تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩

يقول (١) : ان عبد الله لقائم.

فقال المبرد : المعاني مختلفة ، فقولهم : عبد الله قائم ، اخبار عن قيامه. وقولهم (٢) ان عبد الله قائم ، جواب عن سؤال سائل. وقولهم : ان عبد الله لقائم ، جواب عن انكار منكر لقيامه.

و «الكفر» لغة ، ستر النعمة. وأصله الكفر ، بالفتح. وهو الستر. ومنه سمي الليل ، كافرا ، لستره الأشياء ، بظلمته والزارع ، كافرا ، لأنه يستر الحب في التراب وكمام الثمرة ، كافورا ، لسترها الثمرة. وفي الشرع ، انكار ما علم بالضرورة ، مجيء الرسول ـ عليه السلام ـ به ، كوجوب الصوم والصلاة والزكاة وغير ذلك.

وانما عد لبس الغيار وشد الزنار ، كفرا. لأنهما تدلان على التكذيب. فان من صدق الرسول ـ عليه السلام ـ لا يتجرأ (٣) عليها. «لا لأنهما» (٤) كفر في أنفسهما واحتجت المعتزلة ، بما جاء في القرآن ، بلفظ الماضي ، على حدوثه ، لاستدعائه سابقة مخبر عنه. وحيث لا يصح الحكم ، على الكافرين ، مطلقا ، باستواء الانذار وتركه ، لتحقق الايمان من بعضهم ، فتعريف الموصول اما للعهد. والمراد به ناس ، بأعيانهم ، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود ، فان هؤلاء وأضرابهم ، أعلام الكفرة. فهم كالحاضرين في الذهن. فإذا أطلق اللفظ التفت الخاطر اليهم. أو لاستغراق الجنس. وهو الشائع في الاستعمال ، اما مطلقا فيستغرق المصرين وغير المصرين. وخص منه غير المصرين ، بقرينة الخبر.

أقول : واما (٥) مقيد بالإصرار بهذه القرينة. فانه ـ أيضا ـ جنس ، فيستغرق أفراد

__________________

(١) المتن ور : تقول.

(٢) أ : قوله.

(٣) أ : لا تجرء.

(٤) أ : لأنها.

(٥) أ : ويحتمل واما.

١٤١

جنس المصرين ، فقط ، أو لبعض أفراد الجنس ، من غير عهد واستغراق. ويكون تعيين المصرين ، بقرينة الخبر.

أقول : ويحتمل أن يكون المراد به ، مالك بن الضيف وكعب بن أشرف وحي بن أخطب «وحدي بن أخطب» (١) تابعي أبي لبابة بن المنذر. يدل على ارادة ذلك ما

روي عن محمد بن علي الباقر ـ عليه السلام ـ (٢) : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه وبينات نبوته كادته اليهود ، أشد كيد. وقصدوه ، أقبح قصد. يقصدون أنواره ليطمسوها وحججه (٣) ليبطلوها. فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه ، مالك بن الضيف وكعب بن أشرف (٤) وحي بن أخطب (٥) وحدي بن أخطب (٦) وأبو لبابة بن عبد المنذر (٧) وشيعته.

فقال مالك لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : يا محمد! تزعم أنك رسول الله؟

«قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ :» (٨) كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين.

قال : يا محمد! لن نؤمن أنك رسوله (٩) ، حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتي. ولن نشهد لك أنك عن الله جئتنا ، حتى يشهد لك هذا البساط.

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) تفسير العسكري / ٤٤ ـ ٤٧.

(٣) أ : حجته.

(٤) المصدر : الأشرف.

(٥) المصدر : الاخطب.

(٦) المصدر : وحدي بن الاخطب وأبو ياسر بن الاخطب.

(٧) المصدر : المندر.

(٨) ليس في أ.

(٩) أ : لرسوله.

١٤٢

وقال أبو لبابه بن عبد المنذر : لن نؤمن لك [يا محمد!] (١) أنك رسول الله. ولا نشهد لك به ، حتى يؤمن لك (٢) ويشهد لك (٣) هذا السوط الذي في يدي.

وقال كعب بن أشرف (٤) : لن نؤمن لك أنك رسول الله. ولن نصدقك به ، حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه.

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : [انه] (٥) ليس للعباد الاقتراح على الله. بل عليهم التسليم لله والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعل (٦) كافيا. أما كفاكم أن نطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم بنبوّتي ودل على صدقي؟

وبيّن فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي في أمتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدي ، علي بن أبي طالب؟ وأنزل عليّ هذا القرآن الباهر ، للخلق أجمعين (٧) ، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله ، وان تكلفوا (٨) شبهه؟ وأما (٩) الذي اقترحتموه ، فلست أقترحه على ربي ـ عز وجل ـ بل أقول : ان ما اعطاني (١٠) ربي ـ عز وجل ـ من دلالة (١١) هو حسبي وحسبكم. فان فعل ـ عز وجل ـ ما اقترحتموه ، فذاك زائد

__________________

(١) يوجد في المصدر.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) المصدر : به هذا.

(٤) المصدر : الأشرف.

(٥) يوجد في المصدر.

(٦) المصدر : جعله.

(٧) المصدر : أجمع.

(٨) أ : تكلفوا.

(٩) المصدر : وأما هذا.

(١٠) المصدر : أعطانيه.

(١١) المصدر : دلالته و.

١٤٣

في تطوّله علينا وعليكم. وان منعنا ذلك فلعلمه (١) بأن الذي فعله ، كاف فيما أراده منا.

قال : فلما فرغ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من كلامه هذا ، أنطق الله البساط.

والحديث طويل ، مضمونه : ان كلّا من البساط والسوط والحمار شهد بالوحدانية والنبوة والولاية. وظهر من كل منها آيات عجيبة. ولم يؤمن أحدهم الا أبو لبابة ، فانه أظهر الإسلام ولم يحسن إسلامه.

ثم قال ـ عليه السلام : فلما انصرف القوم من عند رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولم يؤمنوا ، أنزل الله : يا محمد! (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ)» في العظة (٢) (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ووعظتهم وخوفتهم (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، لا يصدقون بنبوتك وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا فكيف يؤمنون [بك عند قولك ودعائك] (٣).

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) : سواء ، اسم مصدر. بمعنى الاستواء. أجري على ما يتصف بالاستواء ، كما يجرى المصادر ، على ما يتصف بها. وهو مرفوع على أنه خبر «ان».

وقوله (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) ، بتأويل المصدر. مرفوع على الفاعلية ، أي : ان الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو هو مرفوع بالابتداء. وسواء خبره مقدما عليه. والفعل ، انما يمتنع الاخبار عنه ، إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ومطلق الحدث المدلول عليه ـ ضمنا ـ على الاتساع فلا. وانما عدل عنه ، الى الفعل ، لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة.

__________________

(١) أ : فلعله.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) يوجد في المصدر.

١٤٤

قيل : لا يجوز أن يكون «سواء» خبرا. لأن الجملة ، لما كانت مصدرة بالاستفهام ، لا يجوز تقديم ما في حيّزها عليها.

ورد بأن «الهمزة» و «أم» دخلتا عليه ، لتقرير معنى الاستواء وتأكيده. فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام ، لمجرد الاستواء ، كما جردت حرف النداء ، عن الطلب لمجرد التخصيص ، في قولهم : «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» ، بل هو أولى من أن يكون فاعلا ، للاستواء. لأنه لما كان اسما غير صفة ، فالأصل أن لا يعمل.

وإذا جعله بمعنى اسم الفاعل ، فأتت المبالغة المقصودة ، من الوصف بالمصادر ووجه افراده على الأول ، ظاهر. وعلى الثاني ، لجهة مصدريته. ولما كان الاستواء المستفاد ، من الحرفين ، غير الاستواء المفهوم من سواء ، فلا تكرار.

وذهب بعض النحاة الى أن «سواء» مثل هذا المقام ، خبر مبتدأ محذوف أي ، الأمران سواء عليهم.

وان الهمزة بما بعدها ، بيان للأمرين. والفعلان في معنى الشرط ، على أن يكون الهمزة ، بمعنى أن الشائع استعمالها ، في غير المتيقن.

و «أم» بمعنى «أو» لأن كليهما ، لأحد الأمرين.

والجملة ، الاسمية ، أعني (١) ، الأمران سواء دالة على الجزاء. فعلى هذا يكون ، خبر «ان» ، هو الجملة الشرطية. والمعنى : ان الذين كفروا ان أنذرت أو لم تنذر ، فهما سواء عليهم.

و «عليهم» ، متعلق بالاستواء.

و «الانذار» ، التخويف. أريد به التخويف من عقاب الله. وانما اقتصر (٢) عليه ، دون البشارة ، لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس ، من حيث أن

__________________

(١) ر : يعنى.

(٢) أ : اقتصرت.

١٤٥

دفع الضر ، أهم من جلب النفع. فإذا لم ينفع فيهم ، كانت البشارة بعدم النفع أولى.

وقرئء أنذرتهم ، بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية. بين بين وقلبها ألفا.

وهو لحن. لأن المتحركة لا تقلب. ولأنه يؤدي الى التقاء الساكنين على غير حده.

وبتوسيط ألف بينهما ، محققتين وبتوسيطها. والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.

(لا يُؤْمِنُونَ) ، تأكيد أو بيان ، للجملة التي قبلها ، أعني : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ). وحينئذ يكون محله الرفع ، ان جعل ما قبله جملة من مبتدأ وخبر لا صفة مع الفاعل. فانه على هذا التقدير لم يكن لقوله «يؤمنون» ، محل ، أو خبر بعد خبر ، أو جملة مستأنفة ، أو حال من مفعول «أنذرتهم». قيل : أو خبر.

وقوله «سواء» ـ الخ ، اعتراض بين المبتدأ والخبر.

ورد بأن الاخبار عن المصرين على الكفر ، بعدم الايمان لا فائدة فيه. واحتجت المجوّزة لتكليف ما لا يطاق ، بالاية ، بأنه سبحانه ، أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون ، وأمرهم بالايمان. فلو آمنوا ، انقلب خبره ، كذبا. وشمل ايمانهم ، الايمان بأنهم لا يؤمنون. فيجتمع الضدان.

والجواب : ان الاخبار بوقوع الشيء أو عدمه ، لا ينفي القدرة عليه ، كاخباره تعالى عما يفعله هو. والعبد باختياره. وفائدة الانذار بعد العلم ، بأنه لا ينجع الزام الحجة وحيازة الرسول ، فضل (١) الإبلاغ. ولذلك قال : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ). ولم يقل «سواء عليك». كما قال لعبدة الأصنام : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وقد حقق الكلام في هذا الجواب ، العلامة النحرير القزويني (٢) ـ أدام الله ظله

__________________

(١) أ : أفضل.

(٢) هو العالم الفاضل المدقق المولى خليل بن الغازي القزويني الأصل والمسكن

١٤٦

العالي ـ في حاشيته الشريفة على العدة.

(وفي اصول الكافي (١) : علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القسم (٢) بن يزيد ، عن أبى عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : قلت له : أخبرني عن وجوه الكفر ، في كتاب الله ـ عز وجل ـ.

قال : الكفر في كتاب الله ، على خمسة أوجه :

فمنها كفر الجحود ، على وجهين. فالكفر (٣) بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم.

فأما كفر الجحود ، فهو الجحود بالربوبية. وهو قول من يقول : لا رب ولا جنة ولا نار. وهو قول من صنفين من الزنادقة. يقال لهم : الدهرية. وهم الذين يقولون (٤) : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). وهو دين وضعوه لأنفسهم ، بالاستحسان. فهم على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون. قال الله ـ عز وجل ـ (٥) :

__________________

والوفاة ذكره الشيخ الحر العاملي في أمل الأمل ٢ / ١١٢ وميرزا عبد الله الأفندي في رياض العلماء ٢ / ٢٦١.

كتب وألف العديد من المؤلفات منها : «شرح الكافي» فارسى وشرح عربى و «رسالة الجمعة» و «حاشية مجمع البيان» و «الرسالة النجفية» و «الرسالة القمية» و «الجمل» في النحو و «رموز التفاسير الواقعة في الكافي والروضة» و «شرح العدة».

كانت وفاته ـ رحمه الله ـ بقزوين ، سنة تسع وثمانين بعد الالف ودفن بها في المدرسة المعروفة به. (عدة الأصول ، المقدمة / ٢١ ـ ٢٢)

(١) الكافي ٢ / ٣٩.

(٢) المصدر : القاسم.

(٣) ر : والكفر.

(٤) الجاثية / ٢٤.

(٥) الجاثية / ٢٤.

١٤٧

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). ان ذلك كما يقولون. وقال (١) : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، لا يُؤْمِنُونَ) ، يعنى بتوحيد الله [تعالى] (٢). فهذا أحد وجوه الكفر.

ـ والحديث طويل ـ ، أخذت منه موضع الحاجة.

وفي تفسير علي بن ابراهيم (٣) : حدثني أبي ، عن بكر بن صالح ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : الكفر في كتاب الله ، على خمسة أوجه (٤). فمنه كفر الجحود (٥). وهو على وجهين : جحود بعلم ، وجحود بغير علم.

فأما الذين جحدوا بغير علم ، فهم الذين حكى الله عنهم في قوله تعالى (٦) (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). وقوله (٧) : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). فهؤلاء كفروا وجحدوا بغير علم. ـ والحديث طويل ـ ، أخذت منه موضع الحاجة) (٨).

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) : بيان وتأكيد للحكم السابق. أو تعليل له.

__________________

(١) البقرة / ٦.

(٢) يوجد في المصدر

(٣) تفسير القمي ١ / ٣٢.

(٤) المصدر : وجوه.

(٥) المصدر : بجحود.

(٦) الجاثية / ٢٤.

(٧) البقرة / ٦.

(٨) ما بين القوسين ليس في أ.

١٤٨

و «الختم» ، قريب من الكتم ، لفظا ، لتوافقهما في العين واللام ، ومعنى.

لأن «الختم» على الشيء ، يستلزم كتم ما فيه. فيناسبه في اللازم.

و «الغشاوة» ، فعالة ، من غشاه إذا غطاه. بنيت لما يشتمل على الشيء ، كالعصابة والعمامة. ولا ختم ولا تغشية ، ثم على الحقيقة ، بل على سبيل المجاز والاستعارة.

فان كان المشبه به ، في (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، المعنى المصدري الحقيقي للختم ، والمشبه احداث حالة في قلوبهم ، مانعة من نفوذ الحق فيها ، كان طرفا التشبيه ، مفردين ، والاستعارة ، مصرحة. وان جعل المشبه به ، هيئة مركبة منتزعة من الشيء والختم الوارد عليه ومنعه صاحبه من الانتفاع به والمشبه ، هيئة منتزعة من القلب والحالة الحادثة فيه ومنعها صاحبها عن الانتفاع به في الأمور الدينية (١) ، كان طرفا التشبيه مركبين والاستعارة تمثيلية. قد اقتصر فيها من ألفاظ المشبه به ، على ما معناه ، عمدة في تصوير تلك الهيئة ، واعتبارها ، أعني : الختم. وباقي الألفاظ ، منوي مراد. وان لم يكن مقدرا في نظم الكلام والاقتصار ، على بعض الألفاظ ، للاختصار في العبارة (٢).

وتكثير محتملاتها ، بأن يحمل تارة على التشبيه وتارة على التمثيلية وأخرى على غيرهما ، ولو صرح بالكل ، تعينت التمثيلية ، وان قصد تشبيه قلوبهم بأشياء مختومة.

وجعل ذكر «الختم» ، الذي هو من روادف المشبه به ، المسكوت عنه ، تنبيها عليه ورمزا ، كان من قبيل الاستعارة بالكناية. وقس عليه قوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ).

والمعتزلة لما اضطرت في معنى ظاهر الاية ، ذكروا له وجوها من التأويل.

__________________

(١) أ : الدنيوية.

(٢) أ : العبادة.

١٤٩

منها : ان القوم لما أعرضوا وتمكّن ذلك في قلوبهم ، حتى صار كالطبيعة لهم شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.

ومنها : ان المراد «بالختم» ، وسم على (١) قلوبهم ، بسمة تعرفها الملائكة.

فيبغضونهم. ويتنفرون عنهم. وعلى هذا يحمل كل ما يضاف الى الله من طبع وإضلال.

يدل على هذا التأويل

ما روي في تفسير الحسن العسكري ـ عليه السلام ـ (٢) عن الصادق ـ عليه السلام ـ أنه قال : ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لما دعا هؤلاء المعينين في الاية المقدمة (٣) ، [في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)] (٤) وأظهر لهم (٥) تلك الآيات. فقابلوها بالكفر. أخبر الله ـ عز وجل ـ [عنهم] (٦) بأنه (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ختما يكون علامة للملائكة (٧) المقربين القراء لما في اللوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم. حتى إذا نظروا الى أحوالهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم (٨) ، شاهدوا ما هنالك (٩) «من ختم الله ـ عز وجل ـ عليها ازدادوا بالله معرفة. وعلموا بما يكون قبل أن يكون» (١٠) يقينا.

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) تفسير العسكري / ٥٣.

(٣) المصدر : المتقدمة.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) أ : أظهرهم.

(٦) يوجد في المصدر.

(٧) أ : الملائكة.

(٨) ليس في المصدر.

(٩) المصدر : هؤلاء.

(١٠) ليس في المصدر وفيه يوجد كذا : المختومين على جوارحهم يجدون على ما قرءوه

١٥٠

قال (١) : فقالوا : يا رسول الله! فهل من عباد الله ، من يشاهد هذا الختم ، كما يشاهده (٢) الملائكة؟

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : بلى ، محمد رسول الله يشاهده (٣) ، باشهاد (٤) ـ عز وجل ـ له (٥). ويشاهده من أمته أطوعهم لله ـ عز وجل ـ وأشدهم جدا (٦) في طاعة الله وأفضلهم في دين الله.

فقالوا : من هو ، يا رسول الله؟ ـ وكل منهم تمنى أن يكون هو ـ.

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : دعوه يكن من شاء الله. فليس الجلالة في المراتب عند الله ـ عز وجل ـ بالتمني ولا بالتظني ولا بالاقتراح. ولكنه فضل من الله ـ عز وجل ـ على من يشاء ، يوفقه للأعمال الصالحة ، تكرمه لها. فيبلغه أفضل الدرجات وأشرف المراتب. ان الله سيكرم بذلك من تريكموه (٧) في غد.

فجدوا في الاعمال الصالحة. فمن وفق الله له (٨) ما يوجب عظيم كرامته عليه (٩) ، فلله عليه بذلك الفضل العظيم.

__________________

من اللوح المحفوظ. وشاهدوه في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ، أزادوا نعم الله بالغائبات.

(١) ليس في المصدر.

(٢ و ٣) النسخ : يشاهدها.

(٤) أ : بشهادة.

(٥) ليس في أ.

(٦) ليس في أ.

(٧) أ : يريكموه.

(٨) ليس في المصدر.

(٩) ليس في المصدر.

١٥١

قال : فلما أصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وغص مجلسه بأهله. وقد جد بالأمس ، كل من خيارهم ، في خير عمله وإحسانه الى ربه ، و (١) قدم يرجو أن يكون هو ذلك الخير الأفضل.

قالوا : يا رسول الله! من هذا؟ عرّفناه بصفته. وان لم تنص لنا على اسمه.

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : هذا ، الجامع للمكارم ، الحاوي للفضائل ، المشتمل على الجميل ـ ثم بعد ذكر كلام طويل ، مشتمل على كرامات ومجاهدات ، وقعت في تلك الليلة من أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ذكر أنه (٢) قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي عليه السلام : انظر! فنظر الى عبد الله بن أبيّ والى سبعة من اليهود.

فقال : شاهدت ختم الله على قلوبهم وأسماعهم (٣).

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : أنت ، يا علي! أفضل شهداء الله في الأرض بعد محمد رسول الله.

قال : فذلك قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ، تبصرها الملائكة. فيعرفونهم بها. ويبصرها رسول الله ، محمد. ويبصرها خير خلق الله بعده علي بن أبي طالب.

وفي عيون الأخبار (٤) : بإسناده الى ابراهيم بن أبي محمود ، قال : سألت أبا الحسن الرضا ـ عليه السلام ـ عن قول الله ـ عز وجل : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ).

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) ليس في أ.

(٣) المصدر : على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.

(٤) عيون الاخبار ١ / ١٢٣.

١٥٢

قال : الختم هو الطبع على قلوب الكفار ، عقوبة على كفرهم. كما قال ـ عز وجل (١) ـ : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢).

و (عَلى سَمْعِهِمْ) ، يحتمل أن يكون معطوفا على قلوبهم ومعطوفا عليه «لعلى أبصارهم». ورجح الأول ، بقوله (٣) : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ، وبالوقف «على سمعهم» اتفاقا. ولأنهما لما كان ادراكهما من جميع الجوانب ، جعل المانع عنه ، بما يكون كذلك لظهور «أن الغشاء» (٤) يكون بين المرئي والرائي.

وكرر الجار ، للدلالة على أن الختم يتعلق بكل واحد منهما ، بالاستقلال.

فيكون أشد. ولأن تعلق فعل بمجموع أمرين ، لا يستلزم تعلقه بكل واحد.

وافراد «السمع» ، للأمن من اللبس مع الخفة والتفنن. أو لأنه في الأصل مصدر. وهو لا يجمع. أو على تقدير مضاف ، أي : مواضع سمع. أو لرعاية المناسبة بين المدرك والمدرك. فان مدرك السمع ، واحد. وهو الصوت. ومدركاتهما أنواع.

وقرئ : «وعلى أسماعهم».

ووجه الترتيب ، أنه تعالى لما ذكر هذه الطائفة ، أولا بالكفر ، وثانيا باستواء الانذار وعدمه عليهم ، فالختم على قلوبهم ، ناظر الى كفرهم. لأن الكفر والايمان من صفات القلب. والختم على سمعهم ، ناظر الى ذلك الاستواء. لان محل ورود الإنذارات ، ليس الا السمع. ولما حكم عليهما بالختم فصار مكان أن يقال علمنا

__________________

(١) النساء / ١٥٥.

(٢) ليس في أ.

(٣) الجاثية / ٢٣.

(٤) أ : الفناء.

١٥٣

وقوع الختم عليهما : ألم يكن لهم أبصار يبصرون بها الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة؟ فقال : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). ولما لم يكن في نظم الكلام ، ما ينظر اليه التغشية ، غيّر الأسلوب.

و «البصر» ، قوة أودعت في ملتقى العصبتين ، المجوفتين النابتتين (١) ، من مقدم الدماغ. وقد يطلق على العضو. وكذلك «السمع». وهو قوة أودعت في باطن الصماخ (٢).

و «غشاوة» ، مرفوع مبتدأ. و «على أبصارهم» خبره عند سيبويه. وفاعل الظرف ، عند الأخفش لاعتماده على ما قبله. ويؤيده العطف على الجملة الفعلية.

وقرئ بالنصب ، على معنى وجعل على أبصارهم غشاوة. أو على حذف الجار. وإيصال الفعل ، نفسه اليها. والمعنى : وختم على أبصارهم بغشاوة.

وقرئ بالضم والرفع وبالفتح والنصب.

و «غشوة» بالكسر ، مرفوعة. و «بالفتح مرفوعة» (٣) ومنصوبة.

و «غشاوة» ، بالعين الغير معجمة ، من العشا مصدر الأعشى. وهو الذي لا يبصر بالليل.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)) : وعيد ، وبيان لما يستحقونه.

«والعذاب» ، كالنكال ، بناء ومعنى. يقال «أعذب عن الشيء ونكل» ، إذا أمسك عنه. ومنه الماء العذب ، لأنه يقمع العطش ، ويردعه. فسمّي «العذاب» ، عذابا ، لأنه يردع الجاني عن المعاودة الى الجناية. ثم اتسع ، فأطلق على كل ألم شديد وان لم يكن ، نكالا ، أي. عقابا ، يرتدع به الجاني عن المعاودة.

__________________

(١) أ : النابتين.

(٢) ر : الطماخ.

(٣) ليس في أ.

١٥٤

وقيل (١) : «اشتقاقه من التعذيب. الذي هو ازالة العذب (٢). كالتغذية والتمريض».

أو من العذبة. وهي القذاة. وماء ذو عذب ، أي : كثير القذى. فكما أن القذاة تنغص (٣) الماء وكذلك العذاب ، ينغص (٤) العيش.

أو من أعذب حوضك ، أي : انزع ما فيه من قذى. فكذلك العذاب ينزع (٥) من الجاني ، ما فيه من الجناية.

أو من العذوبة. لأن عذاب كل أحد مما (٦) يستعذبه ضده. فعذاب الكافرين ، مما يستعذ به المؤمنون.

و «العظيم» ، ضد الحقير ، والكبير ضد الصغير. كما أن الحقير ، دون الصغير.

فالعظيم فوق الكبير.

قيل (٧) : «ومعنى التوصيف به ، أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه ، قصر عنه جميعه ، وحقر بالاضافة اليه. ومعنى التنكير في الاية ، ان على أبصارهم غشاء ، ليس مما يتعارفه الناس. وهو التعامي عن الآيات. ولهم من الآلام العظام ، نوع ، يعلم كنهه الله تعالى» ، أي : في الاخرة.

وقال بعضهم : ان لهم عذابا في الدنيا والاخرة. لأن عذابهم الأخروي ، ليس الا صور اعتقاداتهم ونتائج أعمالهم ، من دركات النيران. وما فيها من الآلام ، كانت في الدنيا معاني ، فصارت في الاخرة صورا ، فهم دائمون فيها. لكنهم

__________________

(١) ر. أنوار التنزيل ١ / ٢١ ـ ٢٢.

(٢) أ : العذاب.

(٣) أ : تنقص.

(٤) أ : ينقص.

(٥) أ : نزع.

(٦) ليس في أ.

(٧) نفس المصدر ١ / ٢٢.

١٥٥

لا يتألمون بها في الدنيا ، لكثافتهم «وغلظ حجابهم» (١). والذين صاروا في الدنيا ، أهل الاخرة ، يرونهم داخلين في النار وما فيها ، من أنواع العذاب.

قال بعض الصوفية : وإذ قد علمت ما بين لك من المعاني الظاهرة ، فألق سمعك ، تسمع بطنا من بطونها :

فنقول : ان الذين كفروا ، خرجوا (٢) من الايمان الرسمي المنوط بغيبتهم ، عن المؤمن به ، ودخلوا في الكفر الحقيقي ، بستر وجوداتهم ، في الفناء في الله ، ان أنذرتهم بسوء عاقبة ارتدادهم من هذا الكفر ، الى ذلك الايمان ، أم لم تنذرهم ، فهما سيان عليهم (٣). لأنهم لا يؤمنون ، أي : لا يرجعون الى الايمان الرسمي ، أبدا. لأن الفاني ، لا يرد. وكأنه الى هذا الايمان والكفر ، أشار من قال :

«كفرت بدين الله والكفر واجب» (٤) لدي ، وعند المسلمين ، قبيح. (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، فلا يدخل فيها شيء مما سوى الله. وان دخل فيها شيء ، فهو صورة من صور تجلّياته ، انخلعت من لباس الغيرية. وختم «على أسماعهم» ، فلا يسمعون شيئا ، مما سواه. فانه المتكلم على ألسنة الموجودات. فكلما يسمعونه بلسان الحال أو المقال ، فهو من صور كلامه ، لا غير. و (عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) مانعة من رؤية غيره سبحانه.

فكلما يرونه ليس الا من صور تجلّياته ، تجلّى به على نظر شهودهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ) ، أي : أمر يعده (٥) المحجوبون ، عذابا. وهو استهلاكهم في الوجود الحق.

وإمساكهم عن اللذات العاجلة والراحات الاجلة. «عظيم» ، أي : جليل قدره. لا

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) أور : أى خرجوا.

(٣) أ : لهم عليهم.

(٤) ليس في أ.

(٥) أ : بعده.

١٥٦

يعرفه الا من ذاقه (١).

(وفي كتاب الاحتجاج (٢) للطبرسي ره : بإسناده الى أبي محمد العسكري ـ عليه السلام ـ أنه قال في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ ، غِشاوَةٌ. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، أي : وسمها بسمة يعرف (٣) من يشاء من ملائكته ، إذا نظروا اليها ، بأنهم الذين لا يؤمنون. (وَعَلى سَمْعِهِمْ) ، كذلك بسمات (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). وذلك لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه ، وقصروا فيما أريد منهم ، وجهلوا ما لزمهم ، من الايمان [به] (٤) ، فصاروا كمن على عينيه غطاء ، لا يبصر ما أمامه. فان الله ـ عز وجل ـ يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه. فلا يأمرهم بمغالبته ، ولا بالمصير الى ما قد صدهم بالقسر عنه. [ثم] (٥) قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، يعني : في الاخرة ، العذاب المعد للكافر ، وفي الدنيا ، أيضا ، لمن يريد أن يستصلحه بما نزل (٦) به ، من عذاب الاستصلاح ، لينبهه لطاعته. أو من عذاب الاصطلام ، ليصيّره الى عدله وحكمته) (٧).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا). لإنشاء الايمان. أو للاخبار بوقوعه ، فيما مضى.

__________________

(١) أ : ذاته.

(٢) الاحتجاج ٢ / ٢٦٠.

(٣) المصدر : يعرفها.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) يوجد في المصدر.

(٦) المصدر : ينزل.

(٧) ما بين القوسين ليس في أ.

١٥٧

وافراد الضمير ، في «يقول» ، بالنظر الى اللفظ. وجمعه ، فيما بعد بالنظر الى المعنى. لأنهم في قولهم «آمنا» بمنزلة شخص واحد ، لاتفاقهم عليه ، في غير اختلاف. وأما إتيانهم بما ينافي الايمان ، فالتعدد فيه ممكن ، بل واقع. فلذلك لوحظ فيه جهة كثرتهم ، بإيراد ضمير الجماعة.

و «الناس» ، اشتقاقه من الأناس ، حذفت همزته تخفيفا. منه انسان وأناس وأنس. وحذفها مع لام التعريف ، واجب. لا يكاد يقال الأناس. وهو مأخوذ من الأنس ، بالضم ، ضد الوحشة. لأنهم مدنيّون بالطبع ، يستأنسون بأمثالهم ، أشد استئناس. أو من الانس ، بالكسر. بمعنى الإيناس. وهو الأبصار.

قيل : وهذا أشبه ، ليناسب المقابل ، أعني الجن. لأنهم سمّوا به ، لاجتنانهم.

ويوافق اسمه الاخر. أعني ، البشر. لأنه من البشرة (١) ظاهر الجلد.

وذهب الكسائي الى أنه من نون وواو وسين. والأصل ، نوس. فقلبت الواو ، ألفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها. والنوس : الحركة.

وقيل (٢) : «من نسي ، فقلبت اللام الى موضع العين فصارت نيس» (٣). ثم قلبت الياء ألفا. سموا بذلك ، لنسيانهم. فوزنه على الأول ، عال وعلى الثاني فعل وعلى الثالث فلع.

قيل : لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا من شيء آخر. والا لزم التسلسل.

وعلى هذا ، لا حاجة الى جعل لفظ «الإنسان» مشتقا من شيء آخر.

ورد بأن المقصود من ذلك ، تقليل اللغات ، بحسب الوسع. ولا شك أن الألفاظ المتعددة ، إذا ردت الى أصل واحد ، صارت اللغات ، أقل.

__________________

(١) أ : البشيرة.

(٢) تفسير البحر المحيط ١ / ٥٢.

(٣) أ : فصار نيسا.

١٥٨

و «اللام» فيه لتعريف الجنس. أو العهد ، اشارة الى (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : المصرين على الكفر ـ مطلقا ، أو مقيدا ـ بكونهم غير ما حضين ، أو جماعة معهودين منهم. فلها أربع احتمالات.

و «من» في «من يقول» ، اما موصولة ، أو موصوفة. اما لتعريف الجنس ، أو العهد. اشارة الى جماعة معهودين ، كابن أبيّ وأضرابه.

ففيها ثلاثة احتمالات يحصل من ضربها في أربع احتمالات ، اثنا عشر وجها.

فعليك بالتأمل ، حتى يظهر وجهها.

ثم المراد «بالذين كفروا» ان كان ناسا معهودين ماحضين للكفر غير منافقين ، أو الجنس المخصوص مما عدا المنافقين ، اما بقرينة المقابلة ، أو لتبادر الفهم اليه ، من اطلاق المعرف بلام الجنس.

فالمقصود من هذه الآيات ، استيفاء الأقسام ، حيث ذكر أولا المؤمنين (١) ، ثم الماحضين ، ثم المنافقين. وان كان المراد بهم ما يعم الماحضين والمنافقين.

فذكر المنافقين من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، لكمال الاهتمام بالنداء ، على تفاصيل صفاتهم الذميمة (٢) وأعمالهم الخبيثة ، لكونهم أخبث الكفرة وأبغضهم ، اليه تعالى.

لأنهم خلطوا الايمان بالكفر ، تمويها وتدليسا ، وبالشرك ، استهزاء وخداعا.

و «القول» : هو التلفظ بما يفيد. ويقال : بمعنى المقول ، وللمعنى المتصور في النفس والمعبر عنه باللفظ والرأي والمذهب ، مجازا.

وقصة المنافقين ، معطوفة على قصة الذين كفروا. وليس ذلك من باب عطف جملة على جملة ، ليطلب مناسبة الثانية ، مع السابقة ، بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض ، الى آخر ، مسوقة لآخر ، وشرطه المناسبة بين الغرضين. فكلما كانت المناسبة

__________________

(١) المتن : للمؤمنين.

(٢) أ : الذمية.

١٥٩

أشد وأمكن ، كان العطف بينهما أشد وأحسن.

قال بعض المفسرين (١) : هذه الاية ، مع الاثني عشر الآيات التي بعدها ، أنزلت في ذم المنافقين. الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر ، لمصالح دعتهم الى ذلك.

ثم قال : ودخل فيهم من كان على صفة النفاق ، حال نزول الاية. واشتهر به.

أو كان ولم يشتهر. وظهر بعد ذلك ، نفاقه وخبثه. أو حدث النفاق ، بعد ذلك ، في زمان النبي ـ عليه السلام ـ أو بعد زمانه. فان كل هؤلاء ، مصداق هذه الآيات.

ثم قال : ولا يتوهم أنه يلزم في الدخول ، تحقق المخاطبات التي ذكرت في الآيات الاتية ، فيخرج من لم يتحقق فيه ، تلك الأقوال. فلا يمكن أن يقال : ان الآيات ، نزلت فيهم ، لأن الشرطية ، لا تقتضي وقوع الطرفين.

أقول : يظهر من كلام ذلك الفاضل ، أن إذا الواقعة في تلك الآيات ، شرطية ويرد احتمالها التأمل الصادق ، في تلك الآيات. ويحتمل أن يكون المراد منه ، الخلفاء الثلاثة ، مع شيعتهم. يدل على ذلك

ما روي أبي محمد العسكري ـ عليه السلام ـ (٢).

وفي شرح الآيات الباهرة (٣) : قال العالم موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ : ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لما أوقف أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ في يوم الغدير ، موقفه المشهور المعروف ، قال (٤) : يا عباد الله! أنسبوني.

فقالوا : أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف ١ / ٥٤.

(٢) تفسير العسكري / ٥٤.

(٣) تأويل الآيات الباهرة / ٨.

(٤) أ : ثم قال.

١٦٠