شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي

شرح شافية ابن الحاجب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاستراباذي النحوي


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٢

كوماء ، وهى الناقة السمينة ، والمقاحيد : جمع مقحاد ، وهى الناقة العظيمة السنام ، والمعكاء ـ بكسر الميم والمد ـ الإبل الغلاظ الشداد ، والنّضال : المحاربة بالسهام. قال ابن حبيب : العرب تقول : فلان خليفة فلان ، إذا قام مقامه وفعل فعله ، وإن لم يستخلفه ، وأنشد هذه الأبيات ، وأبو وهب : كنية عمرو بن مسعود ، يقول الشاعر : إذا مات أحد خلفه من يقوم مقامه ويفعل مثل فعله ، إلا أبا وهب ؛ فإنه لم يخلفه أحد فى جوده وشجاعته.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثانى والسبعون [من الرجز] :

٧٢ ـ *أخذت خاتامى بغير حقّ*

على أن خاتاما لغة فى خاتم ، وعليه جاء فى الجمع خواتيم.

وقال المبرد فى الكامل : فاعال نظيره من الكلام ساباط وخاتام ، قال الراجز [من الرجز] :

يا مىّ ذات الجورب المنشقّ

أخذت خاتامى بغير حقّ

انتهى

وقال أبو الحسن الأخفش فيما كتبه عليه : «يقال خاتم بفتح التاء وكسرها ، وخيتام على وزن ديّار ، وخاتام على وزن ساباط» انتهى.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثالث والسبعون [من الوافر] :

٧٣ ـ *ومثلى فى غوائبكم قليل*

على أنه جمع غائب ، وهو جمع شاذ.

قال الشاطبي فى شرح الألفية : ذكر السيرافى أنه وجد غير ذلك ، قال عتيبة بن الحارث لجزء بن سعد [من الوافر] :

أحامى عن ذمار بنى أبيكم

ومثلى فى غوائبكم قليل

١٤١

فقال جزء : نعم ، وفى شواهدنا ، قال : وهذا جمع غائب وشاهد من الناس ، انتهى.

وأحامى : من الحماية ، وهى الحفظ ، والذمار : بكسر الذال المعجمة ، قال صاحب الصحاح : وقولهم «فلان حامى الذمار» أى إذا ذمّر (١) وغضب حمى ، و «فلان أمنع ذمارا من فلان» ويقال : الذّمار : ما وراء الرجل مما يحقّ عليه أن يحميه ؛ لأنهم قالوا : حامى الذمار ، كما قالوا : حامى الحقيقة ، وسمى ذمارا لأنه يجب على أهله التذمر له ، وسميت حقيقة لأنه يحق على أهلها الدفع عنها ، و «ظل يتذمر على فلان» إذا تنكر له وأوعده.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الرابع والسبعون [من الكامل] :

٧٤ ـ وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم

خضع الرّقاب نواكس الأبصار

على أن جمع ناكس على نواكس مما هو وصف غالب أصل ، وأنه فى الشعر شائع حسن ، قاله المبرد.

أقول : الذى قاله المبرد فى الكامل بعد إنشاد هذا البيت إنما هو «وفى هذا البيت شىء يستطرفه النحويون ، وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتا على فواعل ؛ لئلا يلتبس بالمؤنث ، لا يقولون : ضارب وضوارب ؛ لأنهم قالوا : ضاربة وضوارب ، ولم يأت هذا إلا فى حرفين : أحدهما فوارس ؛ لأن هذا مما لا يستعمل فى النساء ، فأمنوا الالتباس ، ويقولون فى المثل «هو هالك فى الهوالك» فأجروه على أصله لكثرة الاستعمال ؛ لأنه مثل ، فلما احتاج الفرزدق لضرورة الشعر أجراه على أصله ، فقال «نواكس الأبصار» ولا يكون

__________________

(١) أى : استثير

١٤٢

مثل هذا أبدا إلا ضرورة ، انتهى كلامه ، فتأمله مع ما نقلوه عنه ، وقد ذكرنا فى الشاهد الثلاثين من شواهد شرح الكافية أن ما جمع من هذا النمط إحدى عشرة كلمة (١) ، وقد ذكرنا هناك ـ مما يتعلق بشرح البيت مستوفى ، وشرح القصيدة ، وذكر سببها ، مع ترجمة يزيد والفرزدق ـ ما فيه كفاية ؛ ويزيد هو يزيد بن المهلّب بن أبى صفرة أحد الشجعان والكرماء ، كان واليا على خراسان من قبل بنى أمية.

* * *

وأنشد بعده [من الهزج] :

لقد أغدو على أشقر يغتال الصّحاريا

وتقدم شرحه فى الشاهد الواحد والأربعين من هذا الكتاب.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الخامس والسبعون [من الوافر] :

٧٥ ـ *فما وجدت بنات بنى نزار

حلائل أسودين وأحمرينا

على أنه جمع أسود وأحمر جمع تصحيح لضرورة الشعر.

وحلائل : مفعول وجدت ، وهو جمع حليل ، وهو زوج المرأة.

والبيت من قصيدة لحكيم الأعور هجابها قبائل مضر ، وتقدم الكلام عليه فى الشاهد الرابع والعشرين من أوائل شرح شواهد شرح الكافية

__________________

(١) ذكرنا هذه الكلمات فى شرحنا على الشافية عند الكلام على هذا البيت (ج ٢ ص ١٥٤)

١٤٣

وأنشد الجاربردى هنا ، وهو الشاهد السادس والسبعون [من الطويل] :

٧٦ ـ أتانى وعيد الحوص من آل جعفر

فيا عبد عمرو لو نهيت الأحاوصا

على أن الأحوص بالنظر إلى كونه فى الأصل وصفا جمع على الحوص ، وبالنظر إلى الاسمية جمع على أحاوص

والبيت من قصيدة للأعشى ميمون هجابها علقمة بن علاثة الصحابى ، وأراد بالحوص والأحاوص أولاد الأحوص بن جعفر ، وهم : عوف بن الأحوص ، وعمرو بن الأحوص ، وشريح بن الأحوص ، وربيعة بن الأحوص

والأحوص : اسمه ربيعة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وسمى الأحوص لضيق كان فى عينه ، قال صاحب الصحاح : والحوص بمهملتين مفتوحتين : ضيق فى مؤخر العين ، والرجل أحوص

وعلقمة هو علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص المذكور ، وعبد عمرو هو ابن شريح بن الأحوص ، فهو ابن عم علقمة

وكان سبب هجو الأعشى أن علقمة كان تهدده بالقتل ، وقد شرحناه بقدر الكفاية فى الشاهد السادس والعشرين من شواهد شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده [من الرجز]

*ما بال عينى كالشّعيب العيّن*

وتقدم شرحه فى الشاهد الخامس والعشرين من هذا الكتاب

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد السابع والسبعون [من الطويل]

٧٧ ـ *جنى النّحل فى ألبان عوذ مطافل*

على أن العرب جوّزوا فى جمع مفعل المؤنث زيادة الياء وتركها ، وعلى الترك

١٤٤

جاء مطافل ؛ فإنه جمع مطفل : أى امرأة ذات طفل ، وجاء المطافيل أيضا فى جمعه بزيادة الياء فى بيت بعده ؛ فإن المصراع من قصيدة لأبى ذؤيب الهذلى ، وهذان بيتان منها فى التغزل :

وإن حديثا منك لو تبذلينه

جني النّحل فى ألبان عوذ مطافل

مطافيل أبكار حديث نتاجها

تشاب بماء مثل ماء المفاصل

يقول : إن حلاوة حديثك لو تفضلت به حلاوة العسل مشوبا باللبن

والجنى : أصله الثمر المجتنى ، فاستعاره ، والعوذ : الحديثات النّتاج ، واحدها عائذ ـ بالعين المهملة والذال المعجمة ـ قال السكرى فى شرح أشعار الهذليين : «ألبان العوذ أطيب ؛ لأنها إذا عتق لبنها تغير ، يقول : حديثك كأنه العسل ممزوجا بألبان الإبل ، وقال الإمام المرزوقى فى شرحه : مطافل جمع مطفل وهى التى معها طفلها ، وإنما نكر قوله حديثا منك ليبين أن موقع كلامها منه على كل وجه ذلك الموقع ، ودل بقوله لو تبذلينه على تمنعها وتعذر ذلك من جهتها» انتهى.

وقال ابن هشام فى شرح بانت سعاد : «العوذ : جمع عائذ ، وهى القريبة العهد بالنتاح من الظباء والإبل والخيل ، فاذا تجاوزت عشرة أيام من يوم نتاجها أو خمسة عشر فهى مطفل ، وسميت بذلك لأن معها طفلها ، وجمعها مطافل ، والمطافيل بالياء إشباع» انتهى.

وقال شارح ديوان الأعشى : «العوذ : الحديثات العهد بالنّتاج قبل أن توفى خمس عشرة ليلة ، ثم هى مطفل بعده»

وقال ابن خلف : «هى الحديثة العهد بالنّتاج كان معها ولد أو لم يكن ، وهو جمع عائذ ، وهو جمع غريب ، ونظيره حائل وحول ، وفاره وفره» ، وقال الأعلم : «وسميت عائذا لأن ولدها يعوذ بها لصغره ، وبنى على فاعل لأنه على نية النسب ، لا على ما يوجب التصريف ، كما قالوا عيشة راضية» انتهى. والبكر

(ق ٢ ـ ١٠)

١٤٥

ـ بالكسر ـ التى ولدت بطنا واحدا ، وخصها لأن لبنها أطيب الألبان ، والحديث : نقيض القديم ، والنّتاج : اسم يجمع وضع جميع البهائم ، وقد خصّ بعضهم الغنم بالولادة ، ويشاب : يخلط ، والمفاصل : الحجارة الصلبة المتراصفة ، وقيل : ما بين الجبلين ، وقيل : منفصل الجبل من الرملة يكون بينهما رضراض وحصى صغار يصفو ماؤه ، وروى عن الأصمعى ، وقيل : ماء المفاصل هنا شىء يسيل من المفصلين إذا قطع أحدهما من الآخر ، شبيه بالماء الصافى ، قال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسى : «شبه ما بخلت به من حديثها بعسل مجعول فى ألبان هذه النوق ممزوجا بماء شبيه فى الرقة والصفاء بماء المفاصل. واختار ابن يسعون أن يراد بالمفاصل فى البيت الحجارة المتراصفة فى بطن المسيل لصفاء مائه وبرده ، قال : ويؤيده قول ذى الرمة [من الطويل] :

ونلت سقاطا من حديث كأنّه

جنى النّحل ممزوجا بماء الوقائع

لأن الوقائع جمع وقيعة ، وهى منقع ماء فى الجبل ، وأن يراد بماء المفاصل فى البيت ما يسيل من بين المفصلين إذا قطع أحدهما من الآخر أحق وأخلق ، ويكون قد شبه الماء فى صفائه ورقته بماء المفاصل ؛ إذ لو أراد المعنى الأول لكان الوجه أن يجعله مشوبا بماء المفاصل لا بمثله ؛ لأن ما يشبه من المياه بماء المفاصل دونه فى الصفاء والرقة ، فلما قال «بماء مثل ماء المفاصل» دل على أن المراد ما ذكرته ، وقد قيل فى قول الشاعر [من الطويل] :

*عقار كماء النّىء ليست بخمطة*

إنه شبه الخمر بماء النّيء فى الصفاء ، وقيل : فى الحمرة ، فيكون على أحد القولين مثل قول أبى ذؤيب الهذلى» إلى هنا كلام شارح أبيات الإيضاح ، وقوله «مطافيل أبكار ... الخ» قال الإمام المرزوقى : «مطافيل بدل من قوله عوذ مطافل ، وأشبع الكسرة فى الفاء للزومها ، فحدثت الياء ، والأبكار : التى

١٤٦

وضعت بطنا واحدا ، لأن ذلك أول نتاجها ؛ فهى أبكار ، وأولادها أبكار ، وعلى هذا قالوا : باكورة الربيع ، ولبنها أطيب وأشهى ؛ فلذلك خصه وجعله مزاجا وقوله تشاب فى موضع الصفة لألبان عوذ : أى مشوبة بماء متنهاه فى الصفاء ، وقيل فى المفاصل : إنها المواضع التى ينفصل فيها السهل من الجبل حيث يكون الرضراض ، فينقطع الماء به ويصفو إذا جرى فيه ، وهذا قول الأصمعى وأبى عمرو ، واعترض عليه فقيل : هلا قال «بماء من مياه المفاصل» وما له يشبهه به ولا يجعله منه؟ فقيل : هذا كما يقال : مثل فلان لا يفعل كذا ، والمراد أنه فى نفسه لا يفعل ، لا أنه أثبت له مثل ينتفى ذلك عنه ، ألا ترى أنه لو جعل ذلك لنظيره لكان المدح لا يعلق به ، وقد علم أن القصد إلى مدحه ، وعلى هذا قد حمل قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال أبو نصر : أراد بالمفاصل مفاصل الجبل حيث يقطر الوشل ، وذلك أصفى من مياه المناقع والعيون ، وقال بعضهم : أراد تشاب بماء كالدمع صفاء ؛ فالمفاصل شئون الرأس ، وهى تسمى مفاصل ومواصل ، والدمع منها يخرج ، وهذا كما يقال : جئتك بخمرة كماء العين وأصفى من الدمع ، فالتشبيه حاصل فى هذا الوجه ، وهو عندى حسن والمراد بماء العين الدمع لا غير ، وقال أبو سعيد : ماء المفاصل الدم ، وأراد بالماء الخمر ، وشبهها به ، وقال ابن الأعرابى : ماء المفاصل ماء اللحم النىء ، شبّه حمرته بحمرته ، وعهدة هذين القولين عليهما دونى» هذا كلام المرزوقى ، وحديث : بمعنى حادث ، والنّتاج : الولادة ، وتشاب : من الشّوب وهو الخلط والمزج ، والمفاصل : جمع مفصل ـ بفتح الأول وكسر الثالث.

وأبو ذؤيب الهذلى شاعر مخضرم إسلامى تقدمت ترجمته فى الشاهد السابع والستين من شرح شواهد شرح الكافية

* * *

١٤٧

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثامن والسبعون [من الطويل] :

٧٨ ـ *مع الصّبح ركب من أحاظة مجفل*

على أن ركبا لفظه مفرد ، بدليل عود الضمير إليه من صفته مفردا ، وهو مجفل.

وهذا المصراع عجز ، وصدره :

*فعبّت غشاشا ثمّ مرّت كأنّها*

وهو بيت من أبيات لامية العرب للشّنفرى ، فى وصف قطا وردت ماء وأنه سبقها إليه فشربت فضلته.

وقوله «فعبت غشاشا ـ الخ» العب : شرب الماء بلا مصّ ، قال ثعلب : عبّ يعب ، إذا شرب الماء فصبه فى الحلق صبا ، وفاعل «عبّت» ضمير القطا ، و «غشاشا» بكسر الغين المعجمة بعدها شينان معجمتان ـ قال بعض أهل اللغة : معناه على عجلة ، وقال بعض آخر : أى قليلا أو غير مرىء ، يقول : وردت القطا على عجل ثم صدرت فى بقايا من ظلمة الفجر ، وهذا يدل على قوة سرعتها ، وقوله «من أحاظة» متعلق بمحذوف على أنه صفة لركب ، وأحاظة ـ بضم الهمزة بعدها حاء مهملة وظاء مشالة معجمة ـ قبيلة من الأزد فى اليمن ، ومجفل : صفة ثانية لركب ، وهو بالجيم اسم فاعل من أجفل بمعنى أسرع ، و «الركب» قال ابن قتيبة فى أدب الكاتب : أصحاب الإبل ، وهم العشرة ونحو ذلك ، قال شارحه ابن ابن السّيد : هذا الذى قاله ابن قتيبة قاله غير واحد ، وحكى يعقوب عن عمارة ابن عقيل قال : لا أقول راكب إلا لراكب البعير خاصة ، وأقول : فارس وبغّال وحمّار ، ويقوى هذا الذى قاله قول قريط العنبرى [من البسيط] :

فليت لى بهم قوما إذا ركبوا

شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا

والقياس يوجب أن هذا غلط ، والسماع يعضد ذلك ، ولو قالوا إن هذا هو

١٤٨

الأكثر فى الاستعمال لكان له وجه ، وأما القطع على أنه لا يقال راكب ولا ركب إلا لأصحاب الإبل خاصة فغير صحيح ؛ لأنه لا خلاف بين اللغويين فى أنه يقال : ركبت الفرس ، وركبت البغل ، وركبت الحمار ، واسم الفاعل من ذلك راكب ، وإذا كثرت الفعل قلت : ركّاب وركوب ، وقد قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) فأوقع الركوب على الجميع ، وقال امرؤ القيس [من المتقارب] :

*إذا ركبوا الخيل واستلأموا*

وقال زيد الخيل [من الطويل] :

*ويركب يوم الرّوع فينا فوارس*

وهذا كثير فى الشعر وغيره ، وقد قال تعالى : (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) وهذا اللفظ لا يدل على تخصيص شىء بشىء ، بل افترانه بقوله (فرجالا) يدل على أنه يقع على كل ما يقع على الأرض ، ونحوه قول الراجز [من الرجز] :

بنيته بعصبة من ماليا

أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا

فجعل الرّكب ضد الرّجل ، وضد الرّجل يدخل فيه راكب الفرس وراكب الحمار وغيرهما ، وقول ابن قتيبة أيضا «إن الركب العشرة ونحو ذلك» غلط آخر ؛ لأن الله تعالى قال : (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعنى مشركى قريش يوم بدر ، وكانوا تسعمائة وبضعا وخمسين ، والذى قال يعقوب فى الركب هم العشرة فما فوقها ، وهذا صحيح ، وأظن أن ابن قتيبة أراد ذلك فغلط فى النقل ، انتهى كلام ابن السيد

وقد تكلمنا على هذا البيت بأبسط من هذا فى الشاهد السابع والخمسين بعد الخمسمائة من شرح شواهد شرح الكافية

* * *

١٤٩

وأنشد بعده ، وهو الشاهد التاسع والسبعون [من الرجز]

٧٩ ـ *أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا*

على أن ركبا اسم جمع ، ولفظه مفرد ، بدليل تصغيره على لفظه كما تصغر المفردات ، قال ابن جنى فى شرح تصريف المازنى : «جميع ما كان اسما للجمع تحقّره على لفظه ، أخبرنا أبو على أن أبا عثمان أنشده [من الرجز]

بنيته بعصبة من ماليا

أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا

فهذان تحقير ركب ورجل ، وهما اسمان للجمع بمنزله ركّاب ورجّالة ، وكان أبو الحسن يقول فى تحقير ركب : رويكبون ؛ لأنه جمع كسر عليه راكب ، وقولهم «ركيب» يدل على خلاف مذهبه ، وهو قول سيبويه ، وهو الصواب انتهى.

والشعر لأحيحة بن الجلاح ، وهو هكذا :

بنيت بعد مستظلّ ضاحيا

بنيته بعصبة من ماليا

والشّرّ ممّا يتبع القواضيا

أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا

وأنشد صاحب الكشاف البيت الأخير عند تفسير قوله تعالى : (حَرَساً شَدِيداً) من سورة الجن ، على أن الحرس اسم مفرد بمعنى الحرّاس كالخدم بمعنى الخدّام وكالرّجل والرّكب فى البيت فإنهما بمعنى الرجالة والرّكّاب

وقال شارح أبيات التفسيرين خضر الموصلى : هذا البيت كأنه فى وصف حصن بناه ليمنعه من الحوادث لم أطلع له على خبر ، انتهى

أقول : أورد خبره الأصفهانى فى الأغانى ، قال : كان لأحيحة بن الجلاح أطمان أطم فى قومه يقال له المستظل ، وهو الذى تحصّن فيه حين قاتل تبّعا أبا كرب الحميرى ، وأطمه الضّحيان بالعصبة فى أرضه التى يقال لها الغيابة ، بناه بحجارة سود بنى عليه منارة بيضاء مثل القصّة ، ثم جعل عليها مثلها ، يراها الراكب من مسيرة ،

١٥٠

وكانت الآطام عزّهم وحصونهم يتحرّزون فيها من عدوهم ، ويزعمون أنه لما بناه هو وغلام له أشرف ثم قال : لقد بنيت حصنا حصينا ما بنى مثله رجل من العرب أمنع منه ، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع لوقع جميعا ؛ فقال غلامه : أنا أعرفه ، قال : فأرنيه يا بنى ، قال : هو هذا ، وصرف إليه رأسه ، فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات ، حتى لا يعرف ذلك الحجر أحد ؛ ولما بناه قال :

*بنيت بعد مستظلّ ضاحيا* الأبيات الأربعة

قال : وكان أحيحة سيّد قومه الأوس ، وكان رجلا صنعا للمال شحيحا عليه يبيع بيع الربا بالمدينة ، حتى كاد يحيط بأموالهم ، وكانت لة تسع وتسعون بئراكلها ينضح عليها ، انتهى.

قال الزمخشرى فى كتاب الأمكنة : عصبة : موضع بقباء ، وأنشد الشعر المذكور ، انتهى.

وقال السمهودى فى تاريخ المدينة المنورة : أطم يقال له مستظل عند بئر غرس كان لأحيحة ثم صار لبنى عبد المنذر ، انتهى.

وقال صاحب الصحاح : والأطم [مثل الأجم (١)] يخفف ويثقل ، والجمع آطام ، وهى حصون لأهل المدينة ؛ والواحدة أطمة بفتحات ، انتهى.

و «المستظل» معناه موضع الاستظلال ، و «الضّحيان» بمعنى الضاحى ، وهو البارز غير المستتر ، وكأنه سمّاه بهما ، ولما لم يستقم له فى الشعر الضّحيان جاء بالآخر موضعه ، وعصبة بفتح العين وسكون الصاد المهملتين فباء موحدة ، وليس لهذه الكلمات ذكر فى معجم ما استعجم لأبى عبيد البكرى ، ولا فى

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من بعض النسخ ، وهى ثابتة فى بعض

١٥١

فى الصحاح ، ولما لم يقف ابن برى على هذا النقل ظن أن العصبة الرجال ، فقال فى شرح أبيات الإيضاح للفارسى : العصبة من الرجال نحو العشرة ، واستعارها للجزء من المال ، وعلى هذا تكون من صفة للعصبة متعلقة بمحذوف ، ويجوز أن يريد بالعصبة الرجال ومن متعلقة ببنيته : أى بنيته من مالى بعصبة ، والباء متعلقة بمحذوف : أى مستعينا بعصبة ، ويروى «غاديا» بالغين المعجمة من الاغتداء ، هذا كلامه.

وقوله «والشر» هو ضد الخير ، أراد أن الشر يتبع الأمور المقضية المحتمة وقوله «أخشى ركيبا ـ إلخ» صغر الرّكب والرّجل للتقليل ، وإذا كان يخشاهما مع قلتهما فخشيته مع كثرتهما من باب أولى ، والركب : اسم جمع راكب ، وقال صاحب المصباح : وراكب الدابة جمعه ركب كصاحب وصحب ، وكذا قال فى الرّجل ، قال : الراجل : خلاف الفارس ، وجمعه رجل ، مثل صاحب وصحب ، وكان ينبغى أن يقول : والراجل خلاف الراكب ، و «عاديا» صفة رجيلا ، وصفة «ركيبا» محذوفة لدلالة الثانى عليه ، وهو من عدا عليه يعدو عدوا وعدوانا وعداء ، بالفتح والمد ، إذا ظلم وتجاوز الحد.

وأحيحة بن الجلاح جاهلى ، وأحيحة بضم الهمزة وفتح الحاءين المهملتين بينهما ياء تصغير ؛ والجلاح ـ بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره حاء مهملة ـ وقد ذكرنا نسبه وترجمته فى شرح الشاهد السابع والعشرين بعد المائتين من شرح شواهد شرح الكافية.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثمانون [من الرجز] :

٨٠ ـ *وفاضح مفتضح فى أرهطه*

على أن الأرهط مفرد الأراهط ، والأرهط جمع رهط ـ بفتح فسكون ـ قال

١٥٢

الصاغانى فى العباب : رهط الرجل : قومه وقبيلته ، يقال : هم رهطه دنية ، والرهط : ما دون العشرة من الرجال لا تكون فيهم امرأة ، وليس له واحد من لفظه ، مثل ذود ، وقال بعضهم : الرّهط عند العرب : عدد يجمع من سبعة إلى عشرة ؛ قال ابن دريد : وربما جاوز ذلك قليلا ، وما دون السبعة إلى الثلاثة النفر ، وقد يحرك فيقال : الرّهط ، والجمع أرهط ، وأنشد الأصمعى :

*وفاضح مفتضح فى أرهطه*

انتهى.

وقد ورد فى رجز رؤبة بن العجاج أيضا ، قال [من الرجز] :

*وهو الذّليل نفرا فى أرهطه*

وبهذا يرد على أبى على الفارسى فى زعمه أن اسم الجمع كركب ورجل ورهط وطير لا يجمع جمع قلة ، وقد قالوا أيضا : قوم وأقوام ؛ قال فى المسائل البغدادية : حكى سيبويه أطيار ، وحمله على أنه جمع طائر ، مثل صاحب وأصحاب ، وشاهد وأشهاد ، وفلوّ وأفلاء ؛ لأن فلوّا مثل فاعل فى الزيادة والزنة (١) ، فان قال قائل : هلا حمله على أنه جمع طير؟ قيل له : لا يكون عنده إلا جمع طائر ؛ لأن طائرا زعم أنه جمع على طير مثل تاجر وتجر ، وإذا كان مثل تجر وركب لم يجز جمعه ، ألا ترى أنه لم نجز ذلك (٢) فى جمع الجمع؟ ويمتنع جمع هذا أيضا من جهة القياس ؛ لأن تجرا وبابه يراد به الكثرة ، فحكمه إذا جمع أن يراد به التكثير ، وأفعال لا يراد به الكثرة ، بل خلافها ؛ فإن قيل : فهلا جاز جمعه على أفعال كما جاز إبلان؟ قيل له : هذا قليل لا يقاس عليه ، فان قيل : فهلا جاز تكسيره كما جاز تحقيره؟ حكى سيبويه رجل ورجيل ، وكما

__________________

(١) يريد فى عدد الحروف دون الحركات

(٢) فى نسخة «لم نجز جواز ذلك»

١٥٣

قرأت على أبى بكر عن أبى العباس عن أبى عثمان قال : أنشدنى الأصمعى لأحيحة بن الجلاح :

*أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا*

قيل : لا ينبغى أن يجوز التكسير من حيث جاز التصغير ، وذاك أن هذا الاسم على بناء الآحاد ، والمراد به الكثرة ، فلو كسر كما صغر لكان فى ذلك إجراؤه مجرى الآحاد وإزالته عما وضع له من الدلالة على الكثرة ، إذ كان يكون فى ذلك مساواته له من جهة البناء والتكسير والتحقير والحديث عنه كالحديث عن الآحاد ، نحو ما أنشده أبو الحسن [من الطويل] :

*لهم جامل لا يهدأ اللّيل سامره*

وهذا كل جهاته أو عامته ، فيجب إذا صغر أن لا يكسر فيكون بتولد تكسيره منفصلا مما يراد به الآحاد دون الكثرة ، ومتميزا به منها ، على أن ركيبا فى البيت يجوز أن يكون محقرا على حذف الزيادة كباب أزهر وزهير ،

فان قال قائل : أليس أشياء من باب ركب وتجر وجامل ، وقد حدثكم أبو بكر عن أبى العباس قال علماؤنا عن الأصمعى قال : وقف أعرابى على خلف الأحمر ، فقال : إن عندك لأشاوى ؛ فكسر أشياء على أشاوى ، فما أنكرت أن يجوز جمع طير وبابه؟

قيل له : هذا أشبه ، لأنه مكسر على بناء يكون للكثير ، وأطيار للقليل ، وهذا ردىء لخروجه إلى حيز الآحاد ، وهذه حكاية نادرة ، لا يجب القياس عليها

فان قيل : أليس ضأن من هذا الباب لأنه جمع ضائن ، كما أن طيرا جمع طائر ، فقد قيل : ضأن وضئين ، كما قالوا : عبد وعبيد ، وكلب وكليب ، فما أنكرت

١٥٤

أن يجوز تكسير طير وركب وبابه كما جاز تكسير ضأن إذ هو مثله؟

قيل له : ليس ضئين عندنا جمع ضأن ، إنما هو جمع ضائن ، وليس ضائن بجمع ، إنما هو واحد ، ألا تراهم قالوا : ضائنة ، فأنثوا ، وقالوا : ضوائن ، فكسروا ؛ ولو كان جمعا لم يكسر كما لا يكسر ركب وجامل ونحوه ، هذا كلام أبى على

وقول الشاعر «وفاضح مفتضح ـ إلخ» الفضيحة : العيب ، وفضحه فضحا من باب نفع ، كشف عيبه ، فتقديره : وكاشف عيب رهطه ومنكشف عيبه فى رهطه

وهذا البيت لم أقف على قائله ، ولا على تتمته ، والله أعلم

* * *

وأنشد بعده [من السريع] :

*فى كلّ يوم ما وكلّ ليلاه*

وتقدم شرحه فى الشاهد الثامن والأربعين

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الحادى والثمانون [من الرجز] :

٨١ ـ *بأعينات لم يخالطها القذى*

على أنه يجوز فى الشعر أن يجمع الجمع كما هنا ، فإنّ أعينا جمع عين ، وقد جمع بالألف والتاء

والقذى : ما يسقط فى العين أو فى الشراب ، وقذيت عينه تقذى قذى ، إذا سقطت فى عينه قذاة ، وقذت عينه تقذى قذيا : أخرجت القذى ، وأقذيت عينه : رميت فيها القذى ، وقذيتها تقذية : إذا أخرجت منها القذى

* * *

١٥٥

التقاء الساكنين

أنشد فيه ، وهو الشاهد الثانى والثمانون [من الرجز] :

٨٢ ـ أقبلت من عند زياد كالخرف

تخطّ رجلاى بخطّ مختلف

*تكثّبان فى الطّريق لام الف*

على أن الشاعر نقل فتحة همزة ألف إلى ميم لام

وأورده الشارح المحقق فى شرح الكافية على أن مقصوده اللام والهمزة ، لا صورة «لا» ؛ فيكون معناه أنه تارة يمشى مستقيما فتخط رجلاه خطا شبيها بالألف ، وتارة يمشى معوجا فتخط رجلاه خطا شبيها باللام

وقد تقدم الكلام عليه هناك فى شرح الشاهد السابع من أوله بمالا مزيد عليه

وهذه الأبيات الثلاثة لأبى النجم ، وهو راجز إسلامى ، قال الصولى : كان لأبى النجم العجلى صديق يسقيه الشراب فينصرف من عنده ثملا ، وأنشد له هذه الأبيات.

والخرف ـ بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء ـ صفة مشبهة من خرف الرجل خرفا من باب تعب ، إذا فسد عقله لكبره ، وخط على الأرض خطا : أعلم علامة ، و «كتب» بالتخفيف والتثقيل ، وتثقيله هنا لتكثير الفعل.

* * *

وأنشد بعده ، وهو الشاهد الثالث والثمانون [من المتقارب] :

٨٣ ـ لها متنتان خظاتا كما

أكبّ على ساعديه النّمر

على أن بعضهم جوز رد الألف مستشهدا بخظاتا ؛ فإنه يقال : خظا يخظو ، إذا تحرك ، وكان من حقه أن يقول : خظتا ، كما يقال : غزتا ، تثنية غزت ، إلا أنه رد الألف التى كانت سقطت لاجتماع الساكنين فى الواحد ، ولما تحركت

١٥٦

تاء التأنيث لأجل ألف التثنية رجعت الألف المحذوفة للساكنين ، وهذا قول الكسائى.

وقال الفراء : أراد «خظاتان» ؛ فهو مثنى حذفت نونه للضرورة ، كما قال أبو دواد [من الهزج] :

ومتنان خطاتان

كزحلوف من الهضب

قال ابن قتيبة فى أبيات المعانى : يقال : لحمه خظا بظا ؛ إذا كان كثير اللحم صلبه ، والزّحلوف : الحجر الأملس ، وقال امرؤ القيس :

*لها متنتان خظاتا* ـ إلخ

ويقال : هو خاظى البضيع ، إذا كان كثير اللحم مكتنزه ، وقوله «خظاتا» فيه قولان : أحدهما أنه أراد خظاتان كما قال أبو دواد ، فحذفت نون الاثنين ، يقال : متن خظاة ومتنة خظاة ، والآخر أنه أراد خظتا : أى ارتفعتا ، فاضطر فزاد ألفا ، والقول الأول أجود ؛ وقوله «كما أكب على ساعديه النمر» أراد كان فوق متنها نمرا باركا لكثرة لحم المتن» انتهى كلام ابن قتيبة.

وأيد ابن جنى قول الكسائى ؛ قال فى سر الصناعة : وأما قول امرىء القيس :

*لها متنتان خظاتا ... البيت*

فإن الكسائى قال : أراد خظتا ، فلما حرك التاء رد الألف التى هى بدل من لام الفعل ؛ لأنها إنما كانت حذفت لسكونها وسكون التاء ، فلما حركت التاء ردها ؛ فقال : خظاتا ، ويلزمه على هذا أن يقول فى قضتا وغزتا : قضاتا وغزاتا ؛ إلا أن له أن يقول : إن الشاعر لما اضطر أجرى الحركة العارضة مجرى الحركة اللازمة فى نحو قولا وبيعا وخافا ، وذهب الفراء إلى أنه أراد خظاتان ؛ فحذف النون ، كما قال أبو دواد الإيادى

*ومتنان خظاتان * كزحلوف من الهضب*

١٥٧

وأنشد الفراء أيضا : [من الرجز]

*يا حبّذا عينا سليمى والفما*

قال : أراد والفمان ، يعنى الفم والأنف ؛ فثناهما بلفظ الفم للتجاور الذى بينهما ؛ وأجاز الفراء أيضا أن تنصبه على أنه مفعول معه ، كأنه قال : مع الفم ، ومذهب الكسائى فى «خظاتا» أقيس عندى من قول الفراء ؛ لأن حذف نون التثنية شىء غير معروف ، فأما «والفما» فقد يجوز أن ينصب بفعل مضمر ، كأنه قال : وأحب الفم ، ويجوز أن يكون الفما فى موضع رفع إلا أنه اسم مقصور بمنزلة عصا ، وعليه جاء بيت الفرزدق :

*هما نفثا فى فىّ من فمويهما*

فاعرفه ، ومما يؤيد عندى مذهب الكسائى أنه أراد خظتا فلما حرك التاء وإن كانت الحركة عارضة غير لازمة رد الألف التى هى بدل من الواو التى هى لام الفعل ، كقولهم «لحمر» فى الأحمر ، و «لبيض» فى الأبيض ، ألا ترى أنهم اعتدوا بحركة الهمزة المحذوفة لما ألقوها على اللام المعرفة ، فأجروا ما ليس بلازم مجرى اللازم؟ ونحو من ذلك قراءتهم (لكنّا هو الله ربّى) وأصلها لكن أنا ، فلما حذفت الهمزة للتخفيف وألقيت فتحتها على نون لكن صار التقدير لكننا فلما اجتمع حرفان مثلان متحركان كره ذلك كما كره شدد وجلل ؛ فأسكنوا النون الأولى وأدغموها فى الثانية فصار لكنا ، كما أسكنوا الحرف الأول من شدد وجلل ، وأدغموه فى الثانى فقالوا : شدّ وجلّ ، أفلا ترى أنهم أجروا المنفصل وهو لكن أنا مجرى المتصل فى شد وجل ، ولم يقرأ أحد لكننا مظهرا ؛ فهل ذلك إلا لاعتدادهم بالحركة وإن كانت غير لازمة؟ وعلى هذا قالوا (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وأصله اسال ؛ فلما خففت الهمزة فحذفت وألقيت حركتها على السين قبلها اعتد بها فحذفت همزة الوصل لتحرك الحرف بعدها ، ونظائر هذا كثير ، ومنها قولهم فى تخفيف

١٥٨

رؤيا : ريّا ، وأصلها رويا ، إلا أنهم أجروا الواو فى رويا وإن كانت بدلا من الهمزة مجرى الواو اللازمة فأبدلوها ياء وأدغموها فى الياء بعدها ؛ فقالوا : ريّا ، كما قالوا : طويت طيّا وشويت شيّا ، وأصلهما طويا وشويا ، ثم أبدلوا الواو ياء وأدغموها فى الياء فعلى هذا قالوا : ريّا ، ومن اعتد بالهمزة المنوية وراعى حكمها ـ وهو الأكثر والأقيس ـ لم يدغم فقال : رويا ، فهذا كله وغيره مما يطول ذكره ، يشهد باجرائهم غير اللازم مجرى اللازم ويقوى مذهب الكسائى ، إلا أن للفراء أن يحتج لقوله ببيت أبى دواد *ومتنان خظاتان* فهذا يقوى أن خظاتا تقديره خظاتان وأنشدوا بيتا آخر ، وهو قوله : [من الطويل]

لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها

لأولادها ثنتا وما بيننا عنز

تقديره ثنتان ، فحذف النون» وهذا آخر كلام ابن جنى (١)

وبقى فى البيت قول ثالث ، وهو أن خظاتا مثنى حذفت نونه للاضافة إلى قوله «كما أكب» وهو قول أبى العباس المبرد ، نقل عنه ياقوت الحموى فى معجم الأدباء فى ترجمة أبى العباس أحمد الشهير بثعلب رحمه الرب ، ونقله عنه أيضا علم الدين السخاوى فى سفر السعادة ، وعبارتهما واحدة ، قالا : قال أحمد بن يحيى ثعلب : دخلت على محمد بن عبد الله فاذا عنده أبو العباس المبرد وجماعة من أصحابه وكتابه ؛ فلما قعدت قال لى محمد بن عبد الله : ما تقول فى بيت امرىء القيس

*لها متنتان خظاتا ... البيت*

قال : فقلت : أما الغريب فانه يقال : لحم خظا بظا ، إذا كان صلبا مكتنزا ، ووصفه بقوله «كما أكب على ساعديه» أى فى صلابة النمر إذا اعتمد على يديه ، والمتن : الطريقة من عن يمين الصلب وشماله ، وأما الإعراب فإنه خظتا ، فلما

__________________

(١) لو تصفحت كلام ابن جنى فى حرف النون من سر الصناعة لوجدت المؤلفه لم ينقله بنصه الكامل بل تصرف فيه بعض التصرف من غير إخلال بالمقصود

١٥٩

تحركت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة ؛ فأقبل بوجهه على المبرد ، فقال : أعز الله الأمير ، إنما أراد فى «خظاتا» الإضافة ؛ أضاف خظاتا إلى كما ، قال ثعلب فقلت له : ما قال هذا أحد!! فقال : بلى سيبويه يقوله ، فقلت لمحمد بن عبد الله : ما قال هذا سيبويه قط ، وهذا كتابه فليحضر ، ثم قلت : وما حاجتنا إلى الكتاب؟ أيقال : مررت بالزيدين ظريفى عمرو ، فيضاف نعت الشىء إلى غيره؟ فقال محمد لصحة طبعه ـ : والله ما يقال هذا ، ونظر إلى محمد بن يزيد ، فأمسك ولم يقل شيئا ، ونهض المجلس ، وزاد ياقوت فى آخر هذه الحكاية «لا أدرى لم لا يجوز هذا ، وما أظن أحد ينكرا قول القائل : رأيت الفرسين مركوبى زيد ، ولا الغلامين عبدى عمرو ، ولا الثوبين درّاعتى (١) زيد ، ومثله مررت بالزيدين ظريفى عمرو ؛ فيكون مضافا إلى عمرو وهو صفة زيد ، وهذا ظاهر لكل متأمل» هذا كلامه

وأقول : هذه الأمثلة كلها أبدال لا نعوت ؛ لعدم الربط

وهذا البيت من جملة أبيات فى وصف فرس من قصيدة لامرىء القيس قد شرحناها فى الشاهد العشرين بعد السبعمائة من شرح شواهد شرح الكافية

* * *

وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع والثمانون : [من المنسرح]

٨٤ ـ لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه

على أن أصله «لا تهينن الفقير» فحذفت نون التوكيد الخفيفة لالتقاء الساكنين ، وبقيت الفتحة دليلا عليها

وهذا آخر أبيات للأضبط بين قريع السعدى ؛ وقبله :

قد يجمع المال غير آكله

ويأكل المال غير من جمعه

__________________

(١) الدراعة : ثوب لا يكون إلا من صوف ، وهو المدرعة أيضا ، ويقال : تمدرع ؛ إذا لبسه

١٦٠