إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨١

أي المتبلغ ، ولمع البرق والصبح وغيرهما لمعا ولمعانا وكأنه لمع البرق وبرق لامع ولمّاع وبروق لمع ولوامع ومن أقوالهم «أخدع من يلمع» وهو البرق الخلّب والسراب وفلاة لمّاعة تلمح بالسراب وبه لمعة ولمع من سواد أو بياض أو أي لون كان وثوب ملمّع وقد لمّع ولمّعه ناسجه وفيه تلميع وتلاميع إذا كانت فيه ألوان شتّى قال لبيد بن ربيعة : «إن استه من برص ملمّعه» ورجل ألمعي ويلمعي فرّاس ومن المجاز لمع الزمام : خفق لمعانا وزمام لامع ولموع قال ذو الرمّة :

فعاجا علندى ناجيا ذا براية

وعوّجت مذعانا لموعا زمامها

والطائر يلمع بجناحيه يخفق بهما وخفق بملمعيه : بجناحيه ولمع بثوبه ويده وسيفه : أشار وما بالدار لامع وأصاب لمعة من الكلأ ومعه لمعة من العيش : ما يكتفى به قال عدي :

تكذب النفوس لمعتها

وتعود بعد آثارا

أي يذهب عنها العيش ويرجع آثارا وأحاديث ، وذكر أعرابي مصدّقا فقال : فلمقه بعد ما نمقه أي فمحاه بعد ما كتبه وما ذقت لماقا : شيئا ، وامرأة لمياء بيّنة اللّمى وهو السمرة في باطن الشفة ومن المجاز رمح ألمى أسمره وقناة لمياء وظل ألمى كثيف أسود وشجر ألمى الظلال وشجرة لمياء الظل :

إلى شجر ألمى الظلال كأنه

رواهب أحر من الشراب عذوب

(أَجِنَّةٌ) جمع جنين وسمي جنينا لاستتاره في بطن أمه ، وقد تقدم بحث هذه المادة وما تدل عليه.

٣٦١

الإعراب :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات والجملة استئناف مسوق للإخبار عن كمال قدرته (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) اللّام لام العاقبة أو الصيرورة وليست للتعليل بمعنى أن عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء فللمسيء السوءى وللمحسن الحسنى وهي متعلقة بما دلّ عليه معنى الملك ، ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام العاقبة وقيل هي بمعنى التعليل وإيضاح هذا المعنى أن التعليل لإضلال من شاء وهداية من شاء ، والذين مفعول به وجملة أساءوا صلة الذين وبما عملوا متعلقان بيجزي ، والذين أحسنوا بالحسنى عطف على ما تقدم (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) الذين في موضع نصب على أنه بدل من الذين أو هو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين يجتنبون وجملة يجتنبون صلة الذين وكبائر الإثم مفعول يجتنبون والفواحش عطف على كبائر الإثم وإلا أداة استثناء واللّمم مستثنى بإلا وهو استثناء منقطع لأنه ليس قبله ما يندرج فيه ويجوز أن يكون متصلا عند من يفسّر اللّمم بغير الصغائر ، وأجاز الزمخشري أن يكون من باب «لو كان فيهما آلهة إلا الله» فتكون إلا بمعنى غير صفة لكبائر الإثم وقد ظهر إعرابها فيما بعدها (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) إن واسمها وواسع المغفرة خبرها والجملة تعليلية لاستثناء اللّمم لا محل لها (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) هو مبتدأ وأعلم خبر ولكم متعلقان بأعلم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بأعلم أيضا وجملة أنشأكم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن الأرض متعلقان بأنشأكم وإذ عطف على إذ الأولى وأنتم مبتدأ وأجنّة خبره وفي بطون أمهاتكم صفة لأجنّة

٣٦٢

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتزكوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وأنفسكم مفعول به وهو مبتدأ وأعلم خبر وبمن اتقى متعلقان بأعلم وجملة اتقى صلة الموصول.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠)

٣٦٣

وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

اللغة :

(تَوَلَّى) عنه : أعرض عنه وتركه وتولّى هاربا أدبر وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة.

(أَكْدى) منع عطيته وقطعها وأصله إكداء الحافر وهو أن تلقاه كدية وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة.

(أَقْنى) أعطى المال الذي اتخذ قنية والقنية المال الذي تأثلته وعزمت أن لا يخرج من يدك وفي الصحاح : «قني الرجل يقنى قنى مثل غني يغنى غنى ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال قنيت له مالا كسبته نحو شترت عين الرجل وشترها الله» وقال الراغب والحقيقة أنه جعل له مالا قنية وقنيت كذا وأقنيته.

(الشِّعْرى) هما شعريان أي كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو المراد في الآية الكريمة فإن خزاعة كانت تعبدها وقد سنّ عبادتها أبو كبشة وهو رجل من ساداتهم وقال لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى تقطعها طولا فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير ، وأبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته ولذلك كان مشركو قريش يسمّون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم تشبيها بذلك الرجل في أنه أحدث دينا غير دينهم ، وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية ، والثاني الشعرى الغميصاء من الغمص بفتحتين وهو سيلان دمع العين.

٣٦٤

(الْمُؤْتَفِكَةَ) المنقلبة وهي التي صار أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي دنت الدانية ، قال النابغة :

أزف الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

وقال كعب بن زهير :

بان الشباب وأمسى الشيب قد أزفا

ولا أرى لشباب ذاهب خلفا

وفي المصباح : «أزف الرحيل أزفا من باب تعب وأزفا أيضا دنا وقرب ، وأزفت الأزفة : دنت القامة».

(سامِدُونَ) السمود اللهو وقيل الإعراض وقيل الاستكبار وقال أبو عبيدة : السمود الغناء بلغة حمير يقولون : يا جارية اسمدي لنا أي غنّي لنا وقال الراغب : «السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم بعير سامد في مسيره وقيل سمد رأسه وجسده أي استأصل شعره» وفي المختار :«السامد اللاهي وبابه دخل» وفسر الزمخشري السمود بالبرطمة وهي عامية فصيحة ، ففي الصحاح البرطمة الانتفاخ من الغضب.

الإعراب :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء عاطفة على محذوف مقدّر ورأيت فعل وفاعل بمعنى أخبرني والذي مفعول رأيت الأول وجملة تولى صلة الموصول (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) الواو عاطفة وأعطى معطوف على تولى وقليلا صفة لمصدر محذوف ولك أن تجعله مفعولا به وأكدى عطف على أعطى (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم

٣٦٥

وعلم الغيب مبتدأ مؤخر والجملة في موضع نصب على أنها مفعول ثان لرأيت والفاء عاطفة وهو مبتدأ وجملة يرى خبره والجملة عطف على جملة أعنده علم الغيب فهي داخلة في حيز الاستفهام (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) أم منقطعة بمعنى بل ولم حرف نفي وقلب وجزم وينبأ فعل مضارع مجزوم بلم ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وبما في موضع نصب مفعول ثان لينبأ وفي صحف موسى متعلقان بمحذوف صلة ما (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وإبراهيم عطف على موسى والذي صفة ووفى صلة الموصول (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا تزر خبرها ووازرة فاعل تزر ووزر أخرى مفعول تزر وأن وما في حيزها بدل من ما في صحف موسى فهي في محل جر أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو أن لا تزر فهي في محل رفع (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وأن عطف على أن لا تزر فهي مخففة مثلها وجملة ليس خبرها وللإنسان خبر مقدم لليس وإلا أداة حصر وما مصدرية وسعى فعل والمصدر المؤول اسم ليس (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) عطف على ما تقدم وسعيه اسم أن وجملة سوف يرى خبر أن (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ثم حرف عطف ويجزاه فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والهاء نصب بنزع الخافض أو هو مفعول ثان يقال جزيته سعيه وبسعيه والجزاء مفعول مطلق والأوفى صفة والضمير المرفوع يعود على الإنسان والمنصوب يعود على الجزاء وقال أبو البقاء : «قوله الجزاء الأوفى هو مفعول يجزى وليس بمصدر لأنه وصف بالأوفى وذلك من صفة المجزى به لا من صفة الفعل» وليس قوله ببعيد وعندئذ يتعين كون الضمير المنصوب منصوبا بنزع الخافض على أنه لا يمنع وصف المصدر من بقائه مصدرا لأن الفعل قد يوصف بذلك مبالغة ، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب للجزاء ثم فسّر بقوله الجزاء الأوفى فهو بدل منه أو عطف بيان (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) عطف

٣٦٦

على ما تقدم وإلى ربك خبر أن المقدم والمنتهى اسم أن المؤخر (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) عطف أيضا وأن واسمها وهو مبتدأ وجملة أضحك خبر والجملة خبر أن ويجوز إعراب هو تأكيدا لاسم أن ، وعن بعضهم هو ضمير فصل وجملة أضحك خبر أن ورجحه الأكثرون قالوا «في قوله تعالى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى إنما أتى بضمير الفصل في الأولين دون الثالث لأن بعض الجهّال قد يثبت هذه الأفعال لغير الله تعالى كقول نمروذ أنا أحيي وأميت وأما الثالث فلم يدعه أحد من الناس» (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) عطف على الآية السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) جملة خلق خبر أن والزوجين مفعول به والذكر بدل من الزوجين والأنثى عطف على الذكر (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) من نطفة متعلقان بخلق وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة تمنى في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الآية معطوفة على ما قبلها وعليه خبر أن المقدّم والنشأة اسمها المؤخر والأخرى صفة للنشأة (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) عطف على ما تقدم وقد سبق إعرابها (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) عطف أيضا (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) أن واسمها وجملة أهلك خبرها وعادا مفعول أهلك والأولى صفة (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) عطف على عاد والفاء عاطفة وما أبقى معطوف على أهلك ، وقال أبو البقاء : «وثمودا منصوب بفعل مضمر أي وأهلك ثمودا ، ولا يصحّ أن يكون مفعولا مقدما لأبقى لأن لما النافية الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها» (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) وقوم نوح عطف على ثمود ومن قبل متعلقان بمحذوف على الحال وقد بنيت قبل على الضم لانقطاعها عن الإضافة لفظا لا معنى وإن واسمها وصلة كانوا خبرها وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له ويجوز أن يكون تأكيدا للضمير في كانوا وأظلم خبر كانوا وأطغى

٣٦٧

عطف على أظلم (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) الواو عاطفة والمؤتفكة مفعول مقدم لأهوى فتكون الجملة معطوفة ويجوز لك عطف المؤتفكة على ما قبله (فَغَشَّاها ما غَشَّى) الفاء حرف عطف وغشاها فعل وفاعل مستتر وما موصول مفعول ثان لغشى وجملة غشى صلة ويجوز أن يكون غشى المشدد بمعنى المجرد فيتعدى لواحد ويكون الفاعل ما كقوله تعالى : «فغشيهم من اليمّ ما غشيهم» (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا كله فبأيّ آلاء ربك تتمارى والباء ظرفية والخطاب للسامع والجار والمجرور متعلقان بتتمارى أي تتشكك وهو استفهام إنكاري وأطلق على النعم والنقم لفظ الآلاء وهي النعم التي لا يتشكك فيها سامع لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر وتدبر (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) اسم الإشارة مبتدأ والإشارة إلى القرآن أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونذير خبر وتنوينه للتفخيم ومن النذر نعت لنذير والنذر إما جمع لاسم الفاعل إذا اعتبرنا نذيرا اسم فاعل غير قياسي أو للمصدر إذا اعتبرنا نذيرا مصدرا غير قياسي لأنه من أنذر وقياس اسم الفاعل منه منذر وقياس المصدر منه منذر والأولى نعت للنذر (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) فعل وفاعل أي قربت الموصوفة بالقرب وهي يوم القيامة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) الجملة حال من الآزفة وليس فعل ماض ناقص ولها خبر مقدم ومن دون الله حال وكاشفة اسم ليس وهو تحتمل أن تكون وصفا أو مصدرا فإذا كانت وصفا فالتاء فيها للتأنيث لأنها عندئذ صفة لمحذوف أي نفس كاشفة أو حال كاشفة ويجوز أن تكون التاء فيها للمبالغة كعلّامة ونسّابة وأن تكون مصدرا كما قال الرمّاني وجماعته كالعاقبة وخائنة الأعين (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء استئنافية ومن هذا متعلقان بتعجبون والحديث بدل من اسم الإشارة وتعجبون فعل مضارع مرفوع والعجب قد يكون للتكذيب وقد يكون للاستحسان والتصديق والأول هو المقصود بالإنكار

٣٦٨

(وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) عطف على تعجبون (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) الواو للحال أو للاستئناف وأنتم مبتدأ وسامدون خبر والجملة إما حالية وإما مستأنفة (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) الفاء الفصيحة أي إن تدبرتم هذا كله ووعيتموه حق الوعي فاسجدوا ، واسجدوا فعل أمر مبني على حذف النون ولله متعلقان باسجدوا واعبدوا فعل أمر معطوف على فاسجدوا والمفعول به محذوف.

البلاغة :

١ ـ في قوله تعالى «أفرأيت الذي تولى» استعارة تصريحية لأنه استعار الإدبار والإعراض لعدم الدخول في الإيمان ، ويمكن أن يجري هذا ضابطا لذكر التولي في القرآن فحيث ورد مطلقا غير مقيد يكون معناه عدم الإيمان. وفي قوله «وأعطى قليلا وأكدى» استعارة تصريحية ، شبّه من يعطى قليلا ثم يمسك عن العطاء بمن يكدي أي يمسك عن الحفر بعد أن حيل دونه بصلابة كالصخرة. قال الإمام الراغب في مفرداته «الكدية صلابة الأرض ، يقال حفر فأكدى فاستعير ذلك للطالب الملحف والمعطي المقل كما قال تعالى : أعطى قليلا وأكدى».

٢ ـ وفي قوله «اضحك وابكى» و «أمات وأحيا» و «أعطى وأكدى» و «الذّكر والأنثى» طباق لا يخفى وهو في السورة جميعها متعدد ولهذا يدخل في باب المقابلة. وقد زاد هذا الطباق حسنا أنه أتى في معرض التسجيع الفصيح لمجيء المناسبة التامة في فواصل الآي.

٣ ـ وفي قوله «وأنه هو رب الشعرى» فن التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ مسدّه لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه وقد خصّ الله سبحانه الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لما ذكرنا في باب اللغة من أن

٣٦٩

العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى ودعا إلى عبادتها فأنزل الله الآية.

٤ ـ وفي قوله «ليس لها من دون الله كاشفة» فن التمثيل فقد أخرج الكلام مخرج المثل السائر يتمثل به في الوقائع.

٣٧٠

سورة القمر

مكيّة وآياتها خمس وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

اللغة :

(مُزْدَجَرٌ) مصدر ميمي من الزجر إلا أن التاء أبدلت دالا ليوافق الزاي بالجهر ، ولك أن تعتبره اسم مكان أي مكان اتعاظ.

(نُكُرٍ) منكر فظيع تنكره النفوس لهوله وهو يوم القيامة.

(مُهْطِعِينَ) الإهطاع هو الإسراع مع مدّ الأعناق والتشوّف بالأنظار

٣٧١

بصورة دائمة لا تقلع عن التحديق وهي صورة حيّة مجسّدة للفزع المرتاع الذي يتطلع إلى ما يرتقبه من أهوال.

الإعراب :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) اقتربت الساعة فعل ماض وفاعل وانشق القمر عطف على الجملة المتقدمة (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) الواو عاطفة وإن شرطية ويروا فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ويعرضوا جواب الشرط ويقولوا عطف على يعرضوا وسحر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا ومستمر صفة لسحر وفي مستمر أربعة أقوال أحدها وهو الظاهر أنه دائم مطّرد وقيل : مستمر قوي محكم من قولهم استمر مريره ، قال البحتري في وصف الذئب :

طواه الطوى حتى استمر مريره

فما فيه إلا الروح والعظم والجلد

وقيل هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته فلا ينساغ وقيل مستمر مار ذاهب لا يبقى وجميع هذه الاحتمالات سائغة (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) الواو عاطفة وكذبوا فعل وفاعل واتبعوا فعل وفاعل وأهواءهم مفعول به ، وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي في باب البلاغة ، والواو للاستئناف وكل أمر مبتدأ ومستقر خبره والجملة استئناف مسوق لإدخال اليأس إلى قلوبهم مما علّلوا به أمانيهم الكذوب ، وفي مستقر قراءات منها مستقر بفتح القاف على أنه اسم مكان أو زمان أو مصدر ميمي أي ذو موضع استقرار أو زمان استقرار أو استقرار وقرئ بالجر صفة لأمر فيكون كل مبتدأ والخبر محذوف أي معمول به أو معطوفا على الساعة واستبعده أبو حيان لطول الفصل بجمل ثلاث (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم فعل ماض ومفعول به ومن

٣٧٢

الأنباء حال من ما وما موصولة أو موصوفة وعلى الحالين هي فاعل جاءهم وفيه خبر مقدّم ومزدجر مبتدأ مؤخر والجملة صلة ما (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) حكمة خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من ما وبالغة صفة لحكمة ومفعول بالغة محذوف والتقدير بالغة غايتها أي لا يتطرق إليها خلل والفاء عاطفة وما نافية أو استفهامية للإنكار وهي في محل نصب مفعول مطلق أي فأي غناء تغن النذر ويجوز أن تجعلها مفعولا به مقدّما أي فأي شيء من الأشياء تغن النذر وتغن فعل مضارع مرفوع والنذر فاعل تغن (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) الفاء الفصيحة وتولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت أي لا تناظرهم بالكلام وعنهم متعلقان بتولّ ويوم ظرف متعلق باذكر مضمرا أو بيخرجون وجملة يدع في محل جر بإضافة الظرف إليها وحذفت الياء من يدعو خطا والداعي فاعل يدعو وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة وإلى شيء متعلقان بيدعو ونكر صفة لشيء (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) خشعا حال وقرئ خاشعة وخاشعا وأبصارهم فاعل خشعا قال الزجّاج : ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد فتقول خاشعا أبصارهم ولك التوحيد والتأنيث نحو خاشعة أبصارهم ولك الجمع نحو خشعا أبصارهم وتقول مررت بشباب حسن أوجههم وحسنة أوجههم وحسان وجوههم قال :

وشباب حسن أوجههم

من إياد بن نزار بن معبد

وقال الزمخشري : «ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم وتقع أبصارهم بدلا منه وجملة يخرجون مستأنفة ومن الأجداث متعلقان بيخرجون» وكأن واسمها وجراد خبرها ومنتشر صفة وجملة كأنهم جراد حال (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) مهطعين

٣٧٣

منصوب على الحال أيضا من فاعل يخرجون وإلى الداع متعلقان بمهطعين وجملة يقول الكافرون استئنافية كأنها قد وقعت جوابا لسؤال عمّا نشأ من وصف اليوم بالأهوال وأهله بسوء الحال كأنه قيل فما يكون حينئذ فقيل يقول الكافرون وجوّز بعضهم أن تكون الجملة حالية من فاعل يخرجون فالأحوال من الواو إذن أربعة واحد مقدّم وثلاثة مؤخرة وجملة هذا يوم عسر مقول القول.

البلاغة :

١ ـ المبالغة : في قوله : «اقتربت الساعة» زيادة مبالغة على قرب ، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة نحو اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة في إعداده.

٢ ـ العدول عن المضارع إلى الماضي : وفي قوله تعالى : «وكذبوا واتبعوا أهواءهم» عدول عن المضارع كما يقتضيه ظاهر السياق لكون كذبوا واتبعوا معطوفين على يعرضوا ، والسر في هذا العدول الإشعار بأنهما من عاداتهم القديمة.

٣ ـ التشبيه المرسل المفصل : وفي قوله «يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر» تشبيه مرسل مفصّل لأن الأركان الأربعة موجودة فيه فقد شبّههم بالجراد في الكثرة والتموج وعبارة القرطبي «كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع» وقال في موضع آخر : «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر لأن الجراد له وجه يقصده» وهذا تعقيب جميل. وقد أفاد هذا التشبيه تجسيد الصورة

٣٧٤

وتشخيصها فهذه الجموع الخارجة من الأجداث في مثل رجع الطرف تشبه الجراد الذي اشتهر بانتشاره واحتشاده دون أن يكون له هدف من هذا الانتشار والاحتشاد وكذلك هذه الجمع قد ألجمها الخوف وعقد الهول أفهامها وضرب عليها رواكد من الحيرة وغشيها بأمواج من الضلالة والرين فهي تسير تلبية لدعوة الداع دون أن تعرف لم يدعوها ، ولكنها تعرف بصورة مبهمة أنه يدعوها إلى شيء نكر لا تكتنه حقيقته ولا تعرف فحواه.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

اللغة :

(مُنْهَمِرٍ) المنهمر : المنصب بشدة وغزارة وفي المختار : «همر الدمع والماء صبّه وبابه نصر وانهمر الماء : سال» قال امرؤ القيس :

راح تمريه الصبا ثم انتحى

فيه شؤبوب جنوب منهمر

٣٧٥

(وَفَجَّرْنَا) التفجير : تشقيق الأرض عن الماء وللفاء مع الجيم فاء وعينا خاصة غريبة فهما تدلّان على الشق والتصديع ، ففجأ وفجئ فجئا وفجأة وفجاءة وفاجأ مفاجأة الرجل : هجم عليه أو طرقه بغتة من غير أن يشعر به ، والفجر ضوء الصباح وفيه تصديع لظلمة الليل ، وشقّ لحنادسه ، ومشى فلان مفاجّا بين رجليه أي مفرجا بينهما وفي أحاجيهم :ما شيء يفاجّ ولا يبول : هو المنضدة شيء كالسرير له أربع قوائم يضعون عليه نضدهم وافتج الرجل : سلك الفجاج والفج يجمع على فجاج وفجاج وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين وركب فلان فجرة عظيمة وهو من أهل الفجر لا من أهل الفجور وهو الكرم وتبطح السيل في مفاجر الوادي ومرافضه وهي المواضع التي ترفض إليها السبل ، وفجعه ما أصابه وفجّعه ويقولون : الدهر فاجئ بالشر فاجع واهب في هبته راجع ، والفجوة المتّسع.

(عُيُوناً) جمع عين الماء وهي ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان فالعين مشتركة بين عين الحيوان وعين الماء وعين الذهب وعين السحاب وعين الركية ويقال للعين ينبوع والجمع ينابيع والمنبع بفتح الميم والباء مخرج الماء والجمع منابع.

(وَدُسُرٍ) الدسر : المسامير التي تشدّ بها السفينة واحدها دسار ودسير ودسرت السفينة أدسرها دسرا إذا شددتها وقيل إن أصل الباب الدفع يقال دسره بالرمح إذا دفعه بشدة والدسر صدر السفينة لأنه يدسر به الماء أي يدفع ومنه الحديث في العنبر : «هو شيء دسره البحر» وفي المختار «الدسر : الدفع وبابه نصر» ويمكن التوفيق بين القولين لأن المسمار يدفع في منفذه ، وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة.

٣٧٦

(مُدَّكِرٍ) أصله مذتكر فقلبت التاء دالا لتواخي الذال في الجهر ثم أدغمت الدال فيها.

الإعراب :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) كذبت فعل ماض والتاء للتأنيث وقبلهم ظرف زمان منصوب لإضافته متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل كذبت ، فكذبوا الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل وعبدنا مفعول به وقالوا عطف على كذبوا ومجنون خبر لمبتدأ محذوف أي هو مجنون ، وازدجر يجوز عطفه على قالوا أي لم يكتفوا بهذا القول بل ضمّوا إليه زجره ونهره وقيل هو معطوف على هو مجنون فهو في حيز مقولهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبّه ، وازدجر فعل ماض مبني للمجهول (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) الفاء عاطفة ودعا ربه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي بأني مغلوب على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ يقال أنه مغلوب ، وأن واسمها وخبرها والفاء عاطفة وانتصر فعل أمر أي انتقم لي منهم فمتعلق انتصر محذوف كما رأيت (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) الفاء عاطفة على محذوف مقدّر أي فاستجبنا لنوح دعاءه ففتحنا ، وفتحنا فعل وفاعل وأبواب السماء مفعول به وبماء متعلقان بفتحنا والباء للتعدية على المبالغة حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها كما تقول فتحت بالمفتاح ويجوز أن تكون الباء للملابسة أي ملتبسة بماء منهمر فتكون في موضع نصب على الحال ، ومنهمر صفة لماء (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وفجرنا عطف على فتحنا والأرض مفعول به وعيونا تمييز فإن نسبة فجرنا إلى الأرض مبهمة وعيونا مبين لذلك

٣٧٧

الإبهام والأصل وفجرنا عيون الأرض فحول المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وجيء بالمضاف تمييزا ، فالتقى عطف على فجرنا والماء فاعل التقى وعلى أمر متعلقان بالتقى وأفادت على معنى التعليل والمعنى اجتمع لأجل إغراقهم المقضي أزلا ، وقيل في موضع نصب على الحال ، وجملة قد قدر صفة لأمر (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) الواو عاطفة وحملناه فعل وفاعل ومفعول به وعلى ذات متعلقان بحملناه وألواح مضاف إليه ودسر عطف على ألواح (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) الجملة صفة لذات دسر وذات ألواح في الأصل صفة لسفينة فهي صفة ثانية وتجري فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء وبأعيننا جار ومجرور في موضع نصب على الحال من الضمير في تجري أي مكلوءة ومحفوظة بأعيننا وجزاء مفعول لأجله أي فعلنا ذلك جزاء أو بتقدير جازيناهم جزاء ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ولمن متعلقان بجزاء وجملة كان صلة من (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتركناها فعل ماض وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الفعلة وهي إغراقهم على الشكل المذكور وأجاز الزمخشري أن يعود على السفينة ، وآية حال أو مفعول به ثان إذا كان تركنا بمعنى جعلناها والفاء عاطفة وهل حرف استفهام ومن حرف جر زائد ومدكر مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره موجود (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) الفاء الأولى أن تكون هي الفاء الفصيحة كأنه قال إن علمتم ما حلّ بهم جميعا جزاء وفاقا لعملهم فكيف كان عذابي وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان عذابي كان واسمها ونذري عطف على عذابي ولم تثبت الياء في الرسم لأنها من ياءات الزوائد وكذا يقال في المواضع الآتية كلها على أنه قرئ بإثباتها وسيأتي معنى الاستفهام في البلاغة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) عطف على ما تقدم

٣٧٨

وللذكر متعلقان بيسّرنا والمعنى ولقد هيأناه للذكر من يسر ناقته للسفر ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال :

وقمت إليه باللجام ميسرا

هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

ومعنى البيت : وقمت إليه مهيئا ومعدّا له اللجام أو مسهلا له به دلالة على أنه كان صعبا لو لا اللجام وهنالك إشارة إلى مكان الحرب وإلى زمانها ويجزيني أي يعطيني جزاء صنعي معه وشبهه لمن تصح منه المجازاة على طريق الاستعارة المكنية.

البلاغة :

١ ـ إنابة الصفات مناب الموصوفات : في وقله «وحملناه على ذات ألواح ودسر» كناية عن موصوف وهو السفينة فقد نابت الصفات مناب الموصوفات وأدّت مؤداها بحيث لا يفصل بينها وبينها ، ونحوه قول أبي الطيب :

مفرشي صهوة الحصان

ولكن قميصي مسرودة من حديد

أراد ولكن قميصي درع ، وفي الآية لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة أو بين الدرع وهذه الصفة لم يصحّ وهذا من فصيح الكلام وبديعه.

٢ ـ التكرير : وفي قوله «فهل من مدّكر» تكرار وقد مرّ تعريفه ، ونقول هنا أن فائدة التكرار أن يجددوا عند سماع كل نبأ اتعاظا ، وسيأتي من أحكام التكرير العجب العجاب.

٣ ـ معنى الاستفهام : وفي قوله «فكيف كان عذابي ونذر» الاستفهام هنا للسؤال عن الحال أي كان على كيفية هائلة لا يحيطها

٣٧٩

الوصف ، والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى للمكذبين.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

اللغة :

(صَرْصَراً) الصرصر : الريح الشديدة الهبوب حتى يسمع صوتها ، وهو مضاعف صر ، وتكرير الأحرف إشعار بتكرير العمل وقد تقدم بحثه ومثله كبّ وكبكب ونه ونهنه.

(أَعْجازُ نَخْلٍ) الأعجاز : جمع عجز وعجز كل شيء مؤخره ومنه العجز لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور والنخل يذكّر ويؤنّث.

(مُنْقَعِرٍ) : منقلع من أصله لأن قعر الشيء قراره ومنه تقعر فلان في كلامه إذا تعمق فيه.

الإعراب :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كذبت عاد فعل ماض وفاعل وكيف كان عذابي ونذر تقدم إعرابها (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً

٣٨٠