الحديث النبوي في النحو العربي

الدكتور محمود فجال

الحديث النبوي في النحو العربي

المؤلف:

الدكتور محمود فجال


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤
١

٢
٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

التّقدمة

إنّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١)(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(٢) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)(٣).

وبعد فـ «القرآن الكريم» هو المصدر الأول لـ «النحو العربي» ، و «الحديث النبوي» هو المصدر الثاني له ، كما أنه في المرتبة الثانية بعد «القرآن الكريم» في البيان والفصاحة.

وبهما ازدهار اللغة العربية ، وسرّ تقدمها.

ولا يشك مسلم ، ولا يرتاب ، في أن فصاحة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا تضاهيها فصاحة ، وأسلوبه في حديثه لا يقاربه أسلوب ، فلقد مدّت عليه الفصاحة رواقها ، وشدّت به البلاغة نطاقها ، وهو المبعوث بالآيات الباهرة والحجج ، المنزل عليه قرآن عربيّ غير ذي عوج.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

(٢) النساء : ١.

(٣) الأحزاب : ٧٠ ، ٧١.

٥

أما الصحابة والتابعون فقد كانت لغتهم العربية وصفا غريزيا فيهم ، لأنهم من العرب الخلص ، لذا لم يكونوا في حاجة لقواعد يضبطون بها كلامهم. أما من جاء بعدهم فلا بدّ لهم من قواعد تضبط لهم طريق استعمال العرب في لسانها ، ومعرفة أسلوب العرب في كلامها.

ولقد تناولت في كتابي «الحديث النبوي في النحو العربي» ظاهرة «الاحتجاج بالحديث النبوي ، والاستشهاد به» ؛ لأنّ علم الحديث الشريف ، رفيع القدر ، عظيم الفخر ، شريف الذكر ، لا يعتني به إلّا كلّ حبر ، ولا يحرمه إلّا كلّ غمر (١) ، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر (٢).

فالحديث النبوي كما أنه المصدر الثاني للتشريع واللغة بلا منازع. فكذلك هو المصدر النّحويّ في قولين من ثلاثة.

وسيبقى الحديث إلى جانب القرآن في الاستدلال والاحتجاج ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، فالتمسك بهما سر نجاح الأمة الإسلامية وتقدمها ، مصداقا لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (تركت فيكم شيئين لن تضلّوا بعدهما : كتاب الله ، وسنّتي) (٣).

وقد قسّمت الخلاف في الاحتجاج بالحديث النبوي ، إلى ثلاثة اتجاهات :

الاتجاه الأول : صحة الاحتجاج بالحديث النبوي في النحو العربي.

ذهب إلى ذلك طائفة من النحاة ، منهم : «ابن خروف» ـ ٦٠٩ ه‍ و «ابن مالك» ـ ٦٧٢ ه‍ ، و «ابن هشام» ـ ٧٦١ ه‍.

وهذا الاتّجاه عليه المعوّل ، وإليه المصير.

__________________

(١) الغمر ـ بضم الغين ـ : غير المجرب.

(٢) انظر مقدمة «تدريب الراوي».

(٣) رمز «السيوطي» في «الجامع الصغير» بأنه أخرجه «الحاكم» في «المستدرك» عن أبي هريرة ا ه.

قاله النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حجة الوداع. وانظر «فيض القدير» ٣ : ٢٤١.

٦

وقد أفسح لنا «ابن مالك» دائرة الاستشهاد باعتبار الحديث مصدرا من مصادرها.

وليت شعري ، من أولى من «ابن مالك» في عصره ، بتمييز صحيح الحديث من زائفه!! وهو الذي ذكر بين طبقات الشافعية ، وروى له «السيوطيّ» بعض الأحاديث بسنده ، وتلمذ له الإمام «اليونينيّ» و «ابن جماعة» ، وغيرهما من كبار الأئمة ، وكتابه «شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح» خير دليل على أن الرجل لم يجر في غير ميدانه ، ولم يتعلق بما ليس من شأنه ، بل إنه الإمام الذي يطمأن إليه فيما يأخذ وما يدع من أحاديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين يرى الاستشهاد بشيء من هذه الأحاديث (١).

وقال «ابن حزم» : «... والذي لا شك فيه فهو أنه ـ عليه‌السلام ـ أفصح من امرئ القيس ، ومن الشماخ ، ومن الحسن البصري ، وأعلم بلغة قومه من الأصمعي ، وأبي عبيدة ، وأبي عبيد.

فما في الضلال أبعد من أن يحتج في اللغة بألفاظ هؤلاء ، ولا يحتج بلفظه فيها ـ عليه‌السلام ـ فكيف وقد أضاف ربه ـ تعالى ـ فيه إلى ذلك العصمة من الخطأ فيها ، والتأييد الإلهي ، والنبوة والصدق ...» (٢)

الاتجاه الثاني : رفض الاستشهاد بالحديث والاحتجاج به صراحة.

ذهب إلى ذلك طائفة من النحاة ، منهم : «أبو حيان» ـ ٧٤٥ ه‍ ، و «أبو الحسن ابن الضائع» ـ ٦٨٠ ه‍. وأولع «السيوطي» ـ ٩١١ ه‍ بنقل كلامهما ، وألهج به في كتبه ، ظانا أنه من الفوائد الغريبة ، متلقيا له بالقبول تقليدا غافلا عن أنه في هذا الباب لا يسمن ولا يغني.

__________________

(١) انظر تمهيد «ابن مالك : تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد» ٤٧ ـ ٤٨.

(٢) «الإحكام في أصول الأحكام» ٥٣٩ ـ ٥٤١.

٧

وقد تعلّق من قال بهذا الاتجاه بعلّتين :

جواز الرواية بالمعنى.

ووقوع اللحن كثيرا في الأحاديث ، لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب ، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو.

ونحن نحمّل مسؤولية هذا الرفض «أبا حيان» و «ابن الضائع» ؛ النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول ، قبل تدوينه في الكتب ، وقبل فساد اللغة ، وغايته تبديل لفظ بلفظ ، يصح الاحتجاج به ، فلا فرق. وادعاء وقوع اللحن في الحديث النبوي باطل ؛ لأن ذلك يمكن أن يتخرج على وجه من الوجوه النّحوية الصحيحة ، أو يتخرج على لغة عربية غير مشهورة.

والقول بأن في رواة الحديث أعاجم قول لا يعتدّ به ؛ لأنّ ذلك يقال في رواة الشعر والنثر ، اللذين يحتج بهما ، فإن فيهم الكثير من الأعاجم ، وهل في وسعهم أن يذكروا لنا محدّثا ممن يعتد به أن يوضع في صف «حمّاد الراوية» الذي كان يكذب ، ويلحن ، ويكسر الشعر. (١) وروى «الكوفيون» أنّ حمّادا الراوية كان حفظ القرآن من المصحف ، فكان يصحّف نيّفا وثلاثين حرفا. (٢) ومع ذلك لم يتورع الكوفيون ، ومن نهج منهجهم عن الاحتجاج بمروياته. ولكنهم تحرجوا في الاحتجاج بالحديث النبوي.

ولم ترفّع النّحويّون عما ارتضاه اللغويون من الانتفاع بهذا الشأن ، والاستقاء من ينبوعه الفياض ، العذب الزلال ، فأصبح ربع اللغة به خصيبا بقدر ما صار ربع النحو جديبا؟!

ومن اطّلع على منهج المحدّثين في النقد ، وطريقتهم في التعديل ، ومبالغتهم في

__________________

(١) «مراتب النحويين» : ١١٨.

(٢) «شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف» : ١٢ ، و «حماد» هذا هو حماد بن سابور بن المبارك ، أبو القاسم (٩٥ ـ ١٥٥ ه‍) وانظر ترجمته في «الأعلام» ٢ : ٢٧١.

٨

حقيقة الراوي ، والأخذ بالظنة والتهمة في ردّ مروياته ، يكاد يجزم بأن تجويز الكذب على الراوي المستجمع للشروط أمر لا يصدّقه عقل ، ولا يتفق عليه اثنان.

ونحن لا نعذر القدامى في عدم احتجاجهم بالحديث ، ولكن عدم ممارستهم لهذا الفن الجليل صرفهم عن الاحتجاج به ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

الاتجاه الثالث : التوسط بين المنع والجواز

ومن أبرز من نهج هذا النهج «أبو إسحاق الشاطبي» ـ ٧٩٠ ه‍ فقد قسّم الحديث إلى قسمين :

القسم الأول : ما يعتنى ناقله بمعناه دون لفظه ، وهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان.

القسم الثاني : عرف اعتناء ناقله بلفظه ، لمقصود خاص ، كالأحاديث التي قصد بها فصاحته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والأمثال النبوية. وهذا يصح الاستشهاد به في النحو.

ثم أضاف «محمد الخضر حسين» ـ ١٣٧٧ ه‍ قسما ثالثا ، هو في الواقع تفصيل لما أجمل «الشاطبيّ» ، وقد عالج هذا الموضوع في «مجلة مجمع اللغة العربية» على خير ما يعالجه عالم ثبت ، (١) وانتهى من بحثه إلى النتيجة الآتية :

من الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف بالاحتجاج به في اللغة و (القواعد) وهي ستة أنواع :

أولها : ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته ، ومحاسن بيانه.

ثانيها : ما يروى من الأقوال التي يتعبّد بها.

__________________

(١) يقال : رجل ثبت ـ بسكون الباء ـ متثبّت في أموره. ورجل ثبت ـ بفتحتين ـ إذا كان عدلا ضابطا ، والجمع : أثبات ، مثل سبب وأسباب. مصباح (ثبت).

٩

ثالثها : ما يروى على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم. ومما هو ظاهر أن الرواة يقصدون في هذه الأنواع الثلاثة إلى رواية الحديث بلفظه.

رابعها : الأحاديث التي وردت من طرق متعددة ، واتحدت ألفاظها. سواء أكان ذلك من لفظ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أم الصحابة ، أم التابعين ، الذين ينطقون الكلام العربيّ فصيحا.

خامسها : الأحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة ، كـ «مالك بن أنس» ، و «عبد الملك بن جريج» ، و «الشافعي».

سادسها : ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى.

مثل : «ابن سيرين» و «علي بن المديني» ، و «رجاء بن حيوة» ...

إلى غير ذلك من النتائج ، وقد ذكرت في مكانها من هذا المؤلّف.

وأخيرا فلقد تعرضت لكثير من الشبهات والآراء ، وناقشتها ، ورددت على الساقط منها ، وبيّنت وجه الحق مدعوما بالأدلة ، والبراهين.

واشتمل هذا التأليف بعد هذه «التقدمة» على «تمهيد» ذكرت فيه «فصاحة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبلاغة قوله» ، وإنما ذكرت هذا التمهيد بساطا وتوطئة لما سأبسطه من الاحتجاج بالحديث النبوي. لا لأبيّن فصاحته ، وبلاغة قوله ، فهو أفصح من نطق بالضاد. لا ينازع في ذلك أحد.

وقد قسمت هذا التأليف إلى قسمين :

القسم الأول : (دراسة مستفيضة لظاهرة الاستشهاد بالحديث النبوي في النحو العربي)

وفيه ثلاثة أبواب :

الباب الأول : مدخل إلى علم النحو العربي.

وفيه ثلاثة فصول :

١٠

الفصل الأول : معرفة اللغة والإعراب أصل لمعرفة الحديث النبويّ.

الفصل الثاني : فائدة تعلّم النحو.

الفصل الثالث : آراء علماء الشريعة في تعلّم النحو.

الباب الثاني : مدخل إلى علم الحديث النبوي.

وفيه فصلان :

الفصل الأول : تعريف الحديث ، والفرق بينه وبين الخبر والأثر.

الفصل الثاني : تدوين الحديث النبوي.

تصحيح خطأ.

الباب الثالث : المحدثون يتمتعون بدقة منقطعة النظير.

وفيه فصلان :

الفصل الأول : صفة رواية الحديث ، وشرط أدائه.

آراء العلماء في رواية المعنى.

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : بيان ما يقوله من يروي حديثا بالمعنى.

المسألة الثانية : حكم اختصار الحديث الواحد.

ورواية بعضه دون بعض والزيادة فيه.

المسألة الثالثة : حكم تقطيع متن الحديث الواحد ، وتفريقه في الأبواب.

المسألة الرابعة : طريق السلامة من اللحن والتصحيف في الحديث.

المسألة الخامسة : اللحن والتصحيف.

المسألة السادسة : تقويم اللحن بإصلاح الخطأ.

المسألة السابعة : اتباع المحدّث على لفظه وإن خالف اللغة الفصيحة.

الفصل الثاني : الاحتجاج بالحديث والاستشهاد به.

مطلب : معنى الاستشهاد ، والاحتجاج ، والتمثيل.

وهذه الفصول والمسائل التي درستها شديدة المساس بظاهرة «الاحتجاج والاستشهاد بالحديث النبوي».

١١

وحين أبحث ذلك فإنني لم أخرج عن إطار البحث النحوي الجاد الذي فيه أوفّي الموضوع حقّه من البحث والتنقيب ، معتصما بالصبر ، ومستعينا بالله.

وخلصنا من دراستنا هذه إلى أنه من المسلّمات الأولية أنّ الخطأ واللحن لم يقله النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا أصحابه ، ولا التابعون.

القسم الثاني : (دراسة نحوية للأحاديث النبوية الواردة في أكثر شروح ألفية «ابن مالك»)

وفيه ثمانية وثلاثون بابا.

وهذه الأبواب مشتملة على مسائل.

وعددها : عشر ومائة مسألة.

وقد تضمنت هذه المسائل شواهد حديثية نبوية ، مبينا فيها وجه الاستشهاد.

وقد اقتصرت على الأحاديث الواردة في شروح الألفية التالية :

(١) «شرح ألفية ابن مالك»

ومؤلفه : «محمد بن محمد بن مالك ، بدر الدين ، ابن جمال الدين» ـ ٦٨٠ ه‍.

(٢) «توضيح المقاصد والمسالك ، بشرح ألفية ابن مالك» ومؤلفه : «الحسن ابن قاسم بن عبد الله بن علي المرادي ، المعروف بابن أمّ قاسم» ـ ٧٤٩ ه‍.

(٣) «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك»

ومؤلفه : «عبد الله ، جمال الدين ، أبو محمد ، ابن هشام الأنصاري» ـ ٧٦١ ه‍.

(٤) «شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك»

ومؤلفه : «عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل الهاشميّ» ـ ٧٦٩ ه‍.

(٥) «المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية»

١٢

ومؤلفه : «إبراهيم بن موسى اللّخمي الغرناطي ، أبو إسحاق الشاطبي» ـ ٧٩٠ ه‍.

(٦) «شرح الأشموني على ألفية ابن مالك»

ومؤلفه : «نور الدين ، علي بن محمد ، أبو الحسن الأشموني» ـ نحو ٩٠٠ ه‍ وقيل في وفاته غير ذلك.

وبنهاية المطاف عقدت «خاتمة» بيّنت فيها النتائج التي وصلت إليها من بحثي.

ثم يجيء دور المحتوى العام.

وبهذا أكون قد استوعبت في هذا الكتاب : دراسة ظاهرة الاستشهاد بالحديث عند النحاة ، وما يتصل بهذه الظاهرة ، مع المناقشات السديدة ، والآراء المفيدة ، كما درست طائفة كبيرة من الأحاديث التي استشهد بها شرّاح الألفية ، وعنيت بتخريجها عناية تامة من المصنفات الحديثيّة.

وفي الختام : أستغفر الله العظيم مما طغى به القلم ، أو زلّ به الفكر ، على أنه قد قيل : ليس من الدّخل (١) أن يطغى قلم الإنسان ، فإنه لا يكاد يسلم منه أحد.

قال «ابن الأثير» في «المثل السائر» :

«ليس الفاضل من لا يغلط ،

بل الفاضل من يعدّ غلطه»

في أبها ٢٣ من جمادى الأولى سنة ١٤٠٢

وكتبه أ. د محمود فجال

__________________

(١) العيب.

١٣
١٤

تمهيد

فصاحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلاغة قوله

منح الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من كمالات الدنيا والآخرة ما لم يمنحه غيره ممن قبله أو بعده ، فمن ذلك كلامه المعتاد ، وفصاحته المعلومة.

وكلام النبوّة دون كلام الخالق ، وفوق كلام فصحاء المخلوقين ، فيه جوامع الكلام ، ومعجزات البلاغة والفصاحة.

وهو كثير مستفيض ، وحصر البليغ من كلام النبوّة ممتنع معجز ، لأنّه كلّه بليغ فصيح (١).

والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفصح العرب قولا ، وأبينهم كلاما ، وأعلاهم بلاغة.

وقد وصف «الجاحظ» ـ ٢٥٥ ه‍ كلام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «... هو الكلام الذي قلّ عدد حروفه ، وكثر عدد معانيه ، وجلّ عن الصنعة ، ونزّه عن التكلف ، وكان كما قال الله ـ تبارك وتعالى ـ قل يا محمد : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)(٢) ، فكيف وقد عاب التشديق ، وجانب أهل التقعيب (٣) ، واستعمل المبسوط في موضع البسط ، والمقصور في موضع القصر ، وهجر الغريب الوحشيّ ، ورغب عن الهجين السّوقيّ ، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، ولم يتكلّم إلّا بكلام قد حفّ بالعصمة ، وشيّد بالتأييد ، ويسّر بالتوفيق.

وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة ، وغشّاه بالقبول ، وجمع له بين المهابة والحلاوة ، وبين حسن الإفهام ، وقلّة عدد الكلام.

__________________

(١) «لباب الآداب» ٣٣٠ ـ ٣٣٤.

(٢) سورة «ص» : ٨٦.

(٣) التقعيب كالتقعير ، وهو أن يتكلم بأقصى قعر فمه.

١٥

وهو مع استغنائه عن إعادته ، وقلّة حاجة السامع إلى معاودته ، لم تسقط له كلمة ، ولا زلّت به قدم ، ولا بارت له حجّة ، ولم يقم له خصم ، ولا أفحمه خطيب ، بل يبذّ الخطب الطّوال بالكلم القصار. ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم ، ولا يحتجّ إلا بالصّدق. ولا يطلب الفلج (١) إلا بالحق ، ولا يستعين بالخلابة ، ولا يستعمل المواربة ، ولا يهمز ولا يلمز (٢) ، ولا يبطىء ولا يعجل ، ولا يسهب ولا يحصر (٣) ، ثم لم يسمع الناس بكلام قطّ أعمّ نفعا ، ولا أقصد لفظا ، ولا أعدل وزنا ، ولا أجمل مذهبا ، ولا أكرم مطلبا ، ولا أحسن موقعا ، ولا أسهل مخرجا ، ولا أفصح معنى ، ولا أبين عن فحواه (٤) ، من كلامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ» (٥)

وقال «القاضي أبو الفضل عياض» ـ ٥٤٤ ه‍ : «وأما فصاحة اللسان ، وبلاغة القول ، فقد كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ذلك بالمحلّ الأفضل ، والموضع الذي لا يجهل ، سلاسة (٦) طبع ، وبراعة (٧) منزع (٨) ، وإيجاز مقطع (٩) ، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول ، وصحّة معان ، وقلّة تكلّف ، أوتي جوامع الكلم (١٠) ، وخصّ ببدائع الحكم ، وعلّم ألسنة العرب ، فكان يخاطب كلّ أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه

__________________

(١) الفلج : الفوز والظفر.

(٢) الهمز : الغيبة في الغيبة ، واللمز : العيب في الحضرة.

(٣) حصر يحصر حصرا ، من باب تعب : عي في كلامه.

(٤) فحواه : معناه.

(٥) «البيان والتبيين» ٢ : ١٧ ـ ١٨.

(٦) سلاسة : سهولة.

(٧) «البراعة» مصدر «برع» أي : فاق.

(٨) المنزع : المأخذ.

(٩) مقطع : تمام الكلام.

(١٠) جمع : جامعة ، أي : أوتي الكلم الجوامع للمعاني.

١٦

في غير موطن عن شرح كلامه ، وتفسير قوله. من تأمّل حديثه وسيره (١) علم ذلك وتحقّقه ...

وأما كلامه المعتاد وفصاحته المعلومة ، وجوامع كلمه المأثورة ، فقد ألّف الناس فيها الدواوين ، وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ، ومنها ما لا يوازى (٢) فصاحة ، ولا يبارى بلاغة ...

وقد روت الكافة عن الكافة (٣) من مقاماته ، ومحاضراته ، وخطبه ، ومخاطباته ، وعهوده مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره ، وحاز فيها سبقا لا يقدر قدره.

وقد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها ، ولا قدر أحد أن يفرغ في قالبه عليها ... ما يدرك الناظر العجب في مضمّنها ، ويذهب به الفكر في أداني حكمها ...

فجمع له بذلك ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قوة عارضة البادية وجزالتها ، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ، ورونق كلامها ، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشريّ.

وقالت «أمّ معبد» (٤) في وصفها له ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : حلو المنطق ، فصل ، لا نزر (٥) ، ولا هذر (٦) ، كأنّ منطقه خرزات نظمن ، وكان جهير الصّوت ، حسن النّغمة ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ». (٧)

__________________

(١) جمع سيرة.

(٢) يوازى : يماثل ويقابل.

(٣) الكافة : جمع من الناس ، يقال : لقيتهم كافة ، أي : جميعهم.

(٤) «أم معبد الخزاعية» من ربّات الفصاحة والبلاغة انظر «أعلام النساء» ٥ : ٦٢.

(٥) نزر : قليل.

(٦) هذر : مصدر هذر إذا كثر كلامه.

(٧) «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» ١ : ٧٠ ـ ٨١.

١٧

وقال «مجد الدين ، أبو السعادات ، المبارك بن محمد الجزري ، ابن الأثير» ـ ٦٠٦ ه‍ : «... وقد عرفت ـ أيدك الله وإيانا بلطفه وتوفيقه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أفصح العرب لسانا ، وأوضحهم بيانا ، وأعذبهم نطقا ، وأسدّهم لفظا ، وأبينهم لهجة ، وأقومهم حجّة ، وأعرفهم بمواقع الخطاب ، وأهداهم إلى طرق الصواب ، تأييدا إلهيّا ، ولطفا سماويا ، وعناية ربّانية ، ورعاية روحانية ، حتى لقد قال له «عليّ» ـ كرّم الله وجهه ـ وسمعه يخاطب وفد بني نهد ـ : يا رسول الله ، نحن بنو أب واحد ، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فقال : «أدبني ربي فأحسن تأديبي (١) ، وربّيت في بني سعد».

فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم ، وتباين بطونهم ، وأفخاذهم ، وفصائلهم ، كلّا منهم بما يفهمون ، ويحادثهم بما يعلمون. ولهذا قال ـ صدّق الله قوله ـ : «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» (٢) فكأن (٣) الله ـ عزوجل ـ قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بني أبيه ، وجمع فيه من المعارف ما تفرّق ولم يوجد في قاصي العرب ودانيه. وكان أصحابه ـ رضي‌الله‌عنهم ـ ومن يفد عليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله ، وما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم» (٤).

وقال «مصطفى صادق الرافعي» ـ ١٣٥٦ ه‍ (بتصرف) : «ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا توفيقا من الله ، وتوقيفا ، إذ ابتعثه للعرب ، وهم قوم يقادون من ألسنتهم ، ولهم المقامات المشهورة في البيان

__________________

(١) أخرجه «العسكري» في «الأمثال» عن «علي» ـ رضي‌الله‌عنه ـ مرفوعا ، في حديث طويل ، وسنده ضعيف. وقال في «اللآلي» لـ «السيوطي» : معناه صحيح ، لكن لم يأت من طريق صحيح.

«المقاصد الحسنة» ٢٩ ، «كشف الخفاء» ١ : ٧٠ ، و «تمييز الطيب من الخبيث» ١٢.

(٢) عزاه الحافظ «ابن حجر» لـ «مسند الحسن بن سفيان» عن «ابن عباس». وسنده ضعيف جدا.

ول «الديلمي» في «مسنده» عن «ابن عباس» رفعه : «يا ابن عباس لا تحدث قوما حديثا لا تحتمله عقولهم». «المقاصد الحسنة» ٩٣ ، و «كشف الخفاء» ١ : ١٩٦.

(٣) لعلها تصحيف ، وصوابها : «فكان» بلا همزة ، لما لا يخفى.

(٤) مقدمة «النهاية في غريب الحديث والأثر».

١٨

والفصاحة ، ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات ، وعلى اختلاف مواطنهم ، فمنهم الفصيح والأفصح ، ومنهم الجافي والمضطرب ، ومنهم ذو اللوثة ، والخالص في منطقه ، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم ، وتخصص بعض القبائل بأوضاع ، وصيغ مقصورة عليهم ، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب ، إلا من خالطهم ، أو دنا منهم دنوّ المأخذ.

فكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعلم كل ذلك على حقّه ، كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها ، وتبادره بحقائقها ؛ فيخاطب كلّ قوم بلحنهم ، وعلى مذهبهم ، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابا ، وأسدّهم لفظا ، وأبينهم عبارة ، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب ، ولو عرف لنقلوه وتحدثوا به ، واستفاض فيهم.

ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم ، أو تلقين ، أو رواية ، عن أحياء العرب ، حيّا بعد حي ، وقبيلا بعد قبيل ، حتى يفلي لغاتهم ، ويتتبع مناطقهم ، مستفرغا في ذلك ، متوفّرا عليه ، ومعلوم أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يتهيأ له شيء من ذلك ... والذي خص به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ذلك قد كان توفيقا وإلهاما من الله ، فقد علمه الله أشياء كثيرة لم يكن يعلمها ، حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه ، ولا يحصر إن سألوه ، ويكون في كل قبيل منهم ؛ لتكون الحجة به أظهر ، والبرهان على رسالته أوضح ، وذلك خاص له من دون العرب. فهذه واحدة.

وأما الثانية فقد كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في اللغة القرشية التي هي أفصح اللغات وألينها ، بالمنزلة التي لا يدافع عليها ، ولا ينافس فيها ، وكان من ذلك في أقصى النهاية ، وإنما فضلهم بقوة الفطرة ، واستمرارها وتمكنها ، مع صفاء الحسّ ، ونفاذ البصيرة ، واستقامة الأمر كله ، بحيث يصرّف اللغة تصريفا ، ويديرها على أوضاعها ، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه ؛ لأن القوة على الوضع ، والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام ، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومعاناة ، ولا بعد نظر فيها ، وارتياض لها ، إنما هي إلهام بمقدار ، تهيّء له الفطرة القوية ، وتعين عليه النفس المجتمعة ، والذهن الحادّ ، والبصر النفّاذ ، فعلى حسب ما يكون

١٩

للعربي في هذه المعاني ، تكون كفايته ، ومقدار تسديده في باب الوضع.

وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات ، وأعطاه الخالص منها ، وخصه بجملتها ، وأسلس له مآخذها ، وأخلص له أسبابها ، كالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو اصطنعه لوحيه ، ونصبه لبيانه ، وخصه بكتابه ، واصطفاه لرسالته ، وما ذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام ، وجمام الطبيعة ، وصفاء الحاسة ، وثقوب الذهن ، واجتماع النفس ، وقوة الفطرة ، ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض.

ولا يذهبنّ عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها ، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة ، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة ، ثم ما يكون من سمو الفطرة ، وقوتها ، فإنما هذه سبيله : يأتي من ورائها ، وهي الأسباب إليه ؛ وقد نشأ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وتقلّب في أفصح القبائل وأخلصها منطقا ، وأعذبها بيانا ، فكان مولده في بني هاشم ، وأخواله في بني زهرة ، ورضاعه في سعد بن بكر ، ومنشؤه في قريش ، ومتزوّجه في بني أسد ، ومهاجرته إلى بني عمرو ، وهم الأوس والخزرج من الأنصار ، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة ؛ ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة ، ولذا قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، ونشأت في بني سعد بن بكر» (١).

وهو قول أرسله في العرب جميعا ، والفصاحة أكبر أمرهم ، والكلام سيد عملهم ، فما دخلتهم له حميّة ، ولا تعاظمهم ، ولا ردّوه ، ولا غضّوا منه ، ولا وجدوا إلى

__________________

(١) هم بنو سعد بن بكر ، وكانوا من العرب الضاربة حول مكة ، وكان أطفال القرشيين يتبدون فيهم وفي غيرهم ، يطلبون بذلك نشأة الفصاحة ، ولا يزال كبراء مكة إلى اليوم يرسلون أحداثهم إلى أماكن هذه القبائل من البادية ، وخاصة إلى قبيلة عدوان في شرق الطائف ، وهي قريبة من بني سعد ، وإنما يطلبون بذلك إحكام اللهجة العربية ، وصحة النشأة ، وحرية النزعة. وما إليها مما هو الأصل في هذه العادة يتوارثونها في التربية العربية من قديم.

وبنو سعد هؤلاء غير بني سعد بن زيد مناة بن تميم ، الذين من لغتهم إبدال الحاء هاء لقرب المخرج ، وليست لغتهم خالصة في الفصاحة.

والرواة جميعا على أن بني سعد بن بكر خصوا من بين قبائل العرب بالفصاحة ، وحسن البيان. أه «الرافعي».

٢٠