شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

ما ضرّها أم ما عليها لو شفت

متيّما بنظرة وأسعفت (١)

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت

قطعتها إذا المها تجوّفت

مآزقا إلى ذراها أهدفت (٢)

انتهى ما أورده

وقوله «ما بال عينى» ما استفهامية مبتدأ ، وبال : خبره ، والبال : الشأن والحال ، وعن : متعلقة بجفت ، والكرى : النوم ، قال الخوارزمى : جفت أى انقطعت عن كراها ، انتهى. وهو بالجيم ، وهو من جفا الشىء عن كذا وتجافى عنه : أى نبا عنه وتباعد ، وجملة «قد جفت» حال من العين ، و «شفها» من شفّه الهم يشفه : أى هزله وأنحله ، و «كلفت» بالبناء للمفعول ، والعوار ـ بضم العين وتشديد الواو ، وهو ما يسقط فى العين فتدمع ، يقال : بعينه عوّار : أى قذى ، ومثله العائر ، «وطرفت» بالبناء للمفعول ، من طرفت عينه طرفا ـ من باب ضرب ـ إذا أصبتها بشىء ، فدمعت. فهى مطروفة ، ومسبلة : أى تصب دمعها ، من أسبلت الماء : أى صببته ، وتستنّ : تجرى بدمعها ، من سننت الماء ، إذا أرسلته إرسالا من غير تفريق ، وقوله «دارا لليلى» مفعول عرفت ، وعفت : ذهبت آثارها وانمحت معالمها ، وقوله «كأنها» أى كأن ليلى ،

__________________

(١) فى اللسان (ح ج ف) زيادة بيت بعد هذا البيت ، وهو

*قد تبلت فؤاده وشغفت*

(٢) فى اللسان (ح ج ف ـ أ ر ن) «مآرنا إلى ذراها ـ الخ» والمآرن :

جمع إران على غير لفظه كمحاسن ومشابه ، أو جمع مئران ، وهو كناس الوحش ؛ وأصله على هذا الوجه مآرين ، كما قال جرير :

قد بدّلت ساكن الآرام بعدهم

والباقر الخنس يبحثن المآرينا

فحذف الياء كما حذفت فى قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وكما قال الراجز وجمع عوارا :

*وكحّل العينين بالعواور*

٢٠١

والمهارق : جمع مهرق ، وهى الصحيفة البيضاء يكتب (١) فيها ، شبهها بالكاغد لصقالته وبياضه ونعومته ، وزخرفت : زينت بالذهب ، والزخرف : الدهب ، والحلي ـ بفتح فسكون ـ ما تتزين به المرأة كالخلخال والسّوار ، وانصرفت : ذهبت فمشت ، وزجل الريح : صوتها ، وهو بفتح الزاى والجيم ، وزفزفت ـ بزاءين معجمتين وفاءين ـ أى هبت بشدة ، وقوله «قطعتها» هو جواب ربّ المقدرة بعدبل ، والمها ـ بالفتح ـ : جمع مهاة ، وهى البقرة الوحشية ، والمآزق : جمع مأزق ، وهو المضيق ، وذراها ـ بفتح الذال ـ أى : ناحيتها ، وأهدفت : قربت ، قال شمر : الإهداف الدنو من الشىء والاستقبال له

* * *

وأنشد الجاربردى بعد هذا البيت ، وهو الشاهد الثانى بعد المائة [من الرجز]

١٠٢ ـ *بل مهمه قطعت بعد مهمه*

على أن ربّ بعد بل مقدرة ، والجربها

والمهمه : المفازة البعيدة الأطراف ، ومفعول «قطعت» محذوف ، وهو ضمير المهمه : أى قطعتها وتجاوزتها

وهذا البيت نسب إلى رؤبة ، ورجعت إلى ديوانه فلم أجده فيه ، ونسب إلى والده العجاج ، قال العينى : لم أجده فى ديوانه ، والله تعالى أعلم

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثالث بعد المائة [من الرجز] :

١٠٣ ـ وربّ ضيف طرق الحىّ سرى

صادف زادا وحديثا ما اشتهى

__________________

(١) هو فارسى معرب ، وزنته كزنة اسم المفعول من الرباعى ، قال حسان :

كم للمنازل من شهر وأحوال

لآل أسماء مثل المهرق البالى

٢٠٢

*إنّ الحديث جانب من القرى*

على أن السيرافى استدلّ على كون الألف لام الكلمة فى الأحوال أنها جاءت رويّا فى النصب ، فألف «سرى» لام الكلمة ، لا أنها بدل من نون التنوين للوقف ، إذ لا يجوز أن تكون رويا مع الألف الأصلية كألف «اشتهى» و «القرى»

وبما حقق الشارح المحقق من مذهب سيبويه يردّ على ابن هشام اللخمى فى شرح المقصورة الدريدية عند قوله [من الرجز]

فاستنزل الزّبّاء قسرا وهى من

عقاب لوح الجوّ أعلى منتمى (١)

قال فى شرحه : قوله «منتمى» قد غلط فيه ؛ لأن العرب لا تقف بالتنوين ، ومنتمى هنا منصوب على التمييز ، والوقف فيه عند سيبويه على الألف المبدلة من التنوين ، هذا كلامه.

وقال أبو حيان فى الارتشاف : «والمقصور المنون يوقف عليه بالألف ، وفيه مذاهب : أحدها أن الألف بدل من التنوين ، واستصحب حذف الألف المنقلبة. وصلا ووقفا ، وهو مذهب أبى الحسن والفراء والمازنى وأبى على فى التذكرة ، والثانى أنها الألف المنقلبة ، لما حذف التنوين عادت مطلقا ، وهو مروى عن أبى عمرو والكسائى والكوفيين وسيبويه والخليل فيما قال أبو جعفر الباذش ؛ والثالث اعتباره بالصحيح ، فالألف فى النصب بدل من التنوين ، وفى الرفع والجر هى بدل من لام الفعل ، وذهب إليه أبو على فى أحد قوليه ، ونسبه أكثر الناس إلى سيبويه ومعظم النحويين ، انتهى.

وهذا من رجز أورده أبو تمام فى باب الأضياف والمديح من الحماسة ، قال : وقال الشماخ فى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب أخى أسد الله على كرم الله وجههما.

__________________

(١) لوح الجو ـ بضم اللام ـ أعلاه

٢٠٣

إنّك يا ابن جعفر خير فتى

ونعم مأوى طارق إذا أتى

وربّ ضيف طرق الحى سرى

صادف زادا وحديثا ما اشتهى

إنّ الحديث طرف من القرى

ثمّ اللّحاف بعد ذاك فى الذّرى

انتهى.

وفى الأغانى أن الشماخ خرج يوما يريد المدينة ، فلقيه عرابة بن أوس ، وكان سيدا من سادات قومه ، وجوادا ، فسأله عما أقدمه المدينة ، فقال : أردت أن أمتار لأهلى ، وكان معه بعيران ، فأوقرهما له برا وتمرا ، وكساه وبرّه وأكرمه ، فخرج عن المدينة وامتدحه بقصيدته التى يقول فيها [من الوافر]

رأيت عرابة الأوسىّ يسمو

إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

ولما سمع ابن دأب كلام الشماخ فى عبد الله بن عبد جعفر بن أبى طالب *إنّك يا ابن جعفر نعم الفتى* إلى آخر الأبيات ؛ قال : العجب للشماخ ، يقول هذا فى عبد الله بن جعفر ، ويقول فى عرابة بن أوس :

إذا ما راية رفعت لمجد*

تلقاها عرابة باليمين

ابن جعفر كان أحق بهذا من عرابة ، انتهى.

قال عبد اللطيف البغدادى فى شرح نقد الشعر لقدامة قول الشماخ :

*رأيت عرابة الأوسىّ* البيت

ـ معناه علمته كذا وصح عندى ذلك منه ، ويجوز أن يكون هنا بمعنى أبصرته ، وهو الأمثل عندى ، ويكون «يسمو» حالا ، وذلك أن المشاهدة أدل شىء على صحة الأمر ، فلا دليل أقوى منها ، والخيرات هى : الأفعال المعتدلة المتوسطة بين طرفين هما شر ، فكأنه قال : شاهدت منه أفعال الخير والفضائل ، وقوله «إذا ما راية رفعت لمجد» هذا استعارة : أى إذا حدث أمر يقتضى فعل مكرمة ويفتقر فيه أن يضطلع به ربّ فضيلة وشرف تلقّاها

٢٠٤

عرابة باليمين : أى بقوة وبطش واجتهاد وانشراح صدر ، وفى قوله «تلقاها» ما يشعر بهذا المعنى أشدّ من قوله أخذها ، وهذا البيت دل به على الأخلاق العتيدة والفضائل النفسية ، وأما البيت الأول فدل به على الأفعال الحميدة والخيرات المشاهدة ، فصار البيت الأول توطئة للثانى ، وكالدال عليه والمثبت له ؛ فإن الأفعال المشاهدة سابقة فى الإحساس لما فى النفس ودالة عليه ؛ فتلمح ذلك واعجب لشرف طباع هؤلاء كيف تسمو بهم جودة القريحة وصحة الفكرة والروية إلى مثل هذا ، انتهى كلامه.

ومثله للمبرد فى الكامل قال : قوله «تلقاها عرابة باليمين» قال أصحاب المعانى معناه بالقوة ، وقالوا مثل ذلك فى قوله تعالى (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وقال معاوية لعرابة بن أوس الأنصارى : بم سدت قومك؟ قال : لست بسيدهم ، ولكنى رجل منهم ، فعزم عليه ، فقال : أعطيت فى نائبتهم ، وحملت عن سفيههم وشددت على يدى حليمهم ، فمن فعل منهم مثل فعلى فهو مثلى ، ومن قصّر عنه فأنا أفضل منه ، ومن تجاوزنى فهو أفضل منى ، وكان سبب ارتفاع عرابة أنه قدم من سفر فجمعه الطريق والشماخ بن الضرار المرّىّ فتحادثا ، فقال له عرابة : ما الذى أقدمك المدينة؟ قال : قدمت لأمتار منها ، فملأ له عرابة رواحله برا وتمرا وأتحفه بغير ذلك ، فقال الشماخ *رأيت عرابة الأوسى يسمو* إلى آخر الأبيات انتهى.

وأما عبد الله بن جعفر الطيار بن أبى طالب فقد قال ابن عبد ربه (١) فى العقد الفريد : أجواد أهل الاسلام أحد عشر رجلا فى عصر واحد لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم ؛ فأجواد أهل الحجاز ثلاثة فى عصر واحد : عبيد الله بن العباس ، وعبد الله بن جعفر ، وسعيد بن العاص ، إلى أن قال : ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن

__________________

(١) انظر العقد الفريد لابن عبد ربه (١ : ١١٢)

٢٠٥

عمار (١) دخل على نخّاس يعرض قيانا له ، فعلق واحدة منهن ، فشهر بذكرها حتى مشي إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه ، فكان جوابه [من البسيط]

يلومنى فيك أقوام أجالسهم

فما أبالى أطار اللّوم أم وقعا

فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر ، فلم يكن له همّ غيره ، فحج فبعث إلى مولى الجارية ، فاشتراها منه بأربعين ألف درهم ، وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت ، وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه ، فقال : مالى لا أرى ابن عمار (٢) زارنا؟ فأخبر الشيخ ، فأتاه مسلما ، فلما أراد أن ينهض استجلسه ، ثم قال : ما فعل حب فلانة؟ قال : فى اللحم والدم والمخ والعصب! قال : أتعرفها لو رأيتها؟ قال (٣) نعم ، فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه ، وقال له : إنما اشتريتها لك ، وو الله ما دنوت منها ، فشأنك بها مباركا لك فيها ، فلما ولى قال : يا غلام ، احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها ، فبكى عبد الرحمن وقال : يا أهل البيت ، لقد خصكم الله بشرف ما خص به أحدا قبلكم من صلب آدم ، فهنيئا لكم هذه النعمة وبورك لكم فيها ؛ ومن جوده أيضا أنه أعطى امرأة سألته ما لا عظيما ، فقيل له : إنها لا تعرفك ، وكان يرضيها اليسير ، قال : إن كان يرضيها اليسير فإنى لا أرضى إلا بالكثير ، وإن كاتت لا تعرفنى فأنا أعرف نفسى ، هذا ما أورده ابن عبد ربه.

وزعم الخطيب التبريزى فى شرح الحماسة ، وتبعه العينى ، أن المخاطب بقوله *إنك يا ابن جعفر* إلى آخر الشعر ، هو عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه ، وهذا لا يصح ؛ فإن الشماخ صحابى وجعفر كان فى زمن هارون الرشيد ، والصواب أيضا أن يقول : جعفر الصادق بن محمد الباقر.

وقوله «خير فتى» أى الجامع لخصال المروءة ، وقوله «ونعم مأوى طارق»

__________________

(١) فى العقد «بن أبى عمار»

(٢) فى العقد «لو أدخلت الجنة لم أنكرها»

٢٠٦

الطارق : الذى يأتى ليلا ، والمأوى : اسم مكان من أوى إلى منزله يأوى ، من باب ضرب ، أويّا : أى أقام ، وهو فاعل «نعم» ؛ وجاء الفاعل هنا منكرا على قلة ، والكثير الغالب تعريفه باللام ، حكى الأخفش أن ناسا من العرب يرفعون بنعم النكرة مفردة ومضافة ، نحو نعم امرؤ زيد ، ونعم صاحب قوم عمرو ، وقد روى أيضا :

إنّك يا ابن جعفر نعم الفتى

وخيرهم لطارق إذا أتى

وقوله «طرق الحى سرى» الطروق : الإتيان ليلا ، والحى : القبيلة ، والسّرى : جمع سرية (١) بضم السين وفتحها ، يقال : سرينا سرية من الليل بالضم والفتح ، قال أبو زيد : ويكون السّرى أول الليل وأوسطه وآخره ، وهو فى البيت على حذف : أى طروق سرى ، وقال الخطيب التبريزى ، وتبعه العينى : سرى أى ليلا ، لأن السرى لا يكون إلا ليلا ، وقوله «صادف» جواب رب ، وما : مصدرية ظرفية ، والقرى : الضيافة ، والذرى ـ بالفتح :

الكنف والناحية.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الرابع بعد المائة ، وهو من شواهد سيبويه [من الرمل] :

١٠٤ ـ وقبيل من لكيز شاهد

رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ

على أنه قد يحذف الألف المقصورة فى ضرورة الشعر ، كما حذف الألف هنا من «المعلّ»

__________________

(١) الذى فى اللسان والقاموس أن السرى بمعنى السرية ـ بضم السين أو فتحها ـ والذى نراه أن سرى فى هذا البيت منصوب على أنه مفعول مطلق أو على أنه ظرف مثل قولك : أزورك قدوم الحواج

٢٠٧

قال سيبويه لا يقولون فى جمل جمل ، أى بسكون الميم ؛ لأن الفتحة أخف عليهم والألف ، فمن ثمة لم تحذف الألف ، إن لم يضطر شاعر فيشبهها بالياء ، لأنها أختها ، وهى قد تذهب مع التنوين ، قال لبيد رضى الله عنه حيث اضطر :

وقبيل من لكيز شاهد

رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ

قال الأعلم : الشاهد فيه حذف ألف المعلّى فى الوقف ضرورة ، تشبيها بما يحذف من الياءات فى الأسماء المنقوصة ، نحو قاض وغاز ، وهذا من أقبح الضرورة ، لأن الألف لا تستثقل كما تستثقل الياء والواو ، وكذلك الفتحة ، لأنها من الألف ، انتهى.

وقال أبو على فى المسائل العسكرية : ومما حذف فى الضرورة مما لا يستحسن حذفه فى حال السعة الألف (١) من «المعلّ» فى القافية تشبيها بالياء فى قوله :

*وبعض القوم يخلق ثمّ لا يفر*

فكما حذفت الياء فى القوافى والفواصل كذلك حذف منه الألف ولم يكن [ليحذف (٢)] لأن من يقول : (ما كنا نبغ) يقول : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) فلا يحذف ، كما أن الذين يقولون : «هذا عمرو» يقولون : رأيت عمرا ، إلا أن «المعلّى» فى الضرورة لا يمتنع ؛ للتشبيه ، ويؤكد ذلك أن أبا الحسن قد أنشد [من الوافر] :

فلست بمدرك ما فات منّى

بلهف ولا بليت ولا لوانّى

فقال «ليت» وهو يريد ليتنى ، فحذف النون مع الضمير للضرورة ، ثم

__________________

(١) فى الأصول «حذف الألف» وله وجه بعيد

(٢) زيادة لا بد منها

٢٠٨

أبدل من الياء الألف ، ثم حذف ؛ وقد يمكن أن يكون «يا ابن أم» على هذا كأنه محذوف منه مثل قول من قال [من الرجز] :

*يا ابنة عمّا لا تلومى واهجعى*

فأبدل ثم حذف ، وعلى هذا تأول أبو عثمان قول من قرأ : «يا أبت لم تعبد» انتهى

أقول : ألف «يا ابن أم» وألف «يا أبت» كلمة ؛ لأنها ضمير المتكلم فهى مستقلة ، وليست كألف المعلى ؛ فإنها جزء كلمة ؛ فليست مثلها ، واعتبر ابن عصفور فى كتاب الضرائر حذف اللام الثانية مع الألف ، قال : وقد يحذف المشدد ويحذف حرف بعده ، ومن ذلك قول لبيد : *ورهط ابن المعل* يريد المعلى ، وقول النابغة : [من الوافر]

إذا حاولت فى أسد فجورا

فإنّى لست منك ولست من

يريد منى ، انتهى

وعدّ بيت النابغة من الضرورة غير جيد ؛ قال سيبويه فى «باب ما يحذف من الأسماء من الياءات فى الوقف التى لا تذهب فى الوصل [ولا يلحقها تنوين](١) : وتركها فى الوقف أقيس وأكثر ؛ لأنها فى هذه الحال ، ولأنها ياء لا يلحقها التنوين على كل حال ؛ فشبهوها بياء «قاضى» لأنها ياء بعد كسرة ساكنة فى اسم وذلك قولك : هذا غلام ، وأنت تريد هذا غلامى ، [وقد أسقان وأسقن ، وأنت تريد أسقانى وأسقنى ؛ لأن نى اسم](٢) و [قد](٣) قرأ أبو عمرو (فيقول ربّى أكرمن) و (ربّى أهانن) على الوقف ، وقال النابغة : [من الوافر]

__________________

(١) ما بين القوسين ثابت فى كلام سيبويه ، ولكنه غير موجود فى الأصول التى بأيدينا. أنظر كتاب سيبويه (ح ٢ ص ٢٨٩)

(ق ٢ ـ ١٤)

٢٠٩

*فإنّى لست منك ولست من*

انتهى.

وقال الأعلم : الشاهد فيه حذف الضمير من قوله : «منّى» وهو جائز فى الكلام ، كما قرىء فى الوقف (أكرمن) و (أهانن) يقول : هذا لعيينة بن حصن الفزارى ، وكان قد دعاه وقومه لمقاطعة بنى أسد ونقض حلفهم ؛ فأبى عليه وتوعده ، وأراد بالفجور : نقض الحلف ، انتهى

وقال «وقبيل من لكيز إلخ» قبيل : مبتدأ ، و «من لكيز» فى موضع الصفة له ، وشاهد : خبره ، والقبيل : العريف والكفيل ، وهذا هو المناسب هنا ؛ لأنه كما قال الأعلم : «وصف لبيد رضى الله عنه مقاما فاخر فيه قبائل ربيعة بقبيلته من مضر» انتهى

ولا يناسبه أن يكون القبيل بمعنى الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى من الزنج والروم والعرب ، وقال العينى : القبيل هنا بمعنى القبيلة ، ولم أره كذا فى كتب اللغة ، ولكيز ـ بضم اللام وفتح الكاف وآخره زاى معجمة ـ : أبو قبيلة ، وهو لكيز بن أفصى ـ بالفاء والصاد المهملة والألف ـ ابن عبد القيس بن أفصى بن دعمىّ ـ بضم الدال وسكون المهملة وكسر الميم وتشديد الياء ـ ابن جديلة ـ بالجيم ـ ابن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، وكان لكيز عاقا لأمه ليلى ، وكانت تحبه ، وكان شقيقه شنّ بارا بها ، فحملها شنّ ذات يوم فجعلت تقول : فديت لكيزا ؛ فرمى بها شن من بعيرها ، وكانت عجوزا كبيرة ، فماتت ، فقال شنّ : دونك لكيز جعرات (١) أمّك : وقال : «يحمل شنّ ويفدّى لكيز» فذهبت مثلا ، فولد لكيز وديعة وصباحا ـ بضم الصاد ـ ونكرة ـ بضم النون ـ وكل منهم بطن ، ثم

__________________

(١) الجعرات : جمع جعرة ، وهو ما يبس من العذرة فى الدبر

٢١٠

صار فى أولاد كل منهم بطون ، كذا فى جمهرة الأنساب ، وشاهد : بمعنى حاضر ، وبه روى أيضا ، والرهط : قوم الرجل وقبيلته ، والرهط أيضا : ما دون العشرة من الرجال لا تكون فيهم امرأة ، ومرجوم : بالجيم ، قال ابن دريد فى الجمهرة : هو لقب رجل من العرب ، كان سيدا ففاخر رجلا من قومه إلى بعض ملوك الحيرة ؛ فقال له : «قد رجمتك بالشرف» ؛ فسمى مرجوما ، وأنشد هذا البيت ، وكذا فى التصحيف للعسكرى ، قال : «وفى فرسان عبد القيس مرجوم بن عبد القيس بعد الراء جيم ، قال الشاعر :

*رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ*

وإنما سمى مرجوما لأنه نافر رجلا إلى النعمان فقال له النعمان : «قد رجمك بالشرف» فسمى مرجوما ، وإنما ذكرته لأن من لا يعرفه يصحفه بمرحوم ـ بحاء غير معجمة ، وأما مرحوم بن عبد العزيز ـ بالحاء غير المعجمة ـ فرجل من محدثى البصرة» انتهى

ورهط مرجوم : بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هو رهط مرجوم ، ويجوز نصبه بتقدير أعنى ، وقال العينى : «رهط مرجوم بالرفع بدل من قبيل أو عطف بيان» هذا كلامه فتأمله (١).

وقال الأعلم : «مرجوم وابن المعل سيدان من لكيز» ، وهذه نسبة مرجوم من الجمهرة ، قال : «مرجوم هو ابن عبد عمرو بن قيس بن شهاب بن زياد بن عبد الله بن زياد بن عصر ـ بتحريك المهملات ـ بن عمرو بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز» ، وأما المعلى فقد قال ابن دريد فى الجمهرة : «هو جد الجارود بشر بن عمرو بن المعلى» انتهى

والجارود : اسمه بشر ، وسمى الجارود لبيت قاله بعض الشعراء [من الطويل] :

__________________

(١) الخطأ فى تجويزه عطف البيان ؛ لكون الثانى معرفة والأول نكرة ، وشرطه التوافق

٢١١

*كما جرد الجارود بكر بن وائل* (١)

وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابنه المنذر بن الجارود استعمله على بن أبى طالب رضى الله عنه على فارس ، وعبد الله بن الجارود كان رأس عبد القيس ، واجتمعت إليه القبائل من أهل البصرة وأهل الكوفة فقاتلوا الحجاج فظفر بهم ؛ فأخذه الحجاج فصلبه ، والحكم بن المنذر بن الجارود سيد عبد القيس (٢) مات فى حبس الحجاج الذى يعرف بالدّيماس ، وهذه نسبته من الجمهرة : الجارود : هو بشر بن حنش بن المعلى ، وهو الحارث بن يزيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز المذكور ، ولم أقف على ما قبل البيت وما بعده حتى أورده.

ولبيد رضى الله عنه صحابى تقدمت ترجمته فى الشاهد الثانى والعشرين بعد المائة من شرح شواهد شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس بعد المائة وهو من شواهد سيبويه [من الرجز]

١٠٥ ـ خالى عويف وأبو علجّ

المطعمان اللّحم بالعشجّ

__________________

(١) فى اللسان (ج ر د) والجارود العبدى : رجل من الصحابة ، واسمه بشر ابن عمرو ، وسمى الجارود لأنه فر بأبله إلى أخواله من بنى شيبان وبابله داء ففشى ذلك الداء فى إبل أخواله فأهلكها ، وفيه يقول الشاعر :

*لقد جرد الجارود بكر بن وائل*

ومعناه شئم عليهم ، وقيل : استأصل ما عندهم ، وللجارود حديث ، وقد صحب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل بفارس فى عقبة الطين

(٢) وهو الذى عناه الشاعر بقوله :

يا حكم بن المنذر بن الجارود

سرادق المجد عليك ممدود

وهو من شواهد سيبويه

٢١٢

وبالغداة فلق البرنجّ

يقلع بالودّ وبالصّيصجّ

على أن بعض بنى سعد يبدلون الياء ، شديدة كانت أو خفيفة ، جيما فى الوقف ، كما فى قوافى هذه الأبيات ؛ فإن الجيم فى أواخر ما عدا الأخير بدل من ياء مشددة ، وأما الأخير فالجيم فيه بدل من ياء خفيفة ، كما يأتى بيانه

وإنما حركها الشاعر هنا لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، قال سيبويه : «وأما ناس من بنى سعد فإنهم يبدلون الجيم مكان الياء فى الوقف ؛ لأنها خفية ، فأبدلوا من موضعها أبين الحروف ، وذلك قولهم : هذا تميمجّ ، يريدون تميمىّ ، وهذا علج ، يريدون علىّ ، وسمعت بعضهم يقول : عربانجّ يريدون عربانىّ ، وحدثنى من سمعهم يقولون :

خالى عويف وأبو علجّ

المطعمان اللّحم بالعشجّ

*وبالغداة فلق البرنجّ*

يريدون بالعشى والبرنى ، فزعم أنهم أنشدوه هكذا» انتهى كلامه

ولم يذكر إجراء الوصل مجرى الوقف ، وذكره الزمخشرى فى المفصل ، وكلام ابن جنى فى سر الصناعة وغيره ككلام سيبويه ، قال ابن المستوفى فى شرح أبيات المفصل : «ومتى خرج هذا الإبدال عن هذين الشرطين ، وهما الياء المشددة والوقف ، عدوه شاذا ، ولذلك قال الزمخشرى : وقد أجرى الوصل مجرى الوقف» انتهى.

وهذه الأبيات لبدوى ، قال ابن جنى فى سر الصناعة : «قرأت على أبى بكر ، عن بعض أصحاب يعقوب بن السكيت ، عن يعقوب ، قال : قال الأصمعى : حدثنى خلف ، قال : أنشدنى رجل من أهل البادية :

*عمّى عويف وأبو علجّ*

٢١٣

إلى آخر الأبيات الأربعة

يريد أبو على وبالعشى والصيصية ، وهى قرن البقرة» انتهى.

وقال شارح شواهد أبى على الفارسى : «جاء به أبو على شاهدا على أن ناسا من العرب يبدلون من الياء جيما ، لما كان الوقف على الحرف يخفيه والإدغام فيه يقتضى الإظهار ويستدعيه أبدلوا من الياء المشددة فى الوقف الجيم ؛ لأنها أبين ، وهى قريبة من مخرجها ، وزعم أبو الفتح أنه احتاج إلى جيم مشددة للقافية ، فحذف الياء ثم ألحق ياء النسب كما ألحقوها فى الصفات مبالغة ، وإن لم يكن منسوبا فى المعنى نحو أحمرىّ فى أحمر ، ثم أبدل من الياء المشددة جيما ، ثم قال : وما علمت أحدا تعرض لتفسيره قبلى ، سوى أبى على فيما أظن ، قال الشيخ : أقرب من هذا وأشبه بالمعنى أن يكون أراد الصيصاء ، وهو ردى التمر الذى لا يعقد نوى ، ألحقه بقنديل فقال : صيصىء ، ثم أبدل من الياء جيما فى الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فى هذا» انتهى كلامه

افتخر بخاليه أو بعميه ، والمطعمان : صفة لهما ، واللحم والشحم : مفعوله ، والعشى : قيل : ما بين الزوال إلى الغروب ، وقيل : هو آخر النهار ، وقيل : من الزوال إلى الصباح ، وقيل : من صلاة المغرب إلى العتمة ، كذا فى المصباح ، والغداة : الضحوة ، والفلق ـ بكسر الفاء وفتح اللام ـ جمع فلقة ، وهى القطعة وروى «قطع» بدله ، وروى أيضا «كتل البرنج» وهو جمع كتلة ـ بضم الكاف ـ قال الجوهرى : الكتلة : القطعة المجتمعة من الصمغ وغيره ، والبرنىّ ـ بفتح الموحدة ـ : نوع من أجود التمر ، ونقل السهيلى أنه عجمى ، ومعناه حمل مبارك ، قال : «بر» حمل و «نىّ» جيد ، وأدخلته العرب فى كلامها وتكلمت به ، كذا فى المصباح ، وأقول : «بر» فى لغة الفرس ثمرة الشجرة أىّ شجرة كانت ، وأما حملها فهو عندهم «بار» بزيادة ألف ، والفرق أن «بر» الثمر الذى يؤكل ، وأما «بار» فعام سواء كان مما يؤكل أم لا ، فصوابه أن يقول : «بر» ثمر الشجر لا حملها ، وأما «نىّ»

٢١٤

فأصله نيك ـ بكسر النون ؛ فعند التعريب حذفت الكاف وشددت الياء ، و «نيك» فى لغة الفرس الجيد ؛ ويقلع ، بالبناء للمفعول ، ونائب الفاعل ضمير البرنج ، والجملة حال منه ، وقال العينى : صفة له ، والود ، بفتح الواو ، لغة فى وتد ، والصيصية بكسر الصادين وتخفيف الياء : القرن ، واحد الصّيصى ، والجمع الصياصى ، وصياصى البقر : قرونها ، وكان يقلع التمر المرصوص بالوتد وبالقرن ، قال ابن المستوفى : الصيصى : جمع صيصية ، وهى القرن ، كأنه شدد فى الوقف على لغة من يشدد ثم أبدل ، وزادها أن أجرى الوقف مجرى الوصل ، كما قال [من الرجز] :

*مثل الحريق وافق القصبّا*

وقال الزمخشرى فى الحواشى : «شدد ياء الصيصى فى الوقف كما لو وقف على القاضى» انتهى

وقال ابن جنى فى شرح تصريف المازنى : «الذى عندى فيه أنه لما اضطر إلى جيم مشددة عدل فيه إلى لفظ النسب ، وإن لم يكن منسوبا فى المعنى ، كما تقول : أحمر وأحمرىّ ، وهو كثير فى كلامهم ، فإذا كان الأمر كذلك جاز أن يراد بالصيصج لفظ النسب ، فلما اعتزمت على ذلك حذفت تاء التأنيث ؛ لأنها لا تجتمع مع ياء النسبة ، فلما حذفت الهاء بقيت الكلمة فى التقدير صيص بمنزلة قاض ، فلما ألحقها ياء النسبة حذفت الياء لياء النسبة ، كما تقول فى النسبة إلى قاض : قاضىّ ، فصارت فى التقدير صيصىّ ، ثم إنها أبدلت من الياء المشددة الجيم ، كما فعلت فى القوافى التى قبلها ، فصارت صيصجّ ، كما ترى ، فهذا الذى عندى فى هذا ، وما رأيت أحدا عرض لتفسيره ؛ إلا أن يكون أبا على فيما أظنه» انتهى

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد السادس بعد المائة [من الرجز] :

١٠٦ ـ يا ربّ إن كنت قبلت حجّتج

فلا يزال شاحج يأتيك بج

٢١٥

أقمر نهّات ينزّى وفرتج

على أنه أبدل الجيم من الياء الخفيفة ، وأصله حجّتى وبى ووفرتى ، بياء المتكلم فى الثلاثة

وأنشد أبو زيد هذه الأبيات الثلاثة فى أوائل الجزء الثالث من نوادره ، قال : «قال المفضل : أنشدنى أبو الغول هذه لبعض أهل اليمن»

ولم يخطر ببال أبى على ولا على بال ابن جنى رواية هذه الأبيات عن أبى زيد فى نوادره ، ولهذا نسباها إلى الفراء ، وقالا : أنشدها الفراء ، ولو خطرت ببالهما لم يعدلا عنه إلى الفراء البتة ؛ لأن لهما غراما بالنقل عن نوادره ، ولو أمكنهما أن لا ينقلا شيئا إلا منها فعلا ، قال ابن جنى فى سر الصناعة : «وكان شيخنا أبو على يكاد يصلى بنوادر أبى زيد إعظاما لها ، وقال لى وقت قراءتى إياها عليه : ليس فيها حرف إلا لأبى زيد تحته غرض ما ، وهو كذلك ؛ لأنها محشوة بالنكت والأسرار» انتهى كلامه رحمه‌الله

ولله در الشارح المحقق فى سعة اطلاعه ؛ فإنه لم يشاركه أحد فى نقل هذه الأبيات عن أبى زيد إلا ابن المستوفى

وقد ذهب ابن عصفور فى كتاب الضرائر إلى أن إبدال الياء الخفيفة جيما خاص بالشعر ، ولم أره لغيره ، قال : «ومنها إبدالهم الجيم من الياء الخفيفة ، نحو قول هميان بن قحافة [من الرجز](١)

*يطير عنها الوبر الصّهابجا*

يريد الصّهابىّ ، فحذف إحدى الياءين تخفيفا ، وأبدل من الأخرى جيما ؛ لتتفق القوافى ، وسهل ذلك كون الجيم والياء متقاربين فى المخرج ، ومثل ذلك قول الآخر ، أنشده الفراء :

__________________

(١) انظر سمط اللآلى فى شرح أمالى أبى على القالى (ص ٥٧٢)

٢١٦

*يا ربّ إن كنت قبلت حجّتج* إلى آخر الأبيات

يريد حجتى ، ويأتيك بى ، وينزّى وفرتى ، فأبدل من الياء جيما ؛ وقول الآخر [من الرجز] :

*حتّى إذا ما أمسجت وأمسجا*

يريد أمست وأمسى ؛ لأنه ردّهما إلى أصلهما وهو أمسيت وأمسيا ، ثم أبدل الياء جيما لتقاربهما لما اضطر إلى ذلك» انتهى

وجعله ابن المستوفى من الشاذ ، قال : «ومن الإبدال الشاذ قوله ، وهو مما أنشده أبو زيد :

*يا ربّ إن كنت قبلت حجّتج*

وهذا أسهل من الأول ؛ لأنه أورده الشاعر فى الوقف ، إلا أن الياء غير مشددة» انتهى

وقوله «يا رب إن كنت» أنشده الزمخشرى فى المفصل «لا همّ إن كنت» وكذا أنشده ابن مالك فى شرح الشافية ؛ والحجة ـ بالكسر ـ : المرة من الحج ، قال الفيومى فى المصباح : «حج حجا من باب قتل : قصد ، فهو حاج ، هذا أصله ، ثم قصر استعماله فى الشرع على قصد الكعبة للحج أو العمرة ، يقال : ما حج ولكن دجّ ، فالحج : القصد للنسك ، والدجّ : القصد للتجارة ، والاسم الحج بالكسر ، والحجة المرة بالكسر ، على غير قياس ، والجمع حجج ، مثل سدرة وسدر ، قال ثعلب : قياسه الفتح ، ولم يسمع من العرب ، وبها سمى الشهر ذو الحجة بالكسر ، وبعضهم يفتح فى الشهر ، وجمعه ذوات الحجة» انتهى

والشاحج ـ بالشين المعجمة والحاء المهملة قبل الجيم ـ : البغل والحمار ، من شحج البغل والحمار والغراب ـ بالفتح ـ يشحج ـ بالفتح والكسر ـ شحيجا وشحاجا ، إذا صوت ، وقال بعض أفاضل العجم فى شرح أبيات المفصل : «قال

٢١٧

صدر الأفاضل : أراد بشاحج حمارا : أى عيرا ، قيل فى نسخة الطباخى بخطه : شبه ناقته أو جمله ، بالعير» انتهى

وروى ابن جنى عن أبى على فى سر الصناعة «شامخ» أيضا بالخاء المعجمة بعد الميم ، وقال : يعنى بعيرا مستكبرا ، انتهى. وهذا لا يناسبه «أقمر نهّات» وقوله «يأتيك» يأتى بيتك بى ، والأقمر : الأبيض ، والنّهّات : النّهّاق ، يقال : نهت الحمار ينهت ـ بالكسر ـ أى نهق ، ونهت الأسد أيضا : أى زأر ، والنهيت : دون الزئير ، وينزّى ـ بالنون والزاى المعجمة ـ : أى يحرك ، والتنزيه : التحريك ، والوفرة بالفاء : الشعر إلى شحمة الأذن ، قال ابن المستوفى : أى يحرك لسرعة مشيه ، وقال بعض أفاضل العجم فى شرح أبيات المفصل قيل : عبر بالوفرة عن نفسه كما يعبر بالناصية ، تسمية للمحل باسم الخال ، يقول : اللهم إن قبلت حجتى هذه فلا تزال دابتى تأتى بيتك وأنا عليها محرك وفرتى أو جسدى فى سيرها إلى بيتك : أى إن علمت أن حجتى هذه مقبولة فأنا أبدا أزور بيتك

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد السابع بعد المائة [من الرجز] :

١٠٧ ـ الله نجّاك بكفّى مسلمت

من بعد ما وبعد ما وبعد مت

صارت نفوس القوم عند الغلصمت

وكادت الحرّة أن تدعى أمت

على أن هاء التأنيت فى نحو مسلمت والغلصمت وأمت بعض العرب يقف عليها بالتاء كما هنا ، وأبو الخطاب من مشايخ سيبويه ، وهذا الكلام نقله عنه سيبويه فى كتابه بدون هذا الشعر ، وهذا نصه (١) : «أما كل اسم منوّن فإنه

__________________

(١) انظر كتاب سيبويه (٢ : ٢٨١) تعلم أنه لم ينقل العبارة بحروفها ، ولكنه تصرف فيها

٢١٨

يلحقه فى حال النصب فى الوقف الألف ؛ كراهية أن يكون التنوين بمنزلة النون اللازمة للحرف ، ومثل هذا فى الاختلاف الحرف الذى فيه تاء التأنيث ؛ فعلامة التأنيث ـ إذا وصلته ـ التاء ، وإذا وقفت ألحقت الهاء ، أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التى هى من نفس الحرف نحو تاء القتّ (١) وما هو بمنزلة ما هو من نفس الحرف نحو تاء سنبتة (٢) وتاء عفريت ؛ لأنهم أرادوا أن يلحقوها ببناء قحطبة وقنديل ، وكذلك التاء فى بنت وأخت ؛ لأن الاسمين ألحقا بالتاء ببناء عمر وعدل ، وفرقوا بينها وبين منطلقات لأنها كأنها منفصلة من الأول ، وتاء الجميع أقرب إلى التاء التى بمنزلة ما هو من نفس الحرف من تاء طلحة ؛ لأن تاء طلحة كأنها منفصلة ، وزعم أبو الخطاب أن ناسا من العرب يقولون فى الوقف : طلحت ، كما قالوا فى تاء الجميع قولا واحدا فى الوقف والوصل» انتهى كلام سيبويه

وقال ابن جنى فى سر الصناعة : «فأما قولهم قائمة وقاعدة فإنما الهاء فى الوقف بدل من التاء فى الوصل ، والتاء هى الأصل ؛ فإن قيل : وما الدليل على أن التاء هى الأصل وأن الهاء بدل منها؟ فالجواب أن الوصل ما يجرى فيه الأشياء على أصولها ، والوقف من مواضع التغيير ، ألا ترى أن من قال فى الوقف : هذا بكر ، ومررت ببكر ، فنقل الضمة والكسرة إلى الكاف فى الوقف ، فإنه إذا وصل أجرى الأمر على حقيقته ، وكذلك من قال فى الوقف هذا خالدّ ، وهو يجعلّ ، فإنه إذا وصل خفف الدال واللام ، على أن من العرب من

__________________

(١) القت : اسم للكذب ، ومنه الحديث «لا يدخل الجنة قتات» هو النمام أو المتسمع أحاديث الناس

(٢) هذا التمثيل فى نص كلام سيبويه ، وقد اعترضه أبو سعيد السيرافى بأن هذا المثال مما يوقف عليه بالهاء لا التاء فكان ينبغى أن يمثل بسنبت ونحوه مما يوقف عليه بالتاء

٢١٩

يجرى الوقف مجرى الوصل ، فيقول فى الوقف : هذا طلحت ، وعليه‌السلام والرحمت ، وأنشدنا أبو على [من الرجز] :

*بل جوز تيهاء كظهر الحجفت*

وأخبرنا بعض أصحابنا يرفعه بإسناده إلى قطرب أنه أنشد [من الرجز] :

الله نجّاك بكفّى مسلمت

من بعدما وبعدما وبعدمت

صارت نفوس القوم عند الغلصمت

وكادت الحرّة أن تدعى أمت

فلما كان الوصل مما يجرى فيه الأشياء على أصولها فى غالب الأمر ، وكان الوقف مما يغير فيه الأشياء عن أصولها ، ورأينا علم التأنيث فى الوصل تاء نحو قائمتان وقائمتكم ، وفى الوقف هاء نحو ضاربه ؛ علمنا أن الهاء فى الوقف بدل من التاء فى الوصل ، وأما قوله «وبعد مت» فأصله «وبعدما» فأبدل من الألف فى التغيير هاء ، فصارت «وبعدمه» كما أبدلها الآخر من الألف فقال فيما أخبرنا به بعض أصحابنا يرفعه بإسناده إلى قطرب [من الرجز المجزوء] :

قد وردت من أمكنه

من هاهنا ومن هنه

يريد «ومن هنا» فأبدل من الألف فى الوقف هاء ، فصار التقدير على هذا «من بعد ما وبعد ما وبعدمه» ثم أبدل الهاء تاء ليوافق بقية القوافى التى تليها ، ولا تختلف ، وشجعه على ذلك شبه الهاء المقدرة بهاء التأنيث فى طلحة وحمزة ، ولما كان يراهم يقولون فى بعض المواضع فى الوقف : هذا طلحت ، قال هو أيضا : «وبعد مت» فأبدل الهاء المبدلة من الألف تاء تشبيها لفظيّا ، وأما ما قرأته على محمد بن الحسن من قول الآخر [من المتقارب] :

إذا اعتزلت من مقام القرين

فياحسن شملتها شملتا

فقال فيه : إنه شبه هاء التأنيث فى «شملة» بالتاء الأصلية فى نحو بيت وصوت ؛ فألحقها فى الوقف عليها ألفا ، كما تقول : رأيت بيتا ؛ فشملتا على هذا

٢٢٠