شرح جمل الزجّاجى - ج ٣

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

شرح جمل الزجّاجى - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2263-0

الصفحات: ٤٦١

وقولهم : «لأمر ما جدع قصير أنفه» (١).

والنكرة غير الموصوفة تنقسم ثلاثة أقسام : قسمان باتفاق ، وقسم فيه خلاف.

فالقسمان المتفق عليهما أن تكون شرطا ، مثل قولك : «ما تفعل أفعل» ، وأن تكون استفهاما ، مثل قولك : «ما صنعت»؟

والقسم الذي فيه خلاف هو أن تكون «ما» تعجبية ، فسيبويه يجعلها نكرة غير موصوفة ، والأخفش يجعلها موصولة ، وقد تقدّم الردّ على أبي الحسن في بابه (٢).

ولا تكون «ما» في غير هذه المواضع تامة غير موصوفة إلّا حيث سمع ، مثل قوله : «غسلته غسلا نعمّا» ، ألا ترى أن «ما» هنا لا يتصور أن تكون زائدة لئلا يبقى الفعل بلا فاعل. ولا يتصور أن تكون موصولة لأنه ليس لها هنا صلة ، فثبت أنّ «ما» هنا تامة ، وليست شرطا ولا استفهاما ولا تعجبية ، ولكنه موقوف على السماع.

والحرفية تنقسم قسمين : زائدة ، وغير زائدة. فغير الزائدة تنقسم قسمين : مصدرية ، ونافية. فالنافية تنفي الفعل الماضي والمستقبل ، وإذا دخلت على المحتمل للحال والاستقبال ، خلّصته للحال.

والمصدرية مثل قولك : «يعجبني ما صنعت» ، تريد : صنعك.

وزعم أبو الحسن الأخفش أن «ما» المصدرية اسم بمنزلة «الذي». فإذا قلت : «يعجبني ما صنعت» ، تقديره : يعجبني الصنع الذي صنعته ، وحذفت الضمير من الصلة.

وهذا فاسد بدليل قوله [من الطويل] :

 ...

بما لستما أهل الخيانة والغدر (٣)

ألا ترى أنه لا يسوغ هنا تقديرها ب «الذي» ، أعني «ما» المصدرية لا تدخل على جملة اسمية أصلا.

__________________

(١) هذا القول من أمثال العرب ، وقد ورد في أمثال العرب ص ١٤٦ ؛ وخزانة الأدب ٨ / ٢٧٥ ، ٩ / ٣٢٠ ؛ والدرّة الفاخرة ١ / ١٠٦ ؛ والمستقصى ٢ / ٢٤٠ ؛ ومجمع الأمثال ٢ / ١٩٦ ؛ والوسيط في الأمثال ص ٢٠٣.

يضرب عندما يتوسّل الإنسان أمرا للوصول إلى غايته.

(٢) انظر باب التعجب في هذا الكتاب.

(٣) تقدم بالرقم ٥٤٩.

٤١

والزائدة تنقسم قسمين : زائدة لمعنى التأكيد خاصة ، وزائدة لغير معنى التأكيد ، فالزائدة للتأكيد ، مثل قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(١) ، لأنّ المعنى : فبرحمة من الله.

والزائدة لغير معنى التأكيد تنقسم قسمين : إمّا كافة أو موطئة. فالكافة هي التي تدخل على الحرف ، وقد كان يعمل ، فتقطعه عن العمل ، مثل «إنّما» وأخواتها. والموطئة هي التي تدخل على اللفظ ، فيسوغ له الدخول على خلاف ما كان يدخل عليه مثل «ربّ».

وذلك أنّ «ربّ» لا تدخل إلّا على اسم فتخفضه ، فلما لحقها «ما» ، وطّأت لها الدخول على الفعل في مثل قوله [من الخفيف] :

٧٧٤ ـ ربما تكره النفوس من الأمر

له فرجة كحلّ العقال

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

٧٧٤ ـ التخريج : البيت لأميّة بن أبي الصلت في ديوانه ص ٥٠ ؛ والأزهيّة ص ٨٢ ، ٩٥ ؛ وحماسة البحتري ص ٢٢٣ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ١٠٨ ، ١١٣ ، ١٠ / ٩ ؛ والدرر ١ / ٧٧ ؛ وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣ ؛ والكتاب ٢ / ١٠٩ ؛ ولسان العرب ٢ / ٣٤١ (فرج) ؛ وله أو لحنيف بن عمير أو لنهار ابن أخت مسيلمة الكذاب في شرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٧ ، ٧٠٨ ؛ والمقاصد النحويّة ١ / ٤٨٤ ؛ وله أو لأبي قيس صرمة بن أبي أنس أو لحنيف في خزانة الأدب ٦ / ١١٥ ؛ ولعبيد في ديوانه ص ١٢٨ ؛ وبلا نسبة في إنباه الرواة ٤ / ١٣٤ ؛ وأساس البلاغة ص ٣٢٧ (فرج) ؛ والأشباه والنظائر ٣ / ١٨٦ ؛ وأمالي المرتضى ١ / ٤٨٦ ؛ والبيان والتبيين ٣ / ٢٦٠ ؛ وجمهرة اللغة ص ٤٦٣ ؛ وجواهر الأدب ص ٣٦٩ ؛ وشرح الأشموني ١ / ٧٠ ؛ وشرح المفصّل ٤ / ٣٥٢ ، ٨ / ٣٠ ؛ ومغني اللبيب ٢ / ٢٩٧ ؛ والمقتضب ١ / ٤٢ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٨.

اللغة والمعنى : ضاق بالشيء : لم يطقه. غمّاؤها : شدّتها. فرجة : انفراج. يقول : تسلّح بالصبر ، فقد تزول الشدّة من غير مشقّة ، وكم من أمور تكرهها النفوس تنحلّ بأيسر السبل.

الإعراب : ربما : «ربّ» حرف جرّ شبيه بالزائد. ما : نكرة بمعنى «شيء» مبني في محلّ رفع مبتدأ ، وفي محلّ جر بحرف الجرّ. تكره : فعل مضارع مرفوع. النفوس : فاعل مرفوع. من الأمر : جار ومجرور متعلّقان ب «تكره». له : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم. فرجة : مبتدأ مؤخّر مرفوع. كحلّ : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صفة ل «فرجة» ، وهو مضاف. العقال : مضاف إليه مجرور.

٤٢

__________________

وجملة (ربّما تكره النفوس ...) الاسميّة لا محلّ لها من الإعراب لأنّها ابتدائيّة أو استئنافية. وجملة (تكره النفوس) الفعليّة في محلّ رفع نعت ل «ما». وجملة (له فرجة) الاسميّة في محلّ رفع خبر المبتدأ «ما» ، أو في محل جرّ صفة ل «الأمر» لأنّه محلّى ب «أل» الجنسيّة.

والشاهد فيه قوله : «ربّما» حيث دخلت «ربّ» على «ما» ممّا يدلّ على أنّ «ما» قابلة للتنكير ، لأنّ «ربّ» لا تدخل إلّا على نكرة ، وجملة «تكره النفوس» صفة ل «ما».

٤٣

باب مواضع «من»

«من» لا تكون إلّا اسما. وتنقسم قسمين : تامة ، وغير تامة.

فغير التامة هي الموصولة ، والتامة تنقسم ثلاثة أقسام : تكون جزاء ، نحو : «من يكرمني أكرمه». وتكون نكرة موصوفة ، مثل قولك : «مررت بمن محسن لك» ، أي : بإنسان محسن لك ، ومنه قوله [من البسيط] :

٧٧٥ ـ إنّا وإيّاك إذ حلّت بأرحلنا

كمن بواديه بعد المحل ممطور

__________________

٧٧٥ ـ التخريج : البيت للفرزدق في الأزهية ص ١٠٢ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ١٢٣ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٩٣ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٤١ ؛ والكتاب ٢ / ١٠٦.

اللغة : حلت : نزلت. أرحل : ج قلة من رحل. والمحل : الجدب.

المعنى : أنا وأنت ، كريمين ، إن حلت بنا الرحال تهلكنا كمن حل بأرضه المطر بعد جدب طويل.

الإعراب : إنّا : حرف مشبه بالفعل و «نا» : ضمير متصل في محل نصب اسمها. وإياك : «الواو» : عاطفة ، و «إياك» : ضمير منفصل في محل نصب اسم معطوف على اسم إن ، والكاف : حرف خطاب. إذ : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بما في الكاف من معنى التشبيه ، وذلك في قوله : (كمن). حلت : فعل ماض مبني على الفتحة ، والتاء للتأنيث ، و «الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره هي. بأرحلنا : جار ومجرور متعلقان بالفعل حلت وهو مضاف ، و «نا» : ضمير متصل في محل جر بالإضافة. كمن : «الكاف» : حرف جر ، و «من» : نكرة موصوفة في محل جر بالكاف والجار والمجرور متعلقان بخبر محذوف ل «إن». بواديه : جار ومجرور متعلقان باسم المفعول ممطور ، و «وادي» مضاف و «الهاء» : ضمير متصل في محل جر بالإضافة. بعد : ظرف زمان منصوب بالفتحة الظاهرة وهو مضاف متعلق باسم المفعول ممطور. المحل : مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة. ممطور : صفة مجرورة ل «من» وعلامة جره الكسرة.

٤٤

تقديره : كإنسان ممطور بعد المحل.

وتكون استفهاما مثل قولك : «من عندك»؟

وزعم أهل الكوفة أنها تكون زائدة ، واستدلوا على ذلك بقوله [من البسيط] :

٧٧٦ ـ آل الزبير سنام المجد قد علمت

ذاك القبائل والأثرون من عددا

فإنّما يريد : والأثرون عددا ، ف «من» زائدة ، وبقوله [من الكامل] :

٧٧٧ ـ يا شاة من قنص لمن حلّت له

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

يريد : يا شاة قنص ، فمن زائدة.

__________________

وجملة «إنّا وإياك إذ حلت» : ابتدائية لا محل لها وجملة «حلت» : في محل جر بالإضافة.

والشاهد فيه قوله : «كمن بواديه ممطور» فقد جاءت من نكرة موصوفة بممطور.

٧٧٦ ـ التخريج : البيت بلا نسبة في الأزهية ص ١٠٣ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ١٢٨ ؛ والدرر ١ / ٣٠٤ ؛ وشرح شواهد المغني ص ٧٤٢.

اللغة : سنام المجد : ذروة المجد. الأثرون : الأكثرون.

المعنى : إن أولاد الزبير ملكوا ناصية المجد ، وهم الأكثر عددا ولا تنكر القبائل عنهم هذه الحقيقة.

الإعراب : آل الزبير : «آل» : مبتدأ مرفوع بالضمة وهو مضاف ، «الزبير» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. سنام المجد : «سنام» : خبر مرفوع بالضمة وهو مضاف ، «المجد» : مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة. قد علمت : «قد» : حرف تحقيق ، «علمت» : فعل ماض مبني على الفتحة ، و «التاء» : للتأنيث. ذاك : اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به ، و «الكاف» : للخطاب. القبائل : فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة. والأثرون : «الواو» : حرف عطف ، «الأثرون» : اسم معطوف على سنام ، مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. من : زائدة. عددا : تمييز منصوب بالفتحة الظاهرة.

وجملة «آل الزبير سنام المجد» : ابتدائية لا محل لها. وجملة «علمت» : اعتراضية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : و «الأثرون من عددا» فقد زيدت «من» على قاعدة الكوفيين في زيادة الأسماء.

٧٧٧ ـ التخريج : البيت لعنترة بن شداد في ديوانه ص ٢١٣ ؛ والأزهية ص ٧٩ ، ١٠٣ ؛ والأشباه والنظائر ٤ / ٣٠٠ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ١٣٠ ، ١٣٢ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٤٨١ ؛ وشرح المفصل ٤ / ١٢ ؛ ولسان العرب ١٣ / ٥٠٩ (شوه) ؛ وبلا نسبة في خزانة الأدب ١ / ٣٢٩.

اللغة : الشاة : كناية عن المرأة ، وأراد بمن حلت له : من قدر عليها.

الإعراب : يا شاة : «يا» : حرف نداء ، «شاة» : منادى مبني على الفتح في محل نصب ، وهو مضاف. من : زائدة لا عمل لها. قنص : مضاف إليه مجرور. لمن : «اللام» : حرف جر ، «من» : اسم موصول في

٤٥

وهذا الذي استدلّ به أهل الكوفة لا حجة فيه ، لاحتمال أن تكون «من» في البيت نكرة موصوفة ، ووصف ب «قنص» وهو مصدر ، وبعدد وهو اسم موضوع موضع المصدر تقديرهما : الأثرون أشخاصا معدودين ، ويا شاة إنسان قانص ، فيكون على هذا من باب : «رجل عدل» ، أعني من الوصف بالمصدر ، وهذا أولى ، لأن الأسماء بابها أن لا تزاد ، ولم تحفظ زيادتها في موضع إلّا في الفعل ، بخلاف في ذلك ، وقد تبيّن ذلك.

__________________

محلّ جر بحرف الجر ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لشاة. حلت : فعل ماض مبني على الفتح ، و «التاء» : للتأنيث ، و «الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره (هي). له : جار ومجرور متعلقان بالفعل (حلت). حرمت : فعل ماض مبني على الفتح ، و «التاء» : للتأنيث ، و «الفاعل» : مضير مستتر تقديره (هي). علي : جار ومجرور متعلقان بالفعل. وليتها : «الواو» : استئنافية ، «ليت» : حرف مشبه بالفعل ، و «ها» : ضمير متصل في محل نصب اسم ليت. لم : حرف جزم ونفي وقلب. تحرم : فعل مضارع مجزوم وحرك بالكسر لضرورة الشعر و «الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره (هي).

وجملة «النداء» : لا محلّ لها ابتدائية. وجملة «حلت» : صلة الموصول لا محل لها. وجملة «حرمت» : في محل نصب صفة ل «شاة». وجملة «لم تحرم» : في محل رفع خبر ليت. وجملة «ليتها لم تحرم» : استئنافية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «يا شاة من قنص» حيث جاءت «من» هنا زائدة.

٤٦

باب موضع «أيّ»

«أيّ» تنقسم قسمين : تامة ، وغير تامة. فغير التامة هي الموصولة ، وقد تقدم حكمها في باب الموصولات. ولا يعمل فيها إلّا المستقبل ولا يعمل فيها الماضي ، وسبب ذلك أن «أيّا» اسم مبهم ، والماضي يقيّد ما يدخل عليه فيتناقضان ، فلذلك لم يعمل فيها الماضي ، فتقول : «اضرب أيّهما في الدار» ، ولا تقول : «ضربت أيّهم في الدار».

والتامة تنقسم ثلاثة أقسام : استفهامية مثل قولك : «أيّهم قائم»؟ وهي سؤال عن بعض من كلّ.

ولا يخلو أن تضيفها لما هي بعضه ، أو إلى ما تقع عليه. فإن أضفتها إلى ما هي بعضه ، فلا تكون إلّا معرفة سواء أضفتها إلى مفرد ، أو جمع ، أو مثنى ، مثل قولك : «أيّ الرجال قائم»؟ و «أيّ الرجلين قائم»؟ و «أيّ زيد أحسن»؟ فإن أضفتها إلى ما تقع عليه ، كان نكرة ، سواء أضفتها إلى مفرد ، أو مثنى ، أو مجموع ، مثل قولك : «أيّ رجل عندك»؟ و «أيّ رجال عندك»؟ و «أيّ رجلين عندك»؟.

وشرطية : مثل قولك : «أيّهم تضرب أضرب» ، وقد تقدم حكمها في بابها. ولا تستعمل «أي» الموصولة ، والاستفهامية ، والشرطية إلّا مضافة لفظا ، أو تقديرا. وأما إذا دخلت على «أيّ» الشرطية «ما» ، فهي زائدة ، أو تكون عوضا من الإضافة.

وصفة ، مثل قولك : «مررت برجل أيّ رجل» ، ولا تكون أبدا صفة إلّا للنكرة. وسبب ذلك أن «أيّا» كما تقدم إذا أضيفت إلى ما تقع عليه ، كان نكرة ، وأنت إذا قلت : «مررت

٤٧

برجل أيّ رجل» ، ف «الرجل» هو «أي» في المعنى. ولو عرّفت ، للزم أن يكون بعضا مما يضاف إليه ، ولا يتصوّر ذلك في الصفة ، إذ الصفة أبدا إنّما هي الموصوف لا بعضه. وتفارق سائر الصفات في أنّه لا يجوز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. لا تقول : «مررت بأيّ رجل». وذلك أنّ المقصود بالوصف ب «أيّ» التعظيم ، والحذف يناقض معنى التأكيد والتعظيم.

٤٨

باب الحكاية

الحكاية إيراد لفظ المتكلم على حسب ما أورده في كلامه. ولا يخلو أن يكون المحكيّ مفردا أو جملة. فإن كان مفردا ، فلا يكون إلّا في الاستثبات ب «من» عن الأسماء الأعلام في لغة أهل الحجاز على ما يذكر في بابه. أو في شذوذ من الكلام ، مثل قولهم : «دعنا من تمرتان» ، و «ليس بقرشيّا» ، أو في الاسم المفرد بعد القول ، بخلاف في ذلك ، وسيبيّن في بابه.

فإن كان المحكيّ جملة ، فلا يخلو أن تكون الجملة معربة ، أو ملحونة. فإن كانت معربة ، فإنك تحكيها على اللفظ وعلى المعنى بإجماع ، مثل أن تسمع إنسانا يقول : «زيد قائم» ، فتحكيه على اللفظ ، فتقول : «قال عمرو : زيد قائم». وعلى المعنى ، فتقول : «قال عمرو : القائم زيد أو قائم زيد».

فإن كانت ملحونة ، فإنك تحكيها على المعنى بإجماع ، مثل أن تحكي قول من قال : «قام زيد» ، بخفض «زيد» ، فتقول : «قال عمرو : قام زيد».

واختلف في الحكاية على اللفظ هل تجوز أم لا. والصحيح أنّه لا يجوز ، لأنّهم إذا كانوا يحكون الجملة المعربة على المعنى ، فينبغي أن يلتزموا حكاية الجملة الملحونة على المعنى.

٤٩

باب القول

القول لا يخلو أن يقع بعده مفرد ، أو جملة. فإن وقع بعده مفرد ، فلا يخلو أن يكون مصدرا ، أو غير مصدر. فإن كان مصدرا ، فلا تحكيه ، بل تنصبه بفعله ، مثل قولك : «قال زيد قولا».

فإن كان غير مصدر ، فلا يخلو أن يكون اسما لجملة ، أو لا يكون. فإن كان اسما لجملة ، نحو أن تسمع من يقول : «لا إله إلّا الله» ، فتقول : «قال زيد حقا» ، فإنّك لا تحكيه.

واختلف فيه ، فمنهم من قال : إنّه صفة لمصدر محذوف. فإذا قال : «قال زيد حقا» ، فكأنه قال : «قال قولا حقا» ، ف «حقّا» صفة للمصدر المحذوف. وهذا باطل ، لأنّ «حقّا» ليس من الأسماء الجارية ، والوصف بالأسماء غير الجارية ليس بقياس ، وإنّما يقال منه ما سمع ، مثل قولهم : «مررت برجل حجر الرأس».

ومنهم من قال : إنّه منصوب على أنّه مفعول به ، وهو الصحيح ، إذ لا مانع من ذلك.

فإن كان المفرد ليس اسما لجملة ، ففيه خلاف. منهم من قال : لا يحكى ومنهم من قال : يحكى.

فالذي زعم أنه لا يحكى راعى فيه شبهه بالمفرد ، لأنه غير مفرد. والذي حكاه راعى شبهه بالجملة ، وذلك أنه أورد بعد القول لفظ المقول ، كما أن الجملة كذلك.

والصحيح أنه يحكى ، ولا يجوز فيه غير الحكاية ، لأن الحكاية إمّا أن ترجع إلى اللفظ ، أو إلى المعنى. وباطل أن ترجع في مثل قولك : «قال زيد : عمرو» ، إلى المعنى ، لأنّ «عمرا» اسم شخص ، والأشخاص ليست من جنس المقولات ، فلم يبق إلّا أن ترجع الحكاية إلى اللفظ. وإذا كان كذلك ، فينبغي أن تحافظ على لفظ المتكلم ، يريد من رفع ، أو نصب ، أو خفض.

٥٠

وأيضا فإن هذه المفردات الواقعة بعد القول إنّما تحكى من كلام المتكلم بها ، وباطل أن يتكلم بالمفردات من غير أن يلفظ بها في جملة ، فإذا ثبت أنها منقطعات من جمل ، فينبغي أن تعامل معاملة الجمل ، وبذلك ورد السماع. قال امرؤ القيس [من الطويل]

٧٧٨ ـ إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة

[معتّقة ممّا تجيء به التّجر]

والنصب على تقدير : ذقت طعم مدامة. فهو حكاية على الروايتين. وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله تعالى : (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ)(٢). على تقدير يقال له : يا إبراهيم. فحكى.

ومن رأى الإعراب في المفرد ، يحمل «إبراهيم» على أنه مفعول مرفوع ب «يقال».

فإن كانت الجملة الواقعة بعد القول اسمية ، جاز لك مع الحكاية وجه آخر ، وهو أن تعامل القول معاملة الظن ، فينتصب به المبتدأ والخبر. وذلك لا يجوز إلّا بأربعة شروط : أن يكون القول فعلا مضارعا لمخاطب قد تقدمه أداة الاستفهام غير مفصول بينها وبينه إلّا بظرف ، أو مجرور ، أو أحد مفعولي القول ، نحو قوله [من الوافر] :

٧٧٩ ـ أجهّالا تقول بني لؤيّ

لعمر أبيك أم متجاهلينا

__________________

٧٧٨ ـ التخريج : البيت لامرىء القيس في ديوانه ص ١١٠ ؛ والدرر ٢ / ٢٧٠ ؛ وبلا نسبة في لسان العرب ٤ / ٨٩ (تجر) ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٥٧.

المعنى : يشبه الشاعر رضاب المحبوبة بمذاق الخمر الذي يبعث النشوة.

الإعراب : إذا : ظرفية شرطية متعلقة بالجواب. ذقت : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بتاء الفاعل و «التاء» : ضمير متصل في محل رفع فاعل. فاها : مفعول به منصوب بالألف لأنه من الأسماء الستة ، و «ها» : ضمير متصل في محلّ جر بالإضافة. قلت : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بتاء الفاعل و «التاء» : ضمير متصل في محل رفع فاعل. طعم : خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا). مدامة : مضاف إليه مجرور بالكسرة. معتقة : صفة لمدامة مجرورة مثلها. مما : «من» : حرف جر ، «ما» : اسم موصول في محل جر بحرف الجر ، والجار والمجرور متعلقان بصفة ثانية محذوفة لمدامة. تجيء : فعل مضارع مرفوع بالضمة. به : جار ومجرور متعلقان بالفعل. التجر : فاعل مرفوع بالضمة ، وسكن لضرورة الشعر.

وجملة «ذقت» : في محل جر بالإضافة. وجملة «قلت» : جواب شرط غير جازم لا محلّ لها. وجملة «هذا طعم» : في محل نصب مقول القول. وجملة «تجيء به التجر» : صلة الموصول لا محل لها. وجملة «إذا ذقت ... قلت» : ابتدائية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «قلت طعم مدامة» حيث رفع (طعم) على اعتبار القول جملة منقطعة في محلّ نصب مفعول به لفعل القول.

(١) سورة الأنبياء : ٦٠.

٧٧٩ ـ التخريج : البيت للكميت بن زيد في خزانة الأدب ٩ / ١٨٣ ، ١٨٤ ؛ والدرر ٢ / ٢٧٦ ؛ وشرح

٥١

إلا بني سليم ، فإنّهم يجرون القول أجمع مجرى الظن ، كانت فيه الشروط الموصوفة أو لم تكن ، وعلى ذلك قوله [من الطويل] :

 ...

تقول هزيز الريح مرّت بأثأب (١)

فإنه روى بنصب «هزيز».

وإذا جرى القول مجرى الظن في اللفظ ، فهل يجري مجراه في المعنى؟ مسألة خلافية بين النحويين. والصحيح أنّه يجري مجرى القول لفظا ومعنى ، بدليل قوله [من الطويل] :

إذا قلت أنّي آيب أهل بلدة

نزعت بها عنه الوليّة بالهجر (٢)

ألا ترى أنّ المعنى : إذا ظننت أو قدّرت. ولذلك فتحت همزة «أني».

وقد يحكى بعد القول مضمرا ، ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ)(٣). أي : يقولون : ما نعبدهم. وكذلك قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ)(٤). أي يقولون : سلام عليكم.

__________________

أبيات سيبويه ١ / ١٣٢ ؛ وشرح التصريح ١ / ٢٦٣ ؛ وشرح المفصل ٧ / ٧٨ ، ٧٩ ؛ والكتاب ١ / ١٢٣ ؛ والمقاصد النحويّة ٢ / ٤٢٩ ؛ وليس في ديوانه ؛ وبلا نسبة في أمالي المرتضى ١ / ٣٦٣ ؛ وأوضح المسالك ٢ / ٧٨ ؛ وتخليص الشواهد ص ٤٥٧ ؛ وخزانة الأدب ٢ / ٤٣٩ ؛ وشرح الأشموني ١ / ١٦٤ ؛ وشرح ابن عقيل ص ٢٢٨ ؛ والمقتضب ٢ / ٣٤٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥٧.

اللغة والمعنى : الجهّال : من الجهل ، وهو السفه والعصيان ، أو عدم المعرفة. المتجاهل : هو المتظاهر بالجهل.

يقول : أتظنّ أنّ بني لؤيّ جهّال حقيقة ، أم أنّهم يتظاهرون بالجهل؟

الإعراب : أجهّالا : الهمزة للاستفهام ، جهّالا : مفعول به ثان ل «تقول» منصوب. تقول : فعل مضارع مرفوع ، والفاعل : أنت. بني : مفعول به أوّل منصوب بالياء لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم ، وهو مضاف. لؤيّ : مضاف إليه مجرور. لعمر : اللام : للابتداء. عمر : مبتدأ والخبر محذوف تقديره «قسمي» ، وهو مضاف. أبيك : مضاف إليه مجرور بالياء لأنّه من الأسماء الستّة ، وهو مضاف ، والكاف : في محلّ جرّ بالإضافة. أم : حرف عطف. متجاهلينا : معطوف على «جهالا» منصوب بالياء ، والألف للإطلاق.

وجملة (تقول ...) الفعليّة لا محلّ لها من الإعراب لأنّها ابتدائية أو استئنافيّة.

والشاهد فيه قوله : «أجهّالا تقول بني لؤي» حيث أعمل «تقول» عمل «تظنّ» ، فنصب به مفعولين ، أحدهما قوله : «جهّالا» ، والثاني قوله : «بني لؤىّ».

(١) تقدم بالرقم ٣١٩.

(٢) تقدم بالرقم ٣٢٠.

(٣) سورة الزمر : ٣.

(٤) سورة الرعد : ٢٣ ـ ٢٤.

٥٢

ويجري مجرى القول فتحكي بعده الجمل «رأيت» ، و «سمعت» ، وكل فعل معناه القول ، نحو : «دعوت» ، و «قرأت» ، و «ناديت» ، ومنه قوله تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ)(١). بكسر «إن» ، وكذلك تقول : قرأت بالحمد لله رب العالمين ، ومنه قول الشاعر [من مجزوء الوافر] :

٧٨٠ ـ تنادوا بالرّحيل غدا

وفي ترحالهم نفسي

ومنه البيت الذي أنشده أبو القاسم لذي الرمة [من الوافر] :

سمعت الناس ينتجعون غيثا

 ... البيت (٣)

__________________

(١) سورة القمر : ١٠.

٧٨٠ ـ التخريج : البيت بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ١٢٦ ؛ ودرّة الغوّاص ص ٢٣٩ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ص ٢٣٢ ؛ والمحتسب ٢ / ٢٣٥ ؛ والمقرب ١ / ٢٩٣.

المعنى : يتأثر الشاعر برحيل القوم عندما يسمعهم يتنادون بأن الرحيل غدا ، ونفس الشاعر متعلقة بهم وبمحبوبته التي بينهم.

الإعراب : تنادوا : فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة ، والضم مقدر على الألف المحذوفة منعا لالتقاء الساكنين ، و «الواو» : ضمير متصل في محل رفع فاعل و «الألف» فارقة. بالرحيل : «الباء» : حرف جر ، والمجرور محذوف تقديره (قولهم) ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل تنادوا «الرحيل» مبتدأ مرفوع بالضمة. غدا : مفعول فيه ظرف زمان متعلق بخبر المبتدأ المحذوف. وفي : «الواو» : حالية ، «في» : حرف جر. ترحالهم : اسم مجرور بالكسرة ، و «الهاء» : ضمير متصل في محل جر بالإضافة ، و «الميم» : للجمع ، والجار والمجرور متعلقان بخبر مقدم محذوف تقديره : متعلقة. نفسي : مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمّة المقدرة على ما قبل الياء و «الياء» : ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

وجملة «تنادوا ...» : ابتدائية لا محل لها. وجملة «الرحيل غدا» : في محل نصب مقول القول المحذوف. وجملة «في ترحالهم نفسي» : حالية محلها النصب.

والشاهد فيه قوله : «تنادوا بالرحيل غدا» حيث أضمر فعل القول لتضمن الفعل (تنادوا) معنى القول.

(٢) تقدم بالرقم ١٩٩.

٥٣

باب حكاية الأسماء الأعلام ب «من»

حكاية الاسم المفرد لا تكون في كلام العرب إلّا ب «من» بشرط أن يكون علما ، أو لقبا ، أو كنية.

وسبب ذلك ثلاثة أشياء : أحدها أنّ «من» اسم مبنيّ لا يظهر فيه قبح الحكاية إذ ليست «من» في اللفظ بالمبتدأ من حيث لم يظهر فيه الرفع ، فلا يصح أن يجيء الخبر على صورة المنصوب.

والثاني أنّ الأسماء الأعلام بابها التغيير ، لأنّها كلها منقولة إلّا أسماء يسيرة ، فلذلك كثرت الشذوذات فيها ، إذ التغيير يأنس بالتغيير.

والثالث : الخوف من اللبس ، وذلك أنّه إذا قال إنسان : «قام زيد» ، ولم يحك لفظه في الاستثبات ، وقلت : «من زيد» ، لتوهم السامع أنك لا تسأله عن «زيد» الذي ذكره. فلما اجتمعت هذه الأشياء ، لم يكن بد من الحكاية عند أهل الحجاز.

ولا تجوز الحكاية ب «من» إلّا بشروط : منها أن لا يدخل على من حرف من حروف العطف ، وأن لا يكون الاسم المحكي متبوعا بتابع من التوابع ما عدا العطف. فإن دخل على «من» حرف عطف ، لم تجز الحكاية لزوال اللبس ، لأنّه قد علم أن المسؤول عنه إنّما الأول ، ولو لا ذلك لم يسغ عطف كلامك على الكلام المتقدم.

وإن كان التابع مع ما جرى عليه قد جريا لشيء واحد ، جازت الحكاية. وإنّما لم تجز الحكاية إذا كان الاسم متبعا ، لأنّ التابع يبيّن أنّ المسؤول عنه هو الاسم المتقدم. ولذلك لم تمتنع الحكاية في العطف خلافا لصاحب الكتاب ، لأن العطف من التوابع غير المبينة.

فإن كان الاسم نكرة ، فإنّه لا يجوز فيه حكاية ، مثل الأسماء الأعلام ، وحكايته على طريقة ستبين في بابها.

٥٤

وبعض العرب يحكي سائر المعارف ، وإن لم تكن أعلاما ، وذلك قليل إنّما يكون على لغة من قال : «دعنا من تمرتان» ، و «ليس بقرشيّا» ، إلّا أن يكون الاسم المعرفة مضمرا أو مشارا ، فإنّه لا تجوز حكايته.

وسبب ذلك أنّه لا يدخله لبس.

وحكي عن بعض العرب أنّهم يحكون الاسم المعرفة غير العلم على حسب ما تحكى النكرات ، وسيأتي حكم حكاية النكرات في بابها.

وان اجتمع ما يحكى مع ما لا يحكى ، فإنّه يبنى الكلام على المتقدم. فإن كان ما يحكى حكيته وأتبعته الثاني.

وإذا جازت حكاية ما ليس بعلم إذا انفرد ـ وإن كان ذلك ضعيفا ـ فالأحرى إذا اختلط بما يحكى ، فتقول على هذا لمن قال : «رأيت زيدا ورجلا» : «من زيدا ورجلا»؟ ولمن قال : «رأيت رجلا وزيدا» : «من رجل وزيد»؟ و «من» في هذا الباب خبر مقدم ، لأنّه نكرة ، والاسم العلم بعدها مبتدأ. وقد يجوز عكس ذلك ، لأن الاستفهام يسوغ الابتداء بالنكرة وإن كان ذلك قليلا ، لأن الابتداء بالاسم المعرفة ، مع وجود النكرة ، أولى.

٥٥

باب حكاية الأسماء النكرات ب «من»

إذا استفهمت عن النكرات ب «من» فإنّه لا يجوز فيها أن تحكى مثل الأسماء الأعلام. وسبب ذلك أنّ حكاية المفرد قليل ، ولا تكون إلّا في الاسم العلم ب «من» ، لما ذكرنا في الباب الذي قبله.

وأيضا فإنّك إذا حكيت النكرة كنت بين أمرين. إمّا أن تعيد النكرة معرفة بالألف واللام ، أو بلفظها. فإن أعدتها بالألف واللام ، فليس ذلك حكاية ، لأنّ الحكاية إيراد لفظ المتكلم على ما تكلم به ، وأنت لم تورده على حسب ما تكلم به. فإن أعدتها بلفظها ، كان ذلك خروجا عن كلام العرب ، لأنّ العرب ، إذا أعادت النكرة ، إنّما تعيدها بالألف واللام ، فتقول : «رأيت رجلا فضربت الرجل» ، ولا تقول : فضربت رجلا ، لأنّه لا يدرى هل أردت الرجل المتقدم في الذكر أو غيره.

فأما قوله عزوجل : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(١).

ف «اليسر» الثاني ليس الأول ، بدليل قوله عليه‌السلام : «لن يغلب عسر يسرين». إذ لو أراد ب «اليسر» الثاني الأول ، لكان معرّفا بالألف واللام.

وحكايات النكرات ب «من» على لغتين. منهم من يلحق علامة على الإعراب خاصة ،

__________________

(١) سورة الانشراح : ٥ ـ ٦.

٥٦

وهي في الرفع واو ، وألف في حال النصب ، وياء في حال الخفض ، سواء كان مثنى ، أو مجموعا ، أو مفردا ، أو مذكرا ، أو مؤنّثا.

فإذا قال : «قام رجل» ، قلت : «منو»؟ وإذا قال : «رأيت رجلا» ، قلت : «منا»؟ وإذا قال : «رأيت رجلين» ، قلت : «منا»؟ وإذا قال : «رأيت رجالا» ، قلت : «منا»؟ وإذا قال : «مررت برجل» ، قلت : «مني»؟ وإذا قال : «مررت برجلين» ، قلت : «مني»؟ وإذا قال : «مررت برجال» ، قلت : «مني»؟

ومنهم من يلحق علامة على الإعراب ، وهي الواو في الرفع ، والألف في النصب ، والياء في الخفض كما تقدم. ويلحق علامة على التثنية والجمع ، وعلامة على التأنيث.

فإن قال : «قام رجل» ، قلت : «منو»؟ و «رأيت رجلا» ، قلت : «منا»؟ و «مررت برجل» ، قلت : «مني»؟ وإذا قال : «قامت هند» ، قلت : «منة»؟ وإذا قال : «مررت بهند» ، قلت : «بمنة»؟ وإذا قال : «قامت الهندان» ، قلت : «منتان»؟ وإذا قال : «رأيت الهندين» ، قلت : «منتين»؟ وإذا قال : «مررت بالهندين» ، قلت : «بمنتين»؟ وإذا قال : «قام رجال» ، قالت : «منون»؟ وإذا قال : «رأيت رجالا» ، قلت : «منين»؟ وإذا قال : «مررت برجال» ، قلت : «بمنين؟» وإذا قال : «قامت الهندات» ، قلت : «منات»؟ و «رأيت الهندات» ، قلت : «منات»؟ و «مررت بالهندات» ، قلت : «بمنات»؟ وهذه العلامة التي تلحق «من» تحذف في الوصل في اللغتين جميعا.

وحكى يونس أنّ بعض العرب يعرب «من» ، ويحكي بها النكرات ، كما يحكى ب «أيّ». وحكى أنّهم يقولون : «أكرم من منا» ، فعلى هذه اللفظة يكون قوله [من الوافر] :

٧٨١ ـ أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجن قلت عموا ظلاما

__________________

٧٨١ ـ التخريج : البيت لشمر بن الحارث في الحيوان ٤ / ٤٨٢ ، ٦ / ١٩٧ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٧٠ ؛ والدرر ٦ / ٢٤٦ ؛ ولسان العرب ٣ / ١٤٩ (حسد) ، ١٣ / ٤٢٠ (منن) ؛ ونوادر أبي زيد ص ١٢٣ ؛ ولسمير الضّبّي في شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٨٣ ؛ ولشمر أو لتأبّط شرّا في شرح التصريح ٢ / ٢٨٣ ؛ وشرح المفصل ٤ / ١٦ ؛ ولأحدهما أو لجذع بن سنان في المقاصد النحوية ٤ / ٤٩٨ ؛ وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٤٦٢ ؛ وجواهر الأدب ص ١٠٧ ؛ والحيوان ١ / ٣٢٨ ؛ والخصائص ١ / ١٢٨ ؛ والدرر ٦ / ٣١٠ ؛ ورصف المباني ص ٤٣٧ ؛ وشرح الأشموني ٢ / ٦٤٢ ؛ وشرح ابن عقيل ص ٦١٨ ؛ وشرح شواهد الشافية ص ٢٩٥ ؛ والكتاب ٢ / ٤١١ ؛ ولسان العرب ٦ / ١٢ (أنس) ، ١٤ / ٣٧٨ (سرا) ؛ والمقتضب ٢ / ٣٠٧ ؛ والمقرب ١ / ٣٠٠ ؛ وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، ٢١١.

٥٧

فأعرب «من» فيه ، فألحقها علامة الجمع كما يلحق «أي».

وكما لا تحذف هذه العلامة مع «أي» في الوصل ، فكذلك لا تحذف مع «من» في الوصل ، وهذه اللغة نادرة حتى كان يونس يقول : «لا يصدق كلّ أحد». وإلى هذا ذهب أبو القاسم ، لأنّه قال : إنّ هذا البيت شاذّ غير معمول به ، لأنّه جمع «من» في الوصل.

وهذا أولى أن يحمل عليه هذا البيت من إجراء الوصل مجرى الوقف ضرورة ، فالأولى أن يحمل على غير الضرورة ما أمكن.

وإذا وصلت قلت : «منه»؟ فتحت النون. وسبب ذلك اجتماع ساكنين ، وإذا وقفت قلت : «منين»؟ أبقيت النون على سكونها.

و «من» لا تخلو أن تكون حكاية لمرفوع ، أو منصوب ، أو مخفوض. فإن كان قد لحقها علامة الجر ، فلا بد من دخول حرف الجر عليها ، فتكون مجرورة به. والعامل فيه مضمر تقديره بعده ، لأنّه اسم استفهام.

فإن لحقها علامة النصب ، فهي مفعولة بفعل مضمر ، وتقدّره بعده لما تقدم.

__________________

شرح المفردات : أتوا ناري : أي قصدوا النار التي أوقدتها لهداية الضالّين. منون أنتم : أي : من أنتم. عموا ظلاما : أنعموا ظلاما.

المعنى : يقول : قصدوا النار التي أوقدتها لهداية الضالّين فقلت لهم : من أنتم؟ فقالوا : نحن «جنّ». فقلت لهم أنعموا ظلاما.

الإعراب : «أتوا» : فعل ماض ، والواو ضمير في محلّ رفع فاعل ، والألف فارقة. «ناري» : مفعول به منصوب ، والياء ضمير في محلّ جرّ بالإضافة. «فقلت» : الفاء حرف عطف ، «قلت» : فعل ماض ، والتاء ضمير في محلّ رفع فاعل. «منون» : اسم استفهام مبنيّ في محلّ رفع مبتدأ ، أو خبر مقدم. «أنتم» : ضمير منفصل في محلّ رفع خبر المبتدأ ، أو مبتدأ مؤخّر. «فقالوا» : الفاء حرف عطف ، «قالوا» : فعل ماض ، والواو ضمير في محلّ رفع فاعل ، والألف فارقة. «الجن» : خبر لمبتدأ محذوف تقديره : «نحن». «قلت» : فعل ماض ، والتاء ضمير في محلّ رفع فاعل. «عموا» : فعل أمر مبنيّ على حذف النون ، والواو ضمير متّصل في محلّ رفع فاعل. «ظلاما» : ظرف زمان منصوب متعلّق ب «عم».

وجملة : «أتوا» ابتدائيّة لا محلّ لها من الإعراب. وجملة «قلت لهم» معطوفة على الجملة السابقة فهي مثلها لا محلّ لها من الإعراب. وجملة : «منون أنتم» في محلّ نصب مفعول به. وجملة : «قالوا» معطوفة على الجملة السابقة فهي مثلها لا محلّ لها من الإعراب. وجملة «نحن الجن» في محل نصب مفعول به.

وجملة : «قلت» استئنافيّة لا محلّ لها من الإعراب. وجملة : «عموا» في محلّ نصب مفعول به.

الشاهد : قوله : «منون أنتم» حيث أعرب «من» فألحقها علامة الجمع ، أو أنه يريد : «من أنتم» ، فألحق الواو والنون ب «من» في الوصل. وهذا لا يجوز إلّا في الوقف ، وحرّك النون التي تكون ساكنة.

٥٨

فإن لحق علامة الرفع فمبتدأ ، والخبر محذوف لفهم المعنى. ولا يجوز أن يكون فاعلا بفعل مضمر ، لأنّ الفعل الذي يعمل فيه لا يخلو أن تقدره بعده أو قبله. فإن قدّرته قبله ، لم يجز ، لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، فلا يعمل فيه ما قبله ، فإن قدّرته بعده ، لا يجوز أيضا ، لأنّ الفاعل لا يتقدّم على الفعل.

٥٩

باب الحكاية ب «أيّ»

لا يحكى ب «أيّ» إلّا النكرات ، ولا يحكى بها الأعلام ، لئلّا تبطل الحكاية. وفي الحكاية ب «أيّ» لغتان : منهم من يحكي ب «أيّ» إعراب المحكي ، ويلحق علامة التثنية والجمع. ومنهم من يحكي إعراب المحكيّ خاصة ، فإذا قال : «رأيت رجلا» ، قلت : «أيّا»؟ و «قام رجل» ، قلت : «أيّ»؟ و «مررت برجل» ، قلت : «بأيّ»؟

وهذه العلامة التي تلحق «أيّا» تثبت وصلا ووقفا. وإنّما تثبت هنا في الوصل ، لأنّها تثنية صحيحة وجمع صحيح ، لأنّ «أيّا» اسم معرب ، فلذلك ساغ تثنيتها وجمعها.

٦٠