شرح الكافية الشّافية - ج ١

أبي عبد الله جمال الدين محمّد بن عبد الله بن محمّد بن مالك الطائي الجياني الشافعي

شرح الكافية الشّافية - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله جمال الدين محمّد بن عبد الله بن محمّد بن مالك الطائي الجياني الشافعي


المحقق: علي محمّد معوّض
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2874-4
الصفحات: ٥٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ابن مالك (١)

مقدمة :

الحمد لله الأول بلا ابتداء ، الآخر بلا انتهاء ، والصلاة والسّلام على المصطفى المختار ، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ثم على إخوانه المصطفين الأخيار ، وعلى كل من دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

ثم أما بعد :

فإن ابن مالك أكبر نحوى ظهر فى القرن السابع الهجرى فى العالم الإسلامى كله ، ويعد من أشهر النحاة الذين عرفهم تاريخ النحو العربى منذ نشأته فى القرن الثانى للهجرة إلى اليوم.

وفى الحقيقة إننا إذا استثنينا سيبويه وكتابه ـ فإننا لا نكاد نجد عالما من علماء النحو نال تلك الشهرة الواسعة التى نالها ابن مالك صاحب الألفية.

ولسنا مغالين إذا قلنا : إن ظهور ابن مالك يعد بداية لمرحلة جديدة فى النحو العربى ، وكأنما انقسم تاريخ النحو العربى منذ نشأته المبكرة فى القرن الثانى للهجرة إلى يومنا هذا ـ إلى مرحلتين أساسيتين ؛ حيث يقف إمام النحاة سيبويه على قمة المرحلة الأولى ، بينما يقف ابن مالك على قمة المرحلة الأخرى ، ولئن كانت أهمية سيبويه ترجع إلى أنه هو الذى خط بمهارة فائقة قواعد النحو العربى ، وخطا به الخطوة الأولى التى حددت معالمه ، ورسمت اتجاهاته فى دقة وإحاطة ـ فإن أهمية ابن مالك تعود إلى أنه قد قام بأهم وأكبر عملية تصفية وتنقية لقواعد النحو العربي ،

__________________

(١) ينظر : النجوم الزاهرة ٦ / ٢٣٣ ، بغية الوعاة ٥٣ ، غاية النحاة فى طبقات القراء لابن الجزرى ٢ / ١٨٠ عصر سلاطين المماليك محمود رزق سليم ١ / ٢١ ، المدارس النحوية ٣٠٩ ، الوافى بالوفيات ٣ / ٣٥٩ ، نفح الطيب ٢ / ١٠٨. ١٠٩ الصلة لابن بشكوال ١ / ٢٥٣ ، المعجب فى تلخيص أخبار أهل المغرب للمراكشى ١٧١ ، الأدب العربى فى الأندلس د / محمد خفاجى ١٩ ـ ٢٠ ، العبر وديوان المبتدأ والخبر ٤ / ١٤٦ ، طبقات الشافعية للسبكى ٥ / ٦٧ ، المزهر للسيوطى ١ / ٢٨.

٣

شهدها تاريخ النحو العربى ، وكانت هذه هى الخطوة الأخيرة ، والتى استقر بعدها النحو فى صورته الثابتة إلى اليوم ، فلا زلنا نعيش على هذا التراث الضخم الذى خلفه لنا ابن مالك ، وهو فى الحق ميراث يشهد بسعة الأفق وكثرة الاطلاع ؛ ينبيك عن ذلك كثرة المصنفات سواء كانت فى النحو أو الصرف أو اللغة أو القراءات ، وفى الواقع فإن أهمية ابن مالك لا ترجع إلى هذه الكثرة الوافرة من إنتاجه وتصنيفاته ـ بل ترجع ـ أيضا ـ إلى ذلك المذهب النحوى البالغ الأثر فى نحو العربية ، الذى أقام دعائمه ، ورفع قواعده ، وأتم بنيانه.

ومما هو جدير بالذكر أن من حسن حظ النحو العربى أن ابن مالك قد ظهر بعد أن نضجت دراساته ، واكتملت مذاهبه ، بل وتحددت أيضا اتجاهات مدارسه.

وقد هيأ ذلك لابن مالك أن يكون على صلة بكل هذا التراث الضخم بمدارسه ، واتجاهاته ، ومذاهبه.

وقد أمد الله ـ عزوجل ـ ابن مالك بما تفوق به على عدد غير قليل ممن سبقه من النحاة ، وهيأ له ـ سبحانه ـ من الأسباب ما أتاح له أن يصل إلى هذا الذى لم يستطعه الأوائل ؛ كما يقول أبو العلاء المعرى : [من الطويل]

وإنى وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم تستطعه الأوائل

وهو هذا المذهب النحوى الذى شغل به النحاة من بعده ، والذى لا يزال حتى الآن أساسا لأكثر الدراسات والبحوث النحوية المعاصرة.

ويقوم هذا المذهب فى جوهره على أساس المزج والاختيار من المذاهب السابقة كلها : بصرية أو بغدادية أو أندلسية ؛ هذا مع ميل واضح إلى الحياد ، وتوخّ حاد للسهولة والتيسير ، وجنوح شديد إلى الاجتهاد والتجديد.

وهذه الدراسة التى تدور حول ابن مالك النحوى : حياته ، ومصنفاته ، ومذهبه النحوى ـ ستدور إن شاء الله حول ثلاثة أبواب ؛ وهى كالتالى :

الباب الأوّل :

ويدور حول ابن مالك ، وحياته فى الأندلس والمشرق ، ونتناول فى ذلك :

١ ـ نسبه.

٢ ـ مولده ومسقط رأسه.

٣ ـ أسرته بالأندلس.

٤

٤ ـ دراساته وشيوخه بالأندلس.

٥ ـ رحلته إلى المشرق وأثر هذه الرحلة فى حياته ودراساته وسلوكه.

٦ ـ دراساته وشيوخه بالمشرق.

٧ ـ اشتغاله بالإمالة والتدريس والتأليف.

٨ ـ أسرته بالمشرق.

٩ ـ أخلاقه وصفاته.

١٠ ـ وفاته ورثاءه.

الباب الثانى :

ويدور حول مؤلفاته نظما ونثرا ، وما أثر من شعره ، ونتناول فى ذلك ما يلى :

١ ـ مؤلفاته النحوية.

٢ ـ مؤلفاته الصرفية.

٣ ـ مؤلفاته اللغوية.

٤ ـ مؤلفاته فى القراءات.

٥ ـ ما أثر من شعره.

الباب الثالث :

ويدور حول مذهبه النحوى ، ونتناول فيه :

أولا : مذهبه النحوى من حيث الشكل.

وفى ذلك نلاحظ :

١ ـ التجديد فى منهج التأليف.

٢ ـ النظم العلمى للفنون.

ثانيا : من حيث الموضوع.

وفى ذلك نلاحظ :

١ ـ التيسير والسهولة ، ويظهر ذلك فى :

أ ـ اختياره لمذهب من المذاهب.

ب ـ عرضه للمذاهب والآراء فى صورة نظم علمى.

٢ ـ المزج والاختيار.

٥

ويتجلى ذلك فى :

أ ـ مزجه بين مذاهب النحاة على اختلافهم.

ب ـ مزجه بين النحو والصرف واللغة.

ج ـ مزجه بين مصادر الاستشهاد من القرآن والحديث ، وكلام العرب شعرا ونثرا.

ثالثا : من حيث موقفه من بعض قضايا أصول النحو وأدلته ، ونتناول فى ذلك :

١ ـ موقفه من السماع : القرآن ـ الحديث ـ كلام العرب.

٢ ـ موقفه من القياس.

رابعا : الأصول النحوية العامة عند ابن مالك.

خامسا : المصطلحات النحوية عند ابن مالك.

* * *

٦

الباب الأوّل

حياة ابن مالك فى الأندلس والمشرق :

١ ـ نسبه :

هو أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك الطائى الجيانى ، الشافعى ، النحوى ، نزيل دمشق.

وقد ذكر المقرّى فى كتابه «نفح الطيب ، من غصن الأندلس الرطيب» (١) حين عرض لنسبه ، وقد أسقط اسم جده محمدا أن بعض الحفاظ حين عرف بابن مالك ، قال : يقال : إن عبد الله فى نسبه مذكور مرتين متتاليتين ، وبعض يقول : مرة واحدة ، وهو الموجود بخطه فى أول شرحه لعمدته ، وهو الذى اعتمده الصفدى وابن الخطيب ، وعند ما عرف به ابن طولون الصالحى فى كتابه «القلائد الجوهرية فى تاريخ الصالحية» (٢) ضمن أعلام مزارات الصالحية ، قال : هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله (كذا ثلاثة) ، وقد اكتفى بعض المؤرخين له بذكر : محمد بن عبد الله بن مالك ، أو محمد بن مالك ، اكتفاء بالمشهور ؛ كما أخبر هو نفسه فى أول خلاصته «الألفية» ، قال : [من الرجز]

قال محمد هو ابن مالك

أحمد ربّى الله خير مالك

ونخلص من هذا إلى أن صحة اسمه : محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن مالك ؛ أى أن جده الأدنى هو محمد ، لا عبد الله ، ولا مالك ؛ كما اشتهر ذلك ، وأن من أسقط هذا الاسم من نسبه ، إنما أسقطه ونفاه لعدم بلوغه إياه ، أو كان ذلك منه اقتصارا ، والأمر على ما يقول الأصوليون : المثبت مقدّم على النافى.

٢ ـ مولده ومسقط رأسه :

ولد ابن مالك سنة ستمائة للهجرة ؛ على غالب الروايات وأجودها ، وقد اقتصر على ذلك التاريخ عدة من العلماء والباحثين ؛ منهم :

ابن شاكر الكتبى فى كتابه «فوات الوفيات» ، والحافظ عماد الدين ابن كثير فى كتابه «البداية والنهاية» ، وكذا المستشرق الألمانى كارل بروكلمان فى موسوعته

__________________

(١) نفح الطيب ٢ / ٢٢٨.

(٢) القلائد الجوهرية فى تاريخ الصالحية ينظر القسم الثانى فى ترجمة أعلام مزارات الصالحية.

٧

«تاريخ الأدب العربى».

بينما نجد أن ابن غازى ذكر أن مولده كان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة للهجرة ، وبه أخذ شمس الدين ابن الجزرى فى «غاية النهاية فى طبقات القراء» ، كما ذكره المقرى فى «نفح الطيب» (١) مع شكه ـ أى : ابن الجزرى ـ فيها ، وفى سنة ستمائة التى آثرنا نحن ذكرها أولا ترجيحا.

مسقط رأسه :

وأما مسقط رأسه ، فقد ولد بـ «جيّان» ؛ من مدن الأندلس (٢) ، وهى بفتح الجيم ، ثم بالتشديد ، وآخرها نون.

قال المقرى حين تحدث عن مدن الأندلس : «واعلم أن جزيرة الأندلس مشتملة على متوسطة وشرق وغرب ؛ فالمتوسطة فيها من القواعد الممصرة التى كل مدينة فيها مملكة مستقلة ، لها أعمال ضخام ، وأقطار متسعة : قرطبة ، وطليطلة ، وجيّان ، وغرناطة ، والمرية ، ومالقة ...».

ثم ذكر من أعمال جيان هذه : أبّذة ، وقسطرة ، وبيّاسة ، وقسطلة. وقد كان ل : «جيان» شأنها منذ أول الفتح العربى ، حتى قيل : إن طارق بن زياد ذهب لفتحها بنفسه مع خيرة من أصحابه ؛ ليخلص منها إلى طليطلة (٣).

٣ ـ أسرته بالأندلس :

لا يكاد يعرف شىء عن أسرة ابن مالك قبل هجرته إلى المشرق ، ولا عن والديه ؛ ذلك أنه لم يذكر هو شيئا عن نفسه فى هذا الصدد ، ولم يتعرض أحد من المترجمين له لذلك.

ويبدو أن والديه قد توفّيا ، وهو صغير ؛ وإذا قوى هذا الظن أو صح فيمكن اعتباره داعيا من دواعى رحلته إلى المشرق والإقامة هناك وعدم العودة إلى مسقط رأسه ؛ كما كان يفعل كثير من علماء الأندلس ذلك وقتئذ.

٤ ـ دراساته وأساتذته بالأندلس :

كان ابن مالك ابن عصره ومصره ، فقد بدأ دراساته بحفظ القرآن الكريم على

__________________

(١) نفح الطيب ٢ / ٢٢٨.

(٢) نفح الطيب ١ / ١٦٥.

(٣) نفح الطيب ١ / ١٦٥.

٨

ما هو معهود فى تلك العصور ، ثم تلا ذلك دراسة القراءات القرآنية ، وعلوم الدين واللغة ، وفروعها. وإذا نظرنا فى «طبقات القراء» لابن الجزرى (١) نجده يقول عنه : قد شاع عند كثير من منتحلى العربية أن ابن مالك لا يعرف له شيخ فى العربية ، ولا فى القراءات ، وليس ذلك ، بل أخذ العربية فى بلاده عن ثابت بن خيار ، وحضر عند الأستاذ أبى على الشّلوبين نحو العشرين يوما ...».

ونجد تاج الدين السبكى ذكره أيضا فى «طبقات الشافعية» (٢) ، قال : كان إماما فى القراءات وعللها ، وله الدين المتين ، والتقوى الراسخة ، وذكر له رواية فى الحديث عن العلم السخاوى.

ثابت بن خيار :

هو أبو الحسين ، وقيل : أبو الحسن ، وقيل : أبو المظفر ثابت بن خيار بن ثابت ابن محمد بن يوسف بن خيار الكلاعى ، الغرناطى ، قال فى «نفح الطيب» : كان فاضلا ، ماهرا ، مقرئا ، معروفا بالزهد والفضل والجودة والانقباض ، أقرأ القرآن والعربية والأدب كثيرا ، وروى عن ابن بشكوال ، وبالإجازة عن السّلفى ، وأقرأ القرآن والعربية بـ : جيان وغرناطة. وتوفى بغرناطة سنة ٦٢٨ ه‍. وقد ذكر السيوطى فى كتابه «بغية الوعاة فى طبقات اللغويين والنحاة» (٣) فى ترجمة ابن مالك : أن أبا حيان الأندلسى قال : إن ثابت بن خيار هذا لم يكن من أئمة النحويين ، بل كان من أئمة المقرئين.

وقد استفاض بين علماء التراجم والنحويين أن أبا حيان اعتاد التحامل على ابن مالك من النحويين ، كما اعتاد التحامل على جار الله الزمخشرى من المفسّرين من قبله ، وكلامه هنا فى ابن مالك لا ينقص من قدره.

ومن المعلوم أن علماء تلك العصور كانوا يجمعون بين القراءات واللغة والنحو

__________________

(١) غاية النهاية فى طبقات القراء ٢ / ١٨١ ، وزاد قوله : «وأخذ عن السخاوى العربية والقراءات ، ولما دخل حلب ، لازم حلقة ابن يعيش ، ثم حضر عند تلميذه ابن عمرون ولزمه ، وكان ذهنه من أصح الأذهان ... إلخ.

(٢) طبقات الشافعية الكبرى فى ترجمة محمد بن عبد الله بن مالك ٥ / ٢٥٧.

(٣) بغية الوعاة ١ / ١٣١ ، وفى النسخة المحققة بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ـ ثابت بن حيان بدلا من ثابت بن خيار ، وهو تحريف مخالف لكل ما ثبت فى تراجمه.

٩

والصرف والشعر ، بل وعلوم الأدب جميعا التى تبلغ اثنى عشر علما ؛ وتسمى أيضا علوم العربية ، وهى مجموعة فى قوله : [من البسيط]

نحو وصرف وعروض ثم قافية

وبعدها لغة قرض وإنشاء

خط بيان معان مع محاضرة

والاشتقاق لها الآداب أسماء

الأستاذ أبو علىّ الشّلوبين :

هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله ، الأستاذ أبو على الإشبيلى ، الأزدى ، المعروف بالشلوبين ، ومعناه بلغة أهل الأندلس : الأبيض الأشقر.

قال ابن الزبير : كان إمام عصره فى العربية بلا مدافع ، ذا معرفة بنقد الشعر وغيره ، بارعا فى التعليم ، ناصحا ، أبقى الله به ما بأيدى أهل المغرب من العربية ، أخذ عن ابن ملكون ، وغيره ، وروى عن السهيلى ، وابن بشكوال ، وغيرهما ، وأجاز له السّلفى ، وغيره ، وأقرأ نحو ستين سنة وعلا صيته ، واشتهر ذكره ، وأخذ عنه الأحوص ، وابن فرتون ، وجماعة ، وقلما تأدب أحد من أهل الأندلس فى وقته إلا وقرأ عليه ، واستند ولو بواسطة إليه ، صنّف تعليقا على كتاب سيبويه ، وشرحين على الجزولية ، وكان الجزولى شيخا له ، وله كتاب فى النحو سماه «التوطئة» ، وكانت وفاته سنة ٦٤٥ ه‍ (١).

٥ ـ رحلة ابن مالك إلى المشرق ، وأثرها فى حياته ودراساته وسلوكه :

ونعالج هذه الرحلة فى بيان موجز لأسبابها ، والدواعى التى أدت إليها بمعرفة حال الأندلس السياسية آنذاك ، ثم بمعرفة حال المشرق السياسية ثم العلمية ، ونتائج هذه الرحلة فى ابن مالك صاحب هذه الدراسة.

أولا : الفتن والاضطرابات بالأندلس أيام نشأة ابن مالك :

كانت نشأة ابن مالك بالأندلس أيام دولة الناصر بن يعقوب من ملوك الموحّدين ؛ الذى ولى الأندلس بعد وفاة أبيه سنة ٥٩٥ ه‍ ، ثم بعده دولة السلطان محمد بن يوسف ، والذى صار صاحب الأندلس ، بعد انقراض دولة الموحّدين ، ولم تكن الأحوال فى الأندلس أيام نشأة ابن مالك أحوال هدوء واستقرار ، بل كان يغلب عليها القلق والاضطراب.

__________________

(١) بغية الوعاة ٢ / ٢٢٤ ، ٢٢٥.

١٠

وإذا نظرنا إلى ما ذكره الرواة ، من أن ابن مالك قد أخذ بالأندلس عن ثابت بن خيار (ت : ٦٢٨ ه‍) ، وأنه قد سمع بدمشق من أبى صادق الحسن بن صباح (ت : ٦٣٢ ه‍) (١) على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى ، وما ذكره المستشرق كارل بروكلمان من أنه قدم دمشق فى شبابه المبكر ، وإلى ما أشار إليه القفطى فى «إنباه الرواة على أنباه النحاة» (٢) فى ترجمة الجزولى حين عرض لمقدمته فى النحو المعروفة بالجزولية حيث قال : وشرحها شاب نحوى من أهل جيان من الأندلس ، متصدر بحلب لإفادة هذا الشأن ، فجمع بين أقوال هؤلاء المقدم ذكرهم ، وأحسن فى الإيجاز. والظاهر أن هذا الشاب الجيانى هو ابن مالك.

إذا استقام هذا كله أمكننا القول بأن ابن مالك رحل شابّا بين الخامسة والعشرين من عمره إلى الثلاثين ، أى : بين (٦٢٥ ه‍ ، ٦٣٠ هـ) ؛ وذلك بسبب هذه الفتن والاضطرابات فى بلاد الأندلس أولا ، ثم للحج وإتمام الدراسة فى بلاد المشرق ثانيا ، وعلى عادة العلماء آنذاك ، فيكون إتمام ابن مالك لدراساته فى المشرق ورحيله كان فى عصر الأيوبيين من (٥٦٧ ه‍ إلى ٦٤٨ ه‍) ، بل أدرك من عصر المماليك حتى جانب كبير من حكم الظاهر بيبرس البندقدارى من (٦٥٨ ه‍ إلى ٦٧٩ ه‍).

وقد ذكر السيوطى فى كتابه : «حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة» (٣) نقلا عن شيخه تقى الدين الشمنى رسالة كتبها ابن مالك إلى الظاهر بيبرس.

ثانيا : الفتن والاضطرابات فى مضر والشّام ، وخاصّة فى مصر عند مقدم ابن مالك :

ودع ابن مالك الأندلس والفتن دائرة فى أكثر البلاد ، ولكن يمكننا القول بأن ابن مالك قد فر من فتن الأندلس واضطرابات النصارى والموحدين والطوائف هناك إلى فتن الصليبيين والتتار ومنازعات خلفاء صلاح الدين الأيوبى فى الشرق ؛ إذ يذكر المؤرخون أن الدولة الأيوبية قد انقسمت بعد موت مؤسّسها صلاح الدين بين أبنائه الثلاثة وأخيه العادل ، وبعض أقربائه ، ويظهر أن الاضطرابات كانت العامل الأكبر فى عدم استقرار ابن مالك فى مصر ، ومسيرته إلى الشام بعد أن حجّ ؛ حيث طوف ببلاد

__________________

(١) نفح الطيب ٢ / ٢٢٢ ، والوافى بالوفيات ٣ / ٣٥٩.

(٢) إنباه الرواة ٢ / ٣٨٩ فى ترجمة الجزولى.

(٣) حسن المحاضرة ٢ / ٩٦ ، ٩٧.

١١

الشام ودمشق ، ثم حماة ، ثم حلب ، ثم بعلبك ، ثم عاد قافلا ليستقر فى دمشق ؛ حيث تصدر للتدريس والإمامة والتصنيف ، وقد مدّ الله فى عمر ابن مالك بعد استقراره بدمشق ، حتى شهد نهاية دولة الأيوبيين ، سنة : (٦٤٨ ه‍) وقيام دولة المماليك البحرية على يد شجرة الدر ، وعز الدين أيبك التركمانى ، وشهد سقوط بغداد ، ونهاية الدولة العباسية على يد التتار سنة : (٦٥٦ ه‍) ، وكما ذكرنا من قبل أنه حضر جانبا كبيرا من سلطنة الظاهر بيبرس (٦٥٨ ه‍ : ٦٧٩ ه‍) حيث كانت وفاة ابن مالك (٦٧٢ ه‍).

ثالثا : الحركة العلميّة فى مصر والشّام عند مقدم ابن مالك :

على الرغم مما كان يشغل الشرق من حروب الصليبيين وفتن التتار ، ومنازعات الأيوبيين فيما بينهم ـ كانت حركة العلم والفكر والأدب تسير فى غير توقف أو تعثر ، بل كانت فى الشرق ـ وبخاصة مصر والشام ـ نهضة علمية واسعة النطاق وبخاصة فى علوم اللغة والنحو والقراءات ، إلى جانب علوم الدين من الفقه وأصوله ، وعلم الكلام والحديث والتفسير والتصوف.

ونظرة عامة إلى ما حفل به ذلك العصر (القرن السابع الهجرى) من أسماء الأعلام فى مختلف ضروب العلم والفقه والأدب وغيرها ، من أمثال ابن معط ، وابن الحاجب ، وابن يعيش ، وابن عمرون ، والعلم السخاوى ، والقفطى ، وقاضى القضاة ابن خلّكان ، وابن دحية ، والحافظ المنذرى ، وابن دقيق العيد ، وابن المنيّر ، وغيرهم ـ ترينا إلى أى مدى كانت الحركة العلمية مزدهرة ونشيطة فى مصر والشام فى ذلك العصر ، ولا يفوتنا أن نلاحظ هنا أن هذا الازدهار العلمى فى المشرق كان عاملا من العوامل التى جعلت ابن مالك ينسى مسقط رأسه بالأندلس ، ويتخذ موطنه الثانى والأخير بدمشق الشام.

وأما مواد الدراسة فى الشرق التى كانت عند مقدم ابن مالك فقد وفد ابن مالك على الشرق والنحاة يتدارسون مفصل الزمخشرى ، وكتاب سيبويه ، وإيضاح الفارسى ، وجمل الزجاجى ، إلى جانب مقدمة ابن الحاجب فى النحو المسماة بالكافية ، ومقدمته فى الصرف والخط المسماة بالشافية ؛ وهما مقدمتان نثريتان ، ونظمت الكافية فى نظم معروف بالوافية. كانت هذه هى الكتب الشهيرة التى تدرس فى مجال العلم فى الشرق ، ولا شك أن ابن مالك قد اطلع على هذا كله ، وكان له

١٢

أثره الكبير فى إنتاجه العلمى الغزير ، ورواج هذا النتاج فى الشرق بعامة ، وفى مصر بخاصة.

رابعا : جولة ابن مالك فى بلاد الشّرق واستقراره بدمشق :

مما يمكننا أن نستخلصه ونرجحه ، ونراه أقرب إلى الصواب ، وطبائع الأمور ، مما ذكره ابن الجزرى فى «غاية النهاية فى طبقات القراء» (١) ، والسيوطى فى «بغية الوعاة فى طبقات اللغويين والنحاة» (٢) ، والمقرى فى «نفح الطيب» (٣) ، وكارل بروكلمان فى «تاريخ الأدب العربى» : أن ابن مالك قد مر بالقاهرة والحجاز ثم بدمشق ، وهو فى دمشق ، سمع عن ابن يعيش ، صاحب «شرح المفصل» بحلب ، فواصل الرحلة إليه ، وهو فى طريقه إلى حلب مر بحماة ، وكذلك فى طريقه عند عودته إلى دمشق ليستقر بها ، ولا بد أنه أخذ فى أول مروره بدمشق عن بعض علمائها على ما سنبينه بعد قليل.

وهو فى حلب أخذ عن ابن يعيش ، وجالس تلميذه النابغ ابن عمرون (٤). ويبدو مما ذكر فى روايات من ترجموا له أنه أتم دراساته بحلب ، وأخذ عنه بها ، وبحماة ، فى طريق عودته إلى دمشق واستقر بها يعمل بالإمامة والتدريس والتصنيف.

خامسا : أثر هذه الرّحلة فى ابن مالك :

رحل ابن مالك بن الأندلس إلى دمشق ، وكانت الرحلة فى ذلك الحين أمرا مألوفا لدى العلماء ، وشجع على هذا أيضا أن الوطن العربى والإسلامى كله كان وحدة علمية وسياسية متصلة الأطراف ، لا سدود ولا قيود فى وجه العلم والعلماء.

وحقّا لقد كان لهذه الرحلة أثرها البالغ فى ابن مالك ، بل يمكننا القول : إن هذه الرّحلة غيرت ابن مالك تغييرا شاملا ، وصبغته بصبغة شرقية فى خلقه ومسلكه ، ومذهبه ، وثقافته ؛ فقد كان وهو بالأندلس مالكى المذهب ، على عادة أهل الأندلس ؛ لانتشار مذهب مالك هناك وقتئذ ، فلما رحل إلى الشرق انتقل إلى المذهب الشافعى ، وليس تغيير المذهب فى ذلك الحين بالأمر الهين ، فقد كان أهم

__________________

(١) غاية النهاية فى طبقات القراء ٢ / ١٨٠ ، ١٨١.

(٢) بغية الوعاة ١ / ١٣٠.

(٣) نفح الطيب ٢ / ٢٢٢ ، وما بعدها.

(٤) نفح الطيب ٢ / ٢٢٢ ، وما بعدها.

١٣

سمات هذه العصور عند التعريف بالعالم ذكر مذهبه الدّينى إلى جانب اسمه ، ولقبه ، وكنيته ، ونسبه.

ونجد الصلاح الصفدى فى «الوافى بالوفيات» (١) ، وابن شاكر الكتبىّ فى «فوات الوفيات» ، والسيوطى فى «بغية الوعاة» (٢) يطالعوننا أن ابن مالك انفرد عن المغاربة بشيئين : الكرم ، ومذهب الشافعى ، ولا شك أن هذا أثر من آثار هذه الرحلة.

أضف إلى ذلك أيضا تأثر ابن مالك فى أسلوبه وطريقته فى التصنيف والتبويب بالبيئة المشرقية وبالطريقة الفاضلية التى ابتدعها القاضى الفاضل التى تمتاز بالاعتماد على المحسنات البديعية من السجع ، والجناس ، والتورية ، خاصة.

دراساته وأساتذته بالمشرق :

قد سبق القول بأن دراسة ابن مالك بدأت ببلده على عادة أهل العصر بقراءة القرآن ، ودراسة القراءات واللغة ، والنّحو والفقه والحديث ، وقد مضت الإشارة أيضا إلى أنه تلقى دراسته الأولى بالأندلس على يد ثابت بن خيار من كبار النحاة والمقرئين ، وأبى على الشّلوبين من كبار النحاة واللغويين.

أما فى المشرق فيظهر أن دراسته المنظمة لم تبدأ إلا فى دمشق عند نزوله بها أوّل مرة قبل رحيله إلى حماة ، ثم حلب ، وبعلبك من بلاد الشام ، ثم عودته واستقراره فى دمشق آخر الأمر (٣).

ونحن بصدد الحديث عن دراسات ابن مالك نذكر ما قاله صاحب «نفح الطّيب» عند ما عرض لدراسات ابن مالك فقد ذكر أنه صرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيها الغاية ، وأربى على المتقدمين ، وكان إماما فى القراءات ، وعالما بها ، وصنف فيها قصيدة دالية فى قدر الشاطبية. وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها. قال الصفدى : أخبرنى أبو الثناء محمود تلميذ ابن مالك قال : ذكر ابن مالك ما انفرد به صاحب «المحكم» عن الأزهرى فى كتابه «تهذيب اللغة» ، وهذا أمر معجز ؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما فى الكتابين. وأما النحو والتصريف ، فكان فيهما بحرا لا يشق

__________________

(١) الوافى بالوفيات ٣ / ٣٥٩.

(٢) بغية الوعاة ٢ / ٣٥١ ، ٣٥٢.

(٣) بغية الوعاة ١ / ٢٣١.

١٤

لجه. وأما اطّلاعه على أشعار العرب التى يستشهد بها على النحو واللغة ، فكان أمره فيها عجبا ، وكان الأئمة الأعلام يتحيرون فى أمره. وأما اطّلاعه على الحديث فكان فيه آية ؛ لأنه كان أكثر ما يستشهد بالقرآن ، فإن لم يكن فيه شاهد ، عدل إلى الحديث فإن لم يجد فيه شاهدا ، عدل إلى أشعار العرب.

وخلاصة القول فى دراسات ابن مالك ؛ أنها كانت دراسات واسعة ومتنوعة شملت كل ما عرفه العصر من علوم القرآن والحديث واللغة.

وأما شيوخه وأساتذته بالمشرق :

ففى دمشق عند نزوله بها أول مرة تلمذ ابن مالك ل : العلم السّخاوىّ أبى الحسن علم الدين على بن محمد بن عبد الصمد السخاوى ، النحوى ، المقرى ، الشافعى ، كان محقّقا ، بصيرا بالقراءات وعللها ، إماما فى النحو واللغة والتفسير ، عالما بالفقه وأصوله ، طويل الباع فى الأدب مع التواضع والدين والمودة وحسن الخلق ، مليح المحاورة ، حلو النادرة ، حاد القريحة ، مطرح التكليف ، أخذ عن الشاطبى ، والتاج الكندى ، وقد تصدى للإقراء بجامع دمشق ، وازدحم عليه الطلبة ، ولم يكن له شغل إلا العلم.

وله نظم فى الطبقة العليا ، وألّف فى القراءات ، ونظم فى الألغاز اللغوية والنحوية ، وتوفى بدمشق سنة : (٦٤٣ ه‍).

وسنلحظ تأثر ابن مالك به فى الإكثار من النظم ، والتأليف فى القراءات ، ونظم الألغاز اللغوية والنحوية.

وقد ذكر الصلاح الصفدى فى «الوافى بالوفيات» (١) ، أن ابن مالك سمع بدمشق من :

ابن صبّاح : أبى صادق الحسن بن صباح ، المخزومى ، المصرى الكاتب ، كان أديبا ، ديّنا ، صالحا جليلا ، توفى سنة (٦٣٢ ه‍).

ومكرّم : وهو أبو الفضل نجم الدين مكرم بن محمد بن حمزة بن محمد ، المسند ، القرشى الدمشقى ، كان عالما ، محدثا ، فاضلا ، توفى سنة ٦٣٥ ه‍.

ويبدو أن ابن مالك ، وهو بدمشق سمع بابن يعيش الحلبى فواصل الرحلة إليه ،

__________________

(١) الوافى بالوفيات ٣ / ، ٣٥٩ ، ٣٦٠.

١٥

وأخذ عنه ، وجالس تلميذه ابن عمرون فى حلقته.

ابن يعيش : وهو أبو البقاء موفق الدين يعيش بن على بن يعيش بن محمد بن أبى السّرايا ، النحوى ، الحلبى ، المشهور بابن يعيش ، وكان يعرف بابن الصانع ، وكان ابن يعيش من كبار أئمة العربية ماهرا فى النحو والتصريف ، تصدى بحلب للإقراء زمانا ، وطال عمره ، وشاع ذكره ، وغالب فضلاء حلب تلامذته ، وكان حسن الفهم ؛ لطيف الكلام ، طويل الروح على المنتهى والمبتدى ، ظريف الشمائل مع سكينة ووقار ، من تصانيفه : «شرح المفصّل» ، و «شرح تصريف ابن جنى» ، توفى بحلب سنة (٦٤٣ ه‍).

ابن عمرون : هو أبو عبد الله جمال الدين محمد بن محمد بن أبى على بن أبى سعد بن عمرون ، الحلبى ، النحوى. قال عنه الذهبى : أخذ النحو عن ابن يعيش ، وبرع فيه ، وتصدر لإقرائه ، وتخرج على يديه جماعة ، وجالس ابن مالك ، وأخذ عنه البهاء النحاس ، وروى الشرف الدمياطى ، وشرح المفصل ، وتوفى سنة ٦٤٩ ه‍.

٧ ـ اشتغاله بالإمامة والتّدريس والتّصنيف :

ذكر الصفدى ؛ أن ابن مالك تصدر بحلب لإقراء العربية ، وكان إماما فى القراءات وعللها ، ثم ذكر عن شهاب الدين أبى الثناء محمود تلميذ ابن مالك ؛ أن ابن مالك كان إذا صلى بالمدرسة العادلية بدمشق ـ لأنه كان إمامها ـ يشيعه قاضى القضاة ابن خلكان إلى بيته ؛ تعظيما له ، وقد أقام بدمشق يصنف ، ويشتغل بالجامع والتربة العادلية.

وذكر المقرى فى «نفح الطيب» (١) أن بعض من عرّف بابن مالك قال : إنه تصدر بحلب ، وأمّ بالسلطانية ، ثم تحول إلى دمشق ، وتكاثر عليه الطلبة ، وحاز قصب السبق ، وصار يضرب به المثل فى دقائق النحو ، وغوامض الصرف ، وغريب اللغات ، وأشعار العرب ، مع الحفظ والذكاء والتحرى لما ينقله.

ونخلص من هذا إلى أن ابن مالك أتم دراسته للقراءات والحديث واللغة والنحو على علماء «دمشق» و «حلب» الذين سبق ذكرهم ، وهم : العلم السخاوى وابن صبّاح ومكرّم بدمشق ، وابن يعيش وابن عمرون بحلب ، وأنه بدأ الاشتغال بالإمامة

__________________

(١) نفح الطيب ٢ / ٢٢٨.

١٦

والتدريس والتصنيف بحلب ، حيث تصدّر لإقراء العربية فى المدرسة الظاهرية والسلطانية فيها ، وأنه مرّ بحماة فى طريق عودته إلى دمشق ، فأخذ عنه بها ، واستقر بعد ذلك فى دمشق مشتغلا بالتصنيف وبالإمامة والتدريس فى أعظم مدارس دمشق آنذاك فى المدرسة العادلية حيث تولى فيها المشيخة الكبرى لقسم القراءات والعربية.

٨ ـ أسرة ابن مالك بالمشرق :

لم يرد فى أخبار الذين كتبوا وترجموا لابن مالك شىء عن أسرته وزواجه ، فلا نعرف شيئا عن والديه ، ولا عن زواجه ، أين ومتى كان؟ ولا عن زوجته ، من هى؟ ومن أين تكون؟

ويبدو أن ابن مالك تزوّج بدمشق بعد أن طوّف بالشام ، ولعل هذا الزواج هو أول داع لاستقراره بدمشق بين أسرة زوجته وأسرته الناشئة بعد أن أنجب ولديه ، بدر الدين ، وتقى الدين الأسد.

بدر الدّين : هو الإمام بدر الدين محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك ، الطائى ، الدمشقى ، الشافعى ، النحوى ، ابن النحوى ، قال عنه الصفدى فى «الوافى بالوفيات» (١) : كان فهما ذكيّا حادّ الخاطر ، إماما فى النحو والمعانى ، والبيان والبديع ، والعروض ، والمنطق جيد المشاركة فى الفقه والأصول. أخذ عن والده ، ووقع ما أغضب الشيخ على ولده فسكن بعلبك ، فقرأ عليه جماعة ، فلما مات والده طولب إلى دمشق ، وولى وظيفة والده ، وتصدى للاشتغال والتصنيف ، وله من التصانيف : شرح ألفية والده ، وشرح كافيته ، وشرح لاميته ، وتكملة شرح والده للتّسهيل ولم يتمه ، و «المصباح فى اختصار المفتاح» فى علم المعانى ، و «روض الأذهان» وشرح «ملحة الإعراب» للحريرى ، و «شرح الحاجبية» ، ومقدمة فى العروض ، ومقدمة فى المنطق ، وغير ذلك ، ومات بالقولنج بدمشق يوم الأحد ثامن المحرم سنة : (٦٨٦ ه‍) ، وتأسف الناس عليه.

وقال الصفدى عن شرحه للألفية (٢) : إنه شرح فاضل منقى منقّح ، وخطّأ والده

__________________

(١) الوافى بالوفيات ١ / ٢٠٤ ، ٢٠٥ فى ترجمة بدر الدين بن مالك رقم ١٢٩ ، بغية الوعاة ١ / ٢٢٥ نقلا عن الوافى.

(٢) الوافى بالوفيات ١ / ٢٥٠.

١٧

فى بعض المواضع ، ولم تشرح الخلاصة «الألفية» بأحسن ، ولا أسدّ ، ولا أجزل من هذا الشرح على كثرة شروحها ، وهو الشرح المشهور بشرح ابن الناظم.

تقىّ الدّين الأسد : هو تقىّ الدين محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك ، المعروف بالأسد ، كان طيب الصورة ، يقرأ بالظاهرية ، وله مسجد ودكّان مشهود ، قال الصفدى (١) : والمقدمة الأسدية لوالده أيضا ، وهى صغيرة ، نثر ، وضعها باسمه «توفى سنة : «٦٥٩ ه‍».

٩ ـ أخلاق ابن مالك وصفاته :

اتّفق الذين ترجموا لصاحبنا ابن مالك ؛ على أنه كان يمتاز بالدين المتين ، وصدق اللهجة ، وكثرة النوافل ، وحسن السّمت ، ورقة القلب ، وكمال العقل ، والتؤدة ، والوقار ، وأنه كان حريصا على العلم وحفظه ، حتى إنه حفظ يوم وفاته ثمانية شواهد (٢).

وكان ـ رحمه‌الله ـ كثير المطالعة ، سريع المراجعة ، لا يكتب شيئا من محفوظه ؛ حتى يراجعه فى محله ، وهذه حالة المشايخ الثقات ، والعلماء الأثبات ، وكان لا يرى إلا وهو يصلى ، أو يتلو ، أو يصنّف ، أو يقرئ (٣).

١٠ ـ وفاته ورثاؤه :

توفى ابن مالك بدمشق سنة ٦٧٢ ه‍ (سنة اثنتين وسبعين وستمائة للهجرة) باتّفاق المؤرّخين ، وصلى عليه بالجامع الأموي ، ودفن بسفح «قاسيون» بتربة القاضى عز الدين بن الصائغ ، وممن رثاه الشريف الحصنى قال : [من الخفيف]

يا شتات الأسماء والأفعال

بعد موت ابن مالك المفضال

وانحراف الحروف من بعد ضبط

منه فى الانفصال والاتّصال

مصدرا كان للعلوم بإذن ال

له من غير شبهة ومحال

عدم النّعت والتعطّف والتّو

كيد مستبدلا من الأبدال

وكذلك رثاه الشيخ بهاء الدين بن النحاس (٤) بقوله : [من الكامل]

__________________

(١) الوافى بالوفيات ١ / ٢٠٦ ترجمة الأسد بن الشيخ جمال الدين رقم ١٣٢.

(٢) نفح الطيب ٢ / ٢٢٨.

(٣) نفح الطيب ٢ / ٢٢٧.

(٤) نفح الطيب ٢ / ٢٢٧ ، وبغية الوعاة ١ / ١٣٧ ، وبهاء الدين بن النحاس هذا ـ أحد تلامذة ابن مالك.

١٨

قل لابن مالك ان جرت بك أدمعى

حمرا يحاكيها النّجيع القانى

فلقد جرحت القلب حين نعيت لى

وتدفّقت بدمائه أجفانى

لكن يهوّن ما أجنّ من الأسى

علمى بنقلته إلى رضوان

فسقى ضريحا ضمّه صوب الحيا

يهمى به بالرّوح والرّيحان

* * *

١٩

الباب الثّانى

مؤلّفاته نظما ، ونثرا ، وشعره

ابن مالك من أعظم نحاة القرن السابع الهجرى شهرة إن لم يكن هو أعظمهم جميعا ، فقد منحه الله العمر الطويل ، والصبر الجميل ، والعقل الراجح ، والقدرة الفائقة على القراءة والبحث والاطلاع ، فجاء إنتاجه على غزارته وعمقه ودقته سهلا مقبولا ، فوافق الاهتمام والذيوع والرّواج بصورة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ التأليف ؛ فى مجال اللغة والنحو على الخصوص.

وقد أشار ابن الجزرى إلى أن تأليفه «الكافية الشافية» وهى نظم فى النحو والصرف ، يبلغ ثلاثة آلاف بيت ـ كان فى حلب ، وتأليفه «الألفية» (وهى خلاصة للكافية الشافية) كان فى حماة عند رجوعه إلى دمشق مارّا بها ، وتأليفه «التسهيل» كان عند استقراره بدمشق ، وتوليه المشيخة الكبرى للمدرسة العادلية فى قسم القراءات العربية.

هذا وقد وهب الله ابن مالك قدرة عجيبة فائقة على النظم العلمى الرّائق فى شتى الفنون ، وهو ما يسمى بالنظم التعليمى ، فقد جاءت كثير من مؤلفاته النحوية واللغوية نظما ، ومع جفاف مسائل هذه العلوم ، وصعوبة موضوعاتها جاءت نظما رائقا سائغا عذبا ، حتى يوشك أن يضاهى الشعر العاطفى ، كما نلحظ ذلك فى منظومته : «تحفة المودود فى المقصور والممدود».

ولعل هذا من أهم العوامل التى ساعدت على رواج مؤلفات ابن مالك ، وبخاصة الألفيّة (الخلاصة) التى حجبت أضواؤها ـ أو كادت أن تحجب ـ ما سبقها من مؤلفات فى النحو.

ولنسرد مصنفات الرجل سردا سريعا يتلاءم وهذه العجالة :

أوّلا : مؤلّفاته النّحويّة :

١ ـ الكافية الشافية فى النحو والصرف

: وهى منظومة طويلة تقرب من ثلاثة آلاف بيت من مزدوج الرجز ، تضم النحو والصرف ، هذا وقد ذيّلها العلامة محمود ابن محمد خطيب الدهشة الشافعى الحموى من علماء القرن التاسع سماها «وسيلة الإصابة إلى طريقة الكتابة» ؛ حتى تكون المنظومة جامعة للنحو والصرف والخط

٢٠