه الأشياء (فالتنافر) منها معنى فى حروفها يوجب عسر النطق بها (نحو) مستشزرات من قوله.

(غدائره مستشزرات إلى العلا) (١)

تضل العقاص فى مثنى ومرسل

يعنى أن غدائر الشعر أى : ذوائبه مستشزرات أى : مرفوعات إن روى بفتح الزاى ، أو مرتفعات إن روى بكسرها ، يقال : استشزره أى : رفعه واستشزر ارتفع إلى العلا أى : إلى جهة السماء ثم وصف الشعر بما يؤكد الكثرة ، فقال : تضل أى : تغيب العقاص جمع عقيصة وهى : الخصلة من الشعر فى المثنى : وهو المفتول ، وفى المرسل : وهو ضد المفتول ، ولما كان الغرض بيان كثرة الشعر بين أن غدائره أى : أجزاءه المشدودة بالخيوط ، وهى : الذوائب كثيرة أوجبت لتراكمها ارتفاعها إلى العلا ، ثم إن مجموع الشعر قسمه إلى العقاص الغير الطويلة ، وهى : المرتفعة المشدودة ، وإلى المثنى والمرسل ، وأن تلك العقاص تغيب من كثرة الشعر فى جنس المثنى والمرسل ، وبه يعلم أن العقاص من وضع الظاهر موضع المضمر ، وأن القسمة ثلاثية لا رباعية ، وهذا التنافر متفاوت ، وقد سمع ما هو أعظم من مستشزرات كقولهم : الهعخع ، وهو : نبت ترعاه الإبل ، والمحكم فى التنافر الذوق ؛ لأن كل ما يحاول أن يضبط به من قرب المخارج ، أو

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص ١١٥ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٧ ، ولسان العرب ٤ / ٤٠٥ (شزر) ، ٧ / ٥٦ (عقص) ، والتبيان للطيي ٢ / ٤٩٦ ، والإيضاح ص ٣ ، وشرح عقود الجمان (١ / ١٠).

١١١

تباعدها ، أو توسط ، مهموس رخو بين شديد ، ورخو مجهور ، كما قيل فى مستشزرات فإن الشين فيه توسطت بالوجه المذكور بين ما ذكر وغير ذلك فقد نقض ، أما التوسط بما ذكر فلو كان موجبا للتنافر لأوجبه فى مستشرفات ، لوجود ما ذكر فيه ، ولا تنافر فيه قطعا ، وأما التباعد فهو كثير مع الفصاحة كبلغ ، وأما التقارب فقد بنى بعضهم على إخلاله بالفصاحه ؛ لأجل التنافر فيه ، والتزم انتفاء الفصاحة عن كلمة ألم أعهد فى التنزيل ، واحتاج إلى الاعتذار بأن اشتمال الكلام الطويل على كلمة غير فصيحة لا يوجب كون ذلك الكلام غير فصيح ، إذ حاصله وصف الكل بوصف انتفى عن جزئه وهو صحيح ، فإن الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير عربية لا يوجب عدم وصفه بكونه عربيا ، فقاس الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير فصيحة على الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير عربية ، فى صحة وصف كل منهما بوصف ليس فى جزئه ، بجامع الطول ، ووجود الوصف فى الجل ، ورد بأن القياس من شرطه وجود الحكم فى الأصل ، والحكم الذى هو صحة وصف الشيء بما ليس وصفا لجزئه ، لم يوجد فى الكلام العربى ، الذى هو الأصل المقيس عليه ، وما يتوهم من كون بعض الكلم ليست عربية كالقسطاس والمشكاة ـ فى الآية الكريمة (١) ـ لا نسلمه ، بل هى عربية مما تواطأت فيه العربية مع غيرها ، أو المراد بوصف الكل الموجود فى الكلام العربى ، ما يعم جميع الأجزاء ، وهو كونه عربى النظم ، فالقياس فاسد لعدم وجود الحكم فى الأصل ، ورد ـ أيضا ـ بعد تسليم وجود الحكم فى الأصل بوجود الفارق ، وهو أن الكلام الفصيح من شرطه فصاحة الكلمات ، وليس المقيس عليه الذى هو الكلام العربى من شرطه عربية كلماته جميعا ، فعلى هذا لا يتصور كلام فصيح ، وبعض كلماته غير فصيحة ، طال أو قصر ؛ لأن شرط فصاحة الكلام فصاحة كل كلمة منه ، بل يمكن أن يتأنس بوجود ما يسمى كلاما فى الجملة من غير شرط فصاحة كلماته جميعا ، وهو المركب الغير المفيد على مذهب من يفسر الكلام هنا بالمفيد ؛ لأن شرط فصاحة الكلمات حينئذ إنما هو في

__________________

(١) وذلك في قوله تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) الإسراء : ٣٥.

وقوله تعالى : (.. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) النور : ٣٥.

١١٢

المفيد ، وأما على مذهب هذا القائل فلم يكن له ما يتأنس به من مسمى كلام لا تشترط فيه فصاحة كلماته ، إذ لا يوجد كلام فى الجملة لا ـ يشترط فيه فصاحة الكلمات على مذهبه ؛ لأنه يفسر الكلام بما ليس بكلمة فيدخل المفيد وغيره ، فعموم الاشتراط على مذهبه ألزم ، لكن مقتضى هذا أن صاحب المذهب الأول يكون غير المفيد عنده فصيحا ، ولو اشتمل على كلمات غير فصيحة ، ولا أظنه يقول به ، ولو كان هو اللازم لتفسيره ـ تأمل.

ورد ـ أيضا ـ بأن التزام وجود كلام غير فصيح ـ ولو لم يطل فى التنزيل ـ بل وجود كلمة غير فصيحة ، مما يقول إلى نسبة ما لا يليق بجلاله تعالى إليه من الجهل ، أو العجز ، إذ لا موجب لترك الفصيح إلى غيره عادة إلا أحد هذين ، فالواجب الجزم بعدم التنافر بتقارب المخرج ، كما يشهد به الذوق ـ والله اعلم.

(والغرابة) هى : كون الكلمة وحشية أى : غير مأنوسة الاستعمال ، ويلزم كونها غير ظاهرة المعنى بالنسبة لمن تلك الكلمة وحشية لديه ، والوحشية قسمان : قبيحة مستكرهة ذوقا ، لعدم تداولها فى لغة خلص العرب ، وهم : أهل البادية دون المولدين ، وهى مخلة بالفصاحة مطلقا كجحيش للفريد أى : المستبد بأمره الذى لا يشاور الناس فى رأية ، وحسنة وهى : غير مخلة بالفصاحة بالنسبة إلى العرب الخلص إذ ليست بالنسبة إليهم غير ظاهرة المعنى ، ومنها غريب القرآن ، والحديث ، فغرابة المستحسنة إخلالها بالفصاحة نسبى يكون باعتبار قوم وهم المولدون دون قوم وهم الخلص. (نحو) مسرج من قوله :

ومقلة وحاجبا مزججا (١)

أى : مدققا مطولا ، وقيل : زجج الحاجب : دقته ، واستقواسه أى : «صيرورته كالقوس. (وفاحما) أى : وشعرا أسود كالفحم. (ومرسنا) أى : أنفا (مسرجا) أى : منسوبا للسراج ، أو للسريجى ، وهو : السيف المنسوب لقين يسمى سريجا ، ونظيره قولهم : تممته ، فهو متمم ، أى : نسبته لتميم لكن المعلوم فى أخذ فعل بتشديد العين

__________________

(١) الرجز للعجاج في ديوانه ٢ / ٣٤ ، ولسان العرب ٢ / ٢٩٨ ، (سرج) ، ١٣ / ١٨٠ (رسن).

١١٣

للنسبة كونه لا على طريق التشبيه ، وكونه من الثلاثى ، كفسقته نسبته للفسق ؛ ولهذا كان غريبا ؛ لعدم جريانه على النظير ، فافتقر إلى تكلف موجب لصعوبة الفهم ، ولخفائه ؛ اختلفوا فى تخريجه ، وأما كونه على طريقة فعل بمعنى صار كذا ، كقوس صار كالقوس ، فلا يصح إذ الواجب أن يقال حينئذ : مسرجا بكسر الراء ، لعدم تعديه ، والرواية بالفتح ، ثم فسر مسرجا على الاحتمالين بقوله (أى كالسيف السريجى فى الدقة والاستواء أو كالسراج فى البريق واللمعان) ولا يخفى ما فى تشبيه الأنف بالسيف أو السراج من البرودة ، ومن خلاف المعتاد فى تراكيب البلغاء ، واعتباراتهم حتى لو صرح بالتشبيه لمج ، فكيف يكون الحال من الرمز إلى التشبيه؟ وورد فى كتب اللغة تفسير سرج ببهج ، وحسن ، يقال : سرج الله أمرك أى : بهجه ، وحسنه ، فتوجه فى مسرجا الذى عدوه غريبا ، أن يقال : لم لم تجعلوه من سرج الدال على الحسن ؛ فيخرج عن الغرابة؟ وأجيب بأنه جعله اسم مفعول من سرج ، بمعنى : حسن لا يعين كونه غير غريب ، ووجوده فى بعض كتب اللغة ؛ لا يدل على عدم غرابته ؛ لاحتمال تقرر غرابته بهذا المعنى ، الذى هو الحسن ، ثم فسره بعض من اطلع على معناه مع غرابته إذ لا يمتنع تفسير الغريب بعد الاطلاع عليه ولا يجب العلم بكونه غريبا ، ولا التنبيه على غرابته عند تفسيره ، ومما يدل على غرابته مطلقا تمثيل أئمة النقل به للغريب ، فإذا كان لا يتحقق خروجه عن الغرابة بالوجه المذكور ؛ لم تكن فائدة لإجرائه دون غيره مما يحقق غرابته ، لكن يرد حينئذ أن الأولى تركه ؛ لمثال تتعين غرابته ، ولا يحتمل غيرها إلا أن هذا بحث فى المثال.

وأجيب ـ أيضا ـ بأن سرج بمعنى : حسن يحتمل أن يكون مستحدثا مولدا من السراج ، ويكون مسرجا قديما فيكون الحكم بغرابة مسرجا سابقا على استحداث سرج ، ويمتنع أخذه منه ، لامتناع أخذ السابق من اللاحق ، ثم لو سلم أخذه منه على تقدير هذا الاستحداث وتقدير تأخر مسرجا عن سرج فيكون غريبا ـ أيضا ـ فيعود إلى الوجه الأول ؛ لأن المولد غريب بالنسبة إلى العربية المشهورة التى وضعت لها كتب التفسير فى الأصل ، وقد صرح بعض الأئمة بما يقتضى استحداث سرج من السراج حيث قال : السريجى نسبة إلى السراج ، يعنى على غير قياس ، والنسبة على طريق التشبيه

١١٤

بالسراج فى الرونق ، حتى كأنه فيه سراجا ، أو كأنه صار سراجا قال : ومنه سرج الله أمره أى : بهجه وحسنه ، وهو يحتمل وجهين متقاربين.

أحدهما : أن يكون المعنى من وصف الشيء بالسريجى ، لكثرة مائه فكأنه السراج ، قولهم : سرج الله أمره أى : صيره كالسريجى أى : كالمشبه بالسراج ، فهو بهذا المعنى التشبيهى بمعنى جعله شبيها ، لا بمعنى أن الله تعالى شبهه به ، أو نسبه إلى السراج ـ كما لا يخفى.

والآخر : أن يكون المعنى من الأخذ من السراج سرج الله وجهه وبكل تقدير فلا يخلو من الحاجة إلى تكلف التخريج الذى أوجبه الاستحداث من السراج ، لكن الحق أن كلامه لا يدل إلا على الاستحداث ، وهو أعم من التوليد الموجب قطعا للغرابة ؛ لأن الاستحداث يوجد من أهل اللغة ، لكن إذا خرج المستحدث عن الأصل وصار لا يفهم إلا بتكلف صار غريبا مخلا بالفصاحة ، فهذا التصريح يدل على الغرابة لو لم يدل على التوليد ، فيعود فى الحقيقة لمثل ما فى المتن ـ تأمل والله الموفق.

فإن قلت إذا كانت الغرابة فيها مستحسن ، ومنه غريب القرآن ، ومعلوم أن الغرابة تخل بالفصاحة فى الجملة وحينئذ يلزم أن يشتمل القرآن على غير الفصيح ، قلت : لا نسلم لزومه أما إذا بنينا على ما تقدم من أن الغرابة فيه باعتبار المولدين فظاهر ؛ لأن فصاحة القرآن باعتبار الخلص من العرب ، إذ بلغتهم نزل وعلى تقدير تسليم أن الغرابة فيه باعتبار بعض الخلص دون بعض ؛ بأن يكون الوحشى هو ما لم تتداوله عرب فظاهر أيضا لأن القرآن مشتمل على أنواع من لغات العرب ، فعربيه فصيح بالنسبة للعرب فى الجملة إذ العرب بلسانهم فى الجملة نزل القرآن العظيم ، وإن كان غالبه قرشيا ، وغاية ما فيه أن غريبه لا يكون كغيره فى الفصاحة ، وهو مسلم ؛ لأن القرآن متفاوت فى نفسه فى البلاغة والفصاحة ، فتحصل من هذا أن الغرابة المخلة بالفصاحة هى الغرابة المطلقة لا المقيدة ، وربما يراد هنا أن الغريب المستقبح هو المتوعر المشتمل على الثقل ذوقا ، وفيه بحث ؛ لأن الثقيل بذلك يرجع إلى المتنافر أو الوحشى على ،

١١٥

الإطلاق ـ كما أشرنا إليه ، وهو الغريب عند جميع العرب مولدهم وغيره ، فلا يستثقل إلا لأحدهما ، فلا حاجة لزيادة قوله ذوقا تأمل فى هذا المقام.

(والمخالفة) التى هى : كون الكلمة غير جارية على القانون الذى يتقرر به حكم المفردات اللغوية ، والمفردات اللغوية يتقرر حكمها بالقانون التصريفى ، فإذا اقتضى قلب الياء ألفا مثلا فوردت الكلمة بخلاف ذلك ، فقد خرجت عن القانون فتكون غير فصيحة ويتقرر أيضا بثبوت الاستعمال الكثير ، ولو كان على خلاف القياس ، إذ ذلك كالاستثناء من القانون ، كقلب الهمزة من الهاء فى لفظ ماء ، وكقلب الواو من الهاء ، ثم قلب الواو ألفا فى آل ، وكقلب الألف من الهمزة فى يأبى مضارع أبى ، وكتصحيح الواو مع تحركها وانفتاح ما قبلها فى عور يعور ، فإن هذه تجرى على القياس ، لكنها ثبت عن الواضع حكمها واستعمالها ـ هكذا ، فصارت فى تقرر حكمها عن الواضع بالاستعمال الكثير كالداخلة فى القانون ، وكفتح عين الكلمة أو ضمها أو كسرها أو سكونها الثابت نقله لغة ، فخلافه يخل بالفصاحة ، ولذلك كانت العبارة الجامعة أن يقال : المخالفة كون الكلمة على خلاف ما ثبت فيها عن الواضع بالاستعمال الكثير ، فإن قيل استعمال العرب وضع فلا تتصور المخالفة بالنسبة إليهم ، والمخالفة بالنسبة إلى غيرهم لا تضاد الفصاحة فهى لغو لا ينبغى الاحتراز عنها ؛ لأن كلام غيرهم لا يوصف بالفصاحة ، ولا يعد منها ، قلت : لا نسلم أن مطلق استعمال العرب كالوضع ، بل الكثير المعتبر فتتصور المخالفة باعتبارهم ـ كما أشرنا إليه فى التقرير ، ولا نسلم أن كلام المتشبه بالعرب المولد لا يوصف بالفصاحة ، ولا بعدمها ولا يخفى تصور المخالفة باعتباره نحو الأجلل فإن الثابت عن الواضع الأجل بالإدغام ـ هكذا ، ففكه مخالف فى قوله :

(الحمد لله العلى الأجلل)

الواحد الفرد القديم الأول (١)

(قيل) فصاحة المفرد هى الخلوص من الأمور المتقدمة (و) خلوصه (من الكراهة فى السمع) بأن يمج طبعا عند سماعه ، وذلك (نحو) الجرشى فى قول أبى الطيب :

__________________

(١) الرجز لأبي النجم في خزانة الأدب ٢ / ٣٩٠ ، ولسان العرب ١ / ١١٦ (جلل).

١١٦

مبارك الاسم أغر اللقب (١)

أى : مشهور الاسم والأغر فى الأصل هو : الأبيض الجبهة فى الخيل ، ثم نقل لكل مشهور معروف ؛ لاستلزام الغرة للظهور والشهرة بين ما ليس كذلك. (كريم الجرشى) أى : كريم النفس. (شريف النسب وفيه) أى : وفيما ذكر هذا القائل (نظر) لأن استثقال الطبع للمسموع لا يتصور عادة إلا بكونه وحشيا تنكره الأسماع ، وتستثقله الطباع على ما تقدم فى تفسير الوحشى ، فيدخل فى الغرابة المحترز عنها ، وذلك كقوله : تكأكأتم عليّ تكأكؤكم على ذى جنة افرنقعوا عنى.

أى : اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون ، تفرقوا عنى فالتكأكؤ والافرنقاع مكروهان فى السمع لهذا المعنى ، وأصل هذا الكلام أن رجلا سقط من حمار ، فاجتمع الناس عليه ، فخاطبهم بهذا الكلام وأما توجيه النظر بأن الكراهة فى السمع ليست إلا من قبح الصوت ، فلو احترز عنها ، خرج كثير من الكلمات المتفق على فصاحتها بسبب نطق خشن الصوت بها ، مردود بأنه لو كان المراد كذلك لزم كون الجرشى غير مكروه فى السمع ٧ لا عند نطق خشن الصوت ، وليس كذلك ، فإنا نقطع بكراهته دون مرادفه الذى هو النفس وإن نطق به جميل الصوت ، فحصر الكراهة فى السمع فى قبح النغم ليرد بما ذكر باطل ، فحمل كلام المصنف على غير ذلك أحق ، هذا تقرير كلام المعترض ، لكن هذا الاعتراض إن كان عنى به الخلخالى فهو لا يحصر الكراهة فيما ذكر حتى يتجه عليه النظر بما ذكر ، بل يجعل الكراهة قد تنشأ من ترتيب ينفر منه الطبع ، ويستقبحه من غير تنافر في الحروف ، فعليه يحتاج إلى الاحتراز عن الكراهة ، وقد تنشأ عن قبح النغمة أو الغرابة ، فلا يحتاج إلى الاحتراز عنها ، نعم على فهم الخلخالى لا يتجه تنظير المصنف فى قول القائل يشترط انتفاء الكراهة ؛ لأنه يكفى فى الحاجة إلى الاشتراط كون ذى الترتيب المنفر للطبع لا يخرج إلا بذكرها.

وأما على التفسير الأول للتنظير فظاهر ، غير أنه لا مانع من أن يدعى أنه لا يحصر فى الكراهة فى السمع فى الغرابة الوحشية ، بل يجوز استقباح الكلمة طبعا من غير غرابة ـ ، كما أومأ إليه الخلخالى ـ فيحتاج إلى الاحتراز عن ذلك الاستقباح ـ تأمل فى هذا المقام.

__________________

(١) صدر البيت ، وعجزه : «كريم الجرشى شريف النسب» ، والبيت من المتقارب ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ١٩٨ ، ط دار الكتب العلمية ، وشرح عقود الجمان ١ / ١١.

١١٧

فصاحة الكلام

(و) الفصاحة (فى الكلام خلوصه من ضعف التأليف) ويحصل هذا الخلوص بكون الكلام جاريا على القانون المشهور (و) خلوصه من (تنافر الكلمات) وذلك بأن لا يثقل فى اللسان اجتماع كلماته ، وأما أن لا تثقل الكلمات ولكن معانيها غير متناسبة كسطل ونعل وسيف إذا عطفت فذلك يخل بالبلاغة لا بالفصاحة ، وسيعلم إن شاء الله تعالى فى الفصل والوصل.

(و) خلوصه من (التعقيد) وذلك بأن لا يضعف فهم المعنى من الكلام بوجه يرجع إلى اللفظ ولا بوجه يرجع إلى المعنى ، ثم يشترط فى الخلوص عن هذه الأمور الثلاثة فى فصاحة الكلام ، أن يكون ذلك الخلوص (مع فصاحتها) أى : فصاحة الكلمات ، وأما إن خلص الكلام من هذه الثلاثة لكن مع عدم فصاحة بعض كلماته لم يكن فصيحا كقولنا : شعره مستشزر وزيد أجلل وأنفه مسرج ، وقد علم من قولنا : «ثم يشترط الخ» أن قوله : مع فصاحتها متعلق بقوله : خلوصه الخ ، وليس حالا من الكلمات المعمول (١) لتنافر كما قيل ، وإلا كان المعنى يشترط فى الكلام خلوصه من تنافر الكلمات الموصوفة بالفصاحة ، فيقتضى أن تنافر الكلمات الموصوفة بعد الفصاحة لا يشترط الخلوص منه ، فيلزم أن الكلام الذى تكون كلماته متنافرة إلا أنها غير فصيحة ، يكون ذلك الكلام فصيحا ، وهو فاسد ؛ لأن المتنافر الكلمات مع عدم فصاحتها أولى بالخروج عن الكلام الفصيح المتنافر الكلمات مع فصاحتها ، فليفهم.

ولما كان هذا التعريف ـ كما تقدم فى فصاحة المفرد ـ حاصله : التعريف بانتفاء أشياء مخصوصة ، والعدم المضاف إنما يعرف بإدراك المضاف إليه شرع فى بيان تلك الأشياء المنفية فى فصاحة الكلام ، فقال : (فالضعف) : منها أن يكون الكلام جاريا فى تركيبه على خلاف القانون المشهور عند جمهور النحويين ، وإن كان بعضهم يجوز ذلك التركيب ، وذلك كالإضمار قبل أن يذكر لفظ المعاد حقيقة أو تقديرا ، أو يذكر ما يقتضى معناه ولو لم يذكر لفظه ، أو يكون فى حكم المذكور ولو لم يذكر لفظه ولا

__________________

(١) أى : أن (الكلمات) وقعت معمولا ل (تنافر).

١١٨

معناه ، فإذا لم يذكر معاد الضمير بأحد هذه الوجوه ، كان التأليف ضعيفا (نحو ضرب غلامه زيدا) فإذا كان الغلام هو الضارب وعاد منه الضمير على زيد ، فقد ذكر ضمير زيد قبل ذكر لفظ زيد حقيقة وتقديرا ؛ لأنه فى رتبة التأخير لكونه مفعولا وقبل ذكر معناه ، ومع ذلك فليس فى حكم المذكور ، فهذا التأليف ضعيف يخل بالفصاحة ، وأما إن كان الإضمار بعد الذكر لفظا حقيقة كجاءنى رجل فأكرمته ، أو تقديرا كضرب غلامه زيد على أن زيدا فاعل لأنه فى تقدير التقديم ، أو كان الإضمار بعد ذكر ما يتضمن معناه كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١) فإن الضمير عائد إلى العدل المفهوم من اعدلوا ، أو كان المعاد فى حكم المذكور ، وذلك بأن لا يتقدم ما يدل على معناه ، ولا يتقدم لفظا صريحا أو تقديرا ، ولكن المعاد مؤخر مع وجود نكتة فى الإضمار أولا كالإبهام ، ثم البيان ليتمكن فى ذهن السامع عند اقتضاء المقام ذلك ، كضمير الشأن فى نحو : هو زبد قائم ، وضمير رب فى قوله :

رب فتية دعوت إلى ما

يورث الحمد دائما فأجابوا (٢)

فلا ضعف فى كل ذلك ، وقد فهم من قولنا : «مع نكتة» أن الفرق بين الإضمار الموجب للضعف والإضمار الحكمى وجود النكتة وعدمها ، وإنما جعل متقدما حكما ؛ لأن أصل المعاد التقدم ، ولما لم يمنع من التقدم إلا وجود النكتة فى التأخر صار فى حكم المذكور أولا فافهم.

(والتنافر) منها : الذى هو كون النطق بالكلمات ثقيلا على اللسان ، إما ثقلا أوجبه التقاء مجموع كل كلمة من مجموع الأخرى (كقوله) أى : جنى صاح على حرب بن أمية فمات فى فلاة ، ويسمى نوع هذا الجنى هاتفا :

وقبر حرب بمكان قفر

(وليس قرب قبر حرب قبر)

__________________

(١) المائدة : ٨.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٩ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨٧٤.

١١٩

ولا يخفى ما فيه من التناهى فى الثقل ، وإما ثقلا أوجبه اجتماع بعض حروف كل كلمة مع حروف من الأخرى (و) ذلك (كقوله : كريم متى أمدحه أمدحه والورى) (١) أى الخلائق (معى) أى إذا مدحته ، مدحته والحال أن الورى معى ، وساعدنى الناس جميعا فيه لعموم إحسانه فيهم (وإذا ما لمته) وعبر باللوم في مقابلة المدح ـ مع أنه إنما يقابل بالذم ـ تأدبا مع الممدوح وللإيماء إلى أن ذمه إنما هو لوم وعتاب على نحو تفضيل الغير على اللائم ، وإلا فلا ذم (لمته وحدى) أى : إذا لمته لم أجد مساعدا ، وعبر بإذا التى تستعمل فى التحقيق إيهاما لوجود تحقق الدعوى ، وهو وجود اللوم مع عدم مساعد ، ولا شك أن تكرار أمدحه أوجب ثقلا من جهة تكرار الحاء والهاء ، وأما نفس اجتماع الحاء والهاء بدون تكرار فلا يوجب ثقلا يخل بالفصاحة ، فإنه قد وجد فى التنزيل المنزه عما يخل بالفصاحة كقوله تعالى (فَسَبِّحْهُ)(٢) وهذا المثال أحسن مما قبله فى التنافر ، فقول من أنشد هذا بين يديه : «أن فى تكرار أمدحه هجنه خارجة عن حد الاعتدال ومنافرة كلية ـ ليس المراد بذلك كونه فى نهاية عسر النطق ، بل زيادته على التنافر المغتفر لوجود ما هو أعسر منه كالبيت السابق (والتعقيد) منها : الذى هو هنا مصدر موافق للمبنى للمفعول ، أى : كون الكلام معقدا لا جعله معقدا الذى هو وصف الفاعل ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا هو (أن لا يكون) الكلام (ظاهر الدلالة على) المعنى (المراد) للمتكلم ، فيلزم أن يكون المعنى غير ظاهر المدلولية عند السامع ، وعدم ظهور المراد من الكلام يكون (لخلل) حاصل (إما فى النظم) والتركيب لذلك الكلام ، بأن تكون ألفاظه على خلاف ترتيب المعانى بالتقديم والتأخير مثلا ، أو أنقص منها بالحذف الموجب للفساد ، أو غير ذلك مما يوجب صعوبة الفهم ، كالعطف على التوهم ، والجر بالمجاورة مثلا ، ويسمى التعقيد الذى أوجبه خلل تركيب اللفظ :

__________________

(١) صدر بيت ، وعجزه : «معى وإذا ما لمته لمته وحدى» ، أورده فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ١٢٣ ، وعزاه إلى أبي تمام ، وهو كذلك في الإيضاح ص ١٥ بتحقيق د / عبد الحميد هنداوي.

(٢) ق : ٤ ، الطور : ٤٩.

١٢٠