مغنى اللبيب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

لأن (أَلَمْ تَرَ) فى معنى قد رأيت ، أى أنه استفهام تقريرى مثل (أَلَمْ نَشْرَحْ) وقيل : النصب جائز كما فى قوله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ) ولكن قصد هنا إلى العطف على (أُنْزِلَ) على تأويل تصبح بأصبحت ، والصواب القول الأول ، وليس (أَلَمْ تَرَ) مثل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) لما بيناه.

الثامن عشر : قول بعضهم فى (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) إن الأصل اتخذوهم قربانا ، وإن الضمير وقربانا مفعولان ، وآلهة بدل من قربانا ، وقال الزمخشرى : إن ذلك فاسد فى المعنى ، وإن الصواب أن آلهة هو المفعول الثانى ، وأن قربانا حال ، ولم يبين وجه فساد المعنى ؛ ووجهه أنهم إذا ذمّوا على اتخاذهم قربانا من دون الله اقتضى مفهومه الحثّ على أن يتّخذوا الله سبحانه قربانا ، كما أنك إذا قلت «أتتّخذ فلانا معلّما دونى؟» كنت آمرا له أن يتخذك معلما له دونه ، والله تعالى يتقرب إليه بغيره ، ولا يتقرب به إلى غيره ، سبحانه.

التاسع عشر : قول المبرد فى قوله تعالى (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) إن جملة (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) جملة دعائية ، وردّه الفارسىّ بأنه لا يدعى عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتال قومهم ، ولك أن تجيب بأن المراد الدعاء عليهم بأن يسلبوا أهليّة القتال حتى لا يستطيعوا أن يقاتلوا أحدا البتة.

المتمم العشرين : قول أبى الحسن فى قوله تعالى (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) فيمن نون مائة إنه يجوز كون سنين منصوبا بدلا من ثلاث ، أو مجرورا بدلا من مائة ، والثانى مردود ، فإنه إذا أقيم مقام مائة فسد المعنى.

الحادى والعشرون : قول المبرد فى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) : إن اسم الله تعالى بدل من آلهة ، ويردّه أن البدل فى باب الاستثناء مستثنى موجب له الحكم ، أما الأول فلأن الاستثناء إخراج ، و «ما قام أحد إلا زيد» مفيد لإخراج

٢٠١

زيد ، وأما الثانى فلأنه كلما صدق «ما قام أحد إلا زيد» صدق «قام زيد» واسم الله تعالى هنا ليس بمستثنى ولا موجب له الحكم ؛ أما الأول فلأن الجمع المنكّر لا عموم له فيستثنى منه ، ولأن المعنى حينئذ لو كان فيهما آلهة مستثنى منهم الله لفسدتا ، وذلك يقتضى أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم يفسدا ، وإنما المراد أن الفساد يترتّب على تقدير التعدد مطلقا ، وأما أنه ليس بموجب له الحكم فلأنه لو قيل لو كان فيهما الله لفسدتا لم يستقم. وهذا البحث يأتى فى مثال سيبويه «لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا» لأن رجلا ليس بعام فيستثنى منه ، ولأنه لو قيل لو كان معنا جماعة مستثنى منهم زيد لغلبنا اقتضى أنه لو كان معهم جماعة فيهم زيد لم يغلبوا ، وهذا وإن كان معنى صحيحا إلا أن المراد إنما هو أن زيدا وحده كاف.

فإن قيل : لا نسلم أن الجمع فى الآية والمفرد فى المثال غير عامين ؛ لأنهما واقعان فى سياق لو ، وهى للامتناع ، والامتناع انتفاء.

قلت : لو صح ذلك لصح أن يقال لو كان فيهما من أحد ، ولو جاءنى ديّار ولو جاءنى فأكرمه بالنصب لكان كذا وكذا ، واللازم ممتنع.

الثانى والعشرون : قول أبى الحسن الأخفش فى «كلّمته فاه إلى فىّ» إن انتصاب فاه على إسقاط الخافض ، أى من فيه ، وردّه المبرد فقال : إنما يتكلم الإنسان من فى نفسه لا من فى غيره ، وقد يكون أبو الحسن إنما قال ذلك فى «كلمنى فاه إلى فىّ» أو قاله فى ذلك وحمله على القلب لفهم المعنى ؛ فلا يرد عليه سؤال أبى العباس ، فلنعدل إلى مثال غير هذا.

حكى عن اليزيدى أنه قال فى قول العرجىّ :

٧٨٢ ـ أظلوم إنّ مصابكم رجلا

ردّ السّلام تحيّة ظلم

[ص ٦٧٣]

٢٠٢

إن الصواب رجل بالرفع خبر لإنّ ، وعلى هذا الإعراب يفسد المعنى المراد فى البيت ، ولا يتحصل له معنى ألبتة ، وله حكاية مشهورة بين أهل الأدب.

رووا عن أبى عثمان المازنى أن بعض أهل الذمّة بذل له مائة دينار على أن يقرئه كتاب سيبويه ، فامتنع من ذلك مع ما كان به من شدّة احتياج ، فلامه تلميذه المبرد ، فأجابه بأن الكتاب مشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله تعالى ، فلا ينبغى تمكين ذمىّ من قراءتها ، ثمّ قدّر أن غنّت جارية بحضرة الواثق بهذا البيت ، فاختلف الحاضرون فى نصب رجل ورفعه ، وأصرّت الجارية على النصب ، وزعمت أنها قرأته على أبى عثمان كذلك ، فأمر الواثق بإشخاصه من البصرة ، فلما حضر أوجب النصب ، وشرحه بأن مصابكم بمعنى إصابتكم ، ورجلا مفعوله ، وظلم الخبر ، ولهذا لا يتم المعنى بدونه ، قال : فأخذ اليزيدىّ فى معارضتى ، فقلت له : هو كقولك «إن ضربك زيدا ظلم» فاستحسنه الواثق ، ثم أمر له بألف دينار ، وردّه مكرما ، فقال للمبرد : تركنا لله مائة دينار فعوضنا ألفا.

الجهة الثانية : أن يراعى المعرب معنى صحيحا ، ولا ينظر فى صحته فى الصناعة ، وها أنا مورد لك أمثلة من ذلك.

أحدها : قول بعضهم فى (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) إن ثمودا مفعول مقدم ، وهذا ممتنع ، لأن لما النافية الصّدر ، فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإنما هو معطوف على (عاداً) أو هو بتقدير وأهلك ثمودا ، وإنما جاء :

*ونحن عن فضلك ما استغنينا* [١٣٧]

لأنه شعر ، مع أن المعمول ظرف ، وأما قراءة عمرو بن فائد (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) بتنوين شر ، فما بدل من شر ، بتقدير مضاف ، أى من شر شر ما خلق ، وحذف الثانى لدلالة الأول.

٢٠٣

الثانى : قول بعضهم فى إذ من قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) إنها ظرف للمقت الأول ، أو للثانى ، وكلاهما ممنوع ، أما امتناع تعليقه بالثانى فلفساد المعنى ، لأنهم لم يمقتوا أنفسهم ذلك الوقت ، وإنما يمقتونها فى الآخرة.

ونظيره قول من زعم فى (يَوْمَ تَجِدُ) إنه ظرف ليحذركم ، حكاه مكى ، قال : وفيه نظر ، والصواب الجزم بأنه خطأ ، لأن التحذير فى الدنيا لا فى الآخرة ، ولا يكون مفعولا به ليحذركم كما فى (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) لأن يحذر قد استوفى مفعوليه ، وإنما هو نصب بمحذوف تقديره اذكروا أو احذروا.

وأما امتناع تعليقه بالأول ـ وهو رأى جماعة منهم الزمخشرى ـ فلاستلزامه الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبى ، ولهذا قالوا فى قوله :

٧٨٣ ـ وهنّ وقوف ينتظرن قضاءه

بضاحى غداة أمره وهو ضامز

إن الباء متعلقة بقضائه ، لا بوقوف ولا بينتظرن ، لئلا يفصل بين قضائه وأمره بالأجنبى ، ولا حاجة إلى تقدير ابن الشجرى وغيره أمره معمولا لقضى محذوفا لوجود ما يعمل ، ونظير ما لزم الزمخشرىّ هنا ما لزمه إذ علق (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) بالرجع من قوله تعالى (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) وإذ علق أياما بالصيام من قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فإن فى الأولى الفصل بخبر إنّ وهو لقادر ، وفى الثانى الفصل بمعمول كتب وهو كما كتب.

فإن قيل : لعله يقدر (كَما كُتِبَ) صفة للصيام ، فلا يكون متعلقا بكتب.

قلنا : يلزم محذور آخر ، وهو إتباع المصدر قبل أن يكمل معموله ، ونظير اللازم له على هذا التقدير ما لزمه إذ قال فى قوله تعالى (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

٢٠٤

وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : إن المسجد عطف على سبيل الله ، وإنه حينئذ من جملة معمول المصدر ، وقد عطف (كُفْرٌ) على المصدر قبل مجيئه.

والصواب أن الظروف الثلاثة متعلقة بمحذوف ، أى مقتكم إذ تدعون ، وصوموا أياما ، ويرجعه يوم تبلى السرائر ، ولا ينتصب يوم بقادر ، لأن قدرته تعالى لا تتقيد بذلك اليوم ولا بغيره ، ونظيره فى التعلق بمحذوف (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) ألا ترى أن اليوم لو علّق ببشرى لم يصح من وجهين : أنه مصدر ، وأنه اسم للا ، وأما (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) فعلى الخلاف فى جواز تقدم منصوب ليس عليها.

والصواب أن خفض (الْمَسْجِدِ) بباء محذوفة لدلالة ما قبلها عليها ، لا بالعطف ، ومجموع الجار والمجرور عطف على (بِهِ) ، ولا يكون خفض المسجد بالعطف على الهاء ، لأنه لا يعطف على الضمير المخفوض إلا بإعادة الخافض.

ومن أمثلة ذلك قول المتنبى :

٧٨٤ ـ وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه

بأن تسعدا والدّمع أشفاه ساجمه

وقد سأل أبو الفتح المتنبى عنه ، فأعرب «وفاؤكما كالربع» مبتدأ وخبره ، وعلق الباء بوفاؤكما ، فقال له : كيف تخبر عن اسم لم يتم؟ فأنشده قول الشاعر :

٧٨٥ ـ لسنا كمن جعلت إياد دارها

تكريت تمنع حبّها أن يحصدا

أى أن «إباد» بدل من من قبل مجىء معمول جعلت وهو دارها ، والصواب تعليق دارها وبأن تسعدا بمحذوف ، أى جعلت ووفيتما ، ومعنى البيت وفاؤكما

٢٠٥

يا صاحبىّ بما وعدتمانى به من الإسعاد بالبكاء عند ربع الأحبة إنما يسلينى إذا كان يدمع ساجم ، أى هامل ، كما أن الربع إنما يكون أبعث على الحزن إذا كان دارسا.

الثالث : تعليق جماعة الظروف من قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ومن قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت» باسم لا ، وذلك باطل عند البصريين ، لأن اسم لا حينئذ مطول ، فيجب نصبه وتنوينه ، وإنما التعليق فى ذلك بمحذوف إلا عند البغداديين ، وقد مضى.

والرابع ، وهو عكس ذلك : تعليق بعضهم الظرف من قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بمحذوف : أى كائن عليكم ، وذلك ممتنع عند الجمهور ، وإنما هو متعلق بالمذكور وهو الفضل ، لأن خبر المبتدأ بعد لو لا واجب الحذف ، ولهذا لحن المعرى فى قوله :

*فلو لا الغمد يمسكه لسالا* [٤٤٢]

الخامس : قول بعضهم فى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) : إن الظرف كان صفة لأمة ، ثم قدم عليها فانتصب على الحال ، وهذا يلزم منه الفصل بين العاطف والمعطوف بالحال ، وأبو على لا يجيزه بالظرف ، فما الظن بالحال التى هى شبيهة بالمفعول به؟ ومثله قول أبى حيان فى (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إن (أَشَدَّ) حال كان فى الأصل صفة لذكرا.

السادس : قول الحوفى : إن الباء من قوله تعالى (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) متعلقة بناظرة ، ويردّه أن الاستفهام له الصّدر ، ومثله قول ابن عطية

٢٠٦

فى (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : إنّ أنى ظرف لقاتلهم الله ، وأيضا فيلزم كون يؤفكون لا موقع لها حينئذ ، والصواب تعلقهما بما بعدهما.

ونظيرهما قول المفسرين فى (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) : إن المعنى إذا أنتم تخرجون من الأرض ، فعلّقوا ما قبل إذا بما بعدها ، حكى ذلك عنهم أبو حاتم فى كتاب الوقف والابتداء ، وهذا لا يصح فى العربية.

وقول بعضهم فى (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا) : إن ملعونين حال من معمول ثقفوا أو أخذوا ، ويردّه أن الشرط له الصّدر. والصواب أنه منصوب على الذم ، وأما قول أبى البقاء إنه حال من فاعل (يُجاوِرُونَكَ) فمردود ، لأن الصحيح أنه لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان.

وقول آخر فى (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) : إن فى متعلقة بزاهدين المذكور ، وهذا ممتنع إذا قدرت أل موصولة وهو الظاهر ، لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول ، فيجب حينئذ تعلقها بأعنى محذوفة ، أو بزاهدين محذوفا مدلولا عليه بالمذكور ، أو بالكون المحذوف الذى تعلق به من الزاهدين ، وأما إن قدرت أل للتعريف فواضح.

السابع : قول بعضهم فى بيت المتنبى يخاطب الشيب :

٧٨٦ ـ ابعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود فى عينى من الظّلم

إن من متعلقة بأسود ، وهذا يقتضى كونه اسم تفضيل ، وذلك ممتنع فى الألوان ، والصحيح أن «من الظلم» صفة لأسود ، أى أسود كائن من جملة الظلم ، وكذا قوله :

٧٨٧ ـ يلقاك مرتديا بأحمر من دم

ذهبت بخضرته الطّلى والأكبد

٢٠٧

«من دم» إما تعليل ، أى أجمر من أجل التباسه بالدم ، أو صفة كأن السيف لكثرة التباسه بالدم صار دما.

الثامن : قول بعضهم فى «سقيا لك» إن اللام متعلقة بسقيا ، ولو كان كذا لقيل سقيا إياك ، فإن سقى يتعدى بنفسه.

فإن قيل : اللام للتقوية مثل (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ).

فلام التقوية لا تلزم ، ومن هنا امتنع فى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) كون الذين نصبا على الاشتغال ، لأن لهم ليس متعلقا بالمصدر.

التاسع : قول الزمخشرى فى (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : إنه من اللف والنشر ، وإن المعنى منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، وهذا يقتضى أن يكون النهار معمولا للابتغاء مع تقديمه عليه ، وعطفه على معمول منامكم وهو بالليل ، وهذا لا يجوز فى الشعر ، فكيف فى أفصح الكلام؟

وزعم عصرىّ فى تفسير له على سورتى البقرة وآل عمران فى قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) أن (مِنَ) متعلقة بحذر أو بالموت ، وفيهما تقديم معمول المصدر ، وفى الثانى أيضا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف ، وحامله على ذلك أنه لو علّقه بيجعلون وهو فى موضع المفعول له لزم تعدد المفعول له من غير عطف ؛ إذ كان حذر الموت مفعولا له ، وقد أجيب بأن الأول تعليل للجعل مطلقا ، والثانى تعليل له مقيدا بالأول ، والمطلق والمقيد غيران ، فالمعلل متعدد فى المعنى ، وإن اتحد فى اللفظ ، والصواب أن يحمل على أن المنام فى الزمانين والابتغاء فيهما.

العاشر : قول بعضهم فى (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) : إن ما بمعنى من ، ولو كان كذلك لرفع قليل على أنه خبر.

٢٠٨

الحادى عشر : قول بعضهم فى (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) : إن هو ضمير الشأن ، وأن يعمر : مبتدأ ، وبمزحزحه : خبر ، ولو كان كذلك لم يدخل الباء فى الخبر.

ونظيره قول آخر فى حديث بدء الوحى «ما أنا بقارى» : إن ما استفهامية مفعولة لقارىء ، ودخول الباء فى الخبر يأبى ذلك.

الثانى عشر : قول الزمخشرى فى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) فيمن رفع يدرك : إنه يجوز كون الشرط متصلا بما قبله ، أى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا ؛ يعنى فيكون الجواب محذوفا مدلولا عليه بما قبله ، ثم يبتدىء (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وهذا مردود بأن سيبويه وغيره من الأئمة نصّوا على أنه لا يحذف الجواب إلا وفعل الشرط ماض ، تقول «أنت ظالم إن فعلت» ولا تقول «أنت ظالم إن تفعل» إلا فى الشعر ، وأما قول أبى بكر فى كتاب الأصول : إنه يقال «آتيك إن تأتنى» فنقله من كتب الكوفيين ، وهم يجيزون ذلك ، لا على الحذف ، بل على أنّ المتقدم هو الجواب ، وهو خطأ عند أصحابنا ، لأن الشرط له الصّدر.

الثالث عشر : قول بعضهم فى (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) : إن (أَعْمالاً) مفعول به ، ورده ابن خروف بأن خسر لا يتعدّى كنقيضه ربح ، ووافقه الصفار مستدلا بقوله تعالى : (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) إذ لم يرد أنها خسرت شيئا ، وثلاثتهم ساهون ، لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به ، ولأن خسر متعد ، ففى التنزيل (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) وأما خاسرة فكأنه على النسب أى ذات خسر ، وربح أيضا يتعدّى فيقال : ربح دينارا ، وقال سيبويه : أعمالا مشبه بالمفعول به ، ويردّه أن اسم التفضيل لا يشبه باسم الفاعل ، لأنه لا تلحقه علامات الفروع إلا بشرط ، والصواب أنه تمييز.

٢٠٩

الجهة الثالثة : أن يخرج على ما لم يثبت فى العربية ، وذلك إنما يقع عن جهل أو غفلة ، فلنذكر منه أمثلة.

أحدها : قول أبى عبيدة فى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) إن الكاف حرف قسم ، وإن المعنى : الأنفال لله والرسول والذى أخرجك ، وقد شنع ابن الشجرى على مكى فى حكايته هذا القول وسكوته عنه قال : ولو أن قائلا قال «كالله لأفعلنّ» لاستحق أن يبصق فى وجهه.

ويبطل هذه المقالة أربعة أمور ، أن الكاف لم تجىء بمعنى واو القسم ، وإطلاق «ما» على الله سبحانه وتعالى ، وربط الموصول بالظاهر وهو فاعل أخرج وباب ذلك الشعر كقوله :

[فياربّ أنت الله فى كلّ موطن]

[وأنت الّذى فى رحمة الله أطمع] [٣٤٣]

ووصله بأول السورة مع تباعد ما بينهما.

وقد يجاب عن الثانى بأنه قد جاء نحو (وَالسَّماءِ وَما بَناها) وعنه أنه قال : الجواب (يُجادِلُونَكَ) ويردّه عدم توكيده ، وفى الآية أقوال أخر ، ثانيها : أن الكاف مبتدأ ، وخبره فاتقوا الله ، ويفسده اقترانه بالفاء ، وخلوّه من رابط وتباعد ما بينهما ، وثالثها أنها نعت مصدر محذوف ، أى يجادلونك فى الحق الذى هو إخراجك من بيتك جدالا مثل جدال إخراجك ، وهذا فيه تشبيه الشىء بنفسه ورابعها ـ وهو أقرب مما قبله ـ أنها نعت مصدر أيضا ، ولكن التقدير قل الأنفال ثابتة لله والرسول مع كراهيتهم ثبوتا مثل ثبوت إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون ، وخامسها ـ وهو أقرب من الرابع ـ : أنها نعت لحقا ، أى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ، والذى سهّل هذا تقاربهما ، ووصف الإخراج بالحق فى الآية ، وسادسها ـ وهو أقرب من الخامس ـ أنها خبر لمحذوف ، أى هذه الحال

٢١٠

كحال إخراجك ، أى أن حالهم فى كراهية ما رأيت من تنفيلك الغزاة مثل حالهم فى كراهية خروجك من بيتك للحرب ، وفى الآية أقوال أخر منتشرة.

المثال الثانى : قول ابن مهران فى كتاب الشواذ فيمن قرأ (إن البقر تشابهت) بتشديد التاء : إن العرب تزيد تاء على التاء الزائدة فى أول الماضى ، وأنشد :

٧٨٨ ـ تتقطعت بى دونك الأسباب

ولا حقيقة لهذا البيت ولا لهذه القاعدة ، وإنما أصل القراءة (إن البقرة) بتاء الوحدة ، ثم أدغمت فى تاء تشابهت ، فهو إدغام من كلمتين.

الثالث : قول بعضهم فى (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) : إنّ الأصل وما لنا وأن لا نقاتل ، أى ما لنا وترك القتال ، كما تقول «مالك وزيدا» ولم يثبت فى العربية حذف واو المفعول معه.

الرابع : قول محمد بن مسعود الزكى فى كتابه البديع ـ وهو كتاب خالف فيه أقوال النحويين فى أمور كثيرة ـ : إن الذى وأن المصدريّة يتقارضان ، فيقع الذى مصدرية كقوله :

٧٨٩ ـ أتقرح أكباد المحبّين كالّذى

أرى كبدى من حبّ ميّة يقرح؟

وتقع أن بمعنى الذى كقولهم «زيد أعقل من أن يكذب» أى من الذى يكذب ، اه.

فأما وقوع الذى مصدرية فقال به يونس والفراء والفارسىّ ، وارتضاه ابن خروف وابن مالك ، وجعلوا منه (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا).

وأما عكسه فلم أعرف له قائلا ، والذى جرّأه عليه إشكال هذا الكلام ،

٢١١

فإن ظاهره تفضيل زيد فى العقل على الكذب ، وهذا لا معنى له ، ونظائر هذا التركيب كثيرة مشهورة الاستعمال ، وقلّ من يتنبه لإشكالها ، وظهر لى فيها توجيهان ، أحدهما : أن يكون فى الكلام تأويل على تأويل ، فيؤول أن والفعل بالمصدر ، ويؤوّل المصدر بالوصف ، فيؤول إلى المعنى الذى أراده ولكن بتوجيه يقبله العلماء ، ألا ترى أنه قيل فى قوله تعالى (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) إن التقدير : ما كان افتراء. ومعنى هذا ما كان مفترى. وقال أبو الحسن فى قوله تعالى (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) : إن المعنى ثم يعودون للقول ، والقول فى تأويل المقول : أى يعودون للمقول فيهن لفظ الظهار ، وذلك هو الموافق لقول جمهور العلماء : إنّ العود الموجب للكفارة العود إلى المرأة لا العود إلى القول نفسه كما يقول أهل الظاهر ، وبعد فهذا الوجه عندى ضعيف ؛ لأن التفضيل على الناقص لا فضل فيه ، وعليه قوله :

٧٩٠ ـ إذ أنت فضّلت امرأ ذا براعة

على ناقص كان المديح من النّقص

التوجيه الثانى : أن «أعقل» ضمن معنى أبعد فمعنى المثال زيد أبعد الناس من الكذب لفضله من غيره ، فمن المذكورة ليست الجارة للمفضول ، بل متعلقة بأفعل ، لما تضمنه من معنى البعد ، لا لما فيه من المعنى الوضعى ، والمفضل عليه متروك أبدا مع أفضل هذا لقصد التعميم ، ولو لا خشية الإسهاب لأوردت لك أمثلة كثيرة من هذا الباب لتقف منها على العجب العجاب.

الجهة الرابعة : أن يخرج على الأمور البعيدة والأوجه الضعيفة ، ويترك الوجه القريب والقوى ، فإن كان لم يظهر له إلا ذاك فله عذر ، وإن ذكر الجميع فإن قصد بيان المحتمل أو تدريب الطالب فحسن ، إلا فى ألفاظ التنزيل فلا يجوز أن يخرج إلا على ما يغلب على الظن إرادته ، فإن لم يغلب شىء فليذكر الأوجه المحتملة من

٢١٢

غير تعسّف ، وإن أراد مجرد الإغراب على الناس وتكثير الأوجه فصعب شديد ، وسأضرب لك أمثله مما خرّجوه على الأمور المستبعدة لتجتنبها وأمثالها.

أحدها : قول جماعة فى (وَقِيلِهِ) إنه عطف على لفظ (السَّاعَةُ) فيمن خفض ، وعلى محلها فيمن نصب ، مع ما بينهما من التباعد ، وأبعد منه قول أبى عمرو فى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) إن خبره (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وأبعد من هذا قول الكوفيين والزجاج فى قوله تعالى (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) : إن جوابه (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) وقول بعضهم فى (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : إنه عطف على (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) وقول الزمخشرى فى (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) فيمن جر (مُسْتَقِرٌّ) : إن كلا عطف على (السَّاعَةُ) وأبعد منه قوله فى (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ) : إنه عطف على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) وأبعد من هذا قوله فى (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) : إنه عطف على (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) قال : هو معطوف على مثله فى أول السورة وإن تباعدت بينهما المسافة ، انتهى.

والصواب خلاف ذلك كله.

فأما (وَقِيلِهِ) فيمن خفض ، فقيل : الواو للقسم وما بعده الجواب ، واختاره الزمخشرى ، وأما من نصب ، فقيل : عطف على (سِرَّهُمْ) أو على مفعول محذوف معمول ليكتبون أو ليعلمون ، أى يكتبون ذلك ، أو يعلمون الحق ، أو أنه مصدر لقال محذوفا ، أو نصب على إسقاط حرف القسم ، واختاره الزمخشرى.

وأما (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) فقيل : الذين بدل من الذين فى (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) والخبر (لا يَخْفَوْنَ) واختاره الزمخشرى ، وقيل : مبتدأ خبره مذكور ، ولكن حذف رابطه ، ثم اختلف فى تعيينه ؛ فقيل : هو (ما يُقالُ لَكَ) أى فى شأنهم ، وقيل : هو (لَمَّا جاءَهُمْ) أى كفروا به ، وقيل (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) أى لا يأتيه منهم ، وهو بعيد ؛ لأن الظاهر أن (لا يَأْتِيهِ) من جملة خبر إنه.

٢١٣

وأما (ص وَالْقُرْآنِ) الآية ؛ فقيل : الجواب محذوف ، أى إنه لمعجز ، بدليل الثناء عليه بقوله (ذِي الذِّكْرِ) أو (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) بدليل (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أو ما الأمر كما زعموا ، بدليل (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) وقيل : مذكور ، فقال الأخفش (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) وقال الفراء وثعلب (أَحْرَصَ) لأن معناها صدق الله ، ويردّه أن الجواب لا يتقدم ، فإن أريد أنه دليل الجواب فقريب ، وقيل (كَمْ أَهْلَكْنا) الآية ، وحذفت اللام للطول.

وأما (ثُمَّ آتَيْنا) فعطف على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) وثم لترتيب الأخبار ، لا لترتيب الزمان ، أى ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب.

وأما (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) فمبتدأ حذف خبره ، أى وكل أمر مستقر عند الله واقع ، أو ذكر ، وهو (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) وما بينهما اعتراض ، وقول بعضهم الخبر (مُسْتَقِرٌّ) وخفض على الجوار حمل على ما لم يثبت فى الخبر.

وأما (وَفِي مُوسى) فعطف على (فِيها) من (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ).

الثانى : قول بعضهم فى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) إن الوقف على (فَلا جُناحَ) : إنّ ما بعده إغراء ليفيد صريحا مطلوبيّة التطوف بالصفا والمروة ؛ ويردّه أن إغراء الغائب ضعيف ، كقول بعضهم وقد بلغه أن إنسانا يهدّده «عليه رجلا ليسنى» أى ليلزم [غيرى] ، والذى فسّرت به عائشة رضى الله عنها خلاف ذلك ، وقصتها مع عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنهم فى ذلك مسطورة فى صحيح البخارى ثم الإيجاب لا بتوقّف على كون (عَلَيْهِ) إغراء ، بل كلمة على تقتضى ذلك مطلقا.

وأما قول بعضهم فى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) : إن الوقف قبل (عَلَيْكُمْ) وإن (عَلَيْكُمْ) إغراء فحسن ، وبه يتخلص من إشكال ظاهر فى الآية محوج للتأويل.

٢١٤

الثالث : قول بعضهم فى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) إن (أَهْلَ) منصوب على الاختصاص ، وهذا ضعيف ؛ لوقوعه بعد ضمير الخطاب مثل «بك الله نرجو الفضل» وإنما الأكثر أن يقع بعد ضمير التكلم كالحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» والصواب أنه منادى.

الرابع : قول الزمخشرى فى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) إنه يجوز كون (تَجْعَلُوا) منصوبا فى جواب الترجى أعنى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) على حد النصب فى قراءة حفص (فَاطَّلَعَ) وهذا لا يجيزه بصرى ، ويتأولون قراءة حفص : إما على أنه جواب للأمر وهو (ابْنِ لِي صَرْحاً) أو على العطف على الأسباب ، على حد قوله :

*ولبس عباءة وتقرّ عينى* [٤٢٤]

أو على معنى ما يقع موقع أبلغ ، وهو أنّ أبلغ ، على حد قوله *ولا سابق شيئا* [١٣٥] ثم إن ثبت قول الفراء إن جواب الترجّى منصوب كجواب التمنى فهو قليل ، فكيف تخرج عليه القراءة المجمع عليها

وهذا كتخريجه قوله تعالى (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) على أن الاستثناء منقطع ، وأنه جاء على البدل الواقع فى اللغة التميمية ، وقد مضى البحث فيها.

ونظير هذا على العكس قول الكرمانى فى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) إن (مَنْ) نصب على الاستثناء و (نَفْسَهُ) توكيد ، فحمل قراءة السبعة على النصب فى مثل «ما قام أحد إلا زيدا» كما حمل الزمخشرى قراءتهم على البدل فى مثل «ما فيها أحد إلا حمار» وإنما تأتى قراءة الجماعة على أفصح الوجهين ، ألا ترى إلى إجماعهم على الرفع فى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) وأن أكثرهم قرأ به فى (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وأنه لم يقرأ أحد بالبدل فى (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) لأنه منقطع؟. وقد قيل :

٢١٥

إن بعضهم قرأ به فى (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) وإجماع الجماعة على خلافة.

ونظير حمل الكرمانى النفس على التوكيد فى موضع لم يحسن فيه ذلك قول بعضهم فى قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) إن الباء زائدة ، و (بِأَنْفُسِهِنَّ) توكيد للنون ، وإنما لغة الأكثرين فى توكيد الضمير المرفوع المتصل بالنفس أو العين أن يكون بعد التوكيد بالمنفصل نحو «قمتم أنتم أنفسكم».

الخامس : قول بعضهم فى (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) : إن اللام للأمر ، والفعل مجزوم ، والصواب أنها لام العلة والفعل منصوب ؛ لضعف أمر المخاطب باللام كقوله :

لتقم أنت يا ابن خير قريش

فلتقضى حوائج المسلمينا [٣٧٦]

السادس : قول التبريزى فى قراءة يحيى بن يعمر (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) بالرفع : إن أصله أحسنوا ، فحذفت الواو اجتزاء عنها بالضمة ، كما قال :

٧٩١ ـ إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا

ولا يألوهم أحد ضرارا

واجتماع حذف الواو وإطلاق الذى على الجماعة كقوله :

*وإنّ الّذى حانت بفلج دماؤهم* [٣١٥]

ليس بالسهل ، والأولى قول الجماعة : إنه بتقدير مبتدأ ، أى هو أحسن ، وقد جاءت منه مواضع ، حتى إن أهل الكوفة يقيسونه ، والاتفاق على أنه قياس مع أىّ كقوله :

*فسلّم على أيّهم أفضل* [١١٧]

وأما قول بعضهم فى قراءة ابن محيصن (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) : إن الأصل أن يتمّوا بالجمع فحسن ؛ لأن الجمع على معنى من مثل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) ولكن أظهر منه قول الجماعة : إنه قد جاء على إهمال أن الناصبة حملا على أختها ما المصدرية.

٢١٦

السابع : قول بعضهم فى قوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) فيمن قرأ بتشديد الراء وضمها : إنه على حد قوله :

٧٩٢ ـ [يا أقرع بن حابس يا أقرع]

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

فخرج القراءة المتواترة على شىء لا يجوز إلا فى الشعر ، والصواب أنه مجزوم ، وأن الضمة إتباع كالضمة فى قولك لم يشدّ ولم يردّ وقوله تعالى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إذا قدر (لا يَضُرُّكُمْ) جوابا لاسم الفعل ، فإن قدر استئنافا فالضمة إعراب ، بل قد امتنع الزمخشرى من تخريج التنزيل على رفع الجواب مع مضى فعل الشرط فقال فى قوله تعالى (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ) : لا يجوز أن تكون ما شرطية لرفع تود ، هذا مع تصريحه فى المفصل بجواز الوجهين فى نحو «إن قام زيد أقوم» ولكنه لما رأى الرفع مرجو حالم يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه ، يوضح لك هذا أنه جوز ذلك فى قراءة شاذة مع كون فعل الشرط مضارعا ، وذلك على تأويله بالماضى ، فقال قرىء (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) برفع يدرك ؛ فقيل : هو على حذف الفاء ، ويجوز أن يقال : إنه محمول على ما يقع موقعه ، وهو أينما كنتم ، كما حمل *ولا ناعب* [فى قوله] :

[مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها] [٧٣٠]

على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» وهو ليسوا بمصلحين ، وقد يرى كثير من الناس قول الزمخشرى فى هذه المواضع متناقضا ، والصواب ما بينت لك ، قال : ويجوز أن يتصل بقوله (وَلا تُظْلَمُونَ) اه ، وقد مضى ردّه.

الثامن : قول ابن حبيب : إن (بِسْمِ اللهِ) خبر ، و (الْحَمْدُ) مبتدأ ، ولله حال ، والصواب أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مبتدأ وخبر ، وبسم الله على ما تقدم فى إعرابها.

التاسع : قول بعضهم إن أصل بسم كسر السين أو ضمها على لغة من قال سم أو سم ، ثم سكنت السين ؛ لئلا يتوالى كسرات ، أو لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم ، والأولى قول الجماعة إن السكون أصل ، وهى لغة الأكثرين ، وهم الذين يبتدئون اسما بهمز الوصل.

٢١٧

العاشر : قول بعضهم فى الرحيم من البسملة : إنه وصل بنية الوقف فالتقى ساكنان الميم ولام الحمد فكسرت الميم لالتقائهما ، وممن جوز ذلك ابن عطية ، ونظير هذا قول جماعة منهم المبرد إن حركة راء «أكبر» من قول المؤذن «الله أكبر ، الله أكبر» فتحة ، وإنه وصل بنية الوقف ، ثم اختلفوا ، فقيل : هى حركة الساكنين ، وإنما لم يكسروا حفظا لتفخيم اللام كما فى (الم اللهُ) وقيل : هى حركة الهمزة نقلت ، وكل هذا خروج عن الظاهر لغير داع ، والصواب أن كسرة الميم إعرابية ، وأن حركة الراء ضمة إعرابية ، وليس لهمزة الوصل ثبوت فى الدّرج فتنقل حركتها إلا فى ندور.

الحادى عشر : قول الجماعة فى قوله تعالى (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) : إن فيه حذف مضافين ، والمعنى علمت ضعفاء الجن أن لو كان رؤساؤهم ، وهذا معنى حسن ، إلا أن فيه دعوى حذف مضافين لم يظهر الدليل عليهما ؛ والأولى أنّ (تَبَيَّنَ) بمعنى وضح ؛ وأن وصلتها بدل اشتمال من الجن ، أى وضح للناس أن الجن لو كانوا إلخ.

الثانى عشر : قول بعضهم فى (عَيْناً فِيها تُسَمَّى) : إن الوقف على (تُسَمَّى) هنا ، أى عينا مسماة معروفة ، وإن (سَلْسَبِيلاً) جملة أمرية أى : اسأل طريقا موصّلة إليها ، ودون هذا فى البعد قول آخر : إنه علم مركب كتأبّط شرا ، والأظهر أنه اسم مفرد مبالغة فى السلسال ، كما أن السلسال مبالغة فى السّلس ، ثم يحتمل أنه نكرة ، ويحتمل أنه علم منقول وصرف لأنه اسم لماء ، وتقدم ذكر العين لا يوجب تأنيثه كما تقول «هذه واسط» بالصّرف ، ويبعد أن يقال : صرف للتناسب كـ (قَوارِيرَا) لاتفاقهم على صرفه.

الثالث عشر : قول مكى وغيره فى قوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : إن زهرة حال من الهاء فى به ، أو من ما ، وإن التنوين حذف للساكنين مثل قوله :

٢١٨

٧٩٣ ـ [فألفيته غير مستعتب]

ولا ذاكر الله إلّا قليلا [ص ٦٤٤]

وإن جر الحياة على أنه بدل من ما ، والصواب أن (زَهْرَةَ) مفعول بتقدير جعلنا لهم أو آتيناهم ، ودليل ذلك ذكر التمتيع ، أو بتقدير أذمّ ؛ لأن المقام يقتضيه ، أو بتقدير أعنى بيانا لما أو للضمير ، أو بدل من أزواج ، إما بتقدير ذوى زهرة ، أو على أنهم جعلوا نفس الزهرة مجازا للمبالغة ، وقال الفراء : هو تمييز لما أو للهاء ، وهذا على مذهب الكوفيين فى تعريف التمييز ، وقيل : بدل من ما ، وردّ بأن (لِنَفْتِنَهُمْ) من صلة (مَتَّعْنا) فيلزم الفصل بين أبعاض الصّلة بأجنبى ، وبأن الموصول لا يتبع قبل كمال صلته ، وبأنه لا يقال «مررت بزيد أخاك» على البدل ؛ لأن العامل فى المبدل منه لا يتوجّه إليه بنفسه ، وقيل : من الهاء ، وفيه ما ذكر ، وزيادة الإبدال من العائد ، وبعضهم يمنعه بناء على أن المبدل منه فى نية الطّرح فيبقى الموصول بلا عائد فى التقدير ، وقد مر أن الزمخشرى منع فى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أن يكون بدلا من الهاء فى (أَمَرْتَنِي بِهِ) ورددناه عليه ، ولو لزم إعطاء منوىّ الطّرح حكم المطروح لزم إعطاء منوىّ التأخير حكم المؤخر ، فكان يمتنع «ضرب زيدا غلامه» ويرد ذلك قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) والإجماع على جوازه.

تنبيه ـ وقد يكون الموضع لا يتخرّج إلا على وجه مرجوح ؛ فلا حرج على مخرجه ، كقراءة ابن عامر وعاصم (وكذلك نجى المؤمنين) فقيل : الفعل ماض مبنى للمفعول ، وفيه ضعف من جهات : إسكان آخر الماضى ، وإنابة ضمير المصدر مع أنه مفهوم من الفعل ، وإنابة غير المفعول به مع وجوده ، وقيل : مضارع أصله ننجى بسكون ثانيه ، وفيه ضعف ؛ لأن النون عند الجيم تخفى ولا تدغم ، وقد زعم قوم أنها أدغمت فيها قليلا وأن منه أترجّ وإجّاصة وإجّانة ، وقيل : مضارع وأصله

٢١٩

ننجّى بفتح ثانية وتشديد ثالثة ثم حذفت النون الثانية ، ويضعفه أنه لا يجوز فى مضارع نبّأت ونقبت ونزّلت ونحوهن إذا ابتدأت بالنون أن تحذف النون الثانية إلا فى ندور كقراءة بعضهم (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً).

الجهة الخامسة : أن يترك بعض ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة. ولنورد مسائل من ذلك ليتمرن بها الطالب مرتبة على الأبواب ليسهل كشفها.

باب المبتدأ

مسألة ـ يجوز فى الضمير المنفصل من نحو (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ثلاثة أوجه : الفصل وهو أرجحها ، والابتداء وهو أضعفها ، ويختصّ بلغة تميم ، والتوكيد.

مسألة ـ يجوز فى الاسم المفتتح به من نحو قوله «هذا أكرمته» الابتداء والمفعولية ، ومثله «كم رجل لقيته» و «من أكرمته» لكن فى هاتين يقدر الفعل مؤخرا ، ومثلهما «ربّ رجل صالح لقيته».

مسألة ـ يجوز فى المرفوع من نحو «أفى الله شكّ» و «ما فى الدّار زيد» الابتدائية والفاعلية ، وهى أرجح لأن الأصل عدم التقديم والتأخير ، ومثله كلمتا (غُرَفٌ) فى سورة الزمر (١) ؛ لأن الظرف الأول معتمد على المخبر عنه ، والثانى على الموصوف ؛ إذ الغرف الأولى موصوفة بما بعدها ، وكذا «نار» فى قول الخنساء :

٧٩٤ ـ [وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به]

كأنّه علم فى رأسه نار

ومثله الاسم التالى للوصف فى نحو «زيد قائم أبوه» و «أقائم زيد» لما ذكرنا ، ولأن الأب إذا قدر فاعلا كان خبر زيد مفردا ، وهو الأصل فى الخبر ، ومثله

__________________

(١) الآية هى (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ).

٢٢٠