شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الخامس عشر ، وهو من شواهد سيبويه (١) [من الطويل]

١٥ ـ وقفت على ربع لميّة ناقتى

فما زلت أبكى عنده وأخاطبه

وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه

تكلّمنى أحجاره وملاعبه

على أن «أسقيه» بمعنى أدعو له بالسّقيا ، مضارع أسقاه

قال سيبويه (٢) ، وقالوا : أسقيته فى معنى سقّيته فدخلت على فعّلت ، ثم أنشد البيتين ، قال أبو الحسن الأخفش فى شرح (٣) نوادر أبى زيد : قالوا فى أسقاه الله : إنه فى معنى سقاه الله ، وأنشدوا قول لبيد [من الوافر]

سقى قومى بنى مجد وأسقي

نميرا والقمائل من هلال

قال الأصمعى : هما يفترقان ، [وهذا الذى أذهب إليه](٤) فمعنى سقيته أعطيته ماء لسقيه ، ومعنى أسقيته جعلت جعلت له ماء يشربه أو عرضته لذلك ، أو دعوت له ، كل هذا يحتمله هذا اللفظ ، وأنشد قول ذى الرمة :

*وقفت على ربع لمية ناقتى* البيتين

قوله «وأسقيه» أدعو له بالسقيا ، وهذا أشبه بكلام العرب ، وقال ابن الأعرابى : معناه أسقيه من دمعى ، وهذا غير بعيد من ذلك المعنى : أى أجعل له سقيا من دمعى على سبيل الإغراق والإفراط ، كما قال [من الطويل] :

وصلت دما بالدّمع حتّى كأنّما

يذاب بعينى لؤلؤ وعقيق

انتهى

__________________

(١) انظر كتاب سيبويه (ج ٢ ص ٢٣٥)

(١) انظر كتاب سيبويه (ج ٢ ص ٢٣٥)

(٢) انظر نوادر أبى زيد (ص ٢١٣) ، وفيها فى بيت لبيد «بنى نجد» والذى فى الأصل كرواية الأعلم فى شرح شواهد سيبويه (ج ٢ ص ٢٣٥)

(٣) الزيادة عن شرح الأخفش لنوادر أبى زيد (ص ٢١٣)

٤١

وقال الأعلم : قوله «وأسقيه» معناه أدعو له بالسقيا ، يقال : سقيته ، إذا ناولته الشراب ، وأسقيته [إذا جعلت له سقيا يشرب منه ، وأسقيته وسقّيته](١) إذا قلت له سقيا لك ، وبعضهم يجيز سقيته وأسقيته بمعنى إذا ناولته ماء يشربه ، واحتج بقول الشاعر :

*سقى قومى بنى مجد ـ البيت*

والأصمعى ينكره ويتهم قائله (٢) ، انتهى.

وقوله «وقفت على ربع ـ الخ» هذا مطلع قصيدة طويلة لذى الرمة ، ووقفت الدابة وقفا ووقوفا : أى منعتها عن السير ، ووقفت هى أيضا ، يتعدى ولا يتعدى ، ووقفت الدار وقفا : حبستها فى سبيل الله ، وأوقفت الدار والدابة بالألف لغة تميم ، وأنكرها الأصمعى ، وقال : الكلام وقفت بغير ألف. وحكى بعضهم ما يمسك باليد يقال فيه أوقفته بالألف ، وما لا يمسك باليد يقال وقفته بغير ألف والفصيح وقفت بغير ألف فى جميع الباب ، إلا فى قولك : ما أوقفك هاهنا ، وأنت تريد أى شأن حملك على الوقوف ، فان سألت عن شخص قلت : من وقفك ، بغير ألف. كذا فى المصباح ، والرّبع : الدار حيث كانت ، وأما المربع فالمنزل فى الربيع خاصة ، وميّة : اسم محبوبة ذى الرمة ، وقوله «وأسقيه» معطوف على أخاطبه ، «وأبثه» بفتح الهمزة وضمها ، يقال : بثثته ما فى نفسى وأبثثته ، إذا أخبرته بما تنطوى عليه وتسره ، و «الملاعب» جمع ملعب ، وهو الموضع الذى يلعب فيه الصبيان

وترجمة ذى الرمة تقدمت فى الشاهد الثامن من أول شرح الكافية

__________________

(١) الزيادة عن شرح شواهد سيبويه للأعلم (ج ٢ ص ٢٣٥)

(٢) فى الأعلم زيادة «لأنه لو كان عربيا مطبوعا لم يجمع بين لغتين لم يعتد إلا إحداهما»

٤٢

وأنشد بعده ، وهو الشاهد السادس عشر ، وهو من شواهد سيبويه [من البسيط]

١٦ ـ ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها

حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار

على أن أفتح وأغلق فيه بمعنى أفتّح وأغلّق بالتشديد ، قال سيبويه فى باب افتراق فعلت وأفعلت فى الفعل للمعنى ما نصه : «وقالوا أغلقت الباب وغلّقت الأبواب حين كثروا العمل (١) ، وإن قلت أغلقت الأبواب كان عربيا جيدا ، [و](٢) قال الفرزدق :

*ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها* البيت

وقال أيضا فى الباب الذى يليه وهو باب دخول فعّلت على فعلت ، الأول بالتشديد والثانى بالتخفيف «نحو كسرته وقطعته فاذا أردت كثرة العمل قلت كسّرته وقطعته» إلى أن قال : «واعلم أن التخفيف فى هذا جائز كله (٣) عربى ، إلا أن فعّلت إدخالها هنا لتبيين الكثير ، وقد يدخل فى هذا التخفيف ، قال الفرزدق

*ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها* البيت

وفتّحت فى هذا أحسن ، وقد قال جل ذكره (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) انتهى.

فظهر أن فى كليهما مبالغة ، لا فى أغلقها فقط ، ولهذا نبه عليهما الشارح المحقق

وقال الأعلم : «الشاهد فى جواز دخول أفعلت على فعّلت فيما يراد به التكثير ، يقال : فتحت الأبواب وأغلقتها ، والأكثر فتّحتها وغلّقتها ، لأن الأبواب جماعة فيكثر الفعل الواقع عليها» انتهى

واقتصر ابن السراج فى الأصول على التنبيه على أغلقها فقط ، قال : «يجىء

__________________

(١) فى سيبويه (ج ٢ ص ٢٣٧) زيادة قوله : «وسترى نظير ذلك فى باب فعلت (بالتشديد) إن شاء الله»

(٢) الزيادة عن كتاب سيبويه فى الموضع السابق

(٣) فى الأصول : «أن التخفيف فى هذا كله جائز عربى» والتصحيح عن سيبويه فى الموضع السابق

٤٣

أفعلت فى معنى فعّلت ، كما جاءت فعّلت فى معناها : أقللت وأكثرت فى قللت وكثرت ، وقالوا : أغلقت الأبواب وغلّقت ، قال الفرزدق :

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها ... البيت، انتهى

وأورد سيبويه هذا البيت أيضا فى باب ما يذهب التنوين فيه من الأسماء (١) قال : «وتقول هذا أبو عمرو بن العلاء ، لأن الكنية كالاسم الغالب ، ألا ترى أنك تقول : هذا زيد بن أبى عمرو ، فتذهب التنوين كما تذهبه فى قولك : هذا زيد ابن عمرو ، لأنه اسم غالب (٢) ، وقال الفرزدق فى أبى عمرو بن العلاء :

*ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها* البيت

قال الأعلم «الشاهد فيه حذف التنوين من أبى عمرو ؛ لأن الكنية فى الشهرة والاستعمال بمنزلة الاسم العلم [فيحذف التنوين منها إذا نعتت بابن مضاف إلى علم كما يحذف التنوين من الاسم](٣) وأراد أبا عمرو بن العلاء بن عمار» انتهى.

وزعم ابن السيرافى فى شرح أبيات سيبويه أن عمارا جدّ من أجداده ، ورد عليه الأسود أبو محمد الأعرابى فى فرحة الأديب بأن عمارا جده الأدنى ، وليس بجد من أجداده ، وهو أبو عمرو زبّان بن العلاء بن عمار المازنى ، من بنى مازن ابن مالك بن عمرو بن تميم ، وأنشد بعد ذلك البيت بيتين آخرين ، وهما :

حتى أتيت فتى محضا ضريبته

مرّ المريرة حرّا وابن أحرار

ينميه من مازن فى فرع نبعتها

أصل كريم وفرع غير خوّار

__________________

(١) انظر كتاب سيبويه (ج ٢ ص ١٤٧) وما بعدها

(٢) فى كتاب سيبويه هنا زيادة قوله : «وتصديق ذلك قول العرب هذا رجل من بنى أبى بكر بن كنانة»

(٣) الزيادة عن شرح الأعلم لشواهد سيبويه (ج ٢ ص ١٤٨)

٤٤

والضريبة : الطبيعة ، يعنى أنه أصل كريم لا يخالط طبعه لؤم ، والمحض : الخالص الذى لا يخالطه شىء آخر ، والمريرة : العزيمة ، يعنى أنه شديد الأنفة تعاف نفسه أن يفعل أفعالا غير عالية ، وينميه : ينسبه ويرفعه ، وفاعله أصل ، والفرع : شريف قومه ، والفرع الغصن والأعلى من كل شىء ، والفرع الشجرة ، والنبعة : شجرة ، والفرع الثانى مقابل الأصل ، وهو مأخوذ من فرع الشجرة ، والخوار : الضعيف

وقال بعض من كتب على أبيات سيبويه : أراد بقوله «أفتح أبوابا وأغلقها» أنى كشفت عن أحوال الناس وفتشتهم فلم أر فيهم مثل أبى عمرو

وقال ابن السيد فى شرح أدب الكاتب : «الفتح والاغلاق هنا مثلان لما استغلق عليه من الأمور وما انفتح ، وأحسب الفرزدق يعنى أبا عمرو بن العلاء»

وأقول : كأنهما لم يقفا على ما فى طبقات النحاة لأبى بكر محمد التاريخى فانه روى بسند إلى الأصمعى أنه قال : حدثنى أبو عمرو بن العلاء قال : دخل علىّ الفرزدق فغلقت أبوابا ثم أبوابا ، ثم فتحت أبوابا ثم أبوابا ، فأنشأ الفرزدق :

*ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها* البيت

وقال التاريخى أيضا : حدثنا أحمد بن عبيد ، قال : حدثنا الأصمعى ، قال :

دخل الفرزدق على أبى عمرو بن العلاء وصعد إلى غرف فقال «ما زلت أفتح أبوابا» البيت

وقال أبو عبيد البكرى فى شرح أمالى القالى : إن أبا عمرو بن العلاء كان هاربا من الحجاج مستترا ، فجاء الفرزدق يزوره فى تلك الحالة ، فكان كلما يفتح له باب يغلق بعد دخوله ، إلى أن وصل إليه ، فأنشده هذه الأبيات

وترجمة الفرزدق تقدمت فى شرح الشاهد الثلاثين من أوائل شواهد شرح الكافية

وأبو عمرو بن العلاء هو أحد القراء السبعة ، كان رحمه‌الله من أعلم الناس بالقرآن ولغاته وتفسيره وعربيته ، وكان إماما فى الشعر والنحو واللغة وأيام العرب

٤٥

أصله من كازرون ، وولد بمكة شرفها الله تعالى سنة ثمان ، وقيل تسع وستين ، ونشأ بالبصرة ، ومات بالكوفة سنة أربع ، وقيل خمس وخمسين ومائة ، واختلف فى اسمه : فقيل زبّان بفتح الزاى المعجمة وتشديد الباء الموحدة ، وهو الصحيح ، وقيل : العريان ، وقيل : محبوب ، وقيل : يحيى ، وقيل : عيينة ، وقيل اسمه كنيته ، ويرده كلام سيبويه ، واشتهر بأبيه العلاء ، لأن أباه كان على طراز الحجاج (١) ، وكان مشهورا معروفا ، وجده عمار كان من أصحاب أمير المؤمنين على ابن أبى طالب ، وقرأ أبو عمرو على مجاهد وعكرمة وعطاء وأبى العالية ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير ، ويروى أنه قرأ على ابن كثير رحمه‌الله مع أنه فى درجته

تتمة : قد وقع البيت فى أبيات جيمية للراعى النّميرىّ وهى [من البسيط] :

ومرسل ورسول غير متهّم

وحاجة غير مزجاة من الحاج

طاوعته بعد ما طال النّجىّ بنا

وظنّ أنّى عليه غير منعاج

ما زال يفتح أبوابا ويغلقها

دونى وأفتح بابا بعد إرتاج

حتّى أضاء سراج دونه بقر

حمر الأنامل عين طرفها ساج

وبعده أبيات أخر أوردها الآمدى فى ترجمته من المؤتلف والمختلف ، والمبرد فى أوائل الكامل وشرحها ، وأراد بالمرسل نفسه ، يقول : هى حاجة مكتومة إنما يرسل إلى امرأة فهو يكتمها ، والمزجاة : اليسيرة ، والنجى : المناجاة ، جاء به على فعيل كالصهيل ومنعاج : منعطف ، وأراد بالبقر النساء ، والعرب تكنى عن المرأة بالبقرة والنعجة وساج : ساكن ، ولا أدرى أيهما أخذه من صاحبه ، والله أعلم

* * *

وأنشد بعده وهو الشاهد السابع عشر [من الكامل] :

١٧ ـ *إنّ البغاث بأرضنا يستنسر*

على أن يستنسر معناه يصير كالنسر فى القوة ، قال القالى فى أماليه : قال الأصمعى : من أمثال العرب إن البغات الخ ، يضرب مثلا للرجل يكون ضعيفا

__________________

(١) أى : كان قيما على نسج ثياب الحجاج

٤٦

ثم يقوى ، قال القالى : سمعت هذا المثل من أبى الميّاس ، وفسره لى فقال : يعود الضعيف بأرضنا قويا ، ثم سألت عن أصل هذا المثل أبا بكر بن دريد فقال : البغاث ضعاف الطير ، والنسر أقوى منها ؛ فيقول : إن الضعيف يصير كالنسر فى قوته ، انتهى

وفى الصحاح : قال ابن السكيت : البغاث طائر أبغث إلى الغبرة دوين الرّخمة بطىء الطيران ، وفى المثل «إن البغاث بأرضنا يستنسر» أى من جاورنا عزبنا ، وقال يونس : فمن جعل البغاث واحدا فجمعه بغثان ، مثل غزال وغزلان ومن قال للذكر والأنثي بغاثة فالجمع بغاث ، مثل نعامة ونعام ، وقال الفراء : بغاث الطير شرارها وما لا يصيد منها ، وبغاث وبغاث وبغاث ثلاث لغات

وكتب ابن برى على ما نقله عن ابن السكيت : هذا غلط من وجهين :

أحدهما أن البغاث اسم جنس واحده بغاثة مثل حمام وحمامة ، وأبغث صفة ، بدليل قولهم أبغث بين البغثة ، كما تقول أحمر بين الحمرة ، وجمعه بغث ، مثل أحمر وحمر ، وقد يجمع على أباغث لما استعمل استعمال الأسماء ، كما قالوا أبطح وأباطح ، والثانى أن البغاث ما لا يصيد من الطير ، وأما الأبغت من الطير فهو ما كان لونه أغبر ، وقد يكون صائدا وغير صائد ، انتهى

وهو مصراع من الشعر ، ولم أقف على تتمته بعد التتبع وبذل الجهد ، والله أعلم

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثامن عشر [من الرجز] :

١٨ ـ إنّى أرى النّعاس يغرندينى

أطرده عنّى ويسرندينى

على أن هذين الفعلين قد جاءا متعديين فى الظاهر ، والأصل يغرندى علىّ ، ويسرندى علىّ ، أى يغلب ويتسلط ، وحمل ابن هشام فى المغنى تعديهما على الشذوذ ، وقال : ولا ثالث لهما ، وقال ابن جنى فى شرح تصريف المازنى : افعليت على ضربين : متعد وغير متعد ، فالمتعدى نحو قول الراجز :

٤٧

قد جعل النّعاس يغرندينى

أدفعه عنّى ويسرندينى

وغير المتعدى نحو قولهم : احر نبى الديك ، انتهى. وتبعه السخاوى فى سفر السعادة فقال : السّرندى هو الجرىء الشديد ، ومنه قولهم : اسرنداه ، إذا ركبه ، وأنشد الرجز ، وكذا فى الصحاح ، قال : اسرنداه اعتلاه ، والاسرنداء : الاغرنداء ، والمسرندى : الذى يعلوك ويغلبك ، وأنشد الرجز ، ولم يتعرض له ابن برى فى أماليه عليه بشىء ، ولا الصفدى فى حاشيته عليه ، وقلما خلا عن هذا الرجز كتاب من علم الصرف ، ومع ذلك لم يعرف قائله ، والله أعلم.

المضارع

وأنشد بعده ، وهو الشاهد التاسع عشر :

١٩ ـ بنت على الكرم

هو قطعة من بيت وهو [من المنسرح] :

نستوقد النّبل بالحضيض ونص

طاد نفوسا بنت على الكرم

على أن أصله بنيت ، وطىء تفتح قياسا ما قبل الياء إذا تحركت الياء بفتحة غير إعرابية ، فتنقلب الياء ألفا ، وكانت طرفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار بنات فحذفت الألف لالتقاء الساكنين

قال ابن جنى فى إعراب الحماسة : هذه لغة طائية ، وهو كثير ، إلا أنه ينبغى أن تعلم أن الكسرة المبدلة فى نحو هذا فتحة مبقّاة الحكم غير منسية ولا مطروحة الاعتداد بها ، ألا ترى أن من قال فى بقى بقا وفى رضى رضا لا يقول فى مضارعه إلا يبقى ألبتة ، ولو كان الفعل مبنيا على فعل أو منصرفا به عن إرادة فعل معنى كما انصرف به عنه لفظا لوجب أن تقول فى رضا : يرضو ، كما تقول فى غزا : يغزو ، وفى فنا يفنو ؛ لأنه عندى من الواوى ، وذلك أنه من معنى الفناء للدار وغيرها ، إلى آخر ما ذكره

٤٨

وهذا البيت قبله بيت وهو [من المنسرح] :

نحن حبسنا بنى جديلة فى

نار من الحرب جحمة الضّرم

نستوقد النبل الخ

وأوردهما أبو تمام فى أوائل الحماسة (١) ، ونسبهما إلى بعض بنى بولان من طى ، وبولان ـ بفتح الموحدة وسكون الواو ـ علم مرتجل من البول. قال أبو العلاء المعرى : يجوز أن يكون اشتقاقه من البال ، وهو الخلد والحال ، وجديلة ـ بفتح الجيم ـ حى من طى ، وهو المراد هنا ، وجديله حى من الأزد أيضا ، وحى من قيس عيلان أيضا ؛ وجحمة ـ بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة ـ مصدر جحمت النار ، فهى جاحمة : أى اضطرمت والتهبت ، ومنه الجحيم ، والضّرم ـ بفتحتين ـ التهاب النار ، وقد ضرمت واضطرمت وتضرمت. يقول. حبسنا هؤلاء القوم على نار من الحرب شديدة الاضطرام والالتهاب

وقوله «نستوقد النبل : الخ» نستوقد بالنون ، والنّبل ـ بفتح النون ـ السهام مفعوله ، يقول : تنفذ سهامنا فى الرّميّة حتى تصل إلى حضيض الجبل فتخرج النار ؛ لشدة رمينا وقوة سواعدنا ، ونصيد بها نفوسا مبنية على الكرم ، يعنى أنا نقتل الرؤساء ، وهذا من فصيح الكلام ، كأنه جعل خروج النار من الحجر عند ضربهم النبل له استيقادا منهم لها ، والحضيض : قرار الجبل وأسفله ، وروى «تستوقد النبل» (٢) بالمثناة الفوقية ، والنبل فاعله ، وروى أبو محمد

__________________

(١) انظر شرح الحماسة للتبريزى (ج ١ ص ٨٦) فقد أخذ المؤلف أكثر ما كتبه على هذا الشاهد منه وإن لم يجر ذكره

(٢) أشار التبريزى فى الموضع المذكور إلى هذه الرواية ولكنه جعل فاعل تستوقد ضميرا مستترا عائدا إلى الحرب فى البيت السابق وجعل النبل منصوبا على أنه مفعول به

(ق ٢ ـ ٤)

٤٩

الأعرابى فيما نقض به على أبى عبد الله النمرى أول شارح للحماسة هذين البيتين لرجل من بنى القين على وجه لا شاهد فيه ، وهو كذا

نستوقد النبل بالحضيض ونق

تاد نفوسا صيغت على كرم

قال : وهذا البيتان لرجل من بلقين ، وسبب ذلك أن القين بن جسر وطيئا كانوا حلفاء ، ثم لم تزل كلب بأوس بن حارثة حتى قاتل القين يوم ملكان (١) فحبستهم بنو القين ثلاثة أيام ولياليها ؛ لا يقدرون على الماء ، فنزلوا على حكم الحارث بن زهدم أخى بنى كنانة بن (٢) القين ، فقال شاعر القين يومئذ هذين البيتين ، انتهى.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد العشرون [من الرمل]

٢٠ ـ ليت شعرى عن خليلى ما الّذى

غاله فى الحبّ حتّى ودعه

على أن ماضى يدع ، وهو ودع ، لم يستعمل إلا ضرورة ، وبالغ سيبويه فقال : (٣) «أماتوا ماضى يدع» أى لم يستعملوه ، لا فى نثر ولا فى نظم ، وقالوا أيضا : لم يستعمل مصدره ولا اسم فاعله ولا اسم مفعوله ، مع أن الجميع قد ورد ، فالأقرب الحكم بالشذوذ ، لا بالإماتة ولا بالضرورة ، كما قال ابن جنى فى المحتسب ، قال : قرأ (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) خفيفة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعروة بن الزبير ، وهذه قليلة الاستعمال.

__________________

(١) ملكان : ضطبه ياقوت بفتحات ، وضبطه فى القاموس مثله أو بكسر الميم وسكون اللام ، وقالا : هو جبل بالطائف ، وذكر ياقوت أنه يقال : ملكان ، بفتح الميم وكسر اللام ، وأنه واد لهذيل على ليلة من مكة وأسفله بكنانة

(٢) فى بعض النسخ «أخى بنى بنانة بن القين» وهو تحريف ، والترجيح عن نسخة أخرى وعن شرح الحماسة للتبريزى عند شرحه لهذين البيتين (ج ١ ص ٨٦)

(٣) عبارة سيبويه (ج ٢ ص ٢٥٦): «كما أن يدع ويذر على ودعت ووذرت وإن لم يستعمل»

٥٠

وقال الصاغانى فى العباب : وقد اختار النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصل هذه اللغة فيما روى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قرأ (ما وَدَّعَكَ) مخففة ، وكذلك قرأ عروة ومقاتل وأبو حيوة وإبراهيم وابن أبى عبلة ويزيد النحوى ، انتهى

وقال ابن الأثير فى النهاية عند حديث «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم» أى : عن تركهم إياها والتخلف عنها ، يقال : ودع الشىء يدعه ودعا ، إذا تركه ، والنحاة يقولون «إن العرب أماتوا ماضى يدع ومصدره ، واستغنوا عنه بترك» والنبى عليه‌السلام أفصح ، وإنما يحمل قولهم على قلة استعماله ، فهو شاذ فى الاستعمال فصيح فى القياس ، وقد جاء فى غير حديث ؛ حتى قرىء [به (١)] قوله تعالى (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) بالتخفيف ، انتهى

وكذا فى التقريب لنور الدين محمود ابن صاحب المصباح أحمد بن محمد الفيومي ، قال : ودعت الشىء ودعا تركته ، وقرىء (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) مخففا ومنه «من ودعه الناس لشره» و «عن ودعهم الجمعات» وقوله «غير مودّع ربنا ولا مكفور (٢)» أى غير متروك ولا مفقود ، يريد الطعام ، أو المراد الله تعالى أى غير متروك الطاعة أو غير متروك الطلب إليه والسؤال منه ، كما قال «غير مستغنى عنه» ، وبكسر الدال أى غير تارك طاعتك ربنا ، وقيل : هو من الوداع ، انتهى

وقال أبوه فى المصباح : ودعته أدعه ودعا ، تركته ، وأصل المضارع الكسر ، ومن ثمّ حذفت الواو ، ثم فتح لمكان حرف الحلق ، قال بعض المتقدمين : وزعمت النحاة أن العرب أماتت ماضى يدع ومصدره واسم الفاعل ، وقد قرأ مجاهد وعروة ومقاتل وابن أبى عبلة ويزيد النحوى (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) بالتخفيف ،

__________________

(١) الزيادة عن النهاية لابن الأثير

(٢) وقع الحديث هكذا فى اللسان وفى النهاية ، ولكن لا يتم الاستشهاد به على هذه الرواية

٥١

وفى الحديث «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات» أى عن تركهم ، فقد رويت هذه الكلمة عن أفصح العرب ونقلت من طريق القراء فكيف يكون إماتة ، وقد جاء الماضى فى بعض الأشعار ، وما هذه سبيله فيجوز القول بقلة الاستعمال ، ولا يجوز القول بالاماتة ، انتهى

وقد ورد الماضى (١) فى أبيات أخر : قال سويد بن أبى كاهل اليشكرى يصف نفسه [من الرمل]

ورث البغضة عن آبائه

حافظ العقل لما كان استمع

فسعى مسعاتهم فى قومه

ثمّ لم يظفر ولا عجزا ودع

ويروى *ولا شيئا ودع*

وقال آخر [من المنسرح]

وكان ما قدموا لأنفسهم

أكثر نفعا من الّذى ودعوا

__________________

(١) قال التبريزى فى شرح الحماسة (ج ٢ ص ٨٥): «وقوله :

أرى ضيعة الأموال أن لا يضمّه

إمام ، ولا فى أهله المال يودع

يجوز أن يكون يودع فى معنى يترك ، وتلك لغة قليلة ، وقد حكوا ودع فى معنى ترك ، فإذا بنى الفعل على ما لم يسم فاعله وجب أن يقال ودع يودع ، وقد روى أن بعضهم قرأ (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ،) وروى ذلك عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنشدوا بيتا ينسب إلى أبى الأسود الدؤلى :

ليت شعرى عن خليلى ما الّذى

غاله فى الودّ حتّى ودعه

ويجوز أن يكون يودع فى البيت المتقدم محمولا على الوديعة كما قال :

وما المال والأهلون إلّا وديعة

ولا بدّ من أن تستردّ الودائع

اه كلامه ، والبيت الأول الذى أنشده لغالب بن الحر بن ثعلبة الطائى والبيت الأخير فى كلامه للبيد بن ربيعة العامرى

٥٢

وأما اسم الفاعل فقد جاء فى شعر رواه أبو علىّ (١) فى البصريات ، وهو [من الطويل]

فايّهما ما أتبعنّ فإنّنى

حزين على ترك الّذى أنا وادع

وأما اسم المفعول فقد جاء فى شعر خفاف بن ندبة الصحابى ، وهو [من الطويل]

إذا ما استحمّت أرضه من سمائه

جرى وهو مودوع وواعد مصدق

أى : متروك لا يضرب ولا يزجر

وهذا البيت من أبيات لأنس بن زنيم قالها لعبيد الله بن زياد بن سميّة وهى :

سل أميرى ما الّذى. غيّره

عن وصالى اليوم حتّى ودعه

لا تهنّى بعد إكرامك لى

فشديد عادة منتزعه

لا يكن وعدك برقا خلّبا

إنّ خير البرق ما الغيث معه

كم بجود مقرف نال العلى

وشريف بخله قد وضعه

وتقدم شرح هذه الأبيات مع ترجمة قائلها فى الشاهد التاسع والثمانين بعد الأربعمائة من شرح شواهد شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الحادى والعشرون [من الكامل] :

٢١ ـ لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة

تدع الصّوادى لا يجدن غليلا

على أن ضم الجيم من يجد لغة بنى عامر ، كما هو فى هذا البيت ، ومراده هذه اللفظة بخصوصها ، ووجه ضعفها الشذوذ بخروجها عن القياس والاستعمال ، وكسر الجيم هو القوى فيها ، وقد سمع ، قال السيرافى : إنهم يقولون ذلك فى يجد

__________________

(١) فى أصول هذا الكتاب كلها «أبو يعلى» وهو تحريف من النساخ ، لأن صاحب البصريات هو أبو على الفارسى الحسن بن أحمد بن عبد الغفار المتوفى ببغداد فى عام ٢٧٧ ه‍ ، ويؤيد هذا قول صاحب اللسان : وقد جاء فى بيت أنشده الفارسى فى البصريات» اه ، ثم ذكر هذا البيت نفسه

٥٣

من الموجدة والوجدان ، وبنو عامر فى غير يجد كغيرهم ، وكذا قال صاحب الصحاح ، وأطلق صاحب العباب وتبعه صاحب القاموس فحكيا الضم فى هذه الكلمة ، ولم يذكرا بنى عامر ، قال السيرافى : وروى «يجدن» بالكسر فى البيت ، وصرح الفارابى وغيره بقصر لغة بنى عامر بن صعصعة على هذه اللفظة ، وكذا جرى عليه أبو الحسن بن عصفور ، فقال : وشذ من فعل الذى فاؤه واو لفظة واحدة ، فجاءت بالضم ، وهى وجد يجد ، قال : وأصله يوجد ، فحذفت الواو لكون الضمة هنا شاذة ، والأصل الكسر ، انتهى

وزعم ابن مالك فى التسهيل أن لغة بنى عامر فيما فاؤه واو من المثال ضم العين :

أى فيقولون : وعد يعد وولد يلد ، ونحو ذلك ، بضم العين

ورده أبو حيان فى الارتشاف ، قال : ويجد من الموجدة والوجدان بضم الجيم شاذ ، وقيل : لغة عامرية فى هذا الحرف خاصة ، وجعل ابن مالك ذلك قانونا كليا لغة بنى عامر فى كل ما فاؤه واو من فعل ليس بصحيح ، انتهى

وكذا اعترض عليه شراحه كابن عقيل والمرادى ، ويشهد لهم قول ابن جنى فى سر الصناعة : ضم الجيم من يجد لغة شاذة [غير معتد بها (١)] لضعفها وعدم نظيرها ومخالفتها ما عليه الكافة فيما هو بخلاف وضعها ، وقال أيضا فى شرح تصريف المازنى : فأما قول الشاعر *لا يجدن غليلا* فشاذ ، والضمة عارضة ؛ ولذلك حذفت الفاء كما حذفت فى يقع ويزع ، وإن كانت الفتحة هناك لأن الكسرة هى الأصل ، وإنما الفتح عارض (٢) ، انتهى

__________________

(١) هذه الكلمة غير موجودة فى كتاب سر الصناعة لابن جنى فى باب حرف الواو (نسخة خطية محفوظة فى مكتبتنا الخاصة)

(٢) فى شرح تصريف المازنى : «لأن الكسر هو الأصل» (نسخة خطية محفوظة فى مكتبتنا الخاصة)

٥٤

وهذا التوجيه هو التوجيه الأول من توجيهى الشارح ، وأما توجيهه الثانى وهو أن تكون الضمة أصلية ـ فيرده مجىء الكسر فى هذه الكلمة كما نقلنا.

والبيت الذى أنشده الشارح المحقق ليس للبيد العامرى ، وإنما هو لجرير ، وهو تميمى ، وهو فى هذا تابع للجوهرى ، قال فى صحاحه : وجد مطلوبه يجده وجودا ويجده أيضا بالضم لغة بنى عامر (١) ، لا نظير لها فى باب المثال ، قال لبيد وهو عامرى *لو شئت قد نقع الفؤاد ـ البيت* قال ابن برى فى أماليه على الصحاح : البيت لجرير ، وليس للبيد كما زعم ، وكذا نسبه الصاغانى فى العباب لجرير ، وأنشد هذه الأبيات الثلاثة له ، وهى أول قصيدة هجا بها الفرزدق :

لم أر مثلك يا أمام خليلا

أنأى بحاجتنا وأحسن قيلا

لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة

تدع الصّوادى لا يجدن غليلا (٢)

بالعذب فى رصف القلات مقيله

قضّ الأباطح لا يزال ظليلا (٣)

وأمام : مرخم أمامة بضم الهمزة اسم امرأة ، والخليل : الصديق ، والأنثى خليلة ، كذا فى العباب ، وإنما لم يؤنثه هنا للحمل على صديق ؛ فانه يقال : رجل صديق وامرأة صديق ، وأنأى : وصف لخليل ، وهو أفعل تفضيل من النأى ،

__________________

(١) فى الصحاح : «لغة عامرية»

(٢) فى الديوان ، وشرح تصريف المازنى ، وسر الصناعة : «تدع الحوائم» والحوائم : العطاش واحدها حائم

(٣) فى أصول الكتاب هنا : «بالعذب من» والتصحيح عن اللسان والديوان ، ووقع فى اللسان مادة (وج د) رضف القلات (بالضاد المعجمة محركة) وهو تحريف من وجهين لأن الرضف بالمعجمة الساكنة الحجارة المحماة تطرح فى اللبن ليذهب وخمه ولا يصلح ههنا والتحريك غير موجود

٥٥

وهو البعد ، والباء متعلقة به ، والقيل : القول ، يريد أنها تقول ما لا تفعل ، فقولها قريب حسن مطمع فى حصول المراد ، وهى أبعد بحصوله من كل شىء ، وزعم العينى أن قوله أنأى بحاجتنا من قولهم : أناءه الحمل ، إذا أثقله ، ونقله السيوطى فى شرح أبيات المغنى ، وهو غير صحيح ؛ لأن أفعل التفضيل لا يكون إلا من الثلاثى ، وكأن المراد من حسن القول قرب المأمول ، ويقابله بعده ، لا إثقاله ، قال صاحب الصحاح : وأناءه الحمل مثال أناعه : أى أثقله ، [وأماله](١) ويقال أيضا : ناء به الحمل ، إذا أثقله ؛ فيتعدى بالباء والهمزة ، وهو من ناء ينوء نوءا ، إذا نهض بجهد ومشقة ، وناء بالحمل : إذا نهض به مثقلا ، وقوله «لو شئت ـ الخ» بكسر التاء خطاب لأمامة ، وجملة «قد نقع الفؤاد» جواب لو ، قال ابن هشام فى المغنى : وورد جواب لو الماضى مقرونا بقد ، وهو غريب ، كقول جرير

*لو شئت قد نقع الفؤاد ـ البيت*

ونظيره فى الشذوذ اقتران جواب لو لا بها ، كقول جرير أيضا

*لو لا رجاؤك قد قتّلت أولادى* انتهى.

و «نقع» بالنون والقاف ، يقال : نقع زيد بالماء : أى ارتوى منه ، وشرب حتى نقع : أى شفى غليله ، والغليل ـ بالغين المعجمة ـ حرارة العطش ، قال ابن برى : يقال نقع الفؤاد روى ، ونقع الماء العطش : أذهبه ، نقعا ونقوعا فيهما ، والماء الناقع : العذب المروى ، وقوله «بشربة» متعلق بنقع ، والشربة : المرة من الشرب ، وأراد به ماء ريقها ، وروى بدله «بمشرب» وهو مصدر ميمى ، وقوله «تدع الصوادى» فاعل تدع ضمير الشربة ، ومعناه تترك ، والصوادى : جمع صادية : أى الفرقة الصادية ، أو هو جمع صاد. والصدّى : العطش ، والصادى : العطشان ، يقول : لو ذاقت الفرق الصوادى من تلك الشربة

__________________

(١) الزيادة عن صحاح الجوهوى

٥٦

لتركتهم بلا عطش ، وجملة «لا يجدن غليلا» حال من الصوادى ، ومن العجيب قول نظام الأعرج فى شرحه : الصوادى فى البيت النخيل الطوال على ما فى الصحاح ، وقوله «بالعذب» متعلق بشربة ، والباء بمعنى من ، أى بشربة من الماء العذب ، وهو وصف من عذب الماء ـ بالضم ـ عذوبة : أى ساغ مشربه ، و «فى رصف» حال منه ، والرصف بفتح الراء وسكون الصاد المهملتين (١) الحجارة المرصوف بعضها إلى بعض ، والقلات ـ بكسر القاف ـ جمع قلت بفتحها وسكون اللام ـ وهى النقرة فى الصخرة أو الجبل يستنقع فيها ماء السماء ، ومقيله بالقاف : أى موضع الماء العذب ، وهو مبتدأ ، وقوله «قضّ الأباطح» خبره ، والقضّ ـ بكسر القاف وتشديد الضاد المعجمة ـ الحصى الصغار والأرض ذات الحصى أيضا ، وهو مضاف إلى الأباطح جمع أبطح ، وهو كل مكان متسع ، والماء الموصوف بهذين الوصفين يكون أصفى المياه وأطيبها

وترجمة جرير تقدمت فى الشاهد الرابع من أول شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثانى والعشرون [من الرجز] :

٢٢ ـ بنيّتى سيّدة البنات

عيشى ولا نأمن أن تماتى

على أنه جاء تمات مضارع متّ بكسر الميم كتخاف مضارع خفت ، وزاد ابن القطاع حرفين آخرين على ما ذكره الشارح المحقق من الحرفين ، وهما كدت تكود وجدت تجود بكسر أول الماضى فيهما ، وجاء فيهما تكاد وتجاد

وبنيتى : منادى بحرف نداء مقدر ، وهو مصغر بنت مضاف إلى ياء المتكلم وسيدة : بالنصب نعت له ، ويجوز رفعه ، وعيشى : دعاء لها بأن تعيش

__________________

(١) الذى فى اللسان أنه بفتح الراء والصاد المهملتين

٥٧

وهذا الرجز كذا أنشده الجوهرى فى الصحاح غير معزوّ إلى قائله ، ولم يكتب عليه ابن برى شيئا فى أماليه عليه ، ولا الصفدى فى حاشيته ، وقال الصاغانى فى العباب : قد مات يموت ويمات أيضا ، وأكثر من يتكلم بها طىء وقد تكلم بها سائر العرب ، قال :

*بنىّ يا سيّدة البنات*

هكذا أنشده ابن دريد ، وأنشد غيره

بنيّتى يا خيرة البنات

عيشى ، ولا يؤمن أن تماتى

ويروى «ولا يؤمن بأن (١)» ويروى «نأمن أن»

وقال يونس فى كتاب اللغات : إن يميت لغة فيها ، انتهى

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثالث والعشرون : [من الرجز]

٢٣ ـ فإنّه أهل لأن يؤ كرما*

على أنه شاذ ، والقياس يكرم بحذف الهمزة ، وهذا المقدار أورده الجوهرى فى صحاحه فى مادة كرم غير معزو إلى قائله ، ولا كتب عليه ابن برى شيئا فى أماليه ، ولا الصفدى فى حاشيته عليه ، وهو مشهور فى كتب العربية قلما خلا عنه كتاب ، وقد بالغت فى مراجعة المواد والمظانّ فلم أجد قائله ولا تتمته ،

وقال العينى : تقدم الكلام عليه مستوفى فى شواهد باب النعت وفى شواهد نونى التوكيد

وأقول : لم يذكره فيهما أصلا ، فضلا أن عن يستوفى الكلام عليه

__________________

(١) كذا فى عامة الأصول ، وليس بشىء ، لأن وزن البيت يختل ، إلا أن تسكن النون من «يؤمن» ضرورة.

٥٨

وقال الجاربردى (١) أوله :

*شيخ على كرسيّه معمّما*

وأقول : هذا من قصيدة مرجّزة منها :

يحسبه الجاهل ما لم يعلما

شيخا على كرسيّه معمّما

لو أنّه أبان أو تكلّما

لكان إيّاه ولكن أعجما

وقد شرحناها فى الشاهد التاسع والأربعين بعد التسعمائة من آخر شواهد شرح الكافية ، وليس فى تلك القصيدة

*فإنّه أهل لأن يؤ كرما*

* * *

وأنشد الجاربردى بعده (٢) ، وهو الشاهد الرابع والعشرون ، وهو من شواهد سيبويه (٣) [من السريع] :

لم يبق من آى بها يحلّين

غير رماد وحطام كنفين

وغير ودّ جاذل أو ودّين

وصاليات ككما يؤثفين

على أن يؤثفين بالهمز شاذ ، والقياس يثفين فجاء على الأصل المهجور لضرورة الشعر ووزنه يؤفعلن بزيادة الياء والهمزة ، وهذا أحد قولين ، ومعناه جعلت أثافى جمع أثفيّة ، وعليه فأثفية أفعولة أصلها أثفوية قلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت الفاء لتبقى الياء على حالها ، واستدلوا على زيادة الهمزة بقول العرب : ثفّيث القدر ، إذا جعلتها على الأثافى ؛ والقول الثانى ـ وهو لجماعة ـ أن وزنه يفعلين ، فالهمزة أصل ووزن أثفية على هذا فعليّة ، واستدلوا بقول النابغة [من البسيط] :

__________________

(١ و ٢) انظر شرح الجاربردى (ص ٥٨)

(٣) انظره (ج ٢ ص ٣٣١) ، وقد جعلوا الشاهد من بحر الرجز

٥٩

لا تقذفنّى بركن لا كفاء له

وإن تأثّفك الاعداء بالرّفد (١)

فقوله تأثّفك وزنه تفعّلك لا يصح فيه غيره ، ولو كان من ثفّيت القدر لقال تثفّاك ، ومعنى البيت صار أعدائى حولك كالأثافى تظافرا ، قال ابن جنى فى شرح تصريف المازنى : ويفعلين أولى من يؤفعلن ، لأنه لا ضرورة فيه ، قال أبو الفتح بن جنى : يقال أثفيت القدر وأثّفتها وثفّيتها ، إذا أصلحت تحتها الأثافى ، وقال صاحب الصحاح : ثفّيت القدر تثفية ، وضعتها على الأثافى ، وأثفيتها جعلت لها أثافى ، وأنشد البيت

وهذا الشعر لخطام المجاشعى ، ونسبه الصقلى شارح أبيات الإيضاح للفارسى ، والجوهرى فى الصحاح ، إلى هميان بن قحافة ، وأوله :

حىّ ديار الحىّ بين السّهبين

وطلحة الدّوم وقد تعفّين

و «حىّ» أمر من التحية ، والحى : القبيلة ، والسهبان : موضع ، وكذا طلحة الدوم ، والنون فى تعفّين ضمير ديار الحى ، وتعفّي بمعنى عفا اللازم. يقال : عفا المنزل يعفو عفوّا ، إذا درس ، والآى : جمع آية بمعنى العلامة. والتّحلية : الوصف يقال : حلّيت الرجل مثلا ، إذا وصفته ، يقول : لم يبق من علامات حلولهم فى ديارهم تحلّيها وتصفها غير ما ذكر ، ومن : زائدة ، وآى فاعل ، وغير منصوب على الاستثناء ، وجملة يحلّين صفة لآى ؛ وبها متعلق به. والخطام بضم المهملة : ما تكسر من الحطب ، والمراد به دقّ الشجر الذى قطعوه فظللوا به الخيام ، ورماد مضاف إلى كنفين ويجوز تنوينه ، وكنف بفتح الكاف وسكون النون الناحية والجانب. وأصله بفتح النون سكنها للضرورة أى رماد من جانبى الموضع. وقيل الكنف هنا بكسر الكاف وسكون النون ، وهو خرج يضع فيه

__________________

(١) الرفد ـ بكسر أوله وفتح ثانيه : جمع رفدة ـ بكسر فسكون ـ وهى العصبة من الناس ، يقول : لا ترمنى منك بما لا مثل له ولا أستطيع دفعه وإن احتوشك الأعداء متعاونين

٦٠