الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي
المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩
والمعتزلة لما قالوا الايمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل (١).
والكفر : تكذيب الحق. وجحوده. جعلوا قسما ثالثا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما ، في بعض الأحكام.
قال صاحب الكشاف (٢) : معنى كونه بين بين ، أن حكمه ، حكم المؤمن ، في أنه يناكح. ويوارث. ويغسل. ويصلى عليه. ويدفن في مقابر المسلمين.
وهو كالكافر ، في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته.
وحصر الإضلال فيهم ، مرتبا على صفة الفسق ، يدل على أنه الذي أعد لهم الإضلال ، بضرب المثل. فطلبوا بلسان الاستعداد ، أن يوجد فيهم ، صفة الضلال به. فوجد فيهم. فأنكروه. وانتهزوا به.
أقول : يحتمل أن يكون قوله (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً. وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، مقول قول الكافرين. فحينئذ ، لا حاجة في اسناد الضلال الى الله ، الى هذه التوجيهات.
يدل على ذلك ، ما رواه علي بن ابراهيم (٣) ، عن النضر بن سويد ، عن القاسم ابن سليمان ، عن المعلى بن خنيس ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ : ان هذا المثل ، ضربه الله ، لأمير المؤمنين [علي] (٤) ـ صلوات الله عليه ـ فالبعوضة ، أمير المؤمنين. وما فوقها ، رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والدليل على ذلك قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) (٥) ، يعني : أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ. كما أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الميثاق عليهم ، له.
__________________
(١) هنا ، تقديم وتأخير في العبارات ، بين أو نسختي ر والمتن.
(٢) الكشاف ١ / ١١٩.
(٣) تفسير القمي ١ / ٣٤ :
(٤) ليس في المصدر.
(٥) البقرة / ٢٦.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَيَقُولُونَ : ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً. يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً). فرد الله عليهم. فقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ـ الى آخر الاية.
والمراد من قوله ـ عليه السلام ـ : ان هذا المثل ، ضربه لأمير المؤمنين ، أنه يصير مصداق البعوضة المذكورة في الاية ، أمير المؤمنين. لا أن المثل بالبعوضة ، وقع له. ومن قوله : فالبعوضة أمير المؤمنين ، أنه مع عظمته بالنسبة الى جبروته تعالى ، ليست له عظمة. وأنه بالنسبة اليه تعالى ، كالبعوضة ، بالنسبة الى المخلوقين.
يدل على ذلك ، ما روى في التفسير المنسوب الى مولانا العسكري ـ عليه السلام (١) ـ من أنه قيل للباقر ـ عليه السلام ـ ان بعض من ينتحل موالاتكم ، يزعم أن البعوضة ، عليّ. وما (٢) فوقها وهو الذباب ، محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقال الباقر ـ عليه السلام ـ : سمع هؤلاء شيئا ، لم يضعوه على وجهه. انما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قاعدا ، ذات يوم. وعلي (٣) ـ عليه السلام ـ إذ سمع قائلا يقول (٤) : ما شاء الله وشاء محمد. وسمع آخر يقول : ما شاء الله وشاء علي.
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : لا تقرنوا محمدا وعليا ، بالله ـ عز وجل ـ ولكن قولوا : ما شاء الله. ثم (٥) ما شاء محمد ، ما شاء الله. ثم (٦) ما شاء علي. ان مشيئة
__________________
(١) تفسير العسكري / ١٠١ ـ ١٠٢.
(٢) أ ، : وان ما.
(٣) المصدر : هو وعلى.
(٤) أ : قائلا يقول : ما شاء الله. ثم ما شاء محمد ما شاء الله. ثم ما شاء على. ان مشية الله هي.
(٥) «ما شاء الله. ثم» ليس في المصدر.
(٦) «ما» ، ليس في المصدر.
الله هي (١) القاهرة التي لا تساوي ولا تكافأ (٢) ولا تداني (٣). وما محمد رسول الله ، في الله وفي قدرته ، الا كذبابة (٤). وما علي في الله وفي قدرته ، الا كبعوضة ، في جملة هذه الماليك (٥). مع أن فضل [الله على] محمد (٦) وعلي [هو] (٧) الفضل الذي لا يفي به فضله (٨) على جميع خلقه ، من أول الدهر ، الى آخره. هذا ما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في ذكر الذباب والبعوضة ، في هذا المكان. فلا يدخل في قوله «ان الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة» ـ انتهى ـ.
أقول : ولا يذهب عليك بعد ما ذكرنا ، من الجمع بين الخبرين. والتأمل فيهما وملاحظة ارتباط الاية ، بما تقدمها ، اندفاع ما قاله العلامة السبزواري ، في الجمع ، من أنه لعل المراد ، أنهما داخلان في مدلول الاية. لأن المراد هما ، فقط. ولا ريب أنهما وأولادهما ، ضرب بهما المثل ، في كتاب الله تعالى.
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) : منصوب المحل ، على أنه صفة كاشفة للفاسقين أو على الذم.
أو مرفوع ، على الذم ، أو على الابتداء. والخبر (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).
أو على الخبرية. والمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ينقضون.
و «النقض» : فسخ التركيب. ولعله في طاقات الحبل ، استعير لابطال العهد
__________________
(١) مقول قول «قائلا يقول» ليس في أ ، الا ما ذكر في رقم ٤ الذي مر آنفا.
(٢) المصدر : تكافى.
(٣) المصدر : تدانى.
(٤) المصدر : كذبابة تطير في هذه الممالك الواسعة.
(٥) كذا في المصدر. وفي الأصل ور : مماليك.
(٦ و ٧) يوجد في المصدر.
(٨) كذا في المصدر. وفي الأصل ور : فضل.
استعارة تحقيقية تصريحية ، حيث شبه إبطال العهد ، بفك تأليف الحبل. وأطلق اسم المشبه به ، على المشبه. وشرط حسنه ، اعتبار تشبيه العهد ، بالحبل ، لما فيه من ربط أحد المتعاهدين ، بالآخر. فتشبيه العهد ، بالنفس ، استعارة بالكناية واثبات النقض ـ سواء أريد منه معناه الحقيقي ، أو المجازي له ـ قرينة لها.
لا يقال : إذا أريد بالنقض معناه الحقيقي ، فظاهر أنه من لوازم الحبل. وأما إذا أريد به معناه المجازي ، فليس كذلك. فكيف يكون قرينة للاستعارة بالكناية ، لأنا نقول : المراد باللازم ، أعم من أن يراد معناه الأصلي الذي هو اللازم الحقيقي ، أو يراد ما هو مشبه (١) بذلك المعنى ، منزل منزلته. فانه إذا نزل (٢) منزلة الحقيقي وعبر عنه باسمه ، صار لازما ادعاء. فاللازم على الاول ، مذكور لفظا ومعنى حقيقة.
وعلى الثاني مذكور لفظا حقيقة. ومعنى ادعاء وكلاهما ، يصلحان للقرينة.
والعهد الموثق ، أي : الميثاق. ويقال للأمان واليمين والذمة والوصية.
ووضعه ، لما من شأنه ، أن يراعى ويتعهد ، كالوصية واليمين.
ويقال للدار ، من حيث أنها يراعى بالرجوع اليها وللتأريخ ، لأنه يحفظ.
(مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) : متعلق بينقضون.
و «من» ، لابتداء الغاية. فان ابتداء النقض ، بعد الميثاق.
وقيل : زائدة.
و «الميثاق» : اسم لما يقع به الوثاقة. وهي الأحكام. أو معنى التوثقة ، كالميلاد والميعاد ، (بمعنى الولادة والوعدة).
ومرجع الضمير ، العهد ، أو الله.
__________________
(١) أ : شبه.
(٢) أ : منزل.
واضافته الى العهد ، بمعناه الاسمي ، للتأكيد. لأن ميثاق الميثاق ، مما يؤكده.
وبمعناه المصدري ، من اضافة المصدر الى المفعول ، والى الله ، من اضافته الى الفاعل.
وعهده الذي نقضوه من بعد ميثاقه ، اما ما ركز في عقولهم ، من قوة التفكر في مصنوعاته التي هي دلائل توحيده سبحانه ، أو هو الذي أخذه الله تعالى ، على بنى آدم ، حين استخرجهم من ظهره وأقروا بربوبية.
وميثاقه ـ على التقديرين ـ إرسال الرسل وانزال الكتب ، على وفقه.
ونقضه :
على الأول : ترك التفكر فيها المندوب اليه عقلا وشرعا.
وعلى الثاني : نسيانهم ما أقروا به. وعدم جريهم على مقتضاه ، لما أخذوا أربابا من دون الله.
أو العهد : وصية الله الى خلقه. وأمره إياهم ، بما أمرهم به ، من طاعته.
ونهيه إياهم ، عما نهاهم عنه ، من معصيته ، في الشرايع المتقدمة.
وميثاقه : شريعة نبينا ـ صلى الله عليه وآله ـ.
ونقضهم : اعراضهم عما وصلهم الله به وعما وثقه به.
أو هو ما عهده الى من أوتي الكتاب ، أن بينوا نبوة محمد. ولا يكتموا أمره.
وميثاقه : الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على نبوته ـ عليه السلام ـ.
ونقضهم : كتمان أمره وانكار نبوته.
فالآية على هذا ، في أحبار اليهود.
وضعّف الشيخ الطبرسي (١) الوجه الثاني ، بأن الله تعالى ، لا يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه.
__________________
(١) مجمع البيان ١ / ٧٠.
ولا يكون عليه دليل.
وزيّف تضعيفه العلامة السبزواري ، بأن مفاد الاية ، أن هؤلاء من الفاسقين والخاسرين ، بلا احتجاج عليهم بفعلهم هذا ، كما إذا قيل : ولد الزنا ، لا يدخل الجنة ، لا يحتج عليه بفعل قبيح صدر عنه. وهو كون تولده من الزنا. بل المقصود ، أنه يصدر عنه أفعال اختيارية موجبة لخلود النار.
وأقول : مبنى كلام الشيخ ، أن مفهوم الاية ، أن الله ذمهم بنقض العهد ، بعد الميثاق. وإذا كان العهد ، عبارة عما ذكر ، كان الاحتجاج عليهم بعهد ، لا يذكرونه.
ولا يعرفونه. وظاهر ، أنه لا يرد على ذلك ، ما أورده العلامة. وانما يرد عليه لو كان مراده ، أن التعليل ، يفهم من ترتب الحكم ، على الوصف. وليس كذلك.
(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) :
محل أن يوصل ، الجر ، على البدلية من الضمير. وحينئذ ، ما في أمر الله به ، اما صولة ، أو موصوفة ، أو منصوب على البدلية مما أمر الله به.
فكلمة «ما» موصوفة. لأن النكرة ، لا يبدل عن المعرفة ، الا إذا كانت مخصصة ، نحو : (بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) (١).
والأول ، أحسن. لقرب المبدل منه. ولأن القطع ، يقع على المتصل ، لا على الوصل.
قيل (٢) : ولاحتياج الثاني الى تقدير مضاف ، أي : يقطعون وصل ما أمر الله به أن يوصله.
وأقول : الاحتياج الى ذلك انما يكون إذا كان بدل الكل عن الكل. واما إذا كان بدل الاشتمال ، فلا.
والمراد بما أمر الله كلما لا يجوز قطعه ـ كائنا ما كان ـ.
__________________
(١) العلق / ١٦.
(٢) تفسير البحر المحيط ١ / ١٢٨.
والعمدة (١) فيه ، صلة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وصلة الرحم. روى الاول ، في تفسير علي بن ابراهيم (٢) والثاني ، في الكافي ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ (٣).
و «الامر» الذي ، واحد الأوامر : طلب الفعل ، مع العلو. وقيل (٤) : مع الاستعلاء.
والذي واحد الأمور : المأمور به. تسمية للمفعول به ، بالمصدر ، كما سمى الشأن ، بمعنى المشئون.
و «الشأن» : الطلب والقصد. يقول : شأنت ، شأنه ، أي : قصدت : قصده.
(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمنع من الايمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي ، بها نظام العالم وصلاحه.
(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)) : لاشترائهم النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، في الدنيا.
وعقاب المشتري ، بثواب المشترى به ، في الاخرة فخسروا الدنيا بالاخرة (٥).
ذلك هو الخسران المبين.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) :
الخطاب مع الذين كفروا ، لما وصفهم بالكفر وتوابعه ، خاطبهم على طريقة الالتفات ، إنكارا لكفرهم وتوبيخا لهم عليه ، مع علمهم بحال يقتضي خلاف ذلك.
__________________
(١) أ : العهدة.
(٢) تفسير القمي ١ / ٣٥.
(٣) الكافي ٢ / ١٥٠.
(٤) أنوار التنزيل ١ / ٤٢ ، البحر المحيط ١ / ١٢٨.
(٥) أ : والاخرة. وهو الظاهر.
فان الإنكار والتوبيخ ، إذا توجه الى المخاطب ، كان أبلغ : أو معهم ، مع المؤمنين ، أو مع المؤمنين ، فقط.
وكيف يصلح للسؤال ، عن الأحوال ، كلها. لا بمعنى أنه مستغرق لها. بل قد يستغرق بمعونة المقام وقد لا يستغرق. فإذا قصد به الإنكار وهو في معنى النفي ونفي الحال التي يقتضيها. كيف انما يتحقق بنفي جميع أفرادها ، بل هي كالنكرة الواقعة ، في سياق النفي ، في افادة العموم. فكأنه قيل : لا يصح ولا ينبغي أن يوجد حال ما لكفركم. وقد علمتم أنكم (كُنْتُمْ أَمْواتاً) (الاية.) وإذا لم ينبغ ، أن توجد حال من أحوال الكفر ، مع وجود هذا الصارف ، اما لأنه يتضمن آيات بينات ، أو نعما جساما حقها ، أن لا يكفر ، بمولها. فينبغي أن لا يوجد كفركم معه. لأن وجود ذات بلا حال ، محال. فان وجد معه ، فهو مظنة توبيخ وانكار وتعجيب وتعجب. وخص بعضهم الحال ، بماله مزيد اختصاص بالكفر بالله.
وهو العلم بالصانع والجهل به.
فالمعنى : أفي حال العلم بالله تكفرون؟ أم في حال الجهل؟ والحال حال العلم ، بمضمون القصة الواقعة ، حالا. والعلم به ، يقتضي أن يكون للعاقل علم ، بأن له صانعا متصفا بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال. وعلمه بأن له ، هذا الصانع ، صارف قوي عن الكفر. وصدور الفعل عن القادر ، مع الصارف القوي ، مظنة تعجيب وتعجب وانكار وتوبيخ.
فنفي الكفر ، بمعني لا ينفي أن يقع ، على كلا التقديرين ، بطريق الكناية.
لأنه كما (١) لزم من إنكار الحال ، مطلقا ، انكار الكفر ، لزم من انكار حاليته ، أعني : العلم والجهل ـ ايضا ـ إنكاره ، إذ لا ثالث لهما. ولهذا صار (كَيْفَ تَكْفُرُونَ)
__________________
(١) ليس في أ.
أولى من «أتكفرون». فاختير عليه. وأوفق (١) ـ ايضا ـ ، لما بعدها ، من الحال.
وهي في الاية ، منصوبة على التشبيه بالظرف ، عند سيبويه ، أي : في أي حال تكفرون. وعلى الحال عند الأخفش ، أي : على أي (٢) حال تكفرون.
والعامل فيها ، على التقديرين ، تكفرون.
وصاحب الحال ، الضمير فيه.
(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) :
«الواو» ، للحال. والجملة ، حال ، بتقدير قد. وتأويلها ، بجملة اسمية ، أو فعلية ، مأخوذا فيها العلم (٣).
والمعنى : وقد علمتم ، أو تعلمون ، أو أنتم عالمون ، انكم كنتم أمواتا. فان بعض الجمل الواقعة ، في تلك القصة الواقعة ، حالا ماض. وبعضها ، مستقبل.
لا يقارن مضمونهما ، مضمونه. فلا بد من أخذ العلم.
[والمعنى : وقد علمتم أو تعلمون] (٤).
وايضا ، مضمون تلك الجمل ، بدون اعتبار تعلق علمهم بها ، لا يصح أن يكون صارفا. واعتبار تعلق علمهم بالموتة (٥) والأحياء الأولين (٦) ، ظاهر. وأما اعتبار تعلقه بالاحياء الثاني والرجوع ، فلتمكنهم من العلم بهما ، بالدلائل الموصلة اليه ، فكان بمنزلة حصول العلم ، سيما.
وفي الاية ، تنبيه على ما يدل على صحتهما. وهو أنه تعالى ، لما قدر أن أحياهم
__________________
(١ و ٢) ليس في أ.
(٣) أ : فيه.
(٤) لا يوجد في الأصل ور.
(٥) أ : بالمئونة.
(٦) أ : الحينين.
أولا ، قدر أن يحييهم ، ثانيا. فان بدء الخلق ، ليس بأهون من إعادته.
و «الأموات» : جمع ميت (بالتخفيف) ، كالأقوال ، جمع قيل.
والمعنى (كُنْتُمْ أَمْواتاً) ، أي : عناصر ممتزجة منتقلة ، من حال الى حال ، حتى استقر على مزاج معتدل قابل لنفخ الروح فيه. فأحياكم بنفخ الروح فيه.
فعلى هذا ، يكون استعمال الأموات ، في العناصر ، استعارة لاشتراكهما ، في أن لا روح ولا احساس لهما.
وانما عطف بالفاء ، لأنه متصل بما عطف عليه ، غير متراخ عنه. بخلاف البواقي.
(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) ، عند تقضي آجالكم.
(ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، بحياة أبدية ، يوم النشور ، أو في القبر ، للسؤال.
(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)) ، ليحاسبكم أو يجازيكم ، على أعمالكم.
وان أريد بقوله «يحييكم» الحياة في القبر ، فينبغي أن يراد «بترجعون» ، الأحياء يوم النشور. ويلزم منه ، إهمال اماتتهم في القبر. اللهم ، الا أن يقال : معنى (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، أنهم يرجعون ، بتلك الاماتة واحياء ، يوم النشور.
ولو جعل (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، متناولا لاحيائين ، جميعا ، أي : يحييكم مرة بعد أخرى ، بقرينة المقام ، يلزم ، أيضا ، ذلك الإهمال. الا أن يقال : يفهم من تعدد الاحيائين ، تخلل اماتة بينهما. والظاهر ، أنه لم يعتد بالاحياء في القبر. لأنه ليس له زمان يعتد به.
وقرأ يعقوب ، ترجعون ـ بفتح التاء ـ ، في جميع القرآن.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) :
بيان نعمة ثانية مترتبة على النعمة الأولى. فان الانتفاع بالأرض والسماء وما فيهما ، انما يكون بعد موهبة الحياة.
و «الخلق» ، في الأصل : التقدير. ويراد منه الإيجاد.
فان أريد (١) المعنى الأول ، عم الأرض وجميع (٢) ما فيها (٣). وان أريد الثاني ، احتيج في شموله لما سوى العناصر ، الى ارتكاب تجوز.
و «اللام» ، للانتفاع.
والمعنى : خلق لانتفاعكم ، في الدنيا (٤) والاخرة ، ما في الأرض ، جميعا.
فعند الأشاعرة ، مدخوله غاية. وعند المعتزلة وأهل الذوق ، غرض. لكن عند المعتزلة ذلك الغرض ، عائد الى العبد. وعند أهل الذوق ، الى المعبود. فإنهم قالوا : ان للحق كمالين.
كمالا ذاتيا ، كوجوب وجوده ووحدته وحياته وعلمه وغير ذلك من الصفات الذاتية التي لا يحتاج الحق سبحانه ، في الاتصاف بها ، الى سواه.
وكمالا أسمائيا ، يحتاج في الاتصاف بها اليه. فان كمال الأسماء ، انما هو بظهور آثارها وترتب أحكامها عليها. وذلك لا يتم (٥) الا بوجود (٦) المظاهر.
فنفي الاحتياج والاستكمال بالغير عنه ، انما هو بالنظر الى كماله الذاتي الذي له مرتبة الغنى ، عن العالمين. وأما بالنظر الى كماله الأسمائي ، فليس له هذه المرتبة.
وكلمة «ما» للعموم ، خصوصا ، إذا قيد بالحال الذي وقع بعده. وقد صرح به أئمة الأصول.
فدل الاية على اباحة جميع الأشياء ، على أي وجه ، الا ما أخرجه الدليل.
__________________
(١ و ٢) ليس في أ.
(٣) أ : فيه.
(٤) ليس في أ.
(٥) ليس في أ.
(٦) أ : الوجود.
واندفع ما قاله العلامة السبزواري ، من أنها لما كانت مجملة غير ظاهرة في العموم ، لا يتم الاستدلال بها ، على ذلك.
والمراد «بالأرض» ، اما جهة السفل ، ليشتمل الغبراء وما فيها. واما الغبراء ، فلا يتناول الا ما فيها. لامتناع (١) ظرفية الشيء ، لنفسه.
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) :
قصد اليها بإرادته ، من قولهم : استوى اليه ، كالسهم المرسل. إذا قصده قصدا مستويا ، من غير أن يلوي على شيء.
وأصل الاستواء : طلب السواء. وإطلاقه على الاعتدال ، لما فيه من تسوية وضع الاجزاء. يقال : استوى العود وغيره ، إذا قام واعتدل. ولا يمكن حمله عليه ، لأنه من خواص الأجسام.
وقيل (٢) : استوى ، استولى. قال :
قد استوى بشر على العراق |
|
من غير سيف ودم مهراق |
وهذا المعنى ، غير مناسب للأصل والصلة المعدى بها.
وقيل (٣) : أقبل ، كما يقال : كان فلان ، مقبلا على فلان. ثم استوى إليّ وعليّ يكلمني ، على معنى أقبل الي وعليّ.
وقيل (٤) : استوى أقره. وصعد الى السماء.
قال العلامة السبزواري : وهذا بخلاف ما اشتهر أن أوامره وقضاياه ، تنزل من السماء ، الى الأرض. وفيه نظر. لأن المقصود ، صعد أمره في الخلق ، الى
__________________
(١) ر : الامتناع.
(٢) أنوار التنزيل ١ / ٤٣.
(٣) مجمع البيان ١ / ٧٢.
(٤) نفس المصدر ١ / ٧١.
السماء. وهذه الاية مع التي في سورة حم السجدة ، أعني قوله (١) : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ـ الى قوله (ـ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، حجة على من ذهب الى تقدم خلق السماء ، على الأرض. وما في سورة والنازعات ، من قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٢) ، أي : بعد رفع سمك السماء وتسويتها ، دحى الأرض ، وبسطها ، حجة له.
وأجاب عن الأول ، بأن ثم ، لتفاوت ما بين الخليقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) ، لا للتراخي في الوقت. وبأن الخلق في الآيتين بمعنى التقدير ، لا بمعنى الإيجاد.
وقد أوّلت الاية الثانية ، بأن معناه : اذكر الأرض دحاها ، بعد ذكر ما سبق.
والخلق أن خلق الأرض ، مقدم على خلق السماء. ودحوها ، مؤخر عنه. وهذا هو وجه الجمع ، بين تلك الآيات. يدل على ذلك ، ما روى ، من أنه خلق الله الأرض ، في موضع بيت المقدس ، كهيئة الفهر ، عليها دخان ملتزق بها. ثم أصعد الدخان. وخلق منه السموات. وأمسك الفهر ، في موضعها. وبسط منها الأرض. فذلك قوله : (كانَتا رَتْقاً) (٤)».
والفهر : حجر يملأ الكف ، أي : في الاستدارة واكتنازها ، بحيث لا يتخللها خلاء ولا يتميز فيها شيء عن شيء.
والرتق : الالتزاق.
__________________
(١) فصلت / ٩.
(٢) النازعات / ٣٠.
(٣) البلد / ١٧.
(٤) الأنبياء / ٣٠.
قال العلامة السبزواري : وما قيل أن هذا يناقض قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (١) ، فغير موجّه. أما إذا كان الأرض ، بمعنى الجهة السفلية. فخلق ما في الأرض ، لا يستلزم خلق ذلك الجسم المسمى بالأرض ـ أيضا ـ لا الصغير منه ولا العظيم. وان كان بمعنى التقدير ، فلا يستلزم وجودها. لأن إيجاد مادتها التي هي الماء ، يكفي في اسناد الخلق بمعنى التقدير اليها :
أقول : لا يخفى ، أن خلق ما في الأرض ، يستلزم خلقها. لان المراد به الأجسام المواليد والعناصر الثلاثة الباقية ، ان أريد بالأرض ، معناه الحقيقي ، أو الاربعة ، ان أريد به جهة السفل.
وظاهر ، أن وجود جميع ذلك ، لا يمكن الا بعد وجود الأرض.
[وفي كتاب علل الشرائع (٢) : بإسناده الى محمد بن يعقوب ، عن علي ابن محمد ، بإسناده رفعه. قال : قال علي ـ عليه السلام ـ وقد سئل عن مسائل : وسميت السماء سماء ، لأنها وسم الماء ، يعنى : معدن الماء.
والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
وفي تفسير علي بن ابراهيم (٣) ، حديث طويل ، عن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وفيه يقول ـ عليه السلام ـ : ومنها استوى بناء الى السماء أي : استولى على السماء والملائكة] (٤).
(فَسَوَّاهُنَ) : أي : عدل خلقهن. وقومه وأخلاه من العوج والفطور.
وضمير «هن» ، اما راجع الى السماء ، ان فسرت بالأجرام. لأنه جمع ،
__________________
(١) النازعات / ٣٠.
(٢) علل الشرايع ١ / ٢.
(٣) تفسير القمي ٢ / ٢٧٢.
(٤) ما بين القوسين ليس في أ.
وفي المعنى الجمع. أو مبهم ، يفسره ما بعده ، كما في ربه رجلا. وهو أولى ، لما فيه من التفسير ، بعد الإبهام.
(سَبْعَ سَماواتٍ) ، بدل أو تفسير. وعلى تقدير كون الضمير غير مبهم ، بدل عن الضمير ، أو حال عنه ، أو مفعول للتسوية ، على تقدير «فسوى منهن سبع سموات» ، من قبيل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ). أو مفعول ثان لجعل ، على تضمين التسوية ، معنى الجعل أو تجوزها عنه. لكن على الأخير ، يفوت معنى التسوية.
فان قلت : ان أصحاب الارصاد ، أثبتوا تسعة أفلاك.
قلت : فيما ذكروه ، شكوك. وان صح ، فليس في الاية نفي الزائد. مع أنه لو ضم اليه العرش والكرسي ، لم يبق خلاف.
قيل : فوجه التخصيص على هذا ، أن السموات على قسمين : قسم منها عنصري.
يشترك مع الأرض وما فيها ، في المادة ، عند المحققين. ويدل عليه الكتاب والسنة. وهو سبع. تسمى عند أهل الشرع ، بالسماوات. وقسم منها طبيعي غير عنصري. وهو الباقيات. منها المسميان بالعرش والكرسي ، وعند غيرهم ، بالفلك الأطلس وفلك الثوابت. ولا تميز بينها عند غيرهم. لأن الكل عندهم طبيعي غير عنصري. وكان التميز بينها ، بلسان أهل الشرع. انما وقع بناء على أن أحكام القيامة كالطي وتكوير (١) الكواكب وانتشارها وغير ذلك ، مختص بالسماوات السبع. لا يتعداها الى العرش والكرسي.
[وفي عيون الأخبار (٢) : حدثنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن علي بن عبد الله
__________________
(١) أ : تكرير.
(٢) عيون أخبار / ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، ح ١ وللحديث تتمة طويلة.
البصري ، بإيلاق. قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن جبلة الواعظ. قال : حدثنا أبو القسم (١) عبد الله بن احمد بن عامر الطائي. قال : حدثنا أبي. قال : حدثنا علي بن موسى الرضا ـ عليه السلام ـ. قال : حدثنا أبي ، موسى ابن جعفر. قال : حدثنا أبي ، جعفر بن محمد. قال : حدثنا أبي ، محمد بن علي قال : حدثنا أبى ، علي بن الحسين. قال : حدثنا أبي ، الحسين بن علي ـ عليهم السلام ـ قال : كان علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ بالكوفة في مسجد (٢) الجامع ، إذ قام اليه ، رجل من أهل الشام. فقال : يا أمير المؤمنين! اني أسألك عن أشياء.
فقال : سل تفقّها. ولا تسأل تعنّتا.
فأحدق الناس بأبصارهم.
فقال : أخبرني عن أول ما خلق الله ـ تبارك وتعالى ـ.
فقال : خلق النور.
قال : فمم خلقت السماوات؟
قال : من بخار الماء.
قال : فمم خلقت الأرض؟
قال : من زبد الماء.
قال : فمم خلقت الجبال؟
قال : من الأمواج.
قال : فلم سميت مكة أم القرى؟
قال : لأن الأرض دحيت من تحتها.
__________________
(١) المصدر : ور القاسم.
(٢) ليس في المصدر.
وسأله عن السماء الدنيا ، مما هي؟
قال : من موج مكفوف.
وسأله عن طول الشمس والقمر وعرضهما.
قال : تسعمائة فرسخ ، في تسعمائة فرسخ.
وسأله كم طول الكوكب وعرضه؟
قال : اثنا عشر فرسخا ، في اثني عشر فرسخا (١).
وسأله عن ألوان السماوات السبع وأسمائها.
فقال : له اسم سماء الدنيا ، رفيع (٢). وهي من ماء ودخان. واسم السماء الثانية ، قيدوم (٣). وهي على لون النحاس. والسماء الثالثة ، اسمها المأروم (٤).
وهي على لون الشبه. والسماء الرابعة ، اسمها أرفلون. وهي على لون الفضة.
والسماء الخامسة ، اسمها هيعون. وهي على لون الذهب. والسماء السادسة ، اسمها عروس ، وهي من (٥) ياقوتة خضراء. والسماء السابعة ، اسمها عجماء. وهي درة بيضاء.
والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة] (٦).
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)) :
اعتراض لبيان أن خلق السموات ، على سبيل الأحكام وخلق ما في الأرض ،
__________________
(١) المصدر : في مثلها.
(٢) الأصل ور : رقيع. وما في المتن ، موافق المصدر.
(٣) كذا في المصدر وفي الأصل ور : قيدم. وفي تفسير نور الثقلين ١ / ٤٨ :قيذوم.
(٤) كذا في المصدر. وفي الأصل ور : المأدوم.
(٥) «من» ، ليس في المصدر.
(٦) ما بين القوسين ليس في أ.
على حسب حاجات أهلها. لأن علمه الكامل ، برهان لمي ، على تحقق الإتقان ، في أفعاله. وظهور الإتقان فيها ، دليل اني ، على اثبات علمه.
وقد روى الصدوق ، في عيون أخبار الرضا (١) ، بإسناده ، عن الحسن العسكري عن أبيه ، عن آبائه ، عن الحسين ـ عليهم السلام ـ. قال : قال امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في هذه الاية (٢) ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، لتعتبروا ولتتوصلوا به الى رضوانه. وتتوقوا به من عذاب نيرانه. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ).
أخذ في خلقها وإتقانها. (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). ولعلمه بكل شيء ، علم بالمصالح (٣). وخلق (٤) لكم ، كل ما في الأرض ، لمصالحكم ، يا بني آدم (٥).
وقد سكّن نافع وأبو عمرو والكسائي ، «الهاء» ، من نحو «فهو». و «وهو» ، تشبيها له بعضد.
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) :
تعداد ، لنعمة ثالثة ، تعم الناس (٦) ، كلهم. فان خلق آدم وإكرامه ، انعام يعم ذريته.
و «إذ» ظرف ، وضع لزمان عين ، بإضافته الى نسبة واقعة ، في الزمان الماضي ، كما أن «إذا» موضوع لزمان عين ، بإضافته الى نسبة واقعة ، في الزمان
__________________
(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٢ ، ح ٢٩.
(٢) أ : في قول الله عز وجل.
(٣) المصدر : علم المصالح. أ : علم بالصالح.
(٤) المصدر : فخلق.
(٥) الأصل ور يا بن آدم.
(٦) أ : نعم.
المستقبل. ولهذا وجبت اضافتهما الى الجملة. والغالب ، ظرفيتهما ، لنسبة أخرى مثلهما. وقد يستعمل «إذ» اسما من غير ظرفية ، كما وقع مفعولا به ، في قوله (١) : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً ، فَكَثَّرَكُمْ). وبنيتا تشبيها ، بالموصولات.
فإذ ، في الاية ، منصوب المحل ، بتقدير : اذكر ، أو اذكر الحادث ، أو بقالوا ، أو بمضمر. دل عليه مضمون الاية المتقدمة ، مثل : وبدأ خلقكم ، إذ قال. وعلى هذا ، فالجملة معطوفة ، على (خَلَقَ لَكُمْ) ، داخلة في حكم الصلة.
وقيل : انه مزيد (٢). والقول الحكاية ، نحو قولك : قال زيد : خرج عمرو (٣).
ويتعدى أبدا الى مفعول واحد. ويكون جملة ، أو ما يحكى معناها ، الا إذا ولي حرف الاستفهام. ولم ينفصل عنه ، بغير ظرف. أو كظرف ، أو معمول. فانه حينئذ ، ينصب مفعولين ، كظن ، الا عند سليم. فإنهم ينصبون به مفعولين وان لم يلي الاستفهام.
(لِلْمَلائِكَةِ) :
جمع ملئك ، على الأصل. فان أصل «ملك» ، ملائك ، كالشمائل ، جمع شمأل. واشتقاقه من م ـ ل ـ ك ، بزيادة الهمزة ، لدورانها ، مع الشدة والقوة.
ومعنى الشدة والقوة ، يعم الملائكة ـ عليهم السلام ـ كلهم. والدليل عليه ، قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، لا يَفْتُرُونَ) (٤).
وان الله ، جعلهم وسائط معظم ما يظهره ، في هذا العالم.
__________________
(١) الاعراف / ٨٦.
(٢) أنوار التنزيل ١ / ٤٤.
(٣) مجمع البيان ١ / ٧٢.
(٤) الأنبياء / ٢٠.
أو من الألوك والألوكة ـ بفتح الهمزة ـ ، بمعنى الرسالة. فالميم زائدة.
وفيما بين العين والفاء ، قلب. والأصل ، مألك ، على أنه موضع الرسالة.
أو مصدر ، بمعنى المفعول. فعلى هذا يكون إطلاقه عليهم ، باعتبار بعضهم.
لأن معنى الرسالة ، لا يعم كلهم ، لقوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (١).
وأما قوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٢) ، فمخصوص جمعا بين الآيتين.
وقيل : قد جاء لاك بمعنى أرسل (٣) ، فلا قلب.
و «التاء» ، اما لتأنيث الجمع. فان الجمع مؤنث ، بتأويل الجماعة. أو لتأكيد تأنيث الجمع. أو لتأكيد معنى الجمع ، كما في علامة ونسابة.
واختلف العلماء ، في حقيقتهم ، بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها. فذهب أكثر المسلمين ، الى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل ، كانوا يرونهم كذلك. وهو الحق.
وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان.
وقال الحكماء : انها هي العقول منقسمة الى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله ، فقال : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٤). وهم العليون. والملائكة المقربون.
وقسم ، تدبر الأمر ، من السماء الى الأرض ، على ما سبق به القضاء وجرى
__________________
(١) الحج / ٧٥.
(٢) فاطر / ١.
(٣) مجمع البيان / ٧٣ ، البحر المحيط / ١٣٧١.
(٤) الأنبياء / ٢٠.