مغنى اللبيب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

السابعة : العطف بولا بعد الإيجاب فى نحو :

٩٠٩ ـ [فما سوّدتنى عامر عن وراثة]

أبى الله أن اسمو بأمّ ولا أب

لما كان معناه قال الله لى : لا تسم بأم ولا أب.

الثامنة : زيادة لا فى قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) قال ابن السيد : المانع من الشىء آمر للممنوع أن لا يفعل ، فكأنه قيل : ما الذى قال لك لا تسجد ، والأقرب عندى أن يقدر فى الأول لم يرد الله لى ، وفى الثانى ما الذى أمرك ، يوضّحه فى هذا أن الناهية لا نصاحب الناصبة ، بخلاف النافية.

التاسعة : تعدّى رضى بعلى فى قوله :

إذا رضيت علىّ بنو قشيّر

[لعمر الله أعجبنى رضاها] [٢٢٣]

لما كان رضى عنه بمعنى أقبل عليه بوجه ودّه ، وقال الكسائى : إنما جاز هذا حملا على نقيضه وهو سخط.

العاشرة : رفع المستثنى على إبداله من الموجب فى قراءة بعضهم (فشربوا منه إلا قليل) لما كان معناه فلم يكونوا منه ، بدليل (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) وقيل : إلا وما بعدها صفة ، فقيل : إن الضمير يوصف فى هذا الباب ، وقيل : مرادهم بالصفة عطف البيان ، وهذا لا يخلص من الاعتراض إن كان لازما ؛ لأن عطف البيان كالنعت فلا يتبع الضمير ، وقيل : قليل مبتدأ حذف خبره ، أى لم يشربوا.

الحادية عشرة : تذكير الإشارة فى قوله تعالى (فَذانِكَ بُرْهانانِ) مع أن المشار إليه اليد والعصا وهما مؤنثان ، ولكن المبتدأ عين الخبر فى المعنى والبرهان مذكر ، ومثله (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) فيمن نصب الفتنة وأنّث الفعل.

الثانية عشرة : قولهم «علمت زيد من هو» برفع زيد جوازا ؛ لأنه نفس من فى المعنى.

٣٤١

الثالثة عشرة : قولهم «إنّ أحدا لا يقول ذلك» فأوقع أحدا فى الإثبات لأنه نفس الضمير المستتر فى يقول ، والضمير فى سياق النفى فكان أحد كذلك ، وقال :

فى ليلة لا ترى بها أحدا

يحكى علينا إلّا كواكبها [٢٢٤]

فرفع كواكبها بدلا من ضمير يحكى ؛ لأنه راجع إلى «أحدا» ، وهو واقع فى سياق غير الإيجاب ؛ فكان الضمير كذلك.

وهذا الباب واسع ، ولقد حكى أبو عمرو بن العلاء أنه سمع شخصا من أهل اليمن يقول : فلان لغوب أتته كتابى فاحتقرها ، فقال له : كيف قلت أتته كتابى؟ فقال : أليس الكتاب فى معنى الصحيفة؟.

وقال أبو عبيدة لرؤبة بن العجاج لما أنشد :

٩١٠ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه فى الجلد توليع البهق

إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، أو السواد والبلق فقل : كأنهما ، فقال : أردت ذلك ويلك.

وقالوا «مررت برجل أبى عشرة نفسه ، وبقوم عرب كلّهم ، وبقاع عرفج كلّه» برفع التوكيد فيهنّ ، فرفعوا الفاعل بالأسماء الجامدة ، وأكدوه لما لحظوا فيها المعنى ؛ إذ كان العرب بمعنى الفصحاء ، والعرفح بمعنى الخشن ، والأب بمعنى الولد.

تنبيهان ـ الأول : أنه وقع فى كلامهم أبلغ مما ذكرنا من تنزيلهم لفظا موجودا منزلة لفظ آخر لكونه بمعناه ، وهو تنزيلهم اللفظ [المعدوم] الصالح للوجود بمنزلة الموجود كما فى قوله :

بدالى أنّى لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا [١٣٥]

وقد مضى ذلك.

٣٤٢

والثانى : أنه ليس بلازم أن يعطى الشىء حكم ما هو فى معناه ، ألا ترى أن المصدر قد لا يعطى حكم أنّ أو أن وصلتهما ، وبالعكس ، دليل الأول أنهم لم يعطوه حكمهما فى جواز حذف الجار ، ولا فى سدّهما مسدّ جزءى الإسناد ، ثم إنهم شركوا بين أنّ وأن فى هذه المسألة فى باب ظن ، وخصّوا أن الخفيفة وصلتها بسدها مسدهما فى باب عسى ، وخصوا الشديدة بذلك فى باب لو ، ودليل الثانى أنهما لا يعطيان حكمه فى النيابة عن ظرف الزمان ، تقول : عجبت من قيامك ، وعجبت أن تقوم ، وأنك قائم ، ولا يجوز : عجبت قيامك ، وشذ قوله :

٩١١ ـ فإيّاك إيّاك المراء فإنّه

إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب

فأجرى المصدر مجرى أن يفعل فى حذف الجار ، وتقول «حسبت أنه قائم ، أو أن قام» ولا تقول «حسبت قيامك» حتى تذكر الخبر ، وتقول «عسى أن تقوم» ويمتنع : عسى أنك قائم ، ومثلها فى ذلك لعل ، وتقول : لو أنّك تقوم ، ولا تقول لو أن تقوم ، وتقول : جئتك صلاة العصر ، ولا يجوز «جئتك أن تصلى العصر» خلافا لابن جنى والزمخشرى.

والثانى ـ وهو ما أعطى حكم الشىء المشبه له فى لفظه دون معناه ـ له صور كثيرة أيضا :

أحدها : زيادة إن بعد ما المصدرية الظرفية ؛ وبعد ما التى بمعنى الذى ؛ لأنهما بلفظ ما النافية كقوله :

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد [٢٧]

وقوله :

يرجّى المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب [٢٦]

فهذان محمولان على نحو قوله :

٩١٢ ـ ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

كاليوم هانىء أينق جرب

٣٤٣

الثانية : دخول لام الابتداء على ما النافية ، حملا لها فى اللفظ على ما الموصولة الواقعة مبتدأ ، كقوله :

٩١٣ ـ لما أغفلت شكرك فاصطنعنى

فكيف ومن عطائك جلّ مالى؟

فهذا محمول فى اللفظ على نحو قولك «لما تصنعه حسن».

الثالثة : توكيد المضارع بالنون بعد لا النافية حملا لها فى اللفظ على لا الناهية نحو (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) ونحو (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فهذا محمول فى اللفظ على نحو (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) ومن أوّلها على النهى لم يحتج إلى هذا.

الرابعة : حذف الفاعل فى نحو قوله تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) لما كان «أحسن بزيد» مشبها فى اللفظ لقولك «امرر بزيد».

الخامسة : دخول لام الابتداء بعد إنّ التى بمعنى نعم ، لشبهها فى اللفظ بإنّ المؤكدة ، قاله بعضهم فى قراءة من قرأ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) وقد مضى البحث فيها.

السادسة : قولهم «الّلهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة» بضم أية ورفع صفتها كما يقال «يا أيّتها العصابة» وإنما [كان] حقهما وجوب النصب كقولهم «نحن العرب أقرى النّاس للضّيف» ولكنها لما كانت فى اللفظ بمنزلة المستعملة فى النداء أعطيت حكمها وإن انتفى موجب البناء ، وأما «نحن العرب» فى المثال فإنه لا يكون منادى ؛ لكونه بأل ، فأعطى الحكم الذى يستحقه فى نفسه ، وأما نحو «نحن معاشر الأنبياء لا ورث» فواجب النصب ، سواء اعتبر حاله أو حال ما يشبهه وهو المنادى.

السابعة : بناء باب حذام فى لغة الحجاز على الكسر ، تشبيها لها بدراك ونزال ، وذلك مشهور فى المعارف ، وربما جاء فى غيرها ، وعليه وجّه قوله :

٩١٤ ـ يا ليت حظّى من جداك الصّافى

والفضل أن تتركنى كفاف

٣٤٤

فالأصل كفافا ، فهو حال ، أو ترك كفاف ، فمصدر ، ومنه عند أبى حاتم قوله :

٩١٥ ـ جاءت لتصرعنى ، فقلت لها : اقصرى

إنّى امرؤ صرعى عليك حرام

وليس كذلك ؛ إذ ليس لفعله فاعل أو فاعلة ، فالأولى قول الفارسى إن أصله «حرامىّ» كقوله :

[أطربا وأنت قنّسرىّ]

والدّهر بالإنسان دوّارىّ [١٢]

ثم خفف ، ولو أقوى (١) لكان أولى ، وأما قوله :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين يقاء [٤١٣]

فعلة بنائه قطعه عن الإضافة ، ولكن علة كسره وكونه لم يسلك به فى الضم مسلك قبل وبعد شبهه بنزال.

الثامنة : بناء حاشا فى (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) لشبهها فى اللفظ بحاشا الحرفية ، والدليل على اسميتها قراءة بعضهم (حاشا) بالتنوين على إعرابها كما تقول «تنزيها لله» وإنما قلنا إنها ليست حرفا لدخولها على الحرف ، ولا فعلا إذ ليس بعدها اسم منصوب بها ، وزعم بعضهم أنها فعل حذف مفعوله ، أى جانب يوسف المعصية لأجل الله وهذا التأويل لا يتأتى فى كل موضع ، يقال لك : أتفعل كذا؟ أو أفعلت كذا؟ فنقول «حاشا لله» فإنما هذه بمعنى تبرأت لله براءة من هذا الفعل ، ومن نوّنها أعربها على إلغاء هذا الشبه ، كما أن بنى تميم أعربوا باب حذام لذلك.

التاسعة : قول بعض الصحابة رضى الله تعالى عنهم «قصرنا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر ما كنّا قطّ وآمنه» فأوقع قطّ بعد ما المصدرية كما تقع بعد ما النافية.

العاشرة : إعطاء الحرف حكم مقاربه فى المخرج حتى أدغم فيه ، نحو (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) و (لَكَ قُصُوراً) وحتى اجتمعا رويّين كقوله :

__________________

(١) أقوى : أى خالف بين حركات الروى ؛ فرفع حرام لكونه خبر المبتدأ.

٣٤٥

٩١٦ ـ بنىّ إنّ البرّ شىء هيّن

المنطق الطّيّب والطّعيّم

وقول أبى جهل :

ما تنقم الحرب العوان منّى

بازل عامين حديث سنّى

*لمثل هذا ولدتنى أمّى* [٥٨]

وقول آخر :

٩١٧ ـ إذا ركبت فاجعلونى وسطا

إنّى كبير لا أطيق العنّدا (١)

ويسمى ذلك إكفاء.

والثالث ـ وهو ما أعطى حكم الشىء لمشابهته له لفظا ومعنى ـ نحو اسم التفضيل وأفعل فى التعجب ؛ فإنهم منعوا أفعل التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل فى التعجب وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة ، وأجازوا تصغير أفعل فى التعجب لشبهه بأفعل التفضيل فيما ذكرنا ، قال :

٩١٨ ـ يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا

[من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر]

ولم يسمع ذلك إلا فى أحسن وأملح ، ذكره الجوهرى ، ولكن النحويين مع هذا قاسوه ، ولم يحك ابن مالك اقتياسه إلا عن ابن كيسان ، وليس كذلك ، قال أبو بكر بن الأنبارى : ولا يقال إلا لمن صغر سنه.

القاعدة الثانية

أن الشىء يعطى حكم الشىء إذا جاوره كقول بعضهم «هذا جحر ضبّ خرب» بالجر ، والأكثر الرفع ، وقال :

__________________

(١) العند : جمع عاند ـ بوزن راكع وركع ـ وهو الذى يحيد عن الطريق.

٣٤٦

[كأنّ أبانا فى عرانين وبله]

كبير أناس فى بجاد مزمّل [٧٥٩]

وقيل به فى (وَحُورٌ عِينٌ) فيمن جرهما ، فإن العطف على (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) لا على (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) إذ ليس المعنى أن الولدان يطوفون عليهم بالحور ، وقيل : العطف على (جَنَّاتٍ) وكأنه قيل : المقربون فى جنات وفاكهة ولحم طير وحور ، وقيل : على (أكواب) باعتبار المعنى ؛ إذ معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ) ينعمون بأكواب ، وقيل فى (وَأَرْجُلَكُمْ) بالخفض : إنه عطف على (بِأَيْدِيكُمْ) لا على (رُؤُسَكُمْ) ؛ إذ الأرجل مغسولة لا ممسوحة ، ولكنه خفض لمجاورة (رُؤُسَكُمْ) والذى عليه المحققون أن خفض الجوار يكون فى النعت قليلا كما مثلنا ، وفى التوكيد نادرا كقوله :

٩١٩ ـ يا صاح بلّغ ذوى الزّوجات كلّهم

أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب

قال الفراء : أنشدنيه أبو الجراح بخفض كلهم ، فقلت له : هلا قلت كلّهم ـ يعنى بالنصب ـ فقال : هو خير من الذى (١) قلته أنا ، ثم استنشدته إياه ، فأنشدنيه بالخفض ، ولا يكون فى النسق ؛ لأن العاطف يمنع من التجاور ، وقال الزمخشرى : لما كانت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها كانت مظنة الإسراف المذموم شرعا ، فعطف (٢) على الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد فى صبّ الماء عليها ، وقيل (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فجىء بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة ؛ لأن المسح لم تضرب له غاية فى الشريعة ، انتهى.

تنبيه ـ أنكر السيرافى وابن جنى الخفض على الجوار ، وتأولا قولهم «خرب» بالجز على أنه صفة لضب.

__________________

(١) فى نسخة «مما قلته أنا».

(٢) فى نسخة «فعطفت».

٣٤٧

ثم قال السيرافى : الإصل خرب الجحر منه ، بتنوين خرب ورفع الجحر ، ثم حذف الضمير للعلم به ، وحوّل الإسناد إلى ضمير الضب ، وخفض الجحر كما تقول «مررت برجل حسن الوجه» بالإضافة ، والأصل حسن الوجه منه ، ثم أتى بضمير الجحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر.

وقال ابن جنى : الأصل خرب جحره ، ثم أنيب المضاف إليه عن المضاف فارتفع واستتر.

ويلزمهما استتار الضمير مع جريان الصفة على غير من هى له ، وذلك لا يجوز عند البصريين وإن أمن اللبس ، وقول السيرافى إن هذا مثل «مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين» مردود ؛ لأن ذلك إنما يجوز فى الوصف الثانى دون الأول على ما سيأتى.

ومن ذلك قولهم «هنأنى ومرأنى» والأصل أمرأنى ، وقولهم «هو رجس نجس» بكسر النون وسكون الجيم ، والأصل نجس بفتحة فكسرة ، كذا قالوا ، وإنما يتم هذا أن لو كانوا لا يقولون هذا نجس بفتحة فكسرة ، وحينئذ فيكون محل الاستشهاد إنما هو الالتزام للتناسب ، وأما إذا لم يلتزم فهذا جائز بدون تقدم رجس ؛ إذ يقال فعل بكسرة فسكون فى كل فعل بفتحة فكسرة ، نحو : كتف ولبن ونبق ، وقولهم «أخذه ما قدم وما حدث» بضم دال حدث ، وقراءة جماعة (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً) بصرف سلاسل ، وفى الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» والأصل موزورات بالواو لأنه من الوزر ، وقراءة أبى حبة (يُوقِنُونَ) بالهمزة ، وقوله :

٩٢٠ ـ أحبّ المؤقدين إلىّ مؤسى

وجعدة ؛ إذ أضاءهما الوقود

٣٤٨

بهمز «المؤقدين ومؤسى» على إعطاء الواو المجاورة للضمة حكم الواو المضمومة ، فهمزت كما قيل فى وجوه : أجوه : وفى وقّتت : أقّتت ، ومن ذلك قولهم فى صوّم : صيّم ، حملا على قولهم فى عصوّ عصىّ ، وكان أبو على ينشد فى مثل ذلك :

٩٢١ ـ *قد يؤخذ الجار بجرم الجار*

القاعدة الثالثة

قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه ، ويسمى ذلك تضمينا.

وفائدته : أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين ؛ قال الزمخشرى : ألا ترى كيف رجع معنى (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) إلى قولك : ولا تقتحم عيناك مجاوزين إلى غيرهم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أى ولا تضموها إليها آكلين ، اه.

ومن مثل ذلك أيضا قوله تعالى (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ضمن الرفث معنى الإفضاء ، فعدى بإلى مثل (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وإنما أصل الرفث أن يتعدى بالباء ، يقال : أرفث فلان بامرأته ، وقوله تعالى (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أى فلن تحرموه ، أى فلن تحرموا ثوابه ، ولهذا عدّى إلى اثنين لا إلى واحد ، وقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أى لا تنووا ، ولهذا عدى بنفسه لا بعلى ، وقوله تعالى (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أى لا يصغون. وقولهم «سمع الله لمن حمده» أى استجاب ، فعدى يسمع فى الأول بإلى وفى الثانى باللام ، وإنما أصله أن يتعدى بنفسه مثل (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) وقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أى يميز ، ولهذا عدى بمن لا بنفسه ، وقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أى يمتنعون من وطء نسائهم بالحلف ؛ فلهذا عدى بمن ، ولما خفى التضمين على بعضهم فى الآية ، ورأى أنه لا يقال «حلف من كذا» بل حلف عليه ـ قال : من متعلقة بمعنى للذين ، كما تقول لى منك مبرّة ، قال وأما قول الفقهاء «آلى من امرأته» فغلط أوقعهم فيه عدم فهم المتعلق فى الآية ، وقال أبو كبير الهذلى :

٣٤٩

٩٢٢ ـ حملت به فى ليلة مزءودة

كرها ، وعقد نطاقها لم يحلل

وقال قبله :

٩٢٣ ـ ممّن حملن به وهنّ عواقد

حبك النّطاق فشبّ غير مهبّل

مزءودة أى مذعورة ، ويروى بالجر صفة لليلة مثل (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) وبالنصب حالا من المرأة ، وليس بقوىّ ، مع أنه الحقيقة ؛ لأن ذكر الليلة حينئذ لا كبير فائدة فيه. والشاهد فيهما أنه ضمن حمل معنى علق ، ولو لا ذلك لعدى بنفسه مثل (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) ، وقال الفرزدق :

٩٢٤ ـ كيف ترانى قالبا مجنّى

قد قتل الله زيادا عنّى

أى صرفه عنى بالقتل.

وهو كثير ، قال أبو الفتح فى كتاب التمام : أحسب لو جمع ما جاء منه لجاء عنه كتاب يكون مئين أوراقا.

القاعدة الرابعة

أنهم يعلبون على الشىء ما لغيره ، لتناسب بينهما ، أو اختلاط.

فلهذا قالوا «الأبوين» فى الأب والأم ، ومنه (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) وفى الأب والخالة ، ومنه (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) و «المشرقين ، والمغربين» ومثله «الخافقان» فى المشرق والمغرب ، وإنما الخافق المغرب ، ثم إنما سمى خافقا مجازا ، وإنما هو مخفوق فيه ؛ و «القمرين» فى الشمس والقمر ؛ قال المتنبى :

٣٥٠

٩٢٥ ـ واستقبلت قمر السّماء بوجهها

فأرتنى القمرين فى وقت معا

أى الشمس وهو وجهها وقمر السماء. وقال التبريزى : يجوز أنه أراد قمرا وقمرا ؛ لأنه لا يجتمع قمران فى ليلة كما أنه لا تجتمع الشمس والقمر ، اه. وما ذكرناه أمدح ، و «القمران» فى العرف الشمس والقمر ؛ وقيل : إن منه قول الفرزدق :

٩٢٦ ـ أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطوالع

وقيل : إنما أراد محمدا والخليل عليهما الصلاة والسّلام ؛ لأن نسبه راجع إليهما بوجه ، وإن المراد بالنجوم الصحابة ، وقالوا «العمرين» فى أبى بكر وعمر ، وقيل : المراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ، فلا تغليب ، ويردّ بأنه قيل لعثمان رضى الله عنه : نسألك سيرة العمرين ؛ قال : نعم ؛ قال قتادة : أعتق العمران فمن بينهما من الخلفاء أمهات الأولاد ، وهذا المراد به عمر وعمر ؛ وقالوا «العجّاجين» فى رؤبة والعجاج ؛ و «المروتين» فى الصّفا والمروة.

ولأجل الأختلاط أطلقت من على ما لا يعقل فى نحو (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) فإن الاختلاط حاصل فى العموم السابق فى قوله تعالى (كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) وفى (مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) اختلاط آخر فى عبارة التفصيل ؛ فإنه يعم الإنسان والطائر ؛ واسم المخاطبين على الغائبين فى قوله تعالى (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأن «لعلّ» متعلقة بخلقكم لا باعبدوا ؛ وللذكرين على المؤنث حتى عدّت منهم فى (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) والملائكة على أبليس حتى استثنى منهم فى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قال الزمخشرى : والاستثناء متصل ؛ لأنه واحد

٣٥١

من بين أظهر الألوف من الملائكة ؛ فغلبوا عليه فى (فَسَجَدُوا) ثم استثنى منهم استثناء أحدهم ؛ ثم قال : ويجوز أن يكون منقطعا.

ومن التغليب (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بعد (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) فإنه عليه الصلاة والسّلام لم يكن فى ملتهم قط ؛ بخلاف الذين آمنوا معه ومثله (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام ؛ فغلب المخاطبون والعاقلون على الغائبين والأنعام ؛ ومعنى (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يبثكم ويكثركم فى هذا التدبير ؛ وهو أن جعل للناس وللأنعام أزواجا حتى حصل بينهم التوالد ؛ فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير ؛ فلذا جىء بفى دون الباء ؛ ونظيره (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وزعم جماعة أن منه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ونحو (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وإنما هذا من مراعاة المعنى ؛ الأول من مراعاة اللفظ.

القاعدة الخامسة

أنهم يعبرون بالفعل عن أمور :

. أحدها : وقوعه ؛ وهو الأصل.

والثانى : مشارفته ؛ نحو (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ) أى فشارفن انقضاء العدة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أى والذين يشارفون الموت وترك الأزواج يوصون وصية (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً) أى لو شارفوا أن يتركوا ، وقد مضت فى فصل لو ونظائرها ؛ ومما لم يتقدم ذكره قوله :

٩٢٧ ـ إلى ملك كاد الجبال لفقده

تزول ، وزال الرّاسيات من الصّخر

٣٥٢

الثالث : إرادته ؛ وأكثر ما يكون ذلك بعد أداة الشرط نحو (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا ـ الآية) (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) وفى الصحيح «إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل».

ومنه فى غيره (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أى فأردنا الإخراج (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) لأن ثم للترتيب ؛ ولا يمكن هنا مع الحمل على الظاهر ؛ فإذا حمل خلقنا وصورنا على إرادة الخلق والتصوير لم يشكل. وقيل : هما على حذف مضافين ؛ أى خلقنا أباكم ثم صورنا أباكم. ومثله (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) أى أردنا إهلاكها (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أى أراد الدنو من محمد عليه الصلاة والسّلام ، فتدلّى فتعلّق فى الهواء ، وهذا أولى من قول من ادعى لقلب فى هاتين الآيتين وأن التقدير : وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناه ، ثم تدلى فدنى ، وقال :

٩٢٨ ـ فارقنا قبل أن نفارقه

لمّا قضى من جماعنا وطرا

أى أراد فراقنا.

وفى كلامهم عكس هذا ؛ وهو التعبير بإرادة الفعل عن إيجاده ، نحو (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بدليل أنه قوبل بقوله سبحانه وتعالى (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ).

والرابع : القدرة عامه ، نحو (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أى قادرين على الإعادة ، وأصل ذلك أن الفعل يسبّب عن الإرادة والقدرة ، وهم يقيمون سبب

٣٥٣

مقام المسبب وبالعكس ؛ فالأول نحو (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أى ونعلم أخباركم ؛ لأن الابتلاء الاختبار ، وبالاختبار يحصل العلم ، وقوله تعالى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) الآية فى قراءة غير الكسائى يستطيع بالغبة وربك بالرفع ، معناه هل يفعل ربك ؛ فعبر عن الفعل بالاستطاعة لأنها شرطه ، أى هل ينزل علينا ربك مائدة إن دعوته. ومثله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أى لن نؤاخذه ، فعبر عن المؤاخذة بشرطها ، وهو القدرة عليها. وأما قراءة الكسائى (١) فتقديرها هل تستطيع سؤال ربك ، فحذف المضاف ، أو هل تطلب طاعة ربك فى إنزال المائدة أى استجابته ، ومن الثانى (فَاتَّقُوا النَّارَ) أى [فاتقوا] العناد الموجب للنار.

القاعدة السادسة

أنهم يعبرون عن الماضى والآتى كما يعبرون عن الشىء الحاضر قصدا لإحضاره فى الذهن حتى كأنه مشاهد حالة الإخبار ، نحو (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأن لام الابتداء للحال ، ونحو (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) إذ ليس المراد تقريب الرجلين من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما نقول : هذا كتابك فخذه ، وإنما الإشارة كانت إليهما فى ذلك الوقت هكذا فحكيت ، ومثله (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) قصد بقوله سبحانه وتعالى (فَتُثِيرُ) إحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب ، تبدو أولا قطعا ثم تتضامّ متقلبة بين أطوار حتى تصير ركاما. ومنه (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أى فكان (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) ومنه عند الجمهور (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أى يبسط ذراعيه ، بدليل (وَنُقَلِّبُهُمْ)

__________________

(١) قرأ الكسائى (هل تستطيع ربك) بتاء المضارعة وبنصب ربك.

٣٥٤

ولم يقل وقلبناهم ، وبهذا التقرير يندفع قول الكسائى وهشام : إن اسم الفاعل الذى بمعنى الماضى يعمل ، ومثله (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) إلا أن هذا على حكاية حال كانت مستقبلة وقت التدارؤ ، وفى الآية الأولى حكيت الحال الماضية ، ومثلها قوله :

٩٢٩ ـ جارية فى رمضان الماصى

تقطّع الحديث بالإيماض

ولو لا حكاية الحال فى قول حسان :

يغشون حتّى لا تهرّ كلابهم

[لا يسألون عن السّواد المقبل] [١٩٧]

لم يصح الرفع ؛ لأنه لا يرفع إلا وهو للحال ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) بالرفع.

القاعدة السابعة

أن اللفظ قد يكون على تقدير ، وذلك المقدّر على تقدير آخر ، نحو قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) فإن يفترى مؤول بالافتراء ، والافتراء مؤول بمفترى ، وقال :

٩٣٠ ـ لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى

ولكنّما الفتيان كلّ فتى ندى

وقالوا «عسى زيد أن يقوم» فقيل : هو على ذلك ، وقيل : على حذف مضاف ، أى عسى أمر زيد ، أو عسى زيد صاحب القيام ، وقيل : أن زائدة ، ويرده عدم صلاحيتها للسقوط فى الأكثر ، وأنها قد عملت ، والزائد لا يعمل ، خلافا لأبى الحسن ؛ وأما قول أبى الفتح فى بيت الحماسة :

٣٥٥

٩٣١ ـ حتّى يكون عزيزا فى نفوسهم

أو أن يبين جميعا وهو مختار

يجوز كون أن زائدة ؛ فلأن النصب هنا يكون بالعطف لا بأن ؛ وقيل فى (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) إن (لِما قالُوا) بمعنى القول ، والقول بتأويل المقول ، أى يعودون للمقول فيهن لفظ الظهار وهنّ الزوجات ، وقال أبو البقاء فى (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) : يجوز عند أبى على كون ما مصدرية ، والمصدر فى تأويل اسم المفعول ، اه. وهذا يقتضى أن غير أبى على لا يجيز ذلك. وقال السيرافى : إذا قيل : «قاموا ما خلا زيدا ، وما عدا زيدا» فما مصدرية ، وهى وصلتها حال ، وفيه معنى الاستثناء ، قال ابن مالك : فوقعت الحال معرفة لتأولها بالنكرة ، اه. والتأويل خالين عن زيد ، ومتجاوزين زيدا ، وأما قول ابن خروف والشلوبين «إن ما وصلتها نصب على الاستثناء» فغلط ؛ لأن معنى الاستثناء قائم بما بعدهما لابهما ، والمنصوب على معنى لا يليق ذلك المعنى بعيره.

القاعدة الثامنة

كثيرا ما يغتفر فى الثّوانى ما لا يغتفر فى الأوائل ؛ فمن ذلك «كلّ شاة وسخلتها بدرهم» و

٩٣٢ ـ *أىّ فتى هيجاء أنت وجارها*

و «ربّ رجل وأخيه» (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ) ولا يجوز : كل سخلتها ، ولا أى جارها ، ولا ربّ أخيه ، ولا يجوز «إن يقم زيد قام عمرو» فى الأصح ، إلا فى الشعر كقوله :

٩٣٣ ـ ان يسمعوا سبّة طاروا بها فرحا

عنّى ، وما يسمعوا من صالح دفنوا

٣٥٦

إذ لا تضاف كلّ وأىّ إلى معرفة مفردة ، كما أن اسم التفضيل كذلك ، ولا تجرّ ربّ إلا النكرات ، ولا يكون فى النثر فعل الشرط مضارعا والجواب ماضيا ، وقال الشاعر :

٩٣٤ ـ إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل

فقال يونس : أراد أو أنتم تنزلون ، فعطف الجملة الاسمية على جملة الشرط ، وجعل سيبويه ذلك من العطف على التوهم ؛ قال : فكأنه قال : أتركبون فذلك عادتنا أو تنزلون فنحن معروفون بذلك ، ويقولون : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين ويمتنع قائمين لا قاعد أبواه ، على إعمال الثانى وربط الأول بالمعنى.

القاعدة التاسعة

أنهم يتّسعون فى الظرف والمجرور ما لا يتسعون فى غيرهما ؛ فلذلك فصلوا بهما الفعل الناقص من معموله نحو «كان فى الدّار ـ أو عندك ـ زيد جالسا» وفعل التعجب من المتعجّب منه نحو «ما أحسن فى الهيجاء لقاء زيد ، وما أثبت عند الحرب زيدا» وبين الحرف الناسخ ومنسوخه نحو قوله :

٩٣٥ ـ فلا تلحنى فيها فإنّ بحبّها

أخاك مصاب القلب جمّ بلابله

وبين الاستفهام والقول الجارى مجرى الظن كقوله

٩٣٦ ـ أبعد بعد تقول الدّار جامعة

[شملى بهم أم تقول البعد محتوما]

وبين المضاف وحرف الجر ومجرورهما ، وبين إذن ولن ومنصوبهما نحو «هذا غلام والله زيد ، واشتريته بو الله درهم» وقوله :

٩٣٧ ـ إذن والله نرميهم بحرب

[تشيب الطّفل من قبل المشيب]

٣٥٧

وقوله :

لن ما رأيت أبا يزيد مقاتلا

أدع القتال وأشهد الهيجاء [٤٦١]

وقدموهما خبرين على الاسم فى باب إنّ نحو (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) ومعمولين للخبر فى باب ما نحو «ما فى الدار زيد جالسا» وقوله :

٩٣٨ ـ [بأهبة حزم لذ وإن كنت آمنا]

فما كلّ حين من تؤاتى مؤاتيا

فإن كان المعمول غيرهما بطل عملها كقوله :

٩٣٩ ـ [وقالوا : تعرّفها المنازل من منّى]

وما كل من وافى منى أنا عارف

ومعمولين لصلة أل نحو (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) فى قول ، وعلى الفعل المنفى بما فى نحو قوله :

*ونحن عن فضلك ما استغنينا* [١٣٧]

وقيل : وعلى إن معمولا لخبرها فى نحو أما بعد فإنى أفعل كذا وكذا ، وقوله :

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومى لم تأكلهم الضّبع [٤٤]

وعلى العامل المعنوى فى نحو قولهم «أكلّ يوم لك ثوب».

وأقول : أما مسألة أما فاعلم أنه إذا تلاها ظرف ، ولم يل الفاء ما يمتنع تقدم معموله عليه نحو «أمّا فى الدّار ـ أو عندك ـ فزيد جالس» جاز كونه معمولا لأما أو لما بعد الفاء ، فإن تلا الفاء ما لا يتقدم معموله عليه نحو «أما زيدا ـ أو اليوم ـ فإنى صارب» فالعامل فيه عند المازنى أما فتصحّ مسألة الظرف فقط ؛ لأن الحروف لا تنصب المفعول به ، وعند المبرد تجوز مسألة الظرف من وجهين ، ومسألة المفعول به

٣٥٨

من جهة إعمال ما بعد الفاء ، واحتج بأن «أما» وضعت على أن ما بعد فاء جوابها يتقدم بعضه فاصلا بينها وبين أما ، وجوّزه بعضهم فى الظرف دون المفعول به ، وأما قوله *أمّا أنت ذا نفر* [٤٤] فليس المعنى على تعلّقه بما بعد الفاء ، بل هو متعلق تعلق المفعول لاجله بفعل محذوف ؛ والتقدير : ألهذا فخرت على؟ وأما المسألة الأخيرة فمن أجاز «زيد جالسا فى الدار» لم يكن ذلك مختصا عنده بالظرف.

القاعدة العاشرة

من فنون كلامهم القلب. وأكثر وقوعه فى الشعر ، كقول حسان رضى الله تعالى عنه :

كأنّ سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء [٦٩٤]

فيمن نصب المزاج ؛ فجعل المعرفة الخبر والنكرة الاسم ، وتأوّله الفارسى على أن انتصاب المزاج على الظرفية المجازية ، والأولى رفع المزاج ونصب العسل ، وقد روى كذلك أيضا ؛ فارتفاع ماء بتقدير وخالطها ماء ، ويرى برفعهن على إضمار الشأن ، وأما قول ابن أسد إنّ كان زائدة فخطأ ؛ لأنها لا تزاد بلفظ المضارع بقياس ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك هنا ، وقول رؤبة :

٩٤٠ ـ ومهمه مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

أى كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه ، فعكس التشبيه مبالغة ، وحذف المضاف ، وقال آخر :

٩٤١ ـ فإن أنت لاقيت فى نجدة

فلا تتهيّبك أن تقدما

أى تنهيّبها ، وقال ابن مقبل :

٩٤٢ ـ ولا تهيّبنى الموماة أركبها

إذا تجاوبت الأصداء بالسّحر

أى ولا أتهيبها ، وقال كعب :

٣٥٩

٩٤٣ ـ كأنّ أوب ذراعيها إذا عرقت

وقد تلفّع بالقور العساقيل

القور : جمع قارة ، وهى الجبل الصغير ، والعساقيل : اسم لأوائل السراب ، ولا واحد له ، والتلفع : الاشتمال. وقال عروة بن الورد :

٩٤٤ ـ فديت بنفسه نفسى ومالى

وما آلوك إلّا ما أطيق

وقال القطامى :

٩٤٥ ـ فلمّا أن جرى سمن عليها

كما طيّنت بالفدن السّياعا

الفدن : القصر ، والسّياع : الطين ، ومنه فى الكلام «أدخلت القلنسوة فى رأسى» و «عرضت الناقة على الحوض» و «عرضتها على الماء» قاله الجوهرى وجماعة منهم السكاكى والزمخشرى ، وجعل منه (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) وفى كتاب التوسعة ليعقوب بن إسحاق السكيت : إن «عرضت الحوض على الناقة» مقلوب ، وقال آخر : لا قلب فى واحد منهما ، واختاره أبو حيان ، وردّ على قول الزمخشرى فى الآية ، وزعم بعضهم فى قول المتنبى :

٩٤٦ ـ وعذلت أهل العشق حتّى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

أن أصله كيف لا يموت من يعشق ، والصواب خلافه ، وأن المراد أنه صار يرى أن لا سبب للموت سوى العشق ، ويقال : إذا طلعت الجوزاء انتصب العود فى الحرباء ، أى انتصب الحرباء فى العود. وقال ثعلب فى قوله تعالى (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) : إن المعنى اسلكوا فيه سلسلة ، وقيل : إن منه (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) وقد مضى تأويلهما ونقل الجوهرى فى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أن أصله قابى قوس ، فقلبت التثنية

٣٦٠