مغنى اللبيب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

باب ما يجب على المسئول فى المسئول عنه أن يفصّل فيه

لاحتماله الاسمية والفعلية ، لاختلاف التقدير ، أو لاختلاف النحويين

ولذلك أمثلة :

أحدها : صدر الكلام من نحو «إذا قام زيد فأنا أكرمه» وهذا مبنى على الخلاف السابق فى عامل إذا ، فإن قلنا جوابها فصدر الكلام جملة اسمية ، وإذا مقدّمة من تأخير ، وما بعد إذا متمّم لها ؛ لأنه مضاف إليه ، ونظير ذلك قولك «يوم يسافر زيد أنا مسافر» وعكسه قوله :

٦١١ ـ فبينا نحن نرقبه أتانا

[معلّق وفضة وزناد راع]

إذا قدّرت ألف بينا زائدة وبين مضافة للجملة الاسمية ؛ فإن صدر الكلام جملة فعلية ، والظرف مضاف إلى جملة اسمية ، وإن قلنا العامل فى إذا فعل الشرط ، وإذا غير مضافة ؛ فصدر الكلام جملة فعلية قدّم ظرفها كما فى قولك «متى تقم فأنا أقوم».

الثانى : نحو «أفى الدّار زيد ، وأعندك عمرو» فإنا إن قدرنا المرفوع مبتدأ أو مرفوعا بمبتدأ محذوف تقديره كائن أو مستقر ؛ فالجملة اسمية ذات خبر فى الأولى وذات فاعل مغن عن الخبر فى الثانية ، وإن قدرناه فاعلا باستقرّ ففعلية ، أو بالظرف فظرفية.

الثالث : نحو «يومان» فى نحو «ما رأيته مذ يومان» فإن تقديره عند الأخفش ولزجاج : بينى وبين لقائه يومان ، وعند أبى بكر وأبى على : أمد انتفاء الرؤية يومان ، وعليهما فالجملة اسمية لا محل لها ، ومنذ خبر على الأول ومبتدأ على الثانى ، وقال الكسائى وجماعة : المعنى منذ كان يومان ، فمنذ ظرف لما قبلها ، وما بعدها جملة فعلية فعلها ماض حذف فعلها ، وهى فى محل خفض ، وقال آخرون : المعنى من الزمن الذى هو يومان ،

٤١

ومنذ مركبة من حرف الابتداء وذو الطائية واقعة على الزمن ، وما بعدها جملة اسمية حذف مبتدؤها ، ولا محل لها لأنها صلة.

الرابع : «ماذا صنعت» فإنه يحتمل معنيين ؛ أحدهما : ما الذى صنعته؟ فالجملة اسمية قدّم خبرها عند الأخفش ومبتدؤها عند سيبويه ، والثانى : أىّ شىء صنعت ، فهى فعلية قدّم مفعولها ، فإن قلت «ماذا صنعته» فعلى التقدير الأول الجملة بحالها ، وعلى الثانى تحتمل الاسمية بأن تقدر «ماذا» مبتدأ ، و «صنعته» الخبر ، والفعلية بأن تقدره مفعولا لفعل محذوف على شريطة التفسير ، ويكون تقديره بعد ما ذا ؛ لأن الاستفهام له الصّدر.

الخامس : نحو (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) فالأرجح تقدير بشر فاعلا ليهدى محذوفا ، والجملة فعلية ، ويجوز تقديره مبتدأ ، وتقدير الاسمية فى (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أرجح منه فى (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) لمعادلتها للاسمية ، وهى (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) وتقدير الفعلية فى قوله :

*فقلت : أهى سرت أم عادنى حلم؟* [٥٣]

أكثر رجحانا من تقديرها فى (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) لمعادلتها الفعلية.

السادس : نحو «قاما أخواك» فإن الألف إن قدرت حرف تثنية كما أن التاء حرف تأنيث فى «قامت هند» أو اسما وأخواك بدل منها فالجملة فعلية ، وإن قدرت اسما وما بعدها مبتدأ فالجملة اسمية قدم خبرها.

السابع : نحو «نعم الرّجل زيد» فإن قدر «نعم الرجل» خبرا عن زيد فاسمية ، كما فى «زيد نعم الرّجل» وإن قدر زيد خبرا لمبتدأ محذوف فجملتان فعلية واسمية.

الثامن : جملة البسملة ، فإن قدر ابتدائى باسم الله فاسمية ، وهو قول البصريين ،

٤٢

أو أبدأ باسم الله ففعلية ، وهو قول الكوفيين ، وهو المشهور فى التفاسير والأعاريب ، ولم يذكر الزمخشرى غيره ، إلا أنه يقدر الفعل مؤخرا ومناسبا لما جعلت البسملة مبتدأ له ؛ فيقدر باسم الله أقرأ ، باسم الله أحلّ ، باسم الله أرتحل ، ويؤيده الحديث «باسمك ربّى وضعت جنبى».

التاسع : قولهم «ما جاءت حاجتك» فإنه يروى برفع حاجتك فالجملة فعلية ، وبنصبها فالجملة اسمية ، وذلك لأن جاء بمعنى صار ؛ فعلى الأول «ما» خبرها ، و «حاجتك» اسمها ، وعلى الثانى ما مبتدأ واسمها ضمير ما ، وأنّث حملا على معنى ما ، وحاجتك خبرها.

ونظير ما هذه ما فى قولك «ما أنت وموسى» فإنها أيضا تحتمل الرفع والنصب ، إلا أن الرفع على الابتدائية أو الخبرية ، على خلاف بين سيبويه والأخفش ، وذلك إذا قدرت موسى عطفا على أنت ، والنصب على الخبرية أو المفعولية ، وذلك إذا قدرته مفعولا معه ؛ إذ لا بد من تقدير فعل حينئذ ، أى ما تكون ، أو ما تصنع.

ونظير ما هذه فى [هذين] الوجهين على اختلاف التقديرين كيف فى نحو «كيف أنت وموسى» إلا أنها لا تكون مبتدأ ولا مفعولا به ؛ فليس للرفع إلا توجيه واحد ، وأما النصب فيجوز كونه على الخبرية أو الحالية.

العاشر : الجملة المعطوفة من نحو «قعد عمرو وزيد قام» فالأرجح الفعلية للتناسب ، وذلك لازم عند من يوجب توافق الجملتين المتعاطفتين.

ومما يترجح فيه الفعلية نحو «موسى أكرمه» ونحو «زيد ليقم ، وعمرو لا يذهب» بالجزم ؛ لأن وقوع الجملة الطلبية خبرا قليل ، وأما نحو «زيد قام» فالجملة اسمية لا غير ؛ لعدم ما يطلب الفعل. هذا قول الجمهور ، وجوز المبرد وابن العريف وابن مالك فعليتها على الاضمار والتفسير ، والكوفيون على التقديم والتأخير

٤٣

فإن قلت : «زيد قام وعمرو قعد عنده» فالأولى اسمية عند الجمهور ، والثانية محتملة لهما على السواء عند الجميع.

انقسام الجملة إلى صغرى وكبرى

الكبرى هى : الاسمية التى خبرها جملة نحو «زيد قام أبوه ، وزيد أبوه قائم» والصغرى هى : المبنية على المبتدأ ، كالجملة المخبر بها فى المثالين.

وقد تكون الجملة صغرى وكبرى باعتبارين ، نحو «زيد أبوه غلامه منطلق» فمجموع هذا الكلام جملة كبرى لا غير ، و «غلامه منطلق» صغرى لا غير ؛ لأنها خبر ، و «أبوه غلامه منطلق» كبرى باعتبار «غلامه منطلق» وصغرى باعتبار جملة الكلام ، ومثله (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) إذ الأصل لكن أنا هو الله ربى ، ففيها أيضا ثلاث مبتدآت إذا لم يقدر (هُوَ) ضميرا له سبحانه ولفظ الجلالة بدل منه أو عطف بيان عليه كما جزم به ابن الحاجب ، بل قدر ضمير الشأن وهو الظاهر ، ثم حذفت همزة أنا حذفا اعتباطيا ، وقيل : حذفا قياسيا بأن نقلت حركتها ثم حذفت ، ثم أدغمت نون لكن فى نون أنا.

تنبيهان ـ الأول : ما فسّرت به الجملة الكبرى هو مقتضى كلامهم ، وقد يقال : كما تكون مصدّرة بالمبتدأ تكون مصدرة بالفعل نحو «ظننت زيدا يقوم أبوه».

الثانى : إنما قلت صغرى وكبرى موافقة لهم ، وإنما الوجه استعمال فعلى أفعل بأل أو بالإضافة ؛ ولذلك لحن من قال :

٦١٢ ـ كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها

حصباء درّ على أرض من الذّهب

وقول بعضهم إن من زائدة وإنهما مضافان على حد قوله :

٦١٣ ـ [يا من رأى عارضا أسرّ به]

بين ذراعى وجبهة الأسد

يردّه أن الصحيح أن «من» لا تقحم فى الإيجاب ، ولا مع تعريف المجرور ،

٤٤

ولكن ربما استعمل أفعل التفضيل الذى لم يرد به المفاضلة مطابقا مع كونه مجردا قال :

٦١٤ ـ إذا غاب عنكم أسود العين كنتم

كراما ، وأنتم ما أقام ألائم

أى لئام ، فعلى هذا يتخرج البيت ، وقول النحويين [جملة] صغرى وكبرى وكذلك قول العروضيين : فاصلة صغرى ، وفاصلة كبرى.

وقد يحتمل الكلام الكبرى وغيرها. ولهذا النوع أمثله :

أحدها : نحو (أَنَا آتِيكَ بِهِ) إذ يحتمل (آتِيكَ) أن يكون فعلا مضارعا ومفعولا ، وأن يكون اسم فاعل ومضافا إليه مثل (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ) (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) ويؤيده أن أصل الخبر الإفراد ، وأن حمزة يميل الألف من (آتِيكَ) وذلك ممتنع على تقدير انقلابها من الهمزة.

الثانى : نحو «زيد فى الدّار» إذ يحتمل تقدير استقر وتقدير مستقر.

الثالث : نحو «إنما أنت سيرا» إذ يحتمل تقدير تسير وتقدير سائر ، وينبغى أن يجرى هنا الخلاف الذى فى المسألة قبلها.

الرابع : «زيد قائم أبوه» إذ يحتمل أن يقدر أبوه مبتدأ ، وأن يقدر فاعلا بقائم.

تنبيه ـ يتعين فى قوله :

*ألا عمر ونّى مستطاع رجوعه* [١٠٢]

تقدير رجوعه مبتدأ ومستطاع خبره والجملة فى محل نصب على أنها صفة لا فى محل رفع على أنها خبر ، لأن «ألا» التى للتمنى لا خير لها عند سيبويه لا لفظا ولا تقديرا ، فإذا قيل «ألا ماء» كان ذلك كلاما مؤلفا من حرف واسم ، وإنما تمّ

٤٥

الكلام بذلك حملا على معناه وهو أتمنى ماء ، وكذلك يمتنع تقدير مستطاع خبرا ورجوعه فاعلا لما ذكرنا ، ويمتنع أيضا تقدير مستطاع صفة على المحل ، أو تقدير «مستطاع رجوعه» جملة فى موضع رفع على أنها صفة على المحل إجراء لألا مجرى ليت فى امتناع مراعاة محل اسمها ، وهذا أيضا قول سيبويه فى الوجهين ، وخالفه فى المسألتين المازنى والمبرد.

انقسام الجملة الكبرى

إلى ذات وجه ، وإلى ذات وجهين

ذات الوجهين : هى اسمية الصّدر فعلية العجز ، نحو «زيد يقوم أبوه» كذا قالوا ، وينبغى أن يراد (١) عكس ذلك فى نحو «ظننت زيدا أبوه قائم» بناء على ما قدمنا.

وذات الوجه نحو «زيد أبوه قائم» ومثله على ما قدمنا نحو «ظننت زيدا يقوم أبوه».

الجمل التى لا محل لها من الإعراب

وهى سبع ، وبدأنا بها لأنها لم تحلّ محلّ المفرد ، وذلك هو الأصل فى الجمل.

فالأولى : الابتدائية ، وتسمى أيضا المستأنفة ، وهو أوضح ، لأن الجملة الابتدائية تطلق أيضا على الجملة المصدّرة بالمبتدأ ، ولو كان لها محل ، ثم الجمل المستأنفة نوعان :

أحدهما : الجملة المفتتح بها النطق ، كقولك ابتداء «زيد قائم» ومنه الجمل المفتتح بها السّور.

والثانى : الجملة المنقطعة عما قبلها نحو «مات فلان ، رحمه‌الله» وقوله تعالى (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) ومنه جملة العامل الملغى لتأخره نحو «زيد قائم أظن» فأما العامل الملغى لتوسّطه نحو «زيد أظن قائم» فجملته أيضا لا محل لها ، إلا أنها من باب جمل الاعتراض.

__________________

(١) فى عدة نسخ «يزاد» بالزاى ، وهى صحيحة ، والمقصود واحد.

٤٦

ويخص البيانيون الاستئناف بما كان جوابا لسؤال مقدر نحو قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) فإن جملة القول الثانية جواب لسؤال مقدر تقديره : فماذا قال لهم؟ ولهذا فصلت عن الأولى فلم تعطف عليها ، وفى قوله تعالى (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) جملتان حذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية ، إذ التقدير سلام عليكم ، أنتم قوم منكرون ، ومثله فى استئناف جملة القول الثانية (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) وقد استؤنفت جملتا القول فى قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) ومن الاستئناف البيانى أيضا قوله :

٦١٥ ـ زعم العواذل أنّنى فى غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتى لا تنجلى

فإن قوله «صدقوا» جواب لسؤال [مقدر] تقديره : أصدقوا أم كذبوا؟ ومثله قوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) فيمن فتح باء (يُسَبِّحُ)

تنبيهات ـ الأول : من الاستئناف ما قد يخفى ، وله أمثلة كثيرة.

أحدها : (لا يَسَّمَّعُونَ) من قوله تعالى (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) فإن الذى يتبادر إلى الذهن أنه صفة لكل شيطان أو حال منه ، وكلاهما باطل ، إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسّمّع ، وإنما هى للاستئناف النحوى ، ولا يكون استئنافا بيانيا لفساد المعنى أيضا ، وقيل : يحتمل أن الأصل «لئلا يسمعوا» ثم حذفت اللام كما فى «جئتك أن تكرمنى» ثم حذفت أن فارتفع الفعل كما فى قوله :

٦١٦ ـ ألا أيّهذا الزّاجرى أحضر الوغى

[وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدى] [ص٦٤١]

فيمن رفع «أحضر» واستضعف الزمخشرى الجمع بين الحذفين.

٤٧

فإن قلت : اجعلها حالا مقدرة ، أى وحفظا من كل شيطان مارد مقدّرا عدم سماعه ، أى بعد الحفظ.

قلت : الذى يقدّر وجود معنى الحال هو صاحبها ، كالممرور به فى قولك «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» أى مقدرا حال المرور به أن يصيد به غدا ، والشياطين لا يقدرون عدم السماع ولا يريدونه.

الثانى : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) بعد قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فإنه [ربما [يتبادر إلى الذهن أنه محكى بالقول ، وليس كذلك ، لأن ذلك ليس مقولا لهم.

الثالث : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) بعد قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وهى كالتى قبلها ، وفى جمال القراء للسخاوى أن الوقف على قولهم فى الآيتين واجب ، والصواب أنه ليس فى جميع القرآن وقف واجب.

الرابع : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) لأن إعادة الخلق لم تقع بعد فيقرروا برؤيتها ، ويؤيد الاستئناف فيه قوله تعالى على عقب ذلك (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ).

الخامس : زعم أبو حاتم أن من ذلك (تُثِيرُ الْأَرْضَ) فقال : الوقف على (ذَلُولٌ) جيد ، ثم يبتدىء (تُثِيرُ الْأَرْضَ) على الاستئناف ، وردّه أبو البقاء بأن (وَلا) إنما تعطف على النفى ، وبأنها لو أثارت الأرض كانت ذلولا. ويردّ اعتراضه الأول صحة «مررت برجل يصلى ولا يلتفت» والثانى أن أبا حاتم زعم أن ذلك من عجائب هذه البقرة ، وإنما وجه الرد أن الخبر لم يأت بأن ذلك من عجائبها ، وبأنهم إنما كلفوا بأمر موجود ، لا بأمر خارق للعادة ، وبأنه كان يجب تكرار «لا» فى «ذلول» إذ لا يقال «مررت برجل لا شاعر» حتى تقول «ولا كاتب» لا يقال قد تكررت بقوله تعالى (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) لأن ذلك واقع بعد الاستئناف على زعمه.

التنبيه الثانى : قد يحتمل اللفظ الاستئناف وغيره ، وهو نوعان :

٤٨

أحدهما : ما إذا حمل على الاستئناف احتيج إلى تقدير جزء يكون معه كلاما نحو «زيد» من قولك «نعم الرجل زيد».

والثانى : ما لا يحتاج فيه إلى ذلك ، لكونه جملة تامة ، وذلك كثير جدا نحو الجملة المنفية وما بعدها فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) قال الزمخشرى : الأحسن والأبلغ أن تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة من دون المسلمين ، ويجوز أن يكون لا يألونكم وقد بدت صفتين ، أى بطانة غير ما نعتكم فسادا بادية بغضاؤهم. ومنع الواحدىّ هذا الوجه ، لعدم حرف العطف بين الجملتين ، وزعم أنه لا يقال «لا تتخذ صاحبا يؤذيك أحب مفارقتك» والذى يظهر أن الصفة تتعدد بغير عاطف وإن كانت جملة كما فى الخبر نحو (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وحصل للامام فخر الدين فى تفسير هذه الآية سهو ، فإنه سأل ما الحكمة فى تقديم «من دونكم» على «بطانة» وأجاب بأن محطّ النهى هو «من دونكم» لا بطانة ، فلذلك قدم الأهم ، وليست التلاوة كما ذكر ، ونظير هذا أن أبا حيان فسر فى سورة الأنبياء كلمة (زُبُراً) بعد قوله تعالى. (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) وإنما هى فى سورة المؤمنين ، وترك تفسيرها هناك ، وتبعه على هذا السهو رجلان لخصا من تفسيره إعرابا.

التنبيه الثالث : من الجمل ما جرى فيه خلاف ، هل هو مستأنف أم لا؟ وله أمثلة :

أحدها : «أقوم» من نحو قولك «إن قام زيد أقوم» وذلك لأن المبرد يرى أنه على إضمار الفاء ، وسيبويه يرى أنه مؤخر من تقديم ، وأن الأصل أقوم إن قام زيد ، وأن جواب الشرط محذوف ، ويؤيده التزامهم فى مثل ذلك كون الشرط ماضيا.

٤٩

وينبنى على هذا مسألتان :

إحداهما : أنه هل يجور «زيدا إن أتانى أكرمه» بنصب زيدا؟ فسيبويه يجيزه كما يجيز «زيدا أكرمه إن أتانى» والقياس أن المبرد يمنعه ، لأنه فى سياق أداة الشرط فلا يعمل فيما تقدم على الشرط ، فلا يفسر عاملا فيه.

والثانية : أنه إذا جىء بعد هذا الفعل المرفوع بفعل معطوف ، هل يجزم أم لا؟ فعلى قول سيبويه لا يجوز الجزم ، وعلى قول المبرد ينبغى أن يجوز الرفع بالعطف على لفظ الفعل والجزم بالعطف على محل (١) الفاء المقدرة وما بعدها.

الثانى (٢) : مذ ومنذ وما بعدهما فى نحو «ما رأيته مذ يومان» فقال السيرافى : فى موضع نصب على الحال ، وليس بشىء ، لعدم الرابط ، وقال الجمهور : مستأنفة جوابا لسؤال تقديره عند من قدّر مذ مبتدأ : ما أمد ذلك ، وعند من قدرها خبرا : ما بينك وبين لقائه.

الثالث : جملة أفعال الاستثناء ليس ولا يكون وخلا وعدا وحاشا ، فقال السيرافى : حال ، إذ المعنى قام القوم خالين عن زيد ، وجوز الاستئناف ، وأوجبه ابن عصفور ، فإن قلت «جاءنى رجال ليسوا زيدا» فالجملة صفة ، ولا يمتنع عندى أن يقال «جاءنى ليسوا زيدا» على الحال.

الرابع : الجملة بعد حتى الابتدائية كقوله :

*حتّى ماء دجلة أشكل* [١٩٥]

فقال الجمهور : مستأنفة ، وعن الزجاج وابن درستويه أنها فى موضع جر بحتى ، وقد تقدم.

الجملة الثانية : المعترضة بين شيئين لإفادة الكلام تقوية وتسديدا أو تحسينا ، وقد وقعت فى مواضع.

__________________

(١) التحقيق أن المحل للجملة التى بعد الفاء ، وليس للفاء مدخل فى ذلك.

(٢) الثانى من أمثلة الجملة التى اختلف فى كونها مستأنفة.

٥٠

أحدها : بين الفعل ومرفوعه كقوله :

٦١٧ ـ شجاك أظنّ ربع الظّاعنينا

[ولم تعبأ بعذل العاذلينا]

ويروى بنصب ربع على أنه مفعول أول ، و «شجاك» مفعوله الثانى ، وفيه ضمير مستتر راجع إليه ، وقوله :

٦١٨ ـ وقد أدركتنى والحوادث جمّة

أسنّة قوم لا ضعاف ولا عزل

وهو الظاهر فى قوله :

ألم يأتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بنى زياد [١٥٤]

على أن الباء زائدة فى الفاعل ، ويحتمل أنّ يأتى وتنمى تنازعا ما فأعمل الثانى وأضمر الفاعل فى الأول ؛ فلا اعتراض ولا زيادة ، ولكنّ المعنى على الأول أوجه ؛ إذ الأنباء من شأنها أن تنمى بهذا وبغيره

الثانى : بينه وبين مفعوله كقوله :

٦٢٩ ـ وبدّلت والدّهر ذو تبدّل

هيفا دبورا بالصّبا والشّمأل

والثالث : بين المبتدأ وخبره كقوله :

٦٢٠ ـ وفيهنّ والأيّام يعثرن بالفتى

نوادب لا يمسللنه ونوائح

ومنه الاعتراض بجملة الفعل الملغى فى نحو «زيد أظنّ قائم» وبجملة الاختصاص فى نحو قوله عليه الصلاة والسّلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وقول الشاعر

٦٢١ ـ نحن بنات طارق

نمشى على النّمارق

وأما الاعتراض بكان الزائدة فى نحو قوله «أو نبىّ كان موسى» فالصحيح أنها لا فاعل لها ، فلا جملة.

٥١

والرابع : بين ما أصله المبتدأ والخبر كقوله :

٦٢٢ ـ وإنّى لرام نظرة قبل الّتى

لعلّى ـ وإن شطّت نواها ـ أزورها

[ص ٣٩١ و ٥٨٥]

وذلك على تقدير أزورها خبر لعل ، وتقدير الصلة محذوفة ، أى التى أقول لعلى ، وكقوله :

٦٢٣ ـ لعلّك والموعود حقّ لقاؤه

بدا لك فى تلك القلوص بداء

وقوله :

٦٢٤ ـ يا ليت شعرى والمنى لا تنفع

هل أغدون يوما وأمرى مجمع

إذا قيل بأن جملة الاستفهام خبر على تأويل شعرى بمشعورى ، لتكون الجملة نفس المبتدأ فلا تحتاج إلى رابط ، وأما إذا قيل بأن الخبر محذوف أى موجود ، أو إن ليت لا خبر لها ههنا إذ المعنى ليتنى أشعر ، فالاعتراض بين الشعر ومعموله الذى علق عنه بالاستفهام ، وقول الحماسى :

٦٢٥ ـ إنّ الثّمانين وبلغتها

قد أحوجت سمعى إلى ترجمان

[ص ٣٩٦]

وقول ابن هرمة :

٦٢٦ ـ إنّ سليمى والله بكلؤها

ضنّت بشىء ما كان يرزؤها [ص ٣٩٦]

وقول رؤية :

٦٢٧ ـ إنّى وأسطار سطرن سطرا

لقائل يا نصر نصر نصرا

[ص ٣٩٦ و ٤٥٧]

٥٢

وقول كثير :

٣٢٨ ـ وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما

تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت

لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلما

تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت

قال أبو على : تهيامى بعزة جملة معترضة بين اسم إن وخبرها ، وقال أبو الفتح : يجوز أن تكون الواو للقسم كقولك «إنّى وحبّك لضنين بك» فتكون الباء متعلقة بالتّهيام لا بخبر محذوف.

الخامس : بين الشرط وجوابه ، نحو (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ونحو (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) ونحو (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) قاله جماعة منهم ابن مالك ، والظاهر أن الجواب (فَاللهُ أَوْلى بِهِما (١)) ولا يردّ ذلك تثنية الضمير كما توهموا لأن أو هنا للتنويع ، وحكمها حكم الواو فى وجوب المطابقة ، نص عليه الأبدى ، وهو الحق ، أما قول ابن عصفور إن تثنية الضمير فى الآية شاذة فباطل كبطلان قوله مثل ذلك فى إفراد الضمير فى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وفى ذلك ثلاثة أوجه :

أحدها : أن (أَحَقُّ) خبر عنهما ؛ وسهّل إفراد الضمير أمران : معنوى وهو أن إرضاء الله سبحانه إرضاء لرسوله عليه الصلاة والسّلام ، وبالعكس (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ولفظى وهو تقديم إفراد أحق ، ووجه ذلك أن اسم التفضيل المجرد من أل والإضافة واجب الإفراد نحو (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ) (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) إلى قوله (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ).

__________________

(١) التحقيق أن الجواب محذوف ، والتقدير : إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تكتموا الشهادة رأفة به لأن الله أولى ـ إلخ.

٥٣

والثانى : أن (أَحَقُّ) خبر عن اسم الله سبحانه ، وحذف مثله خبرا عن اسمه عليه الصلاة والسّلام ، أو بالعكس.

والثالث : أن (أَنْ يُرْضُوهُ) ليس فى موضع جر أو نصب بتقدير بأن يرضوه ، بل فى موضع رفع بدلا عن أحد الاسمين ، وحذف من الآخر مثل ذلك ، والمعنى وإرضاء الله وإرضاء رسوله أحقّ من إرضاء غيرهما.

والسادس : بين القسم وجوابه كقوله :

٣٢٩ ـ لعمرى وما عمرى علىّ بهيّن

لقد نطقت بطلا علىّ الأقارع

وقوله تعالى : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ) الأصل أقسم بالحق لأملأن وأقول الحق ، فانتصب الحق الأول ـ بعد إسقاط الخافض ـ بأقسم محذوفا ، والحق الثانى بأقول ، واعترض بجملة «أفول الحق» وقدم معمولها للاختصاص ، وقرىء برفعهما بتقدير فالحقّ قسمى والحقّ أقوله ، وبجرهما على تقدير واو القسم فى الأول والثانى توكيدا كقولك «والله والله لأفعلنّ» ، وقال الزمخشرى : جر الثانى على أن المعنى وأقول والحق ، أى هذا اللفظ ، فأعمل القول فى لفظ واو القسم مع مجرورها على سبيل الحكاية ، قال : وهو وجه حسن دقيق جائز فى الرفع والنصب ، اه. وقرىء برفع الأول ونصب الثانى ، قيل : أى فالحق قسمى أو فالحق منى أو فالحق أنا ، والأول أولى ، ومن ذلك قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) الآية.

والسابع : بين الموصوف وصفته كالآية فإن فيها اعتراضين : اعتراضا بين الموصوف وهو (قسم) وصفته وهو (عَظِيمٌ) بجملة (لَوْ تَعْلَمُونَ) ، واعتراضا بين (أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) وجوابه وهو (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) بالكلام الذى بينهما ، وأما قول ابن عطية ليس فيها إلا اعتراض واحد وهو (لَوْ تَعْلَمُونَ) لأن (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) توكيد لا اعتراض

٥٤

فمردود ؛ لأن التوكيد والاعتراض لا يتنافيان ، وقد مضى ذلك فى حد جملة الاعتراض.

والثامن : بين الموصول وصلته كقوله :

٦٣٠ ـ ذاك الذى وأبيك يعرف مالكا

[والحقّ يدمغ ترّهات الباطل]

ويحتمله قوله :

وإنّى لرام نظرة قبل الّتى

لعلّى وإن شطّت نواها أزورها [٦٢٢]

وذلك على أن تقدر الصلة «أزورها» وتقدر خبر لعل محذوفا ، أى لعلى أفعل ذلك.

والتاسع : بين أجزاء الصلة نحو (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) الآيات ؛ فإن جملة (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) معطوفة على (كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) فهى من الصلة ، وما بينهما اعتراض بيّن به قدر جزائهم ، وجملة (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) خبر ، قاله ابن عصفور ، وهو بعيد ؛ لأن الظاهر أن (تَرْهَقُهُمْ) لم يؤت به لتعريف الذين فيعطف على صلته ، بل جىء به للاعلام بما يصيبهم جزاء على كسهم السيئات ، ثم إنه ليس بمتعين ؛ لجواز أن يكون الخبر (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) فلا يكون فى الآية اعتراض ، ويجوز أن يكون الخبر جملة النفى كما ذكر ، وما قبلها جملتان معترضتان ، وأن يكون الخبر (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) فالاعتراض بثلاث جمل ، أو (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) فالاعتراض بأربع جمل ، ويحتمل ـ وهو الأظهر ـ أن (الَّذِينَ) ليس مبتدأ ، بل معطوف على الذين الأولى ، أى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ؛ فمثلها هنا فى مقابلة الزيادة هناك ، ونظيرها فى المعنى قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى

٥٥

الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وفى اللفظ قولهم «فى الدّار زيد والحجرة عمرو» وذلك من العطف على معمولى عاملين مختلفين عند الأخفش ، وعلى إضمار الجار عند سيبويه والمحققين ، ومما يرجح هذا الوجه أن الظاهر أن الباء فى (بِمِثْلِها) متعلقه بالجزاء ؛ فإذا كان جزاء سيئة مبتدأ احتيج إلى تقدير الخبر ، أى واقع ، قاله أبو البقاء ، أو لهم ، قاله الحوفى ، وهو أحسن ؛ لإغنائه عن تقدير رابط بين هذه الجملة ومبتدئها وهو (الَّذِينَ) وعلى ما اخترناه يكون جزاء عطفا على الحسنى ؛ فلا يحتاج إلى تقدير آخر ، وأما قول أبى الحسن وابن كيسان إن بمثلها هو الخبر ، وإن الباء زيدت فى الخبر كما زيدت فى المبتدأ فى «بحسبك درهم» فمردود عند الجمهور ، وقد يؤنس قولهما بقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).

والعاشر : بين المتضايفين كقولهم «هذا غلام والله زيد» و «لا أخا فاعلم لزيد» وقيل : الأخ هو الاسم والظرف الخبر ، وإن الأخ حينئذ جاء على لغة القصر ، كقوله «مكره أخاك لا بطل» فهو كقولهم «لا عصا لك».

الحادى عشر : بين الجار والمجرور كقوله «اشتريته بأرى ألف درهم».

الثانى عشر : بين الحرف الناسخ وما دخل عليه كقوله :

٦٣١ ـ كأنّ وقد أتى حول كميل

أثافيها حمامات مثول

كذا قال قوم ، ويمكن أن تكون هذه الجملة حالية تقدمت على صاحبها ، وهو اسم كأن ، على حد الحال فى قوله :

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالى [٣٦٥]

الثالث عشر : بين الحرف وتوكيده كقوله :

٥٦

٦٣٢ ـ لبت وهل ينفع شيئا ليت

ليت شبابا بوع فاشتريت

الرابع عشر : بين حرف التنفيس والفعل كقوله :

وما أدرى وسوف إخال أدرى

أقوم آل حصن أم نساء [٥١]

وهذا الاعتراض فى أثناء اعتراض آخر ، فإن سوف وما يعدها اعتراض بين أدرى وجملة الاستفهام.

الخامس عشر : بين قد والفعل كقوله :

*أخالد قد والله أوطأت عشوة* [٢٨٤]

السادس عشر : بين حرف النفى ومنفيه كقوله :

٦٣٣ ـ ولا أراها تزال ظالمة

[تحدث لى نكبة وتنكؤها]

وقوله :

٦٣٤ ـ فلا وأبى دهماء زالت عزيزة

[على قومها مادام للزّند قادح]

السابع عشر : بين جملتين مستقلتين نحو (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ، نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) فإن (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) تفسير لقوله تعالى (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أى أن المأتىّ الذى أمركم الله به هو مكان الحرث ، ودلالة على أن الغرض الأصلى فى الإتيان طلب النسل لا محض الشّهوة ، وقد تضمنت هذه الآية الاعتراض بأكثر من جملة ، ومثلها فى ذلك قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) وقوله تعالى (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) فيمن قرأ بسكون تاء (وَضَعَتْ) إذ الجملتان المصدّرتان بإنى من قولها عليها‌السلام ، وما بينها اعتراض ، والمعنى : وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التى وهبت لها ، وقال الزمخشرى :

٥٧

هنا جملتان معترضتان كقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) انتهى ، وفى التنظير نظر ، لأن الذى فى الآية الثانية اعتراضان كل منهما بجملة لا اعتراض واحد بجملتين.

وقد يعترض بأكثر من جملتين كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) إن قدّر (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بيانا للذين أوتوا وتخصيصا لهم إذا كان اللفظ عاما فى اليهود والنصارى والمراد اليهود ، أو بيانا لأعدائكم ، والمعترض به على هذا التقدير جملتان ، وعلى التقدير الأول ثلاث جمل ، وهى والله أعلم وكفى بالله مرتين ، وأما يشترون ويريدون فجملتا تفسير لمقدر ، إذ المعنى ألم تر إلى قصة الذى أوتوا ، وإن علقت من بنصيرا مثل (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) أو بخبر محذوف على أن (يُحَرِّفُونَ) صفة لمبتدأ محذوف ، أى قوم يحرفون كقولهم «منّا ظعن ومنّا أقام» أى منا فريق فلا اعتراض البتة ، وقد مر أن الزمخشرىّ أجاز فى سورة الأعراف الاعتراض بسبع جمل على ما ذكر ابن مالك.

وزعم أبو على أنه لا يعترض بأكثر من جملة ، وذلك لأنه قال فى قول الشاعر :

٦٣٥ ـ أرانى ولا كفران لله أيّة

لنفسى قد طالبت غير منيل

إن أية وهى مصدر «أويت له» إذا رحمته ورفقت به لا ينتصب بأويت محذوفة ، لئلا يلزم الاعتراض بجملتين ، قال : وإنما انتصابه باسم «لا» أى ولا أكفر الله رحمة منى لنفسى ، ولزمه من هذا ترك تنوين الاسم المطول ، وهو قول البغداديين أجازوا «لا طالع جبلا» أجروه فى ذلك مجرى المضاف كما أجرى مجراه فى الإعراب ، وعلى قولهم يتخرج الحديث «لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما

٥٨

منعت» وأما على قول البصريين فيجب تنوينه ، ولكن الرواية إنما جاءت بغير تنوين.

وقد اعترض ابن مالك قول أبى على بقوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) وبغول زهير :

٦٣٦ ـ لعمرى والخطوب مغيّرات

وفى طول المعاشرة التّقالى

لقد باليت مظعن أم أوفى

ولكن أمّ أوفى لا تبالى

وقد يجاب عن الآية بأن جملة الأمر دليل الجواب عند الأكثرين ونفسه عند قوم : فهى مع جملة الشرط كالجملة الواحدة ، وبأنه يجب أن يقدر للباء متعلق محذوف ، أى أرسلناهم بالبينات ، لأنه لا يستثنى بأداة واحدة شيئان ، ولا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى نحو «ما قام إلا زيد» أو مستثنى منه نحو «ما قام إلا زيدا أحد» أو تابعا له نحو «ما قام أحد إلا زيدا فاضل».

مسألة ـ كثيرا ما تشتبه المعترضة بالحالية ، ويميزها منها أمور :

أحدها : أنها تكون غير خبرية كالأمريّة فى (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ، أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) كذا مثل ابن مالك وغيره ، بناء على أنّ (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) متعلق بتؤمنوا ، وأن المعنى ولا تظهروا تصديقكم بأن أحدا يؤتى من كتب الله مثل ما أوتيتم ، وبأن ذلك الأحد يحاجّونكم عند الله يوم القيامة بالحق فيغلبونكم ، إلا لأهل دينكم لأن ذلك لا يغير اعتقادهم بخلاف المسلمين ، فإن ذلك يزيدهم ثباتا ، وبخلاف المشركين ، فإن ذلك يدعوهم إلى الإسلام ، ومعنى الاعتراض حينئذ أن الهدى بيد الله ، فإذا قدّره لأحد لم يضره مكرهم.

٥٩

والآية محتملة لغير ذلك ، وهى أن يكون الكلام قد تم عند الاستثناء ، والمراد ولا تظهروا الإيمان الكاذب الذى توقعونه وجه النهار وتنقضونه آخره إلا لمن كان منكم كعبد الله بن سلام ثم أسلم ، وذلك لأن إسلامهم كان أغيظ لهم ورجوعهم إلى الكفر كان عندهم أقرب ، وعلى هذا فـ (أَنْ يُؤْتى) من كلام الله تعالى ، وهو متعلق بمحذوف مؤخر ، أى لكراهية أن يؤتى أحد دبّرتم هذا الكيد ، وهذا الوجه أرجح لوجهين :

أحدهما : أنه الموافق لقراءة ابن كثير (أأن يؤتى) بهمزتين ، أى لكراهية أن يؤتى قلتم ذلك.

والثانى : أنّ فى الوجه الأول عمل ما قبل إلا فيما بعدها ، مع أنه ليس من المسائل الثلاث المذكورة آنفا.

وكالدّعائية فى قوله :

إنّ الثّمانين وبلّغتها

قد أحوجت سمعى إلى ترجمان [٦٢٥]

وقوله :

إنّ سليمى والله يكلؤها

ضنّت بشىء ما كان يرزؤها [٦٢٦]

وكالقسميّة فى قوله :

*إنّى وأسطار سطرن سطرا* [٦٢٧] البيت [ص ٤٥٧]

وكالتنزيهية فى قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ، سُبْحانَهُ ، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) كذا مثل بعضهم.

وكالاستفهامية فى قوله تعالى (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا) كذا مثل ابن مالك.

٦٠