تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩

و «اللام» فيه لتعريف الجنس. وهو الاشارة الى ما يعرفه كل أحد من معنى «الحمد» ، بناء على أن الاختصاص ، يكون حينئذ مستفادا من جوهر الكلام ، من غير استعانة بالأمور الخارجة. ويكون مستلزما ، لاختصاص جميع الافراد ، أو للاستغراق ، بناء على أن المتبادر الى الذهن ، من المحلى بلام الجنس ، في المقامات الخطابية ، هو الاستغراق. وهو الشائع في الاستعمال. وحينئذ يكون اختصاص الأفراد ، مصرحا به.

فان قلت : لا يصح تخصيص جنس الحمد ، ولا تخصيص أفراده به. فان خلق الأفعال ، ان كان من عند الله ، فللكسب فيه مدخل. فيرجع اليه بهذا الاعتبار.

وأما عند المعتزلة : فلأن خالق الأفعال ، هو العبد. وبمجرد تمكين الله وأقداره عليها ، لا يختص «الحمد» به. بل يرجع اليه سبحانه ـ أيضا ـ كل باعتبار.

وهو لا يفيد التخصيص ، بل الاشتراك.

قلت : لا يبعد أن يقال : انه جعل الجنس ، في المقام الخطابي ، منصرفا الى الكامل. كأنه كل الحقيقة. فاختص الجنس ، من حيث هو أو أفراده به سبحانه.

فان قلت : كيف يصح قصد تخصيص الجنس ، أو أفراده ، والحال ان قوله تعالى : «الحمد لله» ، كان في الأصل : أحمد الله حمدا ، أو نحمده حمدا. فلا يكون المراد ، الا الحمد المستند الى المتكلم الواحد ، أو مع الغير. فبعد افادة الكلام التخصيص ، لا يفيد الا تخصيص المخصوص ، لا مطلقا.

قلت : كما أنه في صورة الرفع ، يتجرد الكلام ، عن التجدد والحدوث ، كذلك يتجرد عن (١) النسبة الى فاعل مخصوص. وأيضا ، يمكن أن يكون ، صيغة المتكلم مع الغير ، على ألسنة جميع الحامدين ، حقا وخلقا.

ثم قيل : اعلم! انه إذا كان الحامد ، في مقام الجمع ، فالمناسب أن يحمل

__________________

(١) أ : من.

٤١

اللام على الجنس. وان كان في مقام الفرق قبل الجمع ، فالمناسب الاستغراق ، ولكن بالتأويل. وان كان في مقام الفرق بعد الجمع ، فالمناسب ، الاستغراق ، ولكن بلا تأويل. وان كان في مقام جمع الجمع ، فالمناسب الجنس والاستغراق ـ معا ـ من غير احتجاب بأحدهما ، عن الاخر.

ثم اعلم! انه يمكن أن يراد «بالحمد» ، الحامدية والمحمودية ـ جميعا ـ بناء على أنه مشترك معنوي. فانه فعل واحد بين الحامد والمحمود. وإذا اعتبر نسبته (١) الى الحامد ، يكون حامدية. وان اعتبرت الى المحمود ، يكون محمودية. أو لفظي.

ويجوز استعمال المشترك ، في معنييه أو معانيه. كما ذهب اليه المحققون. أو يكون مجازا ، عن معنى مشترك بين المعنيين.

(وفي كتاب الخصال (٢) : بإسناده الى علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ قال : ومن قال : «الحمد لله» ، فقد أدى شكر كل نعمة لله تعالى.

وفي أصول الكافي (٣) : محمد [بن يحيى] (٤) عن أحمد ، عن علي بن الحكم ، عن صفوان الجمال ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : قال لي : ما أنعم الله على عبده (٥) بنعمة ، صغرت أو كبرت ، فقال : «الحمد لله» الا أدى شكرها.

وبإسناده (٦) الى حماد بن عثمان ، قال : خرج أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ من المسجد. وقد ضاعت دابته.

__________________

(١) أ : نسبة.

(٢) الخصال ١ / ٢٩٩ ، ح ٧٢.

(٣) الكافي ٢ / ٩٦ ، ح ١٤.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) المصدر : عبد.

(٦) نفس المصدر ٢ / ٩٧ ، ح ١٨.

٤٢

فقال : لئن ردها الله عليّ ، لأشكرن الله حق شكره.

قال : فما لبث ان أتي بها.

فقال : «الحمد لله».

فقال «قائل له» (١) : جعلت فداك. أليس قلت : لأشكرن الله حق شكره؟

فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : ألم تسمعني قلت : «الحمد لله»؟) (٢)

(رَبِّ الْعالَمِينَ) :

«الرب» في الأصل ، هو المالك.

فهو اما صفة مشبهة ، من فعل متعد ، لكن بعد جعله لازما من «ربه» «يربه» بفتح العين في الماضي ، وضمها في الغابر.

واما وصف بالمصدر ، للمبالغة. كما وصف بالعدل. وهو مفردا. لا يطلق على غير الله ، الا نادرا.

وقرئ بالنصب على المدح ، أو النداء ، أو بالفعل الذي دل عليه الحمد.

«قيل : هذا الاسم ، يفيد اثبات خمسة أحكام للحق ـ سبحانه وتعالى ـ.

وهي : الثبات والسيادة والإصلاح والملك والتربية. لأن «الرب» في اللغة ، هو المصلح والسيد والمالك والثابت والمربي. ففيه دليل على أن الممكنات ، كما هي مفتقرة الى المحدث ، حال حدوثها ، مفتقرة الى المبقي ، حال بقائها.

«والعالم» ، اسم لما يعلم به. كالخاتم ، لما يختم به. غلب فيما «يعلم به» ، «الصانع» مما سوى الله ، من الجواهر والاعراض. فإنها لأمكانها ، وافتقارها الى مؤثر ، واجب لذاته ، تدل على وجوده.

__________________

(١) المصدر : له قائل.

(٢) ما بين القوسين ليس في أ.

٤٣

وقيل : اسم ، [وضع] (١) لذوي العلم ، من الملائكة والثقلين. وتناوله لغيرهم ، على سبيل الاستتباع.

وقيل : عني به ، «الناس» ، هنا (٢). فان كل واحد منهم ، عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ، (من جنس واحد مما سمي به ، أو الى حقيقة القدر) ، (٣) من الجواهر والأعراض ، يعلم بها الصانع. كما يعلم بما أبدعه في العالم. ولذلك سوّى بين النظر فيهما. وقال (٤) : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥) وانما جمع ، لئلا يتوهم أن القصد الى استغراق أفراد جنس واحد ، مما سمي به. أو الى حقيقة القدر المشترك.

فلما جمع وأشير بصيغة الجمع ، الى تعدد الأجناس ، وبالتعريف الى استغراق أفرادها ، أزال التوهّم بلا شبهة.

وانما جمعه بالواو والنون ، مع أنه مختص بصفات العقلاء ، أو ما في حكمها من أعلامهم ، لمشابهته الصفة في دلالته على الذات ، باعتبار معنى هو كونه يعلم أو يعلم به.

واختصاصه بأولي العلم ، حقيقة أو تغليبا.

وقيل : وصفيّة «العالمين» انما هي بتقدير ياء النسبة. يعني ، العالميين ، كالاعجمين. بمعنى ، الأعجميين ، واختصاصه بأولي العلم ، على سبيل التغليب.

ويمكن أن يجعل جمعه بالواو والنون ، اشارة الى سريان الصفات الكمالية من العلم والحياة وغيرهما ، في كل موجود من الموجودات. فالكل أولو العلم.

__________________

(١) يوجد في المصدر (أنوار التنزيل)

(٢) المصدر : هاهنا.

(٣) ما بين القوسين في أو ليس في المصدر.

(٤) الذاريات / ٢١.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٨.

٤٤

وقد ذهب اليه بعض ، كما يعلم من عبارة بعض.

(وفي كتاب التوحيد (١) ، كلام للرضا ـ عليه السلام ـ في التوحيد وفيه : ورب إذ لا مربوب.

وفيه (٢) ، عن علي ـ عليه السلام ـ مثله) (٣).

وعن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ في حديث طويل (٤) وفيه : لعلك ترى أن الله انما خلق هذا العالم الواحد ، أو (٥) ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم. بلى والله لقد خلق ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم ، وأولئك الآدميين.

وفي كتاب الخصال (٦) : بإسناده الى أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ انه قال ـ في حديث طويل ـ : ان [علم] (٧) عالم المدينة (٨) ينتهي الى حيث لا يقفو الأثر ويزجو (٩) الطير. ويعلم في اللحظة الواحدة ، مسيرة الشمس. تقطع اثني عشر «برجا ، واثني عشر برا ، واثني عشر بحرا ، واثني عشر عالما» (١٠).

__________________

(١) التوحيد / ٥٧ ، ضمن حديث طويل.

(٢) نفس المصدر / ٤٢ ، ضمن خطبة طويلة.

(٣) ما بين القوسين ليس في أ.

(٤) نفس المصدر / ٢٧٧ ، ضمن ح ٢.

(٥) المصدر : و.

(٦) الخصال ٢ / ٤٩٠.

(٧) يوجد في المصدر.

(٨) أ : المديّنة.

(٩) المصدر : يزجر.

(١٠) ليس في أ.

٤٥

وبإسناده (١) الى العباد (٢) بن عبد الخالق ، عمن حدثه ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : ان لله ـ عز وجل ـ اثني عشر ألف عالم. كل عالم منهم (٣) اكبر من سبع سماوات وسبع أرضين. ما يرى (٤) عالم منهم ان لله ـ عز وجل ـ عالما غيرهم. وأنا الحجة عليهم.

وفي عيون الأخيار (٥) : حدثنا محمد بن القاسم الأسترآبادي المفسر ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثني (٦) يوسف بن محمد بن زياد وعلي بن محمد بن سيار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، «عن أبيه عن جده» (٧) ـ عليهم السلام ـ قال : جاء رجل الى الرضا ـ عليه السلام ـ فقال له : يا ابن رسول الله! أخبرني عن قول الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ما تفسيره؟.

فقال : لقد حدثني أبي ، عن جدي ، عن الباقر ، عن زين العابدين ، عن أبيه ـ عليهم السلام ـ : ان رجلا جاء الى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فقال : أخبرني عن قول الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ما تفسيره؟

فقال : «الحمد لله» ، هو أن عرّف عباده بعض نعمه عليهم ، جملا ، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها ، بالتفصيل. لأنها أكثر من أن تحصى ، أو تعرف ، فقال لهم قولوا : «الحمد لله» على ما أنعم به علينا ، «رب العالمين» ، وهم الجماعات ،

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ٦٣٩.

(٢) أ : العبازى.

(٣) ليس في أ.

(٤) المصدر : ما ترى.

(٥) عيون الاخبار ١ / ٢٨٤ ، ح ٣٠.

(٦) المصدر : حدثنا.

(٧) ليس في أ.

٤٦

من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات. فأما (١) الحيوانات ، فهو يقلبها في قدرته.

ويغذوها من رزقه. ويحوطها بكنفه. ويدبر كلا منها بمصلحته. وأما الجمادات ، فهو يمسكها بقدرته. ويمسك المتصل منها أن يتهافت. ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق. ويمسك السماء أن تقع على الأرض ، الا باذنه. ويمسك الأرض أن تنخسف الا بأمره. انه بعباده رؤوف (٢) رحيم.

[و] (٣) قال ـ عليه السلام ـ : و «رب العالمين» ، مالكهم وخالقهم وسائق أرزاقهم اليهم ، من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون. فالرزق مقسوم. وهو يأتي ابن آدم ، على أي سيرة سارها من الدنيا. ليس تقوى متقي ، بزائده. ولا فجور فاجر ، بناقصه. وبينه وبينه ستر وهو طالبه. فلو أن أحدكم يفر من رزقه ، لطلبه رزقه. كما يطلبه الموت. فقال الله ـ جل جلاله ـ : قولوا : «الحمد لله» على ما أنعم به علينا ، وذكرنا به من خير في كتب الأولين ، قبل أن نكون (٤) ففي هذا إيجاب على محمد وآل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ وعلى شيعتهم ، أن يشكروه بما فضلهم.

وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : لما بعث الله ـ عز وجل ـ موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ واصطفاه نجيا وفلق له البحر ونجى بني إسرائيل وأعطاه التوراة والألواح ، رأى مكانه من ربه ـ عز وجل ـ فقال : يا رب! لقد أكرمتني بكرامة ، لم تكرم بها أحدا قبلي.

فقال الله ـ جل جلاله ـ : يا موسى! أما علمت «أن محمدا ، أفضل عندي» (٥)

__________________

(١) المصدر : وأما.

(٢) المصدر : لرؤوف.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) أ : يكون ، ر : تكون.

(٥) المصدر : أن محمدا عندي أفضل.

٤٧

من جميع ملائكتي وجميع خلقي؟.

قال موسى : يا رب! فان كان محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أكرم عندك من جميع خلقك ، فهل في آل الأنبياء ، أكرم من آلي؟.

قال الله ـ جل جلاله ـ : يا موسى! أما علمت أن فضل آل محمد على جميع آل النبيين ، كفضل محمد على جميع المرسلين؟

فقال موسى : يا رب! فان كان آل محمد كذلك ، فهل في أمم الأنبياء ، أفضل عندك من أمتي؟ ظللت عليهم الغمام. وأنزلت عليهم المنّ والسلوى. وفلقت لهم البحر.

فقال الله ـ جل جلاله ـ : يا موسى! أما علمت ، أن فضل أمة محمد على جميع الأمم ، كفضله على جميع خلقي؟

فقال موسى ـ عليه السلام : يا رب! ليتني كنت أراهم.

فأوحى الله ـ عز وجل ـ اليه : يا موسى! انك لن تراهم. وليس هذا أو ان ظهورهم ، ولكن سوف تراهم ، في الجنات ، جنات عدن والفردوس ، بحضرة محمد في نعيمها يتقلبون ، وفي خيراتها يتبحبحون. أفتحب ان أسمعك كلامهم؟

قال (١) : نعم الهي!.

قال الله ـ جل جلاله ـ : قم بين يدي! واشدد مئزرك! ، قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل.

ففعل ذلك موسى ـ عليه السلام ـ فنادى ربنا ـ عز وجل : يا أمة محمد! فأجابوه كلهم. وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم : لبيك. اللهم! لبيك.

لبيك. لا شريك لك. لبيك. ان الحمد والنعمة والملك لك. لا شريك لك. لبيك (٢).

__________________

(١) المصدر : فقال.

(٢) ليس في أوفي المصدر أيضا.

٤٨

قال : فجعل الله ـ عز وجل ـ تلك الاجابة ، شعار الحج (١). ثم نادى ربنا عز وجل : يا أمة محمد! ان قضائي عليكم ، أن رحمتي سبقت غضبي. وعفوي قبل عقابي. فقد استجبت لكم ، من قبل أن تدعوني. وأعطيتكم من قبل أن تسألوني.

من لقيني منكم بشهادة أن لا اله الا الله ، وحده لا شريك له. وأن محمدا ، عبده ورسوله ، صادق في أقواله ، محق في أفعاله ، وأن علي بن أبي طالب ، أخوه ووصيه من بعده ، ووليه ، ويلتزم طاعته ، كما يلتزم طاعة محمد ، وأن أولياءه ، المصطفين الطاهرين المطهرين المنبئين (٢) بعجائب آيات الله ودلائل حجج الله من بعدهما ، أولياؤه ، أدخلته جنتي ، وان كانت ذنوبه مثل زبد البحر.

قال ـ عليه السلام ـ : فلما بعث الله ـ عز وجل ـ نبينا ، محمدا ـ صلى الله عليه وآله ـ ، قال : يا محمد! وما كنت بجانب الطور ، إذ نادينا أمتك بهذه الكرامة.

ثم قال الله ـ عز وجل ـ لمحمد ـ صلى الله عليه وآله ـ قل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، على ما اختصني به ، من هذه الفضيلة ، وقال لأمته : قولوا أنتم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما اختصنا به من هذه الفضائل.

(وفي شرح الآيات الباهرة : قال الامام أبو محمد الحسن العسكري (٣) ـ عليه السلام : ـ حدثني أبي عن جدي ، عن الباقر ، عن زين العابدين ـ عليهم السلام ـ أن رجلا أتى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فقال له : أخبرني عن قول الله ـ عز وجل ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ما تفسيره؟

فقال : «الحمد لله» ، هو أن الله قد عرّف عباده بعض نعمه عليهم ، جملا ، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها ، بالتفصيل. لأنها أكثر من أن تحصى ، أو تعرف.

__________________

(١) المصدر وأ : الحاج.

(٢) أ : المبانين.

(٣) تفسير العسكري / ١٣ ـ ١٤. مع تفاوت في النقل.

٤٩

فقال لهم : قولوا : «الحمد لله» على ما أنعم به علينا ، وذكرنا به من خير ، في كتب الأولين ، من قبل أن نكون.

ففي هذا إيجاب على محمد وآل محمد ، «لما فضلهم به» (١) ، وعلى شيعتهم ، أن يشكروه ، بما فضلهم به على غيرهم.

وفي كتاب الخصال (٢) : عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أربع من كنّ فيه ، كان في نور الله الأعظم ـ الى قوله ـ ومن أصاب خيرا ، قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وفي تفسير علي بن ابراهيم (٣) : في الموثق عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ في قوله : «الحمد لله» ، قال : الشكر لله. وفي قوله : «رب العالمين» ، قال خالق المخلوقين.

وفي من لا يحضره الفقيه (٤) : وفيما ذكره الفضل ، من العلل ، عن الرضا ـ عليه السلام ـ انه قال : «الحمد لله» ، انما هو أداء لما أوجب الله ـ عز وجل ـ على خلقه ، من الشكر. وشكر لما وفق عبده من الخير.

«رب العالمين» ، توحيد له. وتحميد (٥) واقرار بأنه هو الخالق المالك ، لا غيره.

وفي مجمع البيان (٦) : وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : ان الله تعالى ،

__________________

(١) المصدر : بما فضله وفضلهم.

(٢) الخصال ١ / ٢٢٢ ، ح ٤٩.

(٣) تفسير القمي ١ / ٢٨.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٠٣ ، ضمن ح ٩٢٧ ، عيون الاخبار ٢ / ١٠٧ ، ح ١.

(٥) المصدر : تمجيد.

(٦) مجمع البيان ١ / ٣١.

٥٠

منّ عليّ بفاتحة الكتاب ـ الى قوله ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) دعوى أهل الجنة ، حين شكروا الله ، حسن الثواب.

وفي أصول الكافي (١) : بإسناده الى أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : من قال أربع مرات ، إذا أصبح : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فقد أدى شكر يومه. ومن قالها ، إذا أمسى ، فقد أدى شكر ليلته.

وبإسناده (٢) الى أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ : قال كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إذا أصبح ، قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كثيرا ، على كل حال ، ثلاثمائة وستين مرة. وإذا أمسى قال مثل ذلك.

علي بن ابراهيم (٣) ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، قال : عطس رجل عند أبي جعفر ـ عليه السلام ـ فقال : «الحمد لله». فلم يشمّته أبو جعفر ـ عليه السلام ـ وقال : نقصنا حقنا. ثم قال : إذا عطس أحدكم ، فليقل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وصلى الله على [نبيه] (٤) محمد وأهل بيته.

قال : فقال الرجل. فشمّته أبو جعفر ـ عليه السلام.

وبإسناده (٥) الى مسمع بن عبد الملك ، قال : عطس أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). ثم جعل إصبعه على أنفه ، فقال : رغم أنفي لله ، رغما داخرا.

وبإسناده (٦) الى محمد بن مروان ، رفعه ، قال : قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :

__________________

(١) الكافي ٢ / ٥٠٣ ، ح ٥.

(٢) نفس المصدر ٢ / ٥٠٣ ، ح ٤.

(٣) نفس المصدر ٢ / ٦٥٤ ، ح ٩.

(٤) في ر.

(٥) نفس المصدر ٢ / ٦٥٥ ، ح ١٤.

(٦) نفس المصدر ٢ / ٦٥٥ ، ح ١٥.

٥١

من قال إذا عطس (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)» على كل حال ، لم يجد وجع الأذنين والأضراس.

وبإسناده الى أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : من عطس ثم وضع يده على قصبة أنفه ثم قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [حمدا]» (١) كثيرا (٢) ، كما هو أهله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم ، خرج من منخره الأيسر طائر أصغر من الجراد وأكبر من الذباب ، حتى يصير تحت العرش ، يستغفر الله له الى يوم القيامة) (٣).

(وفي الحديث (٤) : إذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال الله حمدني عبدي. وعلم أن النعم التي له من عندي. وأن البلايا التي اندفعت (٥) عنه ، بتطوّلي. أشهدكم أني أضيف له الى نعم الدنيا ، نعم الاخرة. وأدفع عنه بلايا الاخرة ، كما دفعت عنه بلايا الدنيا) (٦).

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : قد مر تفسيرهما. وكرره للتفصيل.

٩ وقيل : يحتمل أن يكون المراد «بالرحمن الرحيم» ، في البسملة ، هو المتجلّي بصور الأعيان الثابتة ، بفيضه الأقدس. فانه تعالى ، باعتبار عموم هذا الفيض وإطلاقه ، هو «الرحمن». وباعتبار تخصصه وتخصصه ، هو «الرحيم». والمراد بهما فيما بعدها ، هو المتجلي بصور الأعيان الوجودية ، بالاعتبارين المذكورين.

وقيل : ذكر الرحمة بعد ذكر «العالمين» وقبل ذكر (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ،

__________________

(١) موجود في المصدر.

(٢) ليس في ر.

(٣) ما بين القوسين ليس في أ.

(٤) عيون الاخبار ١ / ٣٠٠.

(٥) المصدر : دفعت.

(٦) ما بين القوسين يوجد في أ.

٥٢

ينطوي على فائدتين عظيمتين ، في تفصيل مجاري الرحمة :

إحداهما : تنظر الى الرحمة في خلق العالمين. وأنه خلقه على أكمل أنواعها وأتاها كلما احتاجت اليه.

وأخراهما : يشير الى الرحمة في المعاد ، يوم الجزاء ، عند الانعام بالملك المؤبد ، في مقابلة كلمة وعبادة.

وهو يلائم ما ورد من قولهم : يا رحمن الدنيا ورحيم الاخرة ، حيث قورن «الرحمن» ، «برب العالمين» ، المشير الى المبدأ ، و «الرحيم» ، «بملك يوم الدين» ، المشير الى المعاد.

وفي من لا يحضره الفقيه (١) : فيما ذكره الفضل من العلل عن الرضا ـ عليه السلام ـ أنه قال ـ بعد أن شرح رب العالمين : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، استعطاف ، وذكر لآلائه ونعمائه ، على جميع خلقه.

وفي تفسير علي بن ابراهيم (٢) : في الموثق ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ ، أنه قال ـ بعد أن شرح (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : «الرحمن» ، بجميع خلقه.

«الرحيم» ، بالمؤمنين خاصة.

(وفي الحديث (٣) : إذا قال العبد : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال الله تعالى : شهد لي بأني (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظه ، ولأجزلن من عطائي نصيبه) (٤).

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : وقرئ «مالك» و «ملك» ـ بتخفيف اللام ـ ، و «ملك» ، بصيغة الفعل. ونصب «اليوم».

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٠٣ ، مقطع من ح ٩٢٧ ، عيون الاخبار ٢ / ١٠٧.

(٢) تفسير القمي ١ / ٢٨.

(٣) عيون الاخبار ١ / ٣٠٠.

(٤) بين القوسين غير موجود في ر.

٥٣

وملك ومالك ، بالنصب على المدح والحال. ويحتمل النداء.

و «مالك» ، بالرفع ، منوّنا ومضافا ، على أنه خبر مبتدأ محذوف.

ويعضد قراءته على اسم الفاعل ، قوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١). وعلى الصفة المشبّهة ، قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ) (٢). وهي أولى. لأنه قراءة أهل الحرمين. ولأن بعض معاني «الرب» ، هو المالك.

فذكره ثانيا ، لا يخلو عن تكرار. ولان الاخر وهو سورة الناس ، نظير الأول.

والمذكور فيها بعد ذكر «الرب» هو «الملك». لا «المالك». ولأن للملك ، زيادة عموم ، ليست للمالك. لأن ما تحت حياطة الملك ، من حيث أنه ملك ، أكثر مما تحت حياطة المالك.

فان الشخص ، يوصف بالمالكية ، نظرا الى أقل قليل. ولا يوصف بالملكية ، الا بالنظر الى أكثر كثير» وللتناسب الحاصل بينه وبين الآيتين الأولتين.

ويوم الدين : يوم الجزاء. وقيل (٣) : زمان الجزاء. ومنه : كما تدين تدان. وبيت الحماسة : ولم يبق سوى العدوان دنّاهم كما دانوا».

وفي اختياره على سائر الأسامي ، رعاية للفاصلة ، وافادة للعموم. فان الجزاء ، يتناول جميع أحوال القيامة ، الى السرمد.

و «للدين» معان أخر ، مثل العبادة والطاعة والشريعة والشأن.

و «دانه» ـ في اللغة ـ : أذلّه واستعبده وساسة وملكه.

ويمكن حمله على كل واحد ، بل على الكل بالمرة. وقد يظهر وجهه بصدق التأمّل.

__________________

(١) الانفطار / ١٩.

(٢) غافر / ١٦.

(٣) الكشاف ١ / ١١ ، أنوار التنزيل ١ / ٨.

٥٤

واما اضافة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، فمن قبيل اضافة الصفة المشبّهة ، الى غير معمولها. كما في «رب العالمين». فتكون حقيقية ، لا لفظية. فان اللفظية ، اضافتها الى الفاعل. لا غير. فيصح جعله صفة لله.

وأما اضافة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [فمن قبيل اضافة اسم الفاعل الى الظرف ، على سبيل التجويز. وهي أيضا حقيقية. لان المراد به الاستمرار أو الماضي لا الحال أو الاستقبال. ويصح جعل مالكية اليوم مستمرة ، مع أن يوم الدين] (١) وما فيه ، ليس مستمرا في جميع الأزمنة ، لكونه لتحقق وقوعه وبقائه أبدا ، كالمتحقق المستمر كما يصح جعله لتحقق وقوعه. كالماضي. وتخصيص «اليوم» ، بالاضافة ، اما لتعظيمه أو لتفرده تعالى ، بنفوذ الأمر فيه.

ولما دل بلامي التعريف والاختصاص ، على أن جنس الحمد ، مختص به ، وحق له ، أجرى عليه تلك الأوصاف العظام ، ليكون حجة قاطعة ، على انحصار الحمد فيه ، واستحقاقه إياه ، فذكر أولا : ما يتعلق بالابداء ، من كونه ربّا مالكا للأشياء ، كلها ، بافاضة الوجود عليها ، وأسباب الكمالات لها.

وثانيا : ما يتعلق بالبقاء ، من اسباغه عليها ، نعما ظاهرة وباطنة جليلة ودقيقة.

وثالثا : ما يتعلق بالاعادة من كونه مالكا للأمر ، كله ، يوم الجزاء. فلا يستأهل غيره أن يحمد فضلا عن أن يعبد.

(وفي تفسير علي بن ابراهيم (٢) : في الموثق ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ انه بعد أن شرح (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال : يوم الحساب.

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) تفسير القمي ١ / ٢٨.

٥٥

وفي مجمع البيان (١) : وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : ان الله تعالى ، منّ عليّ بفاتحة الكتاب ـ الى قول (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ـ قال جبرئيل : ما قاله مسلم الا صدّقه الله وأهل سمائه.

وفيه (٢) : وقيل : «الدين» : الحساب.

وهو المروي عن أبي جعفر ـ عليه السلام.

وفي أصول الكافي (٣) : بإسناده الى الزهري ، قال : كان علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ إذا قرأ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، يكررها حتى كاد (٤) أن يموت.

وفي من لا يحضره الفقيه (٥) : وفيما ذكره الفضل من العلل ، عن الرضا ـ عليه السلام ـ ، انه قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، اقرار له بالبعث [والحساب] (٦) والمجازاة. وإيجاب ملك الاخرة له ، كإيجاب ملك الدنيا.

وفي شرح الآيات الباهرة : (٧) قال الامام الحسن العسكري عليه السلام (٨) : قال ، أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ : يوم الدين ، هو يوم الحساب.

سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : ألا أخبركم بأكيس الكيسين وأحمق الحمقى؟.

قالوا : بلى يا رسول الله!

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٣١.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢٤.

(٣) الكافي ٢ / ٦٠٢ ، ح ١٣.

(٤) النسخ : يكاد ، والمتن موافق المصدر.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٠٣ ، ضمن ح ٩٢٧ ، عيون الاخبار ٢ / ١٠٧.

(٦) يوجد في المصدر.

(٧) ما بين القوسين ليس في أ.

(٨) تفسير العسكري ١٧.

٥٦

قال : أكيس الكيسين ، من حاسب نفسه ، وعمل لما بعد الموت. وان أحمق الحمقى ، من اتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله تعالى الأماني.

فقال الرجل : يا أمير المؤمنين! فكيف يحاسب الرجل نفسه؟

قال : إذا أصبح ثم أمسى ، رجع الى نفسه ، فقال : يا نفس! ان هذا يوم مضى عليك ، لا يعود اليك ، أبدا. والله تعالى يسألك عنه (١) ، بما أفنيته وما الذي عملت فيه. أذكرت الله؟ أحمدته (٢)؟ أقضيت «حق أخ» (٣) مؤمن؟ أنفّست عنه كربته؟ أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟

أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك؟ أأعنت مسلما؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه. فان ذكر أنه جرى منه خير ، حمد الله تعالى وشكره (٤) ، على توفيقه.

وان ذكر معصية أو تقصيرا ، استغفر الله تعالى. وعزم على ترك معاودته. ومحى ذلك عن نفسه ، بتجديد الصلاة على محمد وآله الطيبين ، وعرض بيعة أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ على نفسه وقبولها (٥) لها ، واعادة لعن أعدائه وشانئيه ودافعيه عن حقوقه. فإذا فعل ذلك ، قال الله ـ تعالى عز وجل ـ : لست أناقشك في شيء من الذنوب ، مع موالاتك أوليائي ومعاداتك أعدائي.

وفي تفسير العياشي (٦) : عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ أنه كان يقرأ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، عن فرقد.

قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ يقرأ ما لا أحصى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

__________________

(١) أ : منه.

(٢) المصدر : حمدته.

(٣) المصدر وأ : حوائج ، وهو الظاهر.

(٤) المصدر : كبره.

(٥) المصدر : قيوله.

(٦) تفسير العياشي ١ / ٢٢. وهي ليس في أ.

٥٧

وفي الحديث (١) : إذا قال العبد : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال الله تعالى : أشهدكم كما اعترف بأني مالك يوم الدين ، لأسهّلن يوم الحساب ، حسابه. ولأثقّلن حسناته.

ولأتجاوزن عن سيّئاته) (٢).

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : ذهب الزجاج ، الى أن «ايّا» ، مظهر مبهم ، أضيف الى الشيء بعده ، ازالة لابهامه. وكان «إياك» بمعنى ، نفسك.

والخليل ، الى أنه مضمر مضاف الى ما بعده. واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين ، فإياه وأيا الشواب.

ورد بأن الضمير لا يضاف ، وما نقل عن بعض العرب ، شاذ. لا يعتمد عليه.

وابن كيسان وبعض الكوفيّة ، الى أن الكاف وأخواته ، هي الضمائر التي كانت متصلة. و «أيا» دعامة لها ، لتصيّرها منفصلة.

وقوم من الكوفة ، الى أن «إياك» بكماله هو الضمير.

والأخفش ، الى أن «أيا» ضمير منفصل ، ولواحقه حروف ، لا محل لها من الاعراب ، تدل على أحوال ما أريد به من الخطاب والتذكير والافراد وما يقابلها (٣).

وقرئ «إياك» ، بتخفيف الياء. و «أياك» ، بفتح الهمزة ، وتشديد الياء.

و «هياك» بقلبها هاء.

و «العبادة» ، هي أقصى غاية الخضوع والتذلل. ومنه. طريق معبد ، أي : مذلل. وثوب ذو عبدة ، إذا كان في غاية الصفاقة. ولذلك لا يستعمل الا في الخضوع لله.

«والاستعانة» ، طلب المعونة. وهي اما ضرورية ، لا يتأتى الفعل بدونه.

__________________

(١) عيون الاخبار ١ / ٣٠١.

(٢) ما بين القوسين مشطوب في المتن وغير موجود في ر.

(٣) ر. الكشاف ١ / ١٣ ، مجمع البيان ١ / ٢٥.

٥٨

كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها. وعند استجماعها ، يوصف الرجل بالاستطاعة. ويصح أن يكلف بالفعل وغير ضرورية ، يسهل الفعل به ، كالراحلة في السفر ، للقادر على المشي. أو يقرب الفاعل الى الفعل. ويحثّه عليه. وهذا القسم ، لا يتوقف عليه ، صحة التكليف. هكذا قيل ، يقال : استعانه واستعان به ، بمعنى. وانما اختبر استعماله بلا واسطة الحرف اشارة الى أن العبد ينبغي أن لا يرى بينه وبين الحق سبحانه ، واسطة ، في الاستعانة ، بأن يقصر نظره عليه ، أو يرى الوسائط منه.

وتقديم المفعول ، لقصد الاختصاص.

وتكريره ، ليكون نصا في اختصاص كل من العبادة والاستعانة به سبحانه.

وفي إيراد «إياك» دون «إياه» ، كما هو مقتضى الظاهر ، التفات من الغيبة الى الخطاب. ومن النكتة الخاصة ، في الالتفات من الغيبة الى الخطاب ، في هذا المقام ، بعد اشتماله على فائدة عامة ، من جهة المتكلم ، وهي التصرف والافتنان في وجود الكلام واظهار القدرة عليها ، ومن جهة المخاطب ، وهي تطرية نشاطه في سماع الكلام ، وايقاظه للإصغاء اليه. أنه لما قيل : «إياك» بدل «إياه» ، فقد نزل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة التي أوجب تميزه وانكشافه ، حتى صار كأنه تبدل خفاء غيبته ، بجلاء حضوره ، منزلة المخاطب في التمييز والظهور.

ثم أطلق عليه ، ما هو موضوع للمخاطب. ففي إطلاقه ملاحظة لتلك الأوصاف فصار الحكم ، مرتبا على الأوصاف. كأنه قيل : أيها الموصوف المتميز بهذه الأوصاف! نخصك بالعبادة ، والاستعانة.

فيفهم منه ، عرفا ، أن العبادة والاستعانة ، لتميزه بتلك الصفات.

ومنها : التنبيه على أن القراءة ، انما يعتد بها ، إذا صدرت عن قلب حاضر وتأمل وافر ، يجد القارئ ، في ابتداء قراءته ، محركا. نحو الإقبال على منعمه ،

٥٩

الذي أجرى حمده على لسانه. ثم يزداد قوة ذلك المحرك ، بحسب اجراء تلك الصفات العظام ، حتى إذا آل الأمر الى خاتمتها ، أوجب إقباله عليه ، وخطابه بحصر العبادة والاستعانة فيه.

ومنها : الاعلام بأن «الحمد» «والثناء» ، ينبغي أن يكون على وجه ، يوجب ترقّي الحامد ، من حضيض ، بعد الحجاب والمغايبة ، الى ذروة قرب المشاهدة والمخاطبة.

ومنها : الاشارة الى أن العبادة المستطابة والاستعانة المستجابة ، في مقام العبودية ، انما يليق بهما ، ان تعبد ربك كأنك تراه وتخاطبه.

ومنها : الاشارة الى أنه ينبغي أن يكون تالي كلامه سبحانه ، بحيث يتجلى له المتكلم فيه ، ويصير مشهودا له. فيخاطبه بتخصيص العبادة والاستعانة به.

كما روي عن الصادق ـ عليه السلام ـ (١) ، أنه قال : لقد تجلى الله تعالى لعباده (٢) في كلامه. ولكن لا يبصرون.

وعنه (٣) ـ أيضا ـ : انه خرّ مغشيا عليه ـ وهو في الصلاة ـ فسئل عن ذلك.

فقال : ما زلت أردد الاية ، حتى سمعتها من المتكلم بها.

والضمير المستكن في الفعلين ، للقارئ ومن معه ، من الحفظة أو حاضري الجماعة ، أو له ولسائر الموحدين ، أو له ، فقط ، لاستجماعه القوى والحواس.

فكان (٤) لكل منها عبادة واستعانة. (أو لأن العبادة ، وسيلة) (٥).

قيل : أو لوصوله الى مقام الجمع. فيرى العبادات والاستعانات ، كلها ،

__________________

(١) المحجة البيضاء ٢ / ٢٤٧ ، نقلا عن أسرار الصلاة ، للشهيد / ٢٠٤.

(٢) المصدر : لخلقه.

(٣) بحار الأنوار ٨٤ / ٢٤٧ ح ٣٩ نقلا عن فلاح السائل.

(٤) ر : فكأنه.

(٥) ما بين القوسين يوجد في أ.

٦٠