تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩

والدراهم ، عند أهل الحجاز. والا فأي العوضين ، تصورته (١) بصورة الثمن فباذله مشتر وآخذه بائع ، ثم استعير للأعراض عما في يده ، محصلا به غيره. سواء كان من المعاني ، أو الأعيان. ثم اتسع فاستعمل للرغبة عن الشيء ، طمعا في غيره.

فان اكتفى بجعل الطرفين ، أعم من أن يكون الأعيان ، أو المعاني ، أو مختلفين.

وبقي الاستبدال ، محفوظا. والاستبدال ، موقوف على تملك ما هو ، كالثمن.

فاحتيج في اشتراء الضلالة بالهدى ، الى أن نزل التمكن ، من الهدى ، بحسب الفطرة ، منزلة تملّكه. فيكون التجوّز ، في نسبة الهدى بالتملك اليهم ، لا في نفسه.

أو أريد «بالهدى» ، ما جبلوا عليه ، من تمكنهم منه. وهو فطرة الله التي ، فطر الناس عليها. فيكون التجوز ، في نفس الهدى ، لا في نسبته اليهم ، بالتملك.

فان التمكن من الهدى ، ثابت لهم من غير تجوز. وان لم يبق الاستبدال ، أيضا ، محفوظا كما إذا استعمل للرغبة عن الشيء ، طمعا في غيره ، فلا حاجة الى ذلك التنزيل ، أو التجوز.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) : وقرأ ابن عبلة ، «تجاراتهم» ، بصيغة الجمع.

وذكر الربح ، ترشيح للمجاز الواقع ، في كلمة «اشترى». وهو أن يقرن بالمجاز ، ما يلائم المعنى الحقيقي ، فانه لما استعمل الاشتراء ، في معاملتهم ، أتبعه بما يشاكله ، تمثيلا ، لخسارتهم.

والمعنى ضرت تجارتهم. لأن عدم الربح وان كان أعم من الخسران ، لوجود الواسطة بينهما ، لكن المقام ، يخصه به. لان المقصود ، ذم المنافقين. والذم في الخسران ، آكد من عدم الربح. وانما عبر عن الخسران ، بنفي الربح ، للتصريح أولا ، بانتفاء ما هو مقصود من التجارة والدلالة ثانيا ، على اثبات ضده ، والافادة ثالثا ، المبالغة بأن نفي الربح بالبيع والشرى.

__________________

(١) أ : بصورته.

٢٠١

والربح ، الفضل على رأس المال. واسناده الى التجارة ، نفيا واثباتا ، لتلبسه بالتجارة ، مجاز عقلي. وهو اسناد شيء الى غير ما هو له ، نفيا أو اثباتا. كما أن الحقيقة العقلية ، اسناده الى ما هو (١) كذلك. لكن في الحقيقة ، فالموجبة (٢) ، صادقة والسالبة ، كاذبة. وفي المجاز ، بالعكس. فلا حاجة في كونه من المجاز العقلي ، الى تأويل ما ربحت ، بخسرت. ولا الى أن يفرق بين اسناد النفي ونفي الاسناد. هكذا قيل. وفيه نظر ، يعرف بالتأمل والتحقيق ، ما ذكره السكاكي ، من أن المراد بالتجارة المشترون ، مجازا والاسناد ، حقيقة. فتأمل! (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)) : عطف على (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ، أي : ما كانوا مهتدين لطرق التجارة. فحذف المفعول ، لدلالة الكلام عليه.

وليمكّن ، حمله على العموم. وان اشتمل على تكرار «ما» ، فالحمل على الأول ، أولى. لأنه لما وصفوا بالخسارة ، في هذه التجارة ، أشير الى عدم اهتدائهم لطرق التجارة ، كما يهتدي اليه التجار البصراء ، بالأمور التي ، يربح فيها ويخسر.

فهو راجع الى الترشيح.

ويحتمل عطفه على «اشتروا». بل هو أولى. لأن عطفه على «ما ربحت» يوجب ترتّبه على ما تقدم «بالفاء». فيلزم تأخره عنه. لكن الأمر ، بالعكس.

ويحتمل أن يكون حالا ، من فاعل «اشتروا» ، أو «ربحت» ، أو ضمير «تجارتهم». وانما حكم بانتفاء الربح ، عن تجارتهم وعدم اهتدائهم لطرق التجارة لأن مقصود التجار منها ، سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء قد أضاعوا رأس المال. فكيف يفوزون بالربح الذي هو الفضل عليه؟

__________________

(١) أ : ما هو له.

(٢) أ : الموجبة.

٢٠٢

وروي (في تفسير أبي محمد العسكري ـ عليه السلام ـ (١) عن موسى بن جعفر ما معناه :) (٢) انه حضر قوم عند رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وقالوا : سبحان الرازق! كان فلان في ضنك وشدة ، فسافر ببضاعة جماعة. وربح الواحدة ، عشرة. فهو اليوم من مياسير أهل المدينة.

وقال جماعة أخرى بحضرته : ان فلانا كان في سعة ودعة وكثرة مال ، فسافر في البحر. فغرقت سفينته. وتلفت أمواله. ونجى بنفسه ، في كمال الفقر والفاقة والحيرة.

فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : ألا أخبركم بالأحسن من الأول والأسوء من الثاني (٣)؟

فقالوا : بلى ، يا رسول الله! فقال : أما الأول ، فرجل اعتقد في علي بن أبي طالب ، ما يجب اعتقاده ، من كونه وصي رسول الله وأخاه ووليه وخليفته ومفروض الطاعة. فشكر له ربه ونبيه ووصي نبيه. فجمع الله له بذلك خير الدنيا والاخرة. فكانت تجارته ، أربح وغنيمته أكثر وأعظم.

وأما الثاني ، فرجل أعطى عليا بيعته. وأظهر له موافقته. ثم نكث بعد ذلك.

وخالفه. ووالى أعداءه. فختم له سوء أعماله. فصار الى عذاب لا يبيد ولا ينفد (٤).

ذلك هو الخسران المبين.

قال بعض الفضلاء : ان تأويل الاية ، بالاشارة الى بطن من بطونها ، أن يقال :

__________________

(١) تفسير العسكري / ٦٢ ، مع اختلاف كثير في الألفاظ.

(٢) ما بين القوسين ليس في أ.

(٣) المصدر : الثاني حالا.

(٤) ر : لا ينفذ.

٢٠٣

«أولئك» المتوسمون بالايمان الرسمي ، هم الذين اشتروا ضلالة» ظلمة جحدانياتهم ، «بهدى» نور استعدادهم الفطري ، لكشف حقائق التوحيد الحقيقي.

واختاروها عليه. فما ربحت تجارتهم هذه. لأنهم أضاعوا رأس مالهم ، الذي هو هدى ذوي الاستعداد. فكيف تربح تجارتهم ، بعد اضاعتهم إياه. «و» الحال أنهم ما كانوا مهتدين ، لطرق تلك التجارة ، سالكين سبيل الفوز بها ، على وجه ، يربحون ولا يخسرون.

(مَثَلُهُمْ) :

لمّا بيّن حقيقة صفة المنافقين ، أراد أن يكشف عنها ، كشفا (١) تاما. ويبرزها في معرض المحسوس المشاهد. ففيها يضرب المثل ، مبالغة في البيان. ولأمر ما ، أكثر الله في كتبه الأمثال. وكثر في كلام الأنبياء والحكماء ومن سور الإنجيل ، سورة الأمثال.

و «المثل» في الأصل ، بمعنى ، المثل. وهو النظير. يقال : مثل ومثل ومثيل.

كشبه وشبه وشبيه.

ثم قيل : مثل للقول السائر. ويعتبر فيه أن يكون تشبيها تمثيليا ، على سبيل الاستعارة. ومن ثم حوفظ عليه. ولم يغير. فيكون بعينه لفظ المشبه به. فان وقع تغيير ، لم يكن مثلا. بل هو مأخوذ منه واشارة اليه. كما في قولك : بالصيف ضيّعت اللبن ـ بالفتح.

وقيل : لم يغير ، لأنه ينبغي أن يكون فيه ، غرابة من بعض الوجوه. فلو غير ، لربما انتفت تلك الغرابة. وانما سمي مثلا ، لأنه جعل مضربه. وهو ما يضرب فيه ، ثانيا مثلا ، لمورده. وهو ما ورد فيه ـ أولا ـ ثم استعير لكل حال ، أو قصة ، أو صفة

__________________

(١) ليس في أ.

٢٠٤

لها بيان. وفيها غرابة. ويمكن حمله هناك على كل واحد من تلك المعاني.

(كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) :

معناه ، حالهم العجيبة الشأن ، كحال من استوقد نارا.

و «الذي» ، بمعنى الذين. كما في قوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) ، ان جعل مرجع الضمير ، في «بنورهم». وانما جاز ذلك. ولم يجز (١) وضع القائم ، موضع القائمين. لأنه غير مقصود بالوصف. بل الجملة التي هي صلته ، وهو وصلة الى وصف المعرفة ، بجملة موصولة بها. ولأنه ليس باسم تام ، بل هو كالجزء منه.

فحقه أن لا يجمع ، كما لا يجمع أخواتها. ويستوي فيه الواحد والجمع. وليس «الذين» جمعه المصحح ، بل ذو زيادة ، زيدت لزيادة المعنى. ولذلك جاء بالياء ـ أبدا ـ على اللغة الفصيحة ، التي جاء التنزيل عليها.

ولكونه مستطالا بصلته ، استحق التخفيف. ولذلك بولغ فيه. فحذف ياؤه ثم كسرته ، ثم اقتصر على اللام ، في أسماء الفاعلين والمفعولين. أو قصد به ، جنس المستوقدين. أو الفوج الذي استوقد. وان لم يجعل مرجعا لذلك الضمير. فلا حاجة الى ذلك. لأن المقصود ، تشبيه الحال بالحال. وهما متطابقتان. الا أن يقصد رعاية المطابقة ، بين الحالين ، في كونهما بالواحد ، أو الجماعة ـ أيضا ـ.

فان المماثلة ، حينئذ ، أقوى. والتشبيه الى القبول ، أقرب.

و «الاستيقاد» ، طلب الوقود. والسعي في تحصيله. وهو سطوع النار.

وارتفاع لهبها.

واشتقاق «النار» من نار ينور ، إذا نفر. لأن فيها حركة واضطرابا. و «النور» مشتق منها. فان الحركة والاضطراب ، يوجد في النار ، أو لا وبالذات ، وفي نورها

__________________

(١) أ : ولم يخبر.

٢٠٥

ثانيا وبالعرض. فاشتقاق «النور» منها ، أولى من اشتقاقه منه (١).

(فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) : عطف على الصلة. فيكون التشبيه ، بحال المستوقد الموصوف بمضمون الشرطية. أعني ، لمّا مع جوابه.

و «لما» ، تدل على وقوع الشيء ، لوقوع غيره ، بمعنى الظرف. والعامل فيه ، جوابه.

و «الاضاءة» ، فرط الانارة. كما أن الضوء ، فرط النور. ومصداق ذلك ، قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (٢).

ويناسبه ، ما اصطلح عليه الحكماء ، من أن الضوء ، ما يكون للشيء ، من ذاته ، كما للشمس. والنور ما يكون من غيره ، كما للقمر.

«وأضاء» ، في الاية :

اما متعد. فيكون «ما حوله» ، مفعولا به ، أي : جعلت النار ما حول المستوقد مضيئا.

واما لازم. فيكون مسند الى «ما حوله» ، أي : صارت الأماكن والأشياء التي حوله ، مضيئة بالنار. أو الى ضمير «النار».

حينئذ ، اما أن يكون كلمة «ما» زائدة و «حوله» ، ظرفا لغوا «لأضاءت».

واما موصولة ، وقعت عبارة عن الأمكنة. فيكون مع صلتها ، مفعولا فيه «لأضاءت».

ويرد على الأول ، ان اضاءة النار ، حول المستوقد ، يقتضي دورانها حوله.

وهو (٣) خلاف المعهود.

__________________

(١) ر : اشتقاقها.

(٢) يونس / ٥.

(٣) ليس في أ.

٢٠٦

وأجيب بأن المراد ، دوران ضوئها. لكنه (١) جعل دوران الضوء ، بمنزلة دوران النار ، اسناد الى السبب.

وعلى الثاني ، بأنه (٢) كان ينبغي أن يصرح بكلمة «في». لأن حذفها في لفظ مكان انما ، كان (٣) لكثرة الاستعمال ولا كثرة في الموصول الذي عبّر به عن الأمكنة.

اللهم الا أن يحمل ، على أنه من قبيل عسل الطريق الثعلب. وعلى هذا التوجيه ، يلزم دوران مكان النار. وهو لا يستدعي استيعاب النار ، جميعه. بل بعضه (٤).

و «حوله» ، نصب على الظرفية.

وتأليف حروفه على هذا الترتيب ، للدوران والاطافة.

وقيل (٥) : للعام حول لأنه يدور.

ومنه ، حال الشيء واستحال ، إذا تغير. وحال الإنسان. وهي عوارضه التي تتغير عليه. والحوالة (٦) وهي اسم من أحال عليه ، بدينه.

(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) : جواب «لما». كما هو الظاهر.

وفيه مانعان ، لفظي ومعنوي :

الأول : توحيد الضمير ، في استوقد وحوله وجمعه في «بنورهم».

والثاني : ان المستوقد ، لم يفعل ما يستحق به ، اذهاب نوره. بخلاف المنافق.

فجعله جوابا غير مناسب.

__________________

(١) ر : لكنها.

(٢) أ : أنه.

(٣) ليس في أ.

(٤) أ : بقصد.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٢٧.

(٦) ليس في ر.

٢٠٧

والجواب عن الأول : ان توحيد الضمير ، بالنظر الى لفظ الموصول. وجمعه بالنظر الى معناه ، على أحد الوجوه المذكورة فيما سبق.

وعن الثاني : انه يمكن أن يكون ، اذهاب نوره ، بسبب سماوي ، ريح أو مطر. لا بسبب فعل المستوقد. ولذلك أسند الى الله سبحانه. أو يكون المراد بالمستوقد ، مستوقد نار ، لا يرضى (١) بها الله. كما أوقدها الغواة ، ليتوصلوا بالاستضاءة بها ، الى بعض المعاصي. فأطفاها الله.

ويحتمل أن يكون جواب «لما» محذوفا (٢). وقوله : (ذَهَبَ اللهُ) ـ الى آخره ـ استئنافا.

والمصحح لهذا الحذف ، قرينة المقام ، والمرجح المبالغة ، في سوء حال المستوقد ، بإيهام أن الجواب ، مما يقصر العبارة عنه.

وتقدير الاستئناف ، أنه لما شبهت حالهم ، بحال المستوقد الذي خمده ناره سأل سائل. وقال : ما بالهم قد شبهت حالهم ، بحال هذا المستوقد.

فقيل له : ذهب الله بنورهم.

وحينئذ ، يكون ضمير الجماعة للمنافقين. ويحتمل أن يكون بدلا من الجملة التمثيلية وبيانا له. كأنه قيل : كمثل الذي ذهب الله بنورهم. وحينئذ يكون مرجع الضمير (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) ، على أحد الوجوه التي سبقت.

وانما قال : «بنورهم». ولم يقل : «بنارهم». لأنه المقصود من إيقادها.

ولم يقل : «بضوئهم». كما هو مقتضى اللفظ. لأن في «الضوء» ، دلالة على الزيادة.

فلو علق الذهاب به ، لأوهم الذهاب بالزيادة. وبقاء ما يسمى نورا. والمقصود ازالة النور عنهم ، رأسا.

__________________

(١) أ : يوضئها.

(٢) أ : محذوف.

٢٠٨

وانما اختير ـ أولا ـ «أضاءت» على «أنارت» ، تنبيها على مزيد الحيرة والخيبة ، واشعارا بالبطلان ، لما تقرر في الأذهان ، من قوة أمر الباطل ، في بدء الحال واضمحلاله سريعا ، في المآل.

وانما قال : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ). ولم يقل : «أذهب الله نورهم» ـ كما قرأ بعضهم ـ لأن معنى «أذهبه» ، أزاله ، وجعله ذاهبا. ويقال : ذهب به ، إذا استصحبه.

ومعنى «به» ، معه. فان «الباء» وان كانت للتعدية ، كالهمزة. الا أن فيها معنى المصاحبة واللصوق. وذهب السلطان بماله ، أخذه. فالمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه.

وما يمسك (١) ، فلا مرسل له. وهو أبلغ من الاذهاب. لما فيه من معنى الأخذ والإمساك. أما الأخذ ، فظاهر. وأما الإمساك ، فلما يقتضيه المصاحبة واللصوق.

قال بعض الفضلاء : وعند العارفين ، النكتة فيه ، غير ما ذكر ، فان مجيء الله سبحانه بالنور ، ليس الا بتجلّيه (٢) باسم النور ، على المتجلى له. فهو عند تجليه بالنور ، متلبس به ، غير منفصل (٣) عنه. وكذلك ذهابه بالنور. ليس الا متعلقا دون هذا التجلي. فهو يذهب مكتسبا بالنور ، لا منفصلا عنه. فهو المتلبس بالنور ، في الحالين. بل هو النور في العلم. (والعين لا) (٤) نور سواه. ثم أكد ذلك. وقرره بقوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)) : ففيه زيادة على ما يدل عليه ، اذهاب نورهم ، من وقوعهم في الظلمة ، كمّا وكيفا. اما كمّا ، فلما (في الظلمات

__________________

(١) أ : يماسك.

(٢) أ : يتجليه.

(٣) ر : منفعل.

(٤) ما بين القوسين ليس في أ.

٢٠٩

من) (١) الجمعية. واما كيفا ، فلما فيها من تنوين التعظيم ، واردافها بقوله «لا يبصرون».

فانه يدل على أنها بحيث لا يتراءى ، فيها شبحان.

و «الظلمة» ، عدم النور ـ مطلقا ـ وقيل : عما (٢) من شأنه ذلك. وقال بعض (٣) المتكلمين : وهي عرض ، ينافي النور.

فعلى الأول ، التقابل بينهما ، تقابل الإيجاب والسلب.

وعلى الثاني ، تقابل العدم والملكة.

وعلى الثالث ، (تقابل التضاد.) (٤) وهي مأخوذة من قولهم : ما ظلمك ان تفعل كذا ، أي : ما منعك. لأنها تسد البصر. وتمنع الرؤية.

وقرئ في ظلمة ـ بالتوحيد ـ وتوحيدها ، ظاهرا.

وأما جمعها : فباعتبار انضمام ظلمة الليل ، الى ظلمتي الغمام. وتطبيقه ، مثلا هذا ، على (٥) تقدير أن يكون ضمير الجماعة ، كناية عن المستوقدين. كما هو الظاهر.

وأما إذا كان كناية عن المنافقين ، فقيل : ظلماتهم ، ظلمة الكفر. وظلمة النفاق.

وظلمة يوم القيامة. أو ظلمة الضلال. وظلمة سخط الله. وظلمة العقاب السرمدي.

وقيل : المراد بها ، على التقديرين ، ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة (٦).

فيكون الجمعية ـ أيضا ـ لزيادتها في الكيف.

وقوله (٧) «لا يبصرون» ، نزل منزلة اللازم. وقطع النظر ، عن مفعوله المتروك.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في أ.

(٢) أ : ما.

(٣) أ : من.

(٤) ما بين القوسين ليس في أ.

(٥) أ : على هذا.

(٦) ر. أنوار التنزيل ١ / ٢٨.

(٧) ليس في أ

٢١٠

وقصد الى نفس الفعل ، كأنه قيل : ليس لهم أبصار.

وهو أبلغ من أن يقدر المفعول. أي لا يبصرون شيئا. لأن الأول يستلزم الثاني.

دون العكس.

و «ترك» ، في الأصل ، بمعنى ، خلى وطرح. وله مفعول واحد. وقد يضمن معنى صيّر. فيقتضي مفعولين. فعلى هذا ، قوله «في ظلمات» ، مفعوله الثاني.

وقوله «لا يبصرون» ، حال من مفعوله الأول.

ويحتمل أن يترك على معناه الأصلي. ويكون (فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) حالين مترادفين. أو متداخلين.

وفي آخر روضة الكافي (١) : بإسناده ، عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ في تفسير الاية ، ما مضمونه : انه أضاءت الأرض بنور محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تضيء الشمس. فلما قبض الله محمدا ، ظهرت الظلمة. فلم يبصروا فضل أهل بيته ـ عليهم السلام ـ.

وفي عيون الأخبار (٢) : بإسناده الى ابراهيم بن أبي محمود ، قال : سألت أبا الحسن الرضا ـ عليه السلام ـ عن قول الله تبارك وتعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

فقال : ان الله تعالى لا يوصف بالترك ، كما يوصف خلقه. ولكنهم (٣) متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة (٤) ، منعهم المعاونة واللطف. وخلى بينهم وبين اختيارهم.

__________________

(١) الكافي ٨ / ٣٧٩.

(٢) عيون الاخبار ١ / ١٢٣.

(٣) المصدر : لكنه.

(٤) المصدر : الضلال.

٢١١

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) : خبر مبتدأ محذوف. والضمير المحذوف ، ان كان كناية عن المستوقدين ـ فإطلاق هذه الصفات عليهم ، على سبيل الحقيقة.

والمعنى ، أنهم أوقدوا نارا ، ذهب الله بنورهم. وتركهم في ظلمات هائلة.

أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم. وانتقصت قواهم. فصاروا صما بكما عميا.

وان كان عبارة عن المنافقين ، فاطلاقها عليهم ، على طريقة التشبيه. لأنهم لما سدوا آذانهم ، عن إصغاء الحق وألسنتهم ، عن النطق به وأبصارهم ، عن مشاهدة آياته ، جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم. وانتفت لا على سبيل الاستعارة ، إذ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له ، أي : لا يكون مذكورا على وجه ، ينبئ عن التشبيه.

وهو أن يكون بين طرفيه حمل ، أو (١) ما في معناه. كذا في الكشاف (٢).

قيل : وهنا بحث. وهو أنه لا نزاع في أن تقدير الاية ، هم صم. لكن مع ذلك ، ليس المستعار له ، مذكورا هاهنا. لأنه أحوال مشاعر المنافقين وحواسهم.

لا ذواتهم. ففي هذه الصفات ، استعارة تبعية مصرحة. لأنها استعير مصادرها ، لتلك الأحوال. ثم اشتقت هي ، منها.

أقول : فعلى هذا ، الصم ، جمع الأصم. والبكم ، جمع الأبكم. والعمي ، جمع الأعمى. وقد صرح به ، بعض أهل اللغة. فحينئذ ، ما ذكره بعض المفسرين ، من أن الحمل على سبيل المبالغة ، في غاية السقوط.

وغاية ما يتكلف ، عما في الكشاف أن يقال : تشبيه ذوات المنافقين ، بذوات الأشخاص الصم ، متفرع على تشبيه حالهم ، بالصم. لكن القصد الى اثبات هذا الفرع ، أقوى وأبلغ اشارة ، الى أن المشابهة بين الحالين ، قويت ، حتى كأنها تعدت الى الذاتين. فحمل الاية على هذا التشبيه ، انما هو لرعاية المبالغة ، في

__________________

(١) أ : وما.

(٢) الكشاف ١ / ٧٥.

٢١٢

اثبات الآفة (١). والا فمقتضى ظاهر الصناعة الحمل ، على الاستعارة ، بتبعية المصادر.

وقرئ في الكل ، بالنصب ، على الحال ، من مفعول «تركهم».

و «الصمم» ، الانسداد. تقول : قناة صماء ، إذا لم تكن مجوّفة. وصممت القارورة ، إذا سددتها. والصمّام ، لما تسدها به. فالأصم ، من انسدت سامعته.

فلا يدخلها هواء ، يسمع الصوت ، بتموّجه.

و «البكم» ، الخرس.

والعمى ، عدم البصر ، عما من شأنه ، أن يبصر. وقد استعير لعدم البصيرة.

(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)) :

يقال : رجع عن كذا الى كذا. فالمعنى ، انهم لا يرجعون عن الضلالة التي اشتروها ، الى الهدى الذي باعوه.

فيندفع ما قاله بعض المفسرين من ، أن المراد به (٢) ، لا يرجعون الى الهدى.

أو عن الضلالة.

وليعلم أن توضيح تمثيل المنافقين ، بالمستوقدين الموصوفين بما ذكر ، وتشبيه حالهم العجيبة ، بحالهم ، موقوف على تحقيق طرفي التشبيه ، ووجه الشبه.

فنقول : أما المشبه به ، فهو صفة المستوقدين نارا ، كلما أضاءت ما حولهم ، من الأماكن والأشياء ، أذهب الله (٣) نورهم ، عند الإضاءة. وأمسكه. وتركهم في ظلمات متعددة شديدة. أدهشتهم بحيث اختلت مشاعرهم وقواهم. فهم لا يقدرون على الرجوع ، الى ما كانوا عليه ، من قبل.

وأما المشبه : فهو صفة المنافقين الذين اظهارهم الايمان باللسان ، بمنزلة إيقاد النار العظيمة وانتفاعهم به ، بسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك ، كإضاءتها

__________________

(١) أ : الاية.

(٢ و ٣) ليس في أ.

٢١٣

ما حولهم. وزوال ذلك الاستنفاع عنهم ، على القرب باهلاكهم ، أو افشاء نفاقهم (١) ، على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ هو ذهاب نورهم ، وإلقاؤهم في أحيان ظهور النفاق ، والوعيد بالعذاب السرمد. أو الوقوع فيه ، على مراتبه تركهم ، في الظلمات المتعددة الشديدة. وعدم استعمالهم قواهم فيما خلقت له ، بمنزلة اخلالها.

ورسوخهم وتمكنهم فيما أوقعهم فيه ، بما يخالف فطرتهم ، كعدم القدرة من المستوقدين على الرجوع الى ما كانوا عليه.

وأما وجه الشبه : فان اعتبرته بين مفردين ، من مفردات طرفي التشبيه ، كما سبقت الاشارة اليه ، فذلك من قبيل التشبيه المفرد. وهو أن تأخذ أشياء ، فرادى.

فتشبهها بأمثالها كقوله :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العناب والخشف البالي (٢)

وان اعتبرته بأن تنزع من مفردات أحد الطرفين ، هيئة اجتماعية وحدانية وشبهتها بهيئة انتزعتها من مفردات الطرف الآخر ، من غير ملاحظة تفاصيل مفردات الطرفين ومشابهة بعضها مع بعض ، فذلك من قبيل التشبيه المركب المسمى عند أرباب البيان ، بالتمثيل. وهو الذي يهتم به أرباب البلاغة.

وكل كلام يحتملهما فذكرهم الأول ، احتمال لفظي. ولا مساغ للذهاب الا الى الثاني. وذلك لأنه يحصل في النفس ، من تشبيه الهيئة المركبة ، ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها. ولعبد القاهر (٣) ، كلام مشهور في أن اعتبار التركيب ، في قول الشاعر :

__________________

(١) أ : نفاتهم.

(٢) ر. أنوار التنزيل ١ / ٣١.

(٣) اسرار البلاغة / ١٦٩.

٢١٤

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نشرن (١) على بساط أزرق

أحق وأولى ، وان صح التشبيه بين مفرداته.

(وفي روضة الكافي (٢) : محمد بن يعقوب الكليني ، قال : حدثني علي بن ابراهيم :عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ أنه قال في رسالة طويلة ، الى أصحابه : فان ذلك اللسان ، فيما يكره الله وفيما نهى (٣) عنه مرداة للعبد ، عند الله. ومقت من الله. وصم وعمي وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة فتصيروا (٤) كما قال الله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، يعني : لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون) (٥).

قال بعض الفضلاء : تأويل الاية ، ببعض بطونها ، أن يقال : مثل المتوسمين بالايمان الرسمي ، كمثل المستوقدين الذين سبق ذكرهم ، حيث تنورت بواطنهم ، بارتكاب بعض العبادات ، في بعض الأوقات. فتنبهوا (٦) لما في أنفسهم ، من النقائص (٧) والكمالات. ولم ينفذ فيهم ، ذلك النور ، بحيث يتعدى من معرفة أنفسهم ، الى معرفة ربهم. بل تنقص ببعض الغفلات. فبقوا متروكين في ظلمات حجب انياتهم (٨). لا يبصرون ما في الآفاق وما في أنفسهم ، من لوائح الوحدانية.

__________________

(١) المصدر : نثرن.

(٢) الكافي ٨ / ٤٠٦.

(٣) المصدر : ينهى.

(٤) المصدر : فيصيروا.

(٥) ما بين القوسين ليس في أ.

(٦) أ : فتسبهرا.

(٧) أ : النقايض.

(٨) أ : نياتهم.

٢١٥

فهم صم ، عن سماع ما ينطق به دلائلها بكم. لا يسألونه بلسان استعدادهم. عمي لا يرونه ببصر بصيرتهم. فهم لا يرجعون عما هم فيه ، من أسباب الشقاوة ، الى ما فاتهم من موجبات السعادة.

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) :

ثم ثنى الله سبحانه ، في شأنهم ، بتمثيل آخر ، ليكون تحقيقا لحالهم ، بعد كشف ، وإيضاحا غبّ إيضاح.

وكما يجب على البليغ ، في مظانّ الإجمال والإيجاز ، أن يجمل ويوجز ، فكذلك الواجب عليه ، في موارد التفصيل والاشباع ، أن يفصّل ويشبع.

وهو ، عطف على قوله (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ). أي ، مثلهم كمثل الذي استوقد. أو ، كمثل ذوي صيّب.

وانما قدّر كذلك ، لتعيين مرجع الضمائر الاتية ، وتحصيل كمال الملائمة ، مع المعطوف عليه ومع المشبه ـ أيضا ـ أعني (١) : مثلهم.

وأما نفس التشبيه ، فلا يقتضي تقدير شيء. إذ لا يلزم في التشبيه المركب ، أن يكون ما يلي الكاف ، هو المشبه به. كما في قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، كَماءٍ) (٢).

ومما ثنّي من التمثيل ، في التنزيل ، قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) (٣).

و «أو» ، موضوعة في أصلها للتساوي. ولذلك اشتهرت بأنها كلمة شك.

فتكون مخصوصة بالخبر. ثم استعيرت للتساوي ، في غير الشك. فاستعمل في

__________________

(١) أ : أى.

(٢) يونس / ٢٤.

(٣) فاطر / ٢٠ ـ ٢٣.

٢١٦

غير الخبر ، بالمعنى المجازي ، فقط. كالتساوي في استصواب المجالسة ، في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين. وفي الخبر ، بكلا المعنيين ، أعني ، الحقيقي ، الذي هو الشك والمجازي ، كالتساوي في الاستقلال ، بوجه التمثيل.

كما في هذه الاية. فيستفاد صحة التشبيه ، بكل واحد من هاتين القصتين ، صريحا ، وبهما ، معا ، بالطريق الأولى. وهذا بناء على تبادر معنى الشك ، منه. وهو المفهوم من الكشاف (١).

والمفهوم من المفصل (٢) ، أن كلمة «أو» لأحد الأمرين. ولا شك أن هذا معنى يعم مواردها ، من الإنشاء والاخبار ـ كلها ـ وأما الشك والتشكيك والإبهام والتخيير والاباحة ، فليس شيء منها ، داخلا في مفهومها. بل يستفاد من مواقعها في الكلام.

«والصيّب» ، فيعل من الصوب. وهو فرط الانسكاب والوقوع. يقال على المطر وعلى السحاب. والاية يحتملهما.

وتنكيره ، لأنه أريد به نوع شديد هائل.

وقرئ «كصائب». والأول أبلغ.

و «السماء» ، هو المظلة. أو جهة العلو. وتعريفها للجنس ، للدلالة على أن الصيّب ، منطبق آخذ بآفاق السماء ، كلها. فان كل أفق ككل طبقة منها ، يسمى سماء. فتعريف الجنس من غير قرينة البعضية ، يدل على أنه منطبق آخذ بكلها.

لا يختص بسماء دون سماء.

وفي الدلالة على التطبيق ، أمداد لسائر المبالغات التي في الصيّب ، من جهة

__________________

(١) ر. الكشاف ج ١ ، ضمن ص ٧٨ ـ ٨٢.

(٢) المفصل في النحو : ١٦٦.

٢١٧

مادته الأولى ، أي : الحروف. فان «الصاد» من المستعلية. و «الياء» ، مشددة.

و «الباء» من الشديدة. ومادته الثانية ، أي : الصوب. فانه فرط الانسكاب ـ كما مر.

ومن جهة البناء ، أعني ، الصورة. فان فيعلا صفة مشبهة ، دالة على الثبوت.

ومن جهة التنكير العارض ، لأنه للتهويل والتعظيم. كتنكير النار ، في الاية الأولى.

وإذا أريد «بالصيّب» ، المطر ، فيحتمل أن يراد «بالسماء» ، السحاب.

ويجعل اللام لاستغراق جميع ما يمكن أن يظل قطعة من وجه الأرض. فانه يصلح أن يطلق عليه ، اسم السحاب. وان أريد «بالصيب» ، السحاب ، وبالسماء ـ أيضا ـ.

فالمعنى ، هذا النوع من السحاب. وليس فيه كثير فائدة.

والتمثيل الثاني ، أبلغ ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته.

ولذلك أخّر. وهم يتدرجون في نحو هذا ، من الأهون الى الأغلظ.

(فِيهِ ظُلُماتٌ) : بضم الفاء والعين. وقريء بفتح اللام وسكونه. جمع ظلمة ، بضم الفاء وسكون العين. فاعل الظرف ، لاعتماده على الموصوف. ومن المتفق عليه بينهم ، أن الظرف إذا اعتمد على موصوف ، أو موصول ، أو حرف استفهام ، أو حرف نفي ، فانه يجوز أن يرفع الظاهر ، بخلاف ما إذا لم يعتمد.

فانه لا يجوز إعماله عند سيبويه.

ويجوز في جميع ذلك ، أن الظرف خبر متقدم ، على مبتدئه. فعلى هذا يظهر فساد ما قاله البيضاوي (١) ، من أن ارتفاعها بالظرف ، وفاقا. وان أريد بالصيّب ، المطر ، فظلماته ظلمة (٢) تكاثفه وتتابع قطراته. لان تقارب القطرات ومتابعتها ،

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٢٩.

(٢) أ : ظلمات.

٢١٨

يقتضي قلة الهواء المتخلل المنير.

وظلمة أظلام ، غمامه ، وظلمة الليل المستفادة ، من قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ).

والمراد بها ، ما يتوزع على الأجرام ، من ظلمته. لا ظلمته كلها ، حتى يرد أن المطر في ظلمة ، لا ظلمة الليل فيه. ولا شك أن نسبة الظلمة المتوزعة عليه ، اليه كنسبة العرض الى موضوعه والصفة الى موصوفها. فيصح انتسابها اليه. وان أريد به السحاب فظلماته ، ظلمة سحمته (١). أي ، سواده المسبب عن تراكمه وكثرة مائه.

وظلمة تطبيقه واحاطته بجميع الآفاق وظلمة الليل.

وعلى ما حققناه ، يندفع ما قاله بعض المفسرين من ، أن الظرفية هنا ، باعتبار الملابسة. لأنه يكون بناء عليه انتساب الظرف ، الى مظروفه «بقي» جائزا. وهو غير جائز.

(وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) :

«الرعد» ، من الرعدة ، بالكسر. وهو صوت يسمع من السحاب. وسببها ـ على المشهور ـ اضطراب أجرام السحاب. واصطكاكها ، إذا ساقتها الريح.

«والبرق» ، الأحسن فيه ، أن يكون معطوفا على «رعد». ويكون المجموع معطوفا على «الظلمات» ، بعاطف واحد ، من برق الشيء بريقا ، إذا لمع. وهو ما يلمع من السحاب بواسطة اصطكاكها.

وقيل (٢) : الرعد ، ملك موكل بالسحاب. يسبح.

وقيل (٣) : صوت ملك يزجر السحاب.

وقيل (٤) : هو ريح ، تحتبس تحت السماء.

__________________

(١) أ : سحنه. المتن : سحبته.

(٢) مجمع البيان ١ / ٥٧.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

٢١٩

(وفي مجمع البيان (١) : وقيل : الرعد ، هو ملك موكل بالسحاب. يسبح. وهو (٢) المروي عن أئمتنا ـ عليهم السلام ـ.

وفي من لا يحضره الفقيه (٣) : وقال علي (٤) ـ عليه السلام ـ : الرعد ، صوت الملك. والبرق ، سوطه.

وروي (٥) : ان الرعد ، صوت ملك ، أكبر من الذباب وأصغر من الزنبور.

وسأل أبو بصير (٦) ، أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الرعد ، أي شيء يقول؟

قال : انه بمنزلة الرجل ، يكون في الإبل. فيزجرها ، هاي هاي ، كهيئة ذلك.

قال : قلت : جعلت فداك! فما حال البرق؟

قال (٧) : تلك مخاريق الملائكة تضرب (٨) السحاب. فتسوقه الى الموضع الذي قضى الله ـ عز وجل ـ فيه المطر) (٩).

ولم يجمعا كالظلمات ، لمصدريتهما في الأصل.

ويحتمل أن يكون المراد بهما ، معنييهما المصدريين (١٠) ، أيضا. أعني ، الارعاد

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) المصدر : روى ذلك عن ابن عباس ومجاهد وهو.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٣٤ ، ح ١٠.

(٤) ليس في المصدر. والحديث الذي قبله عن أبى عبد الله عليه السلام.

(٥) نفس المصدر ١ / ٣٣٤ ، ح ١١ وله تتمة.

(٦) نفس المصدر ح ٩.

(٧) المصدر : فقال.

(٨) ر ، المتن : لضرب. وفي المصدر : تضرب.

(٩) ما بين القوسين ليس في أ.

(١٠) أ : المصدرية.

٢٢٠