فدك في التاريخ

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

فدك في التاريخ

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

كل بواعث الثورة على الأوضاع القائمة والانبعاث نحو تغييرها وانشائها انشاءاً جديداً وان الزهراء قد اجتمعت لها كل امكانيات الثورة ومؤهلات المعارضة التي قرر المعارضون ان تكون منازعة سليمة مهما كلف الأمر.

واننا نحسن أيضاً إذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك ومنازعاتها بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة ، ونتبين بجلاء ان هذه المنازعات كانت في واقعها ودوافعها ثورة على السياسة العليا والوانها التي بدت للزهراء بعيدة عمّا تألفه من ضروب الحكم ، ولم تكن حقاً منازعة في شيء من من شؤون السياسة المالية ، والمناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى وان بدت على هذا الشكل في بعض الاحايين.

واذا اردنا ان نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من اصولها أو ما يصح ان يعتبر من أصولها فعلينا ان ننظر نظرة شاملة عميقة لنتبين حادثتين متقاربتين في تاريخ الإسلام كان احدهما صدى للاخر وانعكاساً طبيعياً له وكانا معاً يمتدان بجذورهما وخيوطهما الأولى إلى حيث قد يلتقي احدهما بالآخر أو بتعبير أصح إلى النقطة المستعدة في طبيعتها إلى ان تمتد منها خيوط الحادثتين.

أحدهما الثورة الفاطمية على الخليفة الأول التي كادت ان تزعزع كيانه السياسي ، وترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.

والآخر موقف ينعكس فيه الأمر فتقف عائشة أم المؤمنين بنت الخليفة الموتور في وجه علي زوج الصديقة الثائرة على أبيها.

وقد شاء القدر لكلتا الثائرتين ان تفشلا مع فارق بينهما مرده إلى نصيب كل منهما من الرضا بثورتها ، والاطمئنان الضميري إلى صوابها وحظ كل منها من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواى فيه وهو ان

٤١

الزهراء فشلت بعد ان جعلت الخليفة يبكي ويقول اقيلوني بيعتي والسيدة عائشة فشلت فصارت تتمنى انّها لم تخرج إلى حرب ولم تشق عصا طاعة.

هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع والاشخاص فلماذا لا تنتهيان إلى اسباب متقاربة وبواعث متشابهة.

ونحن نعلم جيداً ان سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة حين اخبارها بأن علياً ولي الخلافة يرجع إلى الايام الأولى في حياة علي وعائشة حينما كان المنافسة على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين زوجته وبضعته.

ومن شأن هذه المنافسة ان تتسع في آثارها فتثبت مشاعراً مختلفة من الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين وتلف بخيوطها من حولهما من الأنصار والاصدقاء ، وقد اتسعت بالفعل في احد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة وعلي فلابد ان تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل ام المؤمنين على حسابه في بيت النبي.

نعم ان انقلاب ام المؤمنين انّما هو من وحي ذكريات تلك الأيام التي نصح فيها علي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يطلقها في قصّة الافك المعروفة.

وهذا النصح ان دل على شيء فانه يدلّ على انزعاجه منها ومن منافستها لقرينته وعلى ان الصراع بين زوج الرسول وبضعته كان قد اتسع في معناه وشمل علياً وغير علي ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة واطوارها.

نعرف من هذا ان الظروف كانت توحي إلى الخليفة الأول بشعور خاص نحو الزهراء وزوج الزهراء ولا ننسى انّه هو الذي تقدم لخطبتها فرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم تقدم علي إلى ذلك فأجابه

٤٢

النبي إلى ما أراد وذاك الرد وهذا القبول يولدان في الخليفة إذا كان شخصاً طبيعياً يشعر بما يشعر به الناس ويحس كما يحسون شعوراً بالخيبة والغبطة لعلي ـ إذا احتطنا في التعبير ـ وبأن فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بينه وبين علي التي انتهت بفوز منافسه.

ولنلاحظ أيضاً انّ أبا بكر هو الشخص الذي بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقرأ سورة التوبة على الكافرين ثم ارسل وراءه وقد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه ويعفيه من مهمته لا لشيء إلا لأن الوحي شاء ان يضع امامه مرة أخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه.

ولابد انّه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الاولية لدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتأثر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الابناء.

وما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الاوقات انّ فاطمة هي التي دفعت بأبيها إلى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له ام المؤمنين التي كانت تعمل على حسابه في بيت النبي أن يؤم الناس ما دام النبي مريضاً.

انّ التاريخ لا يمكننا ان نترقب منه شرح كل شيء شرحاً واضحاً جلياً غير ان الأمر الذي تجمع عليه الدلائل انّ من المعقول جداً ان يقف شخص مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي وفاطمة موقفه التاريخي المعروف وان امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيّام أبيها من منافسات حتى في شباك يصل بينها وبين أبيها حري بها ان لا تسكت إذا أراد المنافسون ان يستولوا على حقّها الشرعي الذي لا ريب فيه.

٤٣

هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي وهو لون من عدة الوان أوضحها وأجلاها اللون السياسي الغالب على أساليبها وأطوارها.

وأنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا اليوم المركز على الالتواء والافتراء. وانّما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا التواء فيه فالممعن في دراسة خطوات النزاع وتطوراته والاشكال التي اتخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض بل يتجلى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث إلى الثورة ويهدف إلى استرداد عرش مسلوب وتاج ضائع ومجد عظيم وتعديل امة انقلبت على اعقابها.

وعلى هذا كانت فدك معنى رمزياً يرمز إلى المعنى العظيم ولا يعني تلك الأرض الحجازية المسلوبة. وهذه الرمزية التي اكتسبتها فدك هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكمشة في افقها محدودة في دائرتها إلى ثورة واسعة النطاق رحيبة الأفق.

ادرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة ، فهل ترى نزاعاً مادياً ؟ أو ترى اختلافاً حول فدك بمعناها المحدود وواقعها الضيق أو ترى تسابقاً على غلات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا ؟ فليست شيئاً يحسب له المتنازعان حساباً.

كلا !. بل هي الثورة على اسّس الحكم والصرخة التي أرادت فاطمة ان تقتلع بها الحجر الأساسي الذي بنى عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.

ويكفينا لاثبات ذلك ان نلقي نظرة على الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد امام الخليفة وبين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين والأنصار فانّها دارت اكثر ما دارت حول امتداح علي والثناء على مواقفه الخالدة

٤٤

في الإسلام وتسجيل حق أهل البيت الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة إلى الله في خلقه وخاصته ومحل قدسه وحجته في غيبه وورثة انبيائه في الخلافة والحكم والفات المسلمين إلى حظهم العاثر واختيارهم المرتجل وانقلابهم على اعقابهم ، وورودهم غير شربهم ، واسنادهم الأمر إلى غير أهله ، والفتنة التي سقطوا فيها ، والدواعي التي دعتهم إلى ترك الكتاب ومخالفته فيما يحكم به في موضوع الخلافة والامامة.

فالمسألة اذن ليست مسألة ميراث ونحلة إلا بالمقدار الذي يتصل بموضوع السياسة العليا ، وليست مطالبة بعقار أو دار ، بل هي في نظر الزهراء مسألة اسلام وكفر ، ومسألة ايمان ونفاق ، ومسألة نص وشورى.

وكذلك نرى هذا النفس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ، اذ قالت فيما قالت : أين زحزحوها عن رواسي الرسالة. وقواعد النبوّة ، ومهبط الروح الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين إلا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافؤا عن زمام نبذه إليه رسول الله (ص) لاعتلقه وسار اليهم سيراً سجحا لا تكلّم حشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح فضفاضه ، ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، إلا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجباً وان تعجب فقد اعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، ولبئس للظالمين بدلاً استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انّهم يحسنون صنعاً ، إلا انّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم أفمن

٤٥

يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ؟ فما لكم كيف تحكمون.

ولم يؤثر عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انهن خاصمن أبا بكر في شيء من ميراثهن أكن أزهد من الزهراء في متاع الدنيا ، وأقرب إلى ذوق أبيها في الحياة ؟ أو أنهن اشتغلن بمصيبة رسول الله ولم تشتغل بها بضعته ؟ أو أن الظروف السياسية هي التي فرقت بينهن فأقامت من الزهراء معارضة شديدة ، ومنازعة خطرة دون نسوة النبي اللاتي لم تزعجهن اوضاع الحكم.

وأكبر الظن انّ الصديقة كانت تجد في شيعة قرينها ، وصفوة أصحابه الذين لم يكونوا يشكون في صدقها من يعطف شهادته على شهادة علي وتكتمل بذلك البيّنة عند الخليفة أفلا يفيدنا هذا ان الهدف الأعلى لفاطمة الذي كانوا يعرفونه جيداً ليس هو اثبات النحلة أو الميراث ، بل القضاء على نتائج السقيفة وهو لا يحصل باقامة البيّنة في موضوع فدك ، بل بان تقدم البيّنة لدى الناس جيمعاً على انّهم ضلوا سواء السبيل. وهذا ما كانت تريد ان تقدمه الحوراء في خطتها المناضلة.

ولنستمع إلى كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها وخرجت من المسجد فصعد المنبر وقال : أيّها الناس ما هذه الدعة إلى كل قالة لأن كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا من سمع فليقل. ومن شهد فليتكلم انّما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة كام طحال أحبّ اهلها إليها البغي. إلا انّي لو اشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت انّي ساكت ما تركت ، ثم التفت إلى الأنصار وقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم واحق من لزم عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، إلا انّي لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك.

٤٦

وهذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصيّة الخليفة ، ويلقي ضوءاً على منازعة الزهراء له ، والذي يهمنا الآن ما يوضحه من أمر هذه المنازعة وانطباعات الخليفة عنها ، فانّه فهم حق الفهم انّ احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النحلة ، وانّما كان حرباً سياسية كما نسميها اليوم وتظلماً لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة وأصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الإسلام ، فلم يتكلم إلا عن علي فوصفه بأنّه ثعالة وانّه مرب لكل فتنة وانّه كام طحال وان فاطمة ذنبه التابع له ، ولم يذكر عن الميراث قليلاً أو كثيراً.

ولنلاحظ ما جاءت به الرواية في صحاح السنة من انّ علياً والعباس كانا يتنازعان في فدك في أيّام عمر بن الخطاب فكان علي يقول انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول هي ملك رسول الله وأنا وارثه ويتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول انتما أعرف بشأنكما اما أنا فقد سلمتها اليكما.

فقد نفهم من هذا الحديث إذا كان صحيحاً ان حكم الخليفة كان سياسياً موقتاً وانّ موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة الحرجة وإلا فلما أهمل عمر بن الخطاب رواية الخليفة وطرحها جانبا وسلم فدكاً إلى العباس وعلي وموقفه منهما يدلّ على انّه سلم فدكاً اليهما على أساس انّها ميراث رسول الله لا على وجه التوكيل ، اذ لو كان على هذا الوجه لما صحّ لعلي والعباس ان يتنازعا في أن فدكاً هل هي نحلة من رسول الله لفاطمة أو تركة من تركاته التي يستحقها ورثته وما أثر هذا النزاع ولو فرض انّها في رأي الخليفة مال للمسلمين وقد وكلهما في القيام عليه ، ولفض عمر النزاع وعرفها انّه لا يرى فدكاً مالاً موروثاً ولا من املاك فاطمة وانّما اوكل أمرها اليهما لينوبا عنه برعايتها وتعاهدها كما ان عدم حكمه بفدك لعلي وحده معناه انّه لم يكن واثقاً بنحلة رسول

٤٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدكاً لفاطمة فليس من وجه لتسليمها إلى علي والعباس إلا الإرث.

واذن ففي المسألة تقديران ( أحدهما ) انّ عمر كان يتهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الإرث ( والآخر ) انّه تأوله وفهم منه معنى لا ينفي التوريث ولكن لم يذكر تأويله ولم يناقش به أبا بكر حينما حدث به وسواء أصح هذا أو ذاك ، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر وإلا فلماذا يتهم عمر الخليفة بوضع الحديث إذا لم يكن في ذلك ما يتصل بسياسة الحكم ، يومئذ ، ولماذا يخفي تأويله وتفسيره ، وهو الذي لم يتحرج عن ابداء مخالفته للنبي أو الخليفة الأول فيما اعترضهما من مسائل.

واذا عرفنا انّ الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب الحاكم عليه ، لأن الناس لم يعتادوا ان يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم أو في تسليم المواريث إلى أهلها ، فلم تكن فاطمة في حاجة إلى مراجعة الخليفة ولم تكن لتأخذ رأيه وهو الظالم المنتزي على الحكم في رأيها فالمطالبة بالميراث لابد انّها كانت صدى لما قام به الخليفة من تأميمه للتركة على ما نقول اليوم والاستيلاء عليها.

( أقول ) : إذا عرفنا هذا وانّ الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل ان تنتزع منها : ـ تجلى لدينا ان ظرف المطالبة كان مشجعاً كل التشجيع للمعارضين على أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم على أسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ واتهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون.

* * *

واذا أردنا ان نفهم المنازعة في اشكالها واسبابها على ضوء الظروف المحيطة بها وتأثيرها كان لزاماً علينا ان نعرض تلك الظروف عرضاً

٤٨

مستعجلاً ونسجل صورة واضحة الألوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتصل بغرضنا.

ولا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الأول بذلك إلا مفهومه الحقيقي المنطبق على تلوّن السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوم بالثورة ويكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة ونزعها لشكلها الأول الذي يستمد قوته وسلطته من السماء.

فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشير بن سعد على يد الخليفة نقطة التحول في تأريخ الإسلام التي وضعت حداً لأفضل العهود وأعلنت عهداً آخر نترك تقريضه للتاريخ.

وقد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الأخيرة في تاريخ النبوات التي قطعت اقدس اداة وصل بين السماء والارض وابركها وأفيضها خيراً ونعمة واجودها صقلاً للانسانية اذ لفظ سيد البشر نفسه الأخير وطارت روحه إلى الرفيق الأعلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهرع الناس إلى بيت النبوّة الذي كان يشرق باضوائه لتوديع العهد المحمدي السعيد وتشييع النبوّة التي كانت مفتاح مجد الأمة وسر عظمتها واجتمعوا حوله تتقاذفهم شتى الخواطر وترتسم في افكارهم ذكريات من روعة النبوّة وجلال النبي العظيم وقد خيل اليهم ان هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير الأنبياء وأبر الآباء كانت حلماً لذيذاً تمتعوا به لحظة من زمان وازدهرت به الإنسانية برهة من حياتها وهاهم قد افاقوا على أسوا ما يستيقظ عليه نائم.

وبينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية ، والصمت الرهيب لا ينطق منهم أحد بكلمة ، وقد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع والحسرات والخشوع والذكريات يفاجؤون بصوت يجلجل في الفضاء ويقطع خيط الصمت الذي لف المجتمعين وهو يعلن انّ رسول الله (ص)

٤٩

لم يمت ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وارجلهم ممن ارجف بموته : لا أسمع رجلاً يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي.

والتفت الأنظار إلى مصدر الصوت ليعرفوا القائل فوجدوا عمر ابن الخطاب قد وقف خطيباً بين الناس وهو يجلجل برأيه في شدة لا تقبل نزاعاً وشاعت الحياة في الناس من جديد فتكلموا وتحدثوا في كلام عمر والتف بعضهم حوله.

واكبر الظن ان قوله وقع من أكثرهم موقع الاستغراب والتكذيب وحاول جماعة منهم ان يجادلوه في رأيه ولكنه بقي شديداً في قوله ثابتاً عليه والناس يتكاثرون حوله ويتكلّمون في شأنه ويعجبون لحاله حتى جاء أبو بكر وكان حين توفي النبي في منزله بالسنح والتفت إلى الناس وقال من كان يعبد محمداً فانه قد مات ومن كان يعبدالله فانه حي لا يموت قال الله تعالى ( انك ميت وانهم ميتون ) وقال ( أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ) ولما سمع عمر ذلك اذعن واعترف بموت رسول الله (ص) وقال كأني ما سمعتها ـ يعني الآية.

ونحن لا نرى في هذه القصّة ما يراه كثير من الباحثين من أن الخليفة كان بطل ذلك الظرف العجيب. والرجل الذي تهيّأت له معدات الخلافة بحكم موقفه من رأي عمر لأن المسألة ليست من الأهميّة بهذا الحد ولم يحدثنا التاريخ عن شخص واحد انتصر لعمر في رأيه فلم يكن إلا رأياً شخصياً لا خطر له ولا شأن للقضاء عليه.

وقد يكون من حق البحث ان الاحظ ان شرح الخليفة لحقيقة الحال في خطابه الذي وجهه إلى الناس كان شرحاً باهتاً في غير حد لا يبدو عليه من مشاعر المسلمين المتحرقة في ذلك اليوم شيء ، بل لم يزد في بيان الفاجعة الكبرى على ان قال انّ من كان يعبد محمداً فانّ محمداً قد مات

٥٠

وقد كان الموقف يتطلب من أبي بكر إذا كان يريد ان يقدم في نفسه زعيماً لتلك الساعة تأبيناً للفقيد الأعظم يتّفق مع العواطف المتدفقة بالذكريات والحسرات يومئذ.

ومن الذي كان يعبد سيد الموحدين حتى يقول من كان يعبد محمداً فانه قد مات وهل كان في كلام عمر معنى يدلّ على انّه كان يعبد رسول الله (ص) أو كانت قد سرت موجة من الارتداد والالحاد في ذلك المجتمع المؤمن الذي كان يعتصر دموعه من ذكرياته وصبره وتماسكه من عقيدته حتى يعلن لهم ان الدين ليس محدوداً بحياة رسول الله لأنّه ليس بالاله المعبود.

اذن فلم يكن لكلام أبي بكر الذي خاطب به الناس صلة بموقفهم ولا علاقة برأي عمر ولا انسجام مع عواطف المسلمين في ذلك اليوم وشؤونهم وقد سبقه به غيره ممن حاول مناقشة الفاروق كما سيأتي.

وكان يعاصر هذا الإجتماع الذي تكلمنا عنه اجتماع آخر للانصار عقدوه في سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج ودعاهم فيه إلى اعطائه الرئاسة والخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فان أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعترته فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير ومنكم أمير فقال سعد فهذا أوّل الوهن وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه أبو بكر فارسل إليه ان اخرج اليّ فارسل انّي مشغول فارسل إليه عمر ان اخرج فقد حدث أمر لابد ان تحضره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنهم أولياؤه وعترته ، ثم قال نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور ، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فانّ الناس في ظلكم ولن

٥١

يجترئ مجترئ على خلافكم ولا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة والمنعة وأولوا العدد والكثرة وذووا البأس والنجدة وانّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فان أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ولا تمتنع العرب ان تولي أمرها من كانت النبوّة منهم من ينازعنا سلطان محمّد ونحن اولياؤه وعشيرته ، فقال الحباب بن منذر يا معشر الأنصار املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فان أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد وانتم أحقّ بهذا الأمر منهم فانه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عرينة الأسد والله ان شئتم لنعيدها جذعة فقال عمر اذن يقتلك الله ، قال بل إيّاك يقتل فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار انكم أوّل من نصر فلا تكونوا أوّل من بدل وغير ، فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار الا أنّ محمداً من قريش وقومه أولى به وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر فقال أبو بكر هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله (ص) في الصلاة وهي أفضل الدين أبسط يدك فلما بسط يده ليبايعان سبقهما بشير من سعد فبايعه فناداه الحباب ابن المنذر يا بشير غفتك غفاق أنفست على ابن عمك الامارة ، فقال أسيد ابن خضير رئيس الأوس لأصحابه والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبداً ، وبايعوا أبا بكر واقبل الناس يبايعونه من كل جانب (١).

ونلاحظ في هذه القصّة انّ عمر هو الذي سمع بقصة السقيفة

__________________

(١) الجزء الأول من شرح النهج ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

٥٢

واجتماع الأنصار فيها واخبر ابا بكر بذلك ومادمنا نعلم ان الوحي لم ينزل عليه بذلك النبأ فلابد انّه ترك البيت النبوي بعد ان جاء أبو بكر واقنعه بوفاة النبي فلماذا ترك البيت ولما اختصّ أبا بكر بنبأ السقيفة إلى كثير من هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيراً معقولاً أولى من ان يكون في الأمر اتفاق سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على خطة معينة في موضوع الخلافة وهذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لنا افتراضه.

الاول : تخصيص عمر لأبي بكر بنبأ السقيفة كما سبق واصراره على استدعائه بعد اعتذاره بأنّه مشغول حتى اشار إلى الغرض ولمح إليه خرج مسرعاً وذهبا على عجل إلى السقيفة ، وكان من الممكن ان يطلب غيره من أعلام المهاجرين بعد اعتذاره عن المجييء ، فهذا الحرص لا يمكن ان نفسره بالصداقة التي كانت بينهما ، لأنّ المسألة لم تكن مسألة صداقة ولم يكن أمر منازعة الأنصار يتوقف على أن يجد عمر صديقاً له بل على أن يستعين بمن يوافقه في أحقيّة المهاجرين أياً كان.

ولا ننسى ان نلاحظ انّه أرسل رسولاً إلى أبي بكر ، ولم يذهب بنفسه ليخبره بالخبر خوفاً من انتشاره في البيت تسامع الهاشميين أو غير الهاشميين به وقد طلب من الرسول في المرة الثانية ان يخبره بحدوث أمر لابد ان يحضره ونحن لا نرى حضور أبي بكر لازماً في ذلك الموضوع إلا إذا كانت المسألة مسألة خاصة وكان الهدف تنفيذ خطة متفق عليها سابقاً.

الثاني : موقف عمر من مسألة وفاة النبي (ص) وادعاؤه انّه لم يمت ولا يستقيم في تفسيره ان نقول انّ عمر ارتبك في ساعة الفاجعة وفقد صوابه وادّعى ما ادّعى. لأنّ حياة عمر كلّها تدل على انّه ليس من هذا الطراز وخصوصاً موقفه الذي وقفه في السقيفة بعد تلك القصّة مباشرة

٥٣

فالذي تؤثر المصيبة عليه إلى حد تفقده صوابه لا يقف بعدها بساعة يحاجج ويجادل ويقاوم ويناضل.

ونحن نعلم أيضاً انّ عمر لم يكن يرى ذلك الرأي الذي أعلنه في تلك الساعة الحرجة قبل ذلك بأيام أو بساعات حينما اشتدّ برسول الله (ص) المرض واراد ان يكتب كتاباً لا يضلّ الناس بعده فعارضه عمر وقال ان كتاب الله يكفينا وانّ النبي يهجر أو قد غلب عليه الوجع كما في صحاح السنة فكان يؤمن بأن رسول الله يموت وانّ مرضه قد يؤدّي إلى موته وإلا لما اعترض عليه.

وقد جاء في تاريخ ابن كثير انّ عمر بن زائدة قرأ الآية التي قرأها أبو بكر على عمر قبل ان يتلوها أبو بكر فلم يقتنع عمر وانّما قبل كلام أبي بكر خاصة واقتنع به.

فما يكون تفسير هذا كله إذا لم يكن تفسيره انّ عمر شاء ان يشيع الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا إليها وتتجه الأفكار نحوها تفنيداً أو تأييداً مادام أبو بكر غائباً لئلا يتم في أمر الخلافة شيء ويحدث أمر لابد ان يحضره أبو بكر ـ على حد تعبيره ـ وبعد ان أقبل أبو بكر اطمأن باله وامن من تمام البيعة للبيت الهاشمي مادام للمعارضة صوت في الميدان وانصرف إلى تلقط الأخبار حادساً بما سيقع فظفر بخبر ما كان يتوقعه.

الثالث : شكل الحكومة التي تمخضت عنها السقيفة ، فقد تولّى أبو بكر الخلافة وأبو عبيدة المال وعمر القضاء (١) وفي مصطلحنا اليوم ان الأول تولّى السياسة العليا والثاني تولّى السياسة الاقتصادية والثالث تولّى السلطات القضائية وهي الوظائف الرئيسية في مناهج الحكم

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من تاريخ ابن الأثير صفحة ١٦١.

٥٤

الإسلامي وتقسيم المراكز الحيوية في الحكومة الإسلامية يومئذ بهذا الأسلوب على الثلاثة الذين قاموا بدورهم المعروف في سقيفة بني ساعدة لا يأني بالصدفة على الأكثر ولا يكون مرتجلا.

الرابع : قول عمر حين حضرته الوفاة لو كان أبو عبيدة حياً لوليته (١).

وليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمني لأنّه كان يعتقد أهلية علي للخلافة ومع ذلك لم يشأ أن يتحمل أمر الأمة حياً وميتاً (٢).

وليست أمانة أبي عبيدة التي شهد له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ـ بزعم الفاروق ـ هي السبب في ذلك ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخصه بالاطراء ، بل كان في رجالات المسلمين يومئذ من ظفر بأكثر من ذلك من ألوان الثناء النبوي كما تقرر ذلك صحاح السنة والشيعة.

الخامس : إتهام الزهراء للحاكمين بالحزبية السياسية ، كما سنرى في الفصل الآتي.

السادس : قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ للفاروق رضي‌الله‌عنه : احلب يا عمر حلباً لك شطره أشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً (٣).

ومن الواضح انّه يلمح إلى تفاهم بين الشخصين على المعونة المتبادلة واتفاق سابق على خطة معينة وإلا فلم يكن يوم السقيفة نفسه ليتسع لتلك المحاسبات السياسية التي تجعل لعمر شطراّ من الحلب.

__________________

(١) شرح النهج ج ١ ص ٦٤.

(٢) الانساب للبلاذري ج ٥ ص ١٦.

(٣) ج ٢ ص ٥ من شرح النهج.

٥٥

السابع : ما جاء في كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى محمّد بن أبي بكر ( رضوان الله عليه ) في إتهام أبيه وعمر بالاتفاق على غصب الحق العلوي والتنظيم السري لخطوط الحملة على الإمام اذ قال له فيما قال : فقد كنا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا فلما اختار الله لنبيه ( عليه الصلاة والسلام ) ما عنده واتم وعده وأظهر دعوته فابلج حجته وقبضه إليه ( صلوات الله عليه ) كان أبوك والفاروق أوّل من ابتزه حقه وخالفه على أمره على ذلك اتفقا واتسقا ثم انهما دعواه إلى بيعتهما فابطا عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم وأراد به العظيم (١).

ونحن نلاحظ بوضوح عطفه طلب أبي بكر وعمر (رض) للبيعة من الإمام بثم على كلمتي اتفقا واتسقا. وهو قد يشعر بأن الحركة كانت منظمه بتنظيم سابق وانّ الإتفاق على الظفر بالخلافة كان سابقاً على الإيجابيات السياسية التي قاما بها في ذلك اليوم.

ولا أريد أن أتوسع في دراسة هذه الناحية التاريخية أكثر من هذا ولكن هل لي أن الاحظ على ضوء ذلك التقدير التاريخي ان الخليفة لم يكن زاهداً في الحكم كما صوره كثير من الباحثين بل قد نجد في نفس المداورة التي قام بها الخليفة في السقيفة دليلاً على تطلعه للأمر فإنه بعد أن أعلن الشروط الأساسية للخليفة شاء ان يحصر المسألة فيه فتوصل إلى ذلك بأن ردد الأمر بين صاحبيه الذين لن يتقدما عليه وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الترديد ان يتعين وحده للأمر.

فهذا الاسراع الملحوظ من الخليفة إلى تطبيق تلك الصورة التي قدمها للخليفة الشرعي في رأيه على صاحبيه خاصة الذي لم يكن يؤدّي إلا إليه كان معناه انّه أراد أن يسلب الخلافة من الأنصار ويقرها في شخصه في آن واحد ولذا لم يبد تردداً أو ما يشبه التردد لما عرض الأمر

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ٣١٥.

٥٦

عليه صاحباه وعمر نفسه يشهد لأبي بكر بأنّه كان مداوراً سياسياً بارعاً في يوم السقيفة في حديث طويل له يصفه فيه بأنّه أحسد قريش (١).

ونجد فيما يروي عن الخليفتين في أيّام رسول الله (ص) ما يدلّ على هوى سياسي في نفسيتهما وانهما كانا يفكران في شيء على أقل تقدير فقد ورد في طرق العامّة انّ رسول الله (ص) قال : ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر أنا هو يا رسول الله قال : لا ، قال عمر : أنا هو يا رسول الله ، قال : لا ولكن خاصف النعل يعني علياً.

والمقاتلة على التأويل انّما تكون بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقاتل لابد أن يكون أمير الناس فتلهف كل من أبي بكر وعمر على أن يكون المقاتل على التأويل مع انّ القتال على التنزيل كان متيسراً لهما في أيّام رسول الله (ص) ولم يشاركا فيه بنصيب قد يدلّ على ذلك الجانب الذي نحاول ان نستكشفه في شخصيتهما.

بل أريد ان اذهب أكثر من هذا فألاحظ ان أناساً متعددين كانوا يعملون في صالح أبي بكر وعمر (٢) وفي مقدمتهما عائشة وحفصة اللتان اسرعتا باستدعاء والديهما عندما طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبيبه في لحظاته الأخيرة التي كانت تجمع دلائل الظروف على

__________________

(١) راجع شرح النهج ج ١ ص ١٢٥.

(٢) وقد سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما هدّد طائفة من قريش برجل قرشي امتحن الله قلبه للايمان يضرب رقابهم على الدين ان ذلك الرجل هل هو ابو بكر فقال لا فقيل فعمر قال لا الخ ، راجع مسند أحمد ج ٣ ص ٣٣ والرواية تهمل اسم السائل الذي توهم ان الشخص الذي وصفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أبو بكر أو عمر واذا لم يكن أبو بكر وعمر معروفين بشجاعة وبسالة في المشاهد الحربية على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلابد أن أمرا آخر دعى السائل إلى ان يسأل ذينك السؤالين والبقية اتركها لك.

٥٧

انها الظرف الطبيعي للوصية ولابد انهما هما اللتان عنتهما الرواية التي تقول انّ بعض نساء النبي ارسلن رسولا إلى اسامة لتأخيره عن السفر (١) فإذا علمنا هذا وعلمنا ان هذا لم يكن باذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلا لما أمره بالاسراع بالرحيل لما قدم عليه بعد ذلك وان سفره مع من معه كان يعيق عن تحقق النتائج التي انتجها يوم السقيفة خرجت لدينا قضية مرتبة الحلقات على أسلوب طبيعي يعزر ما ذهبنا إليه من رأي.

ومذهب الشيعة في تفسير ما قام به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تجنيد جيش اسامة معروف وهو انّه احس بأنّ اتفاقاً ما بين جملة من أصحابه على أمر معين ، وقد يجعل هذا الإتفاق منهم جبهة معارضة لعلي.

ونحن ان شككنا في هذا فلا نشك في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل أبا بكر وعلياً في كفتي الميزان مراراً امام المسلمين جميعاً ليروا بأعينهم انهما لا يستويان في الميزان العادل وإلا فهل ترى اعفاء أبي بكر من قراءة التوبة على الكافرين بعد ان كلف بذلك امراً طبيعياً ولماذا انتظر الوحي وصول الصديق إلى منتصف الطريق لينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأمره باسترجاعه وارسال علي للقيام بالمهة أفكان عبثاً أو غفلة أو امراً ثالثاً وهو انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحس بأن المنافس المتحفز لمعارضة ابن عمه ووصيه هو أبو بكر فشاء وشاء له ربّه تعالى أن يرسل ابا بكر ثم يرجعه بعد ان يتسامع الناس جميعاً بارساله ليرسل علياً الذي هو كنفسه ليوضح للمسلمين مدى الفرق بين الشخصين وقيمة هذا المنافس الذي لم يأتمنه الله على تبليغ سورة إلى جماعة فكيف بالخلافة والسلطنة المطلقة.

__________________

(١) راجع الجزء الأول من شرح النهج ص ٥٣.

٥٨

اذن فنخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع ان نختصره بنتيجتين : الأولى : ان الخليفة كان يفكر في الخلافة ويهواها وقد أقبل عليها بشغف ولهفة.

الثانية انّ الصديق والفاروق وأبا عبيدة كانوا يشكلون حزباً سياسياً مهما لا نستطيع ان نضع له صورة واضحة الخطوط ، ولكنا نستطيع ان نؤكد وجوده بدلائل متعددة ، ولا ارى في ذلك ما ينقص من شأنهم أو يحط من مقامهم ، ولا بأس عليهم ان يفكروا في أمور الخلافة ويتفقوا فيها على سياسة موحدة إذا لم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص في الموضوع ولا يبرؤهم إذا كان النصّ ثابتاً بعدهم عن الهوى السياسي وارتجال فكرة الخلافة في ساعة السقيفة من المسؤولية أمام الله وفي حكم الضمير.

* * *

لست الآن بصدد تحليل الموقف الذي اشتبك فيه الأنصار مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وشرح ما يدلّ عليه من نفسية المجتمع الإسلامي ومزاجه السياسي وتطبيق قصّة السقيفة على الأصول العميقة في الطبيعة العربية ، فان ذلك كله خارج عن الحدود القريبة للموضوع وانّما أريد ان ألاحظ ان الحزب الثلاثي الذي قدر له ان يلي الأمور يومئذ كان له معارضون على ثلاثة اقسام :

الأول : ـ الأنصار الذين نازعوا الخليفة وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة ووقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب تركز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية وانشقاق الأنصار على انفسهم لتمكن النزعة القبلية من نفوسهم.

٥٩

الثاني : ـ الأمويون الذين كانوا يريدون أن يأخذوا من الحكم بنصيب ويسترجعوا شيئاً من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان.

الثالث : ـ الهاشميون واخصاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم وجماعات من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو الوارث الطبيعي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم الفطرة ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها.

واشتبك أبو بكر وصاحباه في النزاع مع القسم الأول في سقيفة بني ساعدة وركزوا في ذلك الموقف دفاعهم عمّا زعموا من حقوق على نقطة كانت ذات وجاهة في نظر كثير من الناس فان قريشاً ما دامت عشيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخاصته فهي أولى به من سائر المسلمين وأحق بخلافته وسلطانه.

وقد انتفع أبو بكر وحزبه باجتماع الأنصار في السقيفة من ناحيتين :

( الأولى ) ان الأنصار سجلوا على انفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد ذلك إلى صف علي ويخدموا قضيته بالمعنى الصحيح كما سنوضحه قريباً.

( الثانية ) انّ أبا بكر الذي خدمته الظروف فاقامت منه المدافع الوحيد عن حقوق المهاجرين في مجتمع الأنصار لم يكن ليتهيأ له ظرف أوفق بمصالحه من ظرف السقيفة اذ خلا الموقف من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي سجلتها السقيفة في ذلك اليوم.

وخرج أبو بكر من السقيفة خليفة وقد بايعه جمع من المسلمين الذين اخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة أو عز عليهم ان يتولاها سعد بن عبادة.

٦٠