شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

فى آخر أرطى فيمن قال : مرطىّ منقلبة عن ياء ؛ لأنه لو كان من الواو لقالوا : مرطوّ ، وإنما مرطىّ كمرمى ، ولا يحمله على قوله :

*أنا اللّيث معديّا عليه وعاديا*

وهو يريد معدوّا عليه ، ولا على مسنيّة ، وهم يريدون مسنوّة ؛ لأن هذا شاذ لا يقاس عليه» انتهى.

وكذا قال فى سر الصناعة

وجعل الزمخشرى فى المفصل المفرد والمصدر شيئا واحدا مقابلا للجمع ، قال ابن يعيش : «ويجوز القلب فى الواحد فيقال : مغزىّ ومدعىّ قال :

*أنا اللّيث معديّا عليه وعاديا*

أنشده أبو عثمان معدوّا بالواو على الأصل ، ورواه غيره معديّا» انتهى.

وفيه أن أبا عثمان إنما أنشده فى تصريفه بالياء لا غير

والمصراع عجزه ، وصدره :

*وقد علمت عرسى مليكة أنّنى*

والعرس ـ بالكسر ـ : زوجة الرجل ، ومليكة بالتصغير

والبيت من قصيدة لعبد يغوث الحارثى الجاهلى ، قالها لما أسرته تيم الرّباب ، وقد أوردناها برمتها مع سببها فى شواهد المنادى من شواهد شرح الكافية.

وقد وقع هذا المصراع عجزا فى شعر لحنظلة بن فاتك ، وصدره :

*تسائلنى ما ذا تكون بداهتى*

والبداهة ـ بضم الموحدة ـ : الفجاءة والمباغتة ، والأول هو المشهور ، وقد أنشده سيبويه وغيره.

* * *

(ق ٢ ـ ٢٦)

٤٠١

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد السابع والثمانون بعد المائة ـ : [من البسيط]

١٨٧ ـ موالى ككباش العوس سحّاح

على أن تحريك الياء بالرفع شاذ ، كذا فى المفصل ، وفى فرحة الأديب : وروى موالىء بالهمز ، وفيهما ضرورة أخرى وهى صرف ما لا ينصرف.

قال ابن المستوفى : أنشده أبو بكر السراج فى كتابه لجرير رضى الله عنه :

قد كاد يذهب بالدّنيا ولذّتها

موالئ ككباش العوس سحّاح

ما منهم واحد إلّا بحجزته

لبابه من علاج القين مفتاح

وقال : أبدل الهمزة فى موالىء من الياء فى الشعر ضرورة ؛ لأنهم يبدلون الحرف من الحرف فى الشعر فى الموضع الذى لا يبدل مثله فى الكلام لمعنى يحاولونه : من تحريك ساكن ، أو تسكين متحرك ؛ ليصح وزن الشعر ، أوردّ شىء إلى أصله أو تشبيه بنظير ؛ لأنه لو فعل بها ما فعل بالياء فى المنقوص لانكسر البيت.

أقول : يريد لو قال فى البيت : موالى ، بتسكين الياء ، لانكسر ، ولو حركت بالضمة لاستثقلت ، قال ابن السيرافى : همز الياء من موالىء لاستقامة البيت

وكذا فى الضرائر لابن عصفور ، قال : «ومنه إبدال الهمزة من الياء حيث لا يجوز ذلك فى الكلام نحو قوله :

قد كاد يذهب بالدّنيا وبهجتها

موالىء ككباش العوس سحّاح

وقوله : [من الطويل]

كمشترىء بالخيل أحمرة بترا

وإنما أبدلت الياء من موال ومشتر همزة للاضطرار إلى التحريك واستثقال الضمة والكسرة فى الياء ، وكان المبدل همزة إجراء لها فى ذلك مجرى الألف لمشابهتها لها فى الاعتلال واللين» انتهى.

٤٠٢

قوله «قد كاد يذهب إلخ» قال بعض فضلاء العجم : موالى فاعل يذهب وفى كاد ضمير الشأن ، و «موالى» جمع مولى ، وله معان : المولى السيد ، والمولى ابن العم ، والمولى العصبة ، والمولى الناصر ، والمولى الحليف ، وهو الذى يقال له : مولى الموالاة ، والمولى المعتق ، وهو مولى النعمة ، والمولى العتيق ، وهم موالى بنى هاشم : أى عتقاؤهم ، وكأنه يريد المعنى الأول ، يذم رؤساء زمانه ، و «كباش» جمع كبش ، وهو الفحل من الضأن ، و «العوس» بضم العين المهملة ، قال الزمخشرى فى مناهى المفصل : العوس مكان أو قبيلة ، يقال : كبش عوسىّ ، وقال أبو سهل الهروى فى شرح فصيح ثعلب : يقال كبش عوسىّ ؛ إذا كان قويا يحمل عليه ، وقيل : بل هو منسوب إلى موضع يقال له العوس بناحية الجزيرة ، وقيل : بل هو السمين ، وما فى البيت لا يوافق المعنى الأخير ، وفى الصحاح : العوس بالضم ضرب من الغنم و «سحّاح» بالضم جمع ساحّ ، يقال : سحّت الشاة تسحّ ـ بالكسر ـ سحوحا وسحوحة : أى سمنت ، وغنم سحّاح : أى سمان ، وهو ـ بالرفع ـ نعت لموالى ، شبههم بهذه الكباش لطول رعيهم فى مراتع اللذات ، و «بحجزته» جار ومجرور خبر مقدم ، ومفتاح مبتدأ مؤخر ، والحجزة ـ بضم الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها زاى معجمة ـ : هى معقد الإزار ، وحجزة السراويل التى فيها التّكّة ، يريد أنهم يحملون مفاتيح أبوابهم ؛ فهى مقفلة لا يدخلها أحد من الضيوف ، والقين ـ بفتح القاف ـ : الحداد ، وأراد بعلاج القين صنيعه ، يقال : عالجت الشىء معالجة وعلاجا ؛ إذا زاولته فإذا كان المفتاح مما يزاوله القين بعمله فقفله محكم.

* * *

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المائة ـ : [من الكامل]

١٨٨ ـ كجوارى يلعبن بالصّحراء

٤٠٣

على أن قوما من العرب يجرون الياء مجرى الحرف الصحيح فى الاختيار فيحركونها بالجر والرفع ، وقال فى شرح الكافية : إن هذا ضرورة ، وهو المشهور ، قال ابن عصفور فى كتاب الضرائر : «فيه ضرورتان : إحداهما إثبات الياء وتحريكها وكان حقه أن يحذفها فيقول : كجوار ، والثانية أنه صرف ما لا ينصرف ، وكان الوجه لما أثبت الياء إجراء لها مجرى الصحيح أن يمنع الصرف ؛ فيقول : كجوارى» انتهى.

وهذا المصراع عجز ، وصدره :

*ما إن رأيت ولا أرى فى مدّتى*

و «إن» زائدة ، وجملة «ولا أرى فى مدتى» : أى فى مدة عمرى معترضة بين أرى البصرية وبين مفعولها ، وهو الكاف من قوله كجوارى ؛ فانها اسم ، ولا يجوز أن تكون هنا حرفا ، والجوارى : جمع جارية وهى الشابة ، والصحراء : هى البرية والخلاء

وقد تكلمنا عليه بأكثر من هذا فى الشاهد الواحد والثلاثين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية.

* * *

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد التاسع والثمانون بعد المائة ـ : [من الطويل]

١٨٩ ـ أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب

على أن تسكين الواو من أسمو مع الناصب شاذ.

قال ابن عصفور فى كتاب الضرائر : حذف الفتحة من آخر أسمو إجراء للنصب مجرى الرفع.

والمصراع عجز وصدره :

٤٠٤

وما سوّدتنى عامر عن وراثة

والبيت من قصيدة لعدو الله ورسوله عامر بن الطّفيل العامرىّ ، وقوله : «وما سودتنى عامر» أى : ما جعلتنى سيد قبيلة بنى عامر بالإرث عن آبائهم ؛ بل سدت بأفعالى ، وقوله «أبى الله» أبى له معنيان : أحدهما كره ، وهو المراد هنا ، والثانى امتنع ، و «أن أسمو» فى موضع المفعول لأبى ، والسموّ : العلو والشرف وقد شرحناه شرحا وافيا فى الشاهد الثانى والثلاثين بعد الستمائة هناك.

* * *

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد التسعون بعد المائة ـ : [من الطويل]

١٩٠ ـ ولو أنّ واش باليمامة داره

ودارى بأعلى حضرموت اهتدى ليا

على أن تسكين الياء من واش مع الناصب شاذ ، وحذفت لالتقائها ساكنة مع نون التنوين ، وروى «فلو كان واش» فلا شاهد فيه ولا ضرورة ، والواشى : النّمام الذى يزوّق الكلام ليفسد بين شخصين ، وأصله من وشى الثوب يشيه وشيا ؛ إذا نقشه وحسنه ، واليمامة : بلد فى نجد ، وحضرموت : مدينة فى اليمن ،

والبيت من قصيدة طويلة لمجنون بنى عامر أوردنا مع هذا البيت بعضا منها فى الشاهد الخامس والثمانين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد الواحد والتسعون بعد المائة ـ : [من الرجز]

١٩١ ـ كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق

أيدى جوار (١) يتعاطين الورق

__________________

(١) فى نسخة «عذارى» بدل جوار ، وهى جمع عذراء

٤٠٥

على أن تسكين الياء مع الناصب شاذ ، كما تقدم.

قال ابن الشجرى : «قال المبرد : هذا من أحسن الضروروات ؛ لأنهم ألحقوا حالة بحالتين ، يعنى أنهم جعلوا المنصوب كالمجرور والمرفوع ، مع أن السكون أخف من الحركات ، ولذلك اعتزموا على إسكان الياء فى ذوات الياء من المركبات ، نحو معدى كرب وقالى قلا» انتهى

والبيتان من الرجز نسبهما ابن رشيق فى العمدة إلى رؤبة بن العجاج ، ولم أرهما فى ديوانه (١)

وضمير «أيديهن» للإبل ، والقاع : المكان المستوى ، والقرق ـ بفتح القاف وكسر الراء ـ : الأملس ، وقال الشريف المرتضى : هو الخشن الذى فيه الحصا ، وجوار ـ بفتح الجيم ـ : جمع جارية ، ويتعاطين : يناول بعضهن بعضا ، والورق ـ بكسر الراء ـ : الدراهم ، شبه حذف مناسم الإبل للحصى بحذف جوار يلعبن بدراهم ، وخص الجوارى لأنهن أخف يدا من النساء

وقد شرحناه بأكثر مما هنا فى الشاهد الثالث والثلاثين بعد الستماية من شواهد شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد الثانى والتسعون بعد المائة ـ : [من البسيط]

١٩٢ ـ هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا

من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع

على أنه سكنت الواو من تهجو شذوذا مع وجود المقتضى لحذفها وهو الجازم ، قال ابن جنى فى سر الصناعة : «يجوز أيضا أن يكون ممن يقول فى الرفع : هو

__________________

(١) رجعنا إلى ديوان رؤبة فلم نجدهما ، ولكننا وجدناهما فى زيادات الديوان

٤٠٦

يهجو ، فيضم الواو ويجريها مجرى الصحيح ، فاذا جزم سكنها ؛ فيكون علامة الجزم على هذا القول سكون الواو من يهجو ، كما أسكن الآخر ياء يأتى فى موضع الجزم ؛ فقال :

*ألم يأتيك والأنباء تنمى*

وكأنه ممن يقول : هو يأتيك ، بضم الياء ، وقد يتوجه عندى أن يكون على إشباع الضمة ، وكأنه أراد لم تهج فحذف الواو للجزم ، ثم أشبع ضمة الجيم فنشأت بعدها واو» انتهى.

و «هجوت» بالخطاب من الهجو ، وهو الذم ، و «زبّان» ـ بالزاى المعجمة والباء الموحدة ـ : اسم رجل ، واشتقاقه من الزّبب وهو كثرة الشعر وطوله ، وثم للترتيب وتراخى الزمان ، أشار إلى أن اعتذاره من هجوه إنما حصل بعد مدة ، و «من» متعلقة بالحال وهو معتذر ، وقوله «لم تهجو ولم تدع» مفعولهما محذوف :

أى لم تهجوه ولم تدعه ، وتدع مجزوم ، وكسرت العين للقافية ، والمعنى أنك هجوت واعتذرت فكأنك لم تهج ، على أنك لم تدع الهجو ، وقال العينى : والجملتان كاشفتان لما قبلهما ؛ فلذا ترك العاطف بينهما وأراد بهذا الكلام الانكار عليه فى هجوه ثم اعتذاره عنه ؛ حيث لم يستمر على حالة واحدة.

والبيت مع شهرته لم يعرف قائله (١) والله أعلم :

__________________

(١) ينسبه بعضهم إلى عمرو بن العلاء ، واسمه زبان ، يقوله للفرزدق الشاعر المعروف ، وكان قد هجاه ثم اعتذر إليه ، وروى المرتضى فى شرح القاموس :

*لم أهجو ولم أدع*

وهذا يستدعى أن يكون هجوت وما بعده بتاء المتكلم ؛ فيكون القائل هو من هجا أبا عمر.

٤٠٧

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد الثالث والتسعون بعد المائة ، وهو من شواهد سيبويه : [من الوافر]

١٩٣ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بنى زياد

لما تقدم قبله

قال ابن جنى فى شرح تصريف المازنى : قدّر الشاعر ضمة الواو فى «لم تهجو» فأسكنها للجزم كما أسكن الياء فى ألم يأتيك للجزم ، وهذا فى الياء أسهل منه فى الواو ؛ لأن الواو وفيها الضمة أثقل من الياء وفيها الضمة ، و «ما» فاعل يأتى ، والباء زيدت فيه ضرورة ، والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر ، وتنمى : تشيع من نمى الشىء ينمى إذا ارتفع وزاد ، والجملة معترضة بين الفعل وفاعله ، واللبون : الإبل ذوات اللبن ، وهو اسم مفرد أراد به الجنس ، وبنو زياد : هم الربيع ، وعمارة ، وقيس ، وأنس ؛ بنو زياد بن سفيان العبسى ، والمراد لبون الرّبيع ابن زياد ، وكان سيد عبس.

والبيت مطلع قصيدة لقيس بن زهير العبسى ، وكان سيد قومه ، وحصل بينه وبين الربيع عداوة فى شأن درع ساومه فيها ، فلما نظر إليها الربيع وهو على ظهر فرسه وضعها على القربوس (١) ثم ركض بها فلم يردها عليه ، فنهب قيس بن زهير إبله وإبل إخوته ، فقدم بها مكة ، فباعها من عبد الله بن جدعان التيمى القرشى معاوضة بأدراع وسيوف ، فافتخر بهذا وبما بعده ، وهو :

ومحبسها على القرشىّ تشرى

بأدراع وأسياف حداد

ومحبسها : معطوف على فاعل يأتيك ، وهو ـ بكسر الباء ـ مصدر ميمى ، والقرشى : هو ابن جدعان

__________________

(١) القربوس ـ بفتح القاف والراء ـ حنو السرج

٤٠٨

وقد شرحناهما مع القصيدة شرحا لا مزيد عليه فى الشاهد السادس والثلاثين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد الرابع والتسعون ، بعد المائة ـ : [من الرجز]

١٩٤ ـ *ولا ترضّاها ولا تملّق*

لما تقدم ، وقبله :

*إذا العجوز غضبت فطلّق*

قال ابن جنى فى شرح تصريف المازنى : «شبهت الألف بالياء فى أن ثبتت فى موضع الجزم ، فإنه قدر الحركة هنا وحذفها للجزم ، وهذا بعيد ؛ لأن الألف لا يمكن تحريكها أبدا» انتهى.

ويجوز تخريجه على أن «لا» فيه نافيه لا ناهية ، والتقدير فطلّقها غير مترضّ لها ، ويكون قوله «ولا تملق» معطوفا على قوله فطلق ، قاله ابن عصفور فى كتاب الضرائر.

وقد شرحناه بأكثر من هذا فى الشاهد الخامس والثلاثين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية.

* * *

وأنشد الجابردى هنا ـ وهو الشاهد الخامس والتسعون بعد المائة ـ : [من الطويل]

١٩٥ ـ *كمشترى بالخيل أحمرة بترا*

لما تقدم فى قوله :

*موالى ككباش العوس سحّاح*

٤٠٩

والقياس فيهما كمشتر وموال ، بحذف الياء والتنوين ، ورواهما ابن عصفور فى كتاب الضرائر كمشترىء وموالىء ، بالهمز والتنوين ، كما تقدم ، والمعنى كمن أعطى الخيل وأخذ الحمير بدلها ، وهو جمع حمار ، والبتر : جمع أبتر ، وهو المقطوع الذنب

* * *

وأنشد أيضا بعده ـ وهو الشاهد السادس والتسعون بعد المائة ، وهو من شواهد سيبويه ـ : [من البسيط]

١٩٦ ـ يا دار هند عفت إلّا أثافيها

هو صدر ، وعجزه :

*بين الطّوىّ فصارات فواديها*

على أنه كان حق «أثافيها» النصب على الاستثناء ، وسكنت الياء شذوذا

قال سيبويه : «وسألت الخليل رحمه‌الله عن الياءات لم تنصب فى موضع النصب ؛ إذا كان الأول مضافا؟ وذلك قولك : رأيت معدى كرب ، واحتملوا أيادى سبا ، فقال : شبهوا هذه الياءات بألف مثنى حيث عرّوها من الجر والرفع ، فكما عرّوا الألف منه عرّوها من النصب أيضا ، فقالت الشعراء حيث اضطروا ، قال بعض السعديين :

ـ *يا دار هند عفت إلّا أثافيها*

ونحو ذلك ، وإنما اختصت هذه الياءات فى هذا الموضع بذا لأنهم يجعلون الشيئين ههنا اسما واحدا ، فتكون الياء غير حرف الإعراب ، فيسكنونها بياء زائدة ساكنة ، نحو ياء دردبيس» إلى آخر ما ذكره

قال الأعلم : «الشاهد فيه تسكين الياء من الأثافى فى حال النصب ، حملا

٤١٠

لها عند الضرورة على الألف ؛ لأنها أختها ، والألف لا تتحرك» انتهى.

وقال صدر الأفاضل : «يحتمل أن يكون قوله : إلا أثافيها ؛ من باب الحمل على المعنى ، كأنه قال : لم يبق إلا أثافيها ، وحينئذ لا يكون البيت شاهدا لاسكان الياء ، وهذا تحسر على اندراس الدار معنى ، وإن كان لفظه خبرا» انتهى.

وكذا قال ابن المستوفى فى شرح أبيات المفصل ، وقال : «ولو نصب أثافيها على أن يكون البيت غير مصرّع لجاز ، وهذا على لغة من يقول : أثافى ؛ بتخفيف الياء ، وفيها لغتان : تخفيف الياء ، وتشديدها ، قال الجوهرى : الاثفيّة للقدر ، تقديره أفعولة ، والجمع الأثافىّ ، وإن شئت خففت ، وثفّيت القدر تثفية : أى وضعتها على الأثافى ، وأثفيت القدر : جعلت لها أثافى ، وقال الأخفش : قولهم أثاف ، لم يسمع من العرب بالتثقيل ، وقال الكسائى : سمع ، وأنشد : [من الطويل]

أثافىّ سفعا فى معرّس مرجل

والطوىّ : البئر المطوية بالحجارة ، والصارة ـ بالصاد والراء المهملتين ـ : رأس الجبل والوادى ، معروف ، و «بين الطوىّ» نصب على الحال ، والعامل فيها ما فى النداء من معنى الفعل ، مثل قول النابغة : [من البسيط]

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

* * *

وأنشد أيضا بعده ـ وهو الشاهد السابع والتسعون بعد المائة ـ : [من البسيط]

١٩٧ ـ يا بارى القوس بريا ليس يحكمه

لا تفسد القوس أعط القوس باريها

على أنه سكن ياء «باريها» شذوذا ، والقياس فتحها ؛ لأن باريها المفعول الثانى لأعط.

٤١١

قال الزمخشرى فى أمثاله : «أعط القوس باريها ؛ قيل : إن الرواية عن العرب باريها بسكون الياء لا غير ، يضرب فى وجوب تفويض الأمر إلى من يحسنه ويتمهّر فيه» انتهى.

وكذا أورده فى المفصل بعد البيت السابق.

وقال الميدانى فى أمثاله : أى استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه ، وينشد :

يا بارى القوس بريا لست تحسنها

لا تفسدنها وأعط القوس باريها

قال ابن المستوفى : «قرأت هذا البيت على شيخنا أبى الحرم مكى بن زيان فى الأمثال لأبى الفضل أحمد بن محمد الميدانى : أعط القوس باريها ، بفتح الياء ، وكان فى الأصل «ليس يحسنه» وجعله «بريا لست تحسنها» ، وهو كذلك فى نسخ كتاب الميدانى ، ولعل الزمخشرى إنما أراد بالمثل آخر هذا البيت المذكور فأورده على ما قاله الشاعر ، لا على ما ورد من المثل فى النثر فانه ليس بمحل ضرورة ، ويروى :

يا بارى القوس بريا ليس يصلحه

لا تظلم القوس أعط القوس باريها

والأول أصح ، ويحوز أن يسكّن ياء باريها ـ وإن كان مثلا ـ برأيه» هذا كلامه.

ولو رأى ما فى أمثال الزمخشرى لاستغنى عما أورده

وقال المفضل بن سلمة فى كتاب الفاخر : يقال : إن أول من قال ذلك المثل هو الحطيئة ، وساق حكايته مع سعيد بن العاص أمير المدينة فى آخر الفاخر.

* * *

وأنشد أيضا بعده ـ وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد المائة ـ : [من الكامل]

٤١٢

١٩٨ ـ ما أنس لا أنساه آخر عيشتى

ما لاح بالمعزاء ريع سراب

على أنه أثبت الياء (١) فى أنساه شذوذا ، كما ثبت الواو فى لم تهجو ولم تدع ، والقياس لا أنسه ولم تهج ، بحذفهما.

و «ما» اسم شرط يجزم فعلين ، وهو هنا منصوب بشرطه ، والمعنى مهما أنس من شىء من الأشياء لا أنس هذا الميت ، وهو كثير فى الأشعار وغيرها ، قال ابن ميّادة : [من الطويل]

ما أنس م الأشياء لا أنس قولها

وأدمعها يذرين حشو المكاحل

تمتّع بذا اليوم القصير فإنّه

رهين بأيّام الشّهور الأطاول

ومعناه مهما أنس من شىء لا أنس قولها ، والمكاحل : مواضع الكحل ، وآخر عيشتى : منصوب على الظرف ، والعيشة : الحياة ، والمعنى إلى آخر عيشتى ، وما : مصدرية دوامية ، والتقدير : مدة دوام لوح المعزاء ، وهو ظرف لقوله : لا أنساه ، والمراد التأبيد ، وهو أعم من قوله آخر عيشتى ، وجوز ابن المستوفى أن يكون بدلا من آخر ، والمعزاء ـ بفتح الميم وسكون العين المهملة بعدها زاى معجمة ـ الأرض الصّلبة الكثيرة الحصا ، ومكان أمعز بيّن المعز ، بفتح العين ؛ والرّيع ـ بمهملتين ـ : مصدر راع السّراب يريع : أى جاء وذهب ، وكذلك تريّع السّراب تريّعا. وقال ابن المستوفى : «وأنشده ابن الأعرابى ريع ـ بكسر الراء ـ والريع : الطريق ، وكأنه أراد بريع سراب بياضه ، وقال ابن دريد : الريع : العلو فى الأرض حتى يمتنع أن يسلك ، وكذلك هو فى التنزيل»

__________________

(١) كذا ، وصوابه الألف

٤١٣

هذا ما سطره .. وأورده ابن الأعرابى فى نوادره مع بيت قبله ، وهو

بكر النّعىّ بخير خندف كلّها

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

وقال : هما لحصين بن قعقاع بن معبد بن زرارة ، وبكر هنا : بمعنى بادر وسارع ، والنّعىّ فعيل بمعنى الناعى ، وهو الذى يأتى بخبر الميت ، ويكون النعىّ بالتشديد أيضا مصدرا كالنّعى بسكون العين وهو إشاعة موت الميت ، قال الأصمعى : كانت العرب إذا مات فيهم ميت له قدر ركب راكب فرسا وجعل يسير فى الناس ، ويقول : نعاء فلانا ، أى انعه وأظهر خبر وفاته ، وهى مبنية مثل نزال ، بمعنى انزل ، وعتيبة بالتصغير : فارس من فرسان الجاهلية ، وهو ابن الحارث بن شهاب بن عبد قيس بن الكباس بن جعفر بن يربوع ، اليربوعى وكان قد رأس بيت بنى يربوع ؛ وقتله ذؤاب بن ربيعة لما قاتل بنى نصر بن قعين ، وكانت تحت عتيبة يومئذ فرس فيها مراح واعتراض ، فأصاب زجّ غلام من بنى أسد يقال له : ذؤاب بن ربيعة ؛ أرنبة عتيبة ، فنزف حتى مات ، فحمل ربيع بن عتيبة على ذؤاب فأخذه من سرجه ، وقتلوا ثمانية من بنى نصر وبنى غاضرة ، واستنقذوا النعم ، وساروا إلى منزلهم فقتلوه ، فقال ربيعة أبو ذؤاب : [من الكامل]

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

بأشدّهم ضرّا على أعدائهم

وأعزّهم فقدا على الأصحاب

والحصين بن القعقاع صاحب الشعر من بنى حنظلة بن دارم التميمى.

* * *

الابدال

أنشد فيه الجاربردى فى أوله ـ وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد المائة ـ : [من الكامل]

٤١٤

١٩٩ ـ ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النّفوس حمامها

على أن أبا عبيدة قال : «بعض» فى البيت بمعنى كل ، واستدل به لقوله تعالى : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ولم يرتضه الزمخشرى ، قال القاضى : هو مردود ؛ لأنه أراد بالبعض نفسه ، وقال فى الآية : فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفيه مبالغة فى التحذير وإظهار الانتصاف (١) وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذبا ، أو يصيبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا ، وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم ، وقال الزمخشرى فى سورة المائدة عند قوله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) : «يعنى بذنب التولى عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك ، وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد ، وأن هذا الذنب مع عظمة بعضها واحد منها ، وهذا الإبهام لتعظيم التولى ، ونحو البعض فى هذا الكلام ما فى قول لبيد :

*أو يرتبط بعض النّفوس حمامها*

أراد نفسه ، وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفسا كبيرة ونفسا أىّ نفس ، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو فى معنى البعضية فكذلك إذا صرح بالبعض» انتهى. وكذا قال القاضى

والبيت من معلقة لبيد بن ربيعة العامرى الصحابى رضى الله عنه ، قال الزوزنى فى شرحه : «أراد ببعض النفوس هنا نفسه ، ومن جعل بعض النفوس بمعنى كل النفوس فقد أخطأ ، لأن بعضا لا يفيد العموم والاستيعاب» انتهى.

و «ترّاك» مبالغة تارك ، وأمكنة : جمع مكان ، و «إذا» ظرف لتراك لا شرطية ـ والحمام ـ بكسر الحاء المهملة ـ الموت وهو فاعل يرتبط ، و «بعض» مفعوله

__________________

(١) فى نسخة الانصاف

٤١٥

ويرتبط بمعنى يعلق ، وأو بمعنى إلا ، والفعل بعدها ينتصب بأن ، وسكن يرتبط هنا لضرورة الشعر ، والمعنى إنى أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما أكره ، إلا أن يدركنى الموت فيحبسنى.

قال ابن عصفور فى كتاب الضرائر : «ومنه حذفهم الفتحة التى هى علامة الإعراب من آخر الفعل المضارع كقول لبيد : أو يرتبط ، ألا ترى أنه أسكن يرتبط وهو فى الأصل منصوب لأنه بعد أو التى بمعنى «إلا أن» وإذا كانت بمعنى «إلا أن» لم يكن الفعل الواقع بعدها إلا منصوبا باضمار أن وحذفها من آخر الفعل المعتل أحسن ؛ كقوله :

أبى لله أن أسمو بأمّ ولا أب». انتهى

وهذا مرضىّ الزوزنى ، قال : «معناه إنى تراك أمكنة إذا لم أرضها إلا أن يرتبط نفسى حمامها ، فلا يمكنها البراح ، هذا أوجه الأقوال وأحسنها ، وتحرير المعنى : إنى لأترك الأماكن التى أجتويها وأقليها إلا أن أموت».

وقال أبو جعفر النحوى فى شرحه : «جزم يرتبط عطفا على قوله إذا لم أرضها ، وهذا أجود الأقوال ، والمعنى على هذا إذا لم أرضها وإذا لم يرتبط بعض النفوس حمامها ، وقيل : إنّ يرتبط فى موضع رفع إلا أنه أسكنه لأنه رد الفعل إلى أصله ؛ لأن أصل الأفعال أن لا تعرب وإنما أعربت للمضارعة ، وقيل : يرتبط فى موضع نصب ، ومعنى «أو» معنى «إلا أن» أى : إلا أن يرتبط بعض النفوس حمامها ، إلا أنه أسكن ؛ لأنه رد الفعل أيضا إلى أصله ، وإنما اخترنا القول الأول ، وهو أن يكون مجزوما ؛ لأن أبا العباس قال : لا يجوز للشاعر أن يسكن الفعل المستقبل لأنه قد وجب له الإعراب لمضارعته الأسماء وصار الإعراب فيه يفرق بين المعانى» هذا كلامه

وعلى مختاره لا ضرورة فيه ؛ إلا أن علة اختياره واهية ؛ لأن تسكين المرفوع

٤١٦

والمنصوب ثابت فى أفصح الكلام نثرا ونظما ، ومحصل الجزم بالعطف أنّى إذا لم يكن أحد الأمرين : الرضا والموت ؛ فالترك حاصل ، أما إذا رضيت بها بأن رأيت فيها ما أحب فلا ، وأما إذا مت فلعدم الإمكان ، وهذا يدل على شهامة نفسه فى أنه لا يقيم فى موضع ذل.

وتراك : خبر بعد خبر «لأنّ» فى البيت قبله ، وهو :

أو لم تكن تدرى نوار بأنّنى

وصّال عقد حبائل جذّامها

الألف للاستفهام ، ونوار ـ بفتح النون ـ اسم امرأة ، و «وصّال» خبر أنّنى ، و «جذّامها» خبر ثان و «ترّاك» خبر ثالث ، و «وصّال» مبالغة واصل ، و «وجذّامها» بالجيم والذال المعجمة مبالغة جاذم من الجذم وهو القطع ، والحبائل : جمع حبالة ؛ وحبالة : جمع حبل ، وهو هنا مستعار للعهد والمودة ، يقول : أليست تدرى نوار أنى واصل عقد العهود والمودات وقطّاعها؟ يريد أنه يصل من استحق الوصل ويقطع من استحق القطع.

* * *

وأنشد أيضا بعده ـ وهو الشاهد الموفى المائتين ، وهو من شواهد سيبويه ـ : [من الرجز]

٢٠٠ ـ يستنّ فى علقى وفى مكور

على أن من رواه علقى ـ بلا تنوين ـ جعل ألفه للتأنيث ولم يقل فى واحده : علقاة ، ومن نونه جعل ألفه للالحاق وجعل واحده علقاة ، وهذا جواب ما استشكله أبو عبيدة.

قال الصاغانى فى العباب : «قال سيبويه العلقى نبت يكون واحدا وجمعا وألفه للتأنيث ، قال العجاج يصف ثورا :

(ق ٢ ـ ٢٧)

٤١٧

فحطّ فى علقى وفى مكور

بين تواري الشّمس والذّروو

وقال غيره : ألفه للالحاق وينون ، الواحدة علقاة ، وقال أبو نصر : العلقى شجرة تدوم خضرتها فى القيظ ، ومنابت العلقى الرّمل والسهول ، وقال أبو حنيفة الدينورىّ : أرانى بعض الأعراب نبتا زعم أنه العلقى له أفنان طوال دقاق وورق لطاف يسمى بالفارسية «خلواه» يتخذ منه المجتلّون مكانس الجلّة (١) ، وعن الأعراب الأوائل : العلقاة. شجرة تكون فى الرمل خضراء ذات ورق ، قالوا : ولا خير فيها» انتهى.

والمكور : جمع مكر ـ بفتح الميم وسكون الكاف ـ قال الجوهرى والصاغانى : هو ضرب من الشجر ، وأورده سيبويه فى باب ما لحقته الألف فمنعته من الانصراف ، قال الأعلم : «الشاهد فيه ترك صرف علقى ؛ لأنها آخره ألف التأنيث ، ويجوز صرفه على أن تكون للإلحاق ، ويؤنث واحده بالهاء ، فيقال : علقاة ، وصف ثورا يرتعى فى ضروب الشجر ، ومعنى يستنّ يرتعى ، وسنّ الماشية : رعيها ، وأصله أن يقام عليها حتى تسمن وتملاسّ جلودها ؛ فتكون كأنها قد سنت وصقلت كما يسن الحديد» انتهى

وهذا خلاف ما فسره الجاربردى (٢) ، والعجاج وصف ثورا وحشيا شبه جمله به وقوله «حط فى علقى وفى مكور» ، أى : اعتمدهما فى رعيه ، قال شارح شواهد أبى على الفارسى : «وسمع علقى فى هذا البيت من رؤبة غير منون ، وكذا روى عن أبيه ؛ فدل على أن ألفه للتأنيث ، ولو كان للإلحاق لنون» انتهى.

وفى رواية الصحاح والعباب «فحطّ» والفاعل فى الروايتين ضمير الثور ،

__________________

(١) الجلة ـ بكسر الجيم ـ البعر ، والمجتلون : الذين يلقطونها

(٢) حيث فسر الاستنان بالقماص فقال : «واستن الفرس وغيره : أى قمص ، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجن برجليه».

٤١٨

وتوارى الشمس : غيبوبتها ، وذرورها : طلوعها وإشراقها ، يريد أنه يستن من طلوع الشمس إلى غروبها

وأول الأرجوزة :

*جارى لا تستنكرى عذيرى*

يريد يا جارية ، والعجاج تقدمت ترجمته فى الشاهد الأول.

* * *

وأنشد الشارح ـ وهو الشاهد الواحد بعد المائتين ـ : [من الرجز]

٢٠١ ـ تضحك منّى أن رأتنى أحترش

ولو حرشت لكشفت عن حرش

على أن الشين فى حرش شين الكشكشة ، وهى بدل من كاف المؤنث ، وأصله حرك ، وهى لغة بنى عمرو بن تميم ، وقوله «أن رأتنى الخ» بدل اشتمال من الياء «فى منّى» والاحتراش : صيد الضب خاصة ، والعرب تأكله ؛ يقال : حرش الضب يحرشه حرشا ، من باب ضرب ، وكذلك احترشه ، وهو أن يحرك الحارش يده على جحره فيظنّه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه ، وإنما ضحكت منه استخفافا به ؛ لأن الضب صيد العجزة والضعفاء ، وقوله «ولو حرشت» التفات من الغيبة إلى الخطاب ؛ يعنى لو كنت تصيدين الضب لأدخلته فى فرجك دون فمك إعجابا به وإعظاما للذته.

وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا فى الشاهد السادس والخمسين بعد التسعمائة من آخر شرح شواهد شرح الكافية.

* * *

وأنشد بعده ـ وهو الشاهد الثانى بعد المائتين ـ : [من الرجز]

٤١٩

٢٠٢ ـ ينفحن منه لهبا منفوحا

لمعا يرى لا ذاكيا مقدوحا

على أنه قد جاء فى الشعر شذوذا إبدال الخاء المعجمه حاء مهملة.

قال ابن جنى فى سر الصناعة : «الحاء حرف مهموس يكون أصلا لا غير ، ولا يكون بدلا ولا زائدا ، إلا فيما شد عنهم ، أنشد ابن الأعرابى :

*ينفحن منه لهبا منفوحا* الخ

قال : أراد منفوخا ، فأبدل المعجمة حاء ، قال : ومثله قول رؤبة : [من الرجز]

غمر الأجارىّ كريم السّنح

أبلج لم يولد بنجم الشّحّ

قال : يريد السّنخ ، وأما حثّث تحثيثا وحثحث حثحثة فأصلان ، قال أبو على : فأما الحاء فبعيدة من الثاء وبينهما تفاوت يمنع من قلب إحداهما إلى أختها. وإنما حثحثت أصل رباعى ، وحثّث أصل ثلاثى ، وليس واحد منهما من لفظ صاحبه ؛ إلا أن حثحث من مضاعف الأربعة ، وحثث من مضاعف الثلاثة ؛ فلما تضارعا بالتضعيف الذى فيهما اشتبه على بعض الناس أمرهما ، وهذا هو حقيقة مذهب البصريين. ألا ترى أن أبا العباس قال : ليس ثرّة عند النحويين من لفظ ثرثارة. وإن كانت من معناها ، هذا هو الصواب ، وهو قول كافة أصحابنا ، على أن أبا بكر محمد بن السّرىّ قد كان تابع الكوفيين ، وقال فى هذا بقولهم ، وإنما هذه أصول تقاربت ألفاظها فتوافقت معانيها ، وهى مع ذلك مضعفة ، ونظيرها من غير التضعيف قولهم : دمث ودمثر ، وسبط وسبطر ، ولؤلؤ ولئّال ، وحيّة وحواء ، ودلاص ودلامص ، وله نظائر كثيرة ، وإذا قامت الدلالة على أن أصل حثحث ليس من لفظ حثّث ، فالقول فى هذا وفى جميع ما جاء منه واحد ، نحو تململ وتملّل ورقرق ورقّق وصرصر وصرّ» انتهى كلام ابن جنى.

٤٢٠