أخلاق أهل البيت عليهم السلام

السيد علي الحسيني الصدر

أخلاق أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEAkhlaq-Ahl-Baytimagesimage001.gif

١

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEAkhlaq-Ahl-Baytimagesrafed.png

٢

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEAkhlaq-Ahl-Baytimagesimage002.gif

٣
٤

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEAkhlaq-Ahl-Baytimagesimage003.gif

٥

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUEAkhlaq-Ahl-Baytimagesimage004.gif

٦

الموادّ

١) المقدّمة .

٢) أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام .

٣) سيرتهم العمليّة في الأخلاق .

٤) دروسهم القوليّة في حُسن الأخلاق .

٥) مدرستهم الأخلاقيّة .

مكارم أخلاقيّة من الصحيفة المباركة السجّادية .

٧
٨

١ / المقدّمة :

بسم الله وله الحمد والمجد

وصلّى الله على أحبّ خلقه إليه محمّد وآله الطاهرين

ولعنته على أعدائهم إلى يوم الدِّين

وبعدُ .. فإنّ علم الأخلاق من أشرف العلوم السامية ، والمعالم الراقية ، التي لها من المرتبة ، المكانة المرموقة والمحلّ الرفيع .. من حيث شرافة موضوعه ، وعظيم فائدته ، وكبير أثره ، وسموّ شأنه ، وجمال ظاهره وباطنه ، وحسن مآثره .

والفطرة الإنسانيّة في جميع الطبقات البشريّة ، وكلّ الحضارات السائدة ، وفي أيّ زمانٍ ومكان ، تدرك هذا الجمال المستحسَن في الخُلق الحَسن .

كما تدرك في مقابله بشاعة الخُلق السيء ، وقبح الأخلاق الرذيلة ، وإن كان قد يرتكبه الإنسان أحياناً بواسطة ميوله النفسيّة ، وأهوائه الشيطانيّة .. لكنّه سرعان ما يعترف بقبحه ، أو يندم على فعله .

وطبيعة الإنسان بواسطة هذه الميول والأهواء والغرائز تكشف عن احتياجه إلى التربية الأخلاقيّة ، والإرشاد الديني ، كي يسير في المسالك الصحيحة ، ويجتنب الطرق الفاسدة .

٩

وقد هداه الله تعالى إلى طريق الرُّشد ، ونصب له القادة الراشدين ، وألهمه الهدىٰ ، وحذّره الردىٰ ، وتفضّل عليه بالعقل الفاصل بين الحقّ والباطل .

إلّا أنّ النفس لأمّارةٌ بالسوء ..

فلابدّ من هادٍ معصوم يهديه بحقّ ، ويرتقي به من الروح الحيوانيّة إلى الروح الملائكيّة ، ويصدّها عن طريق الشرّ ، ويأخذُ بها إلى طريق الخير .

ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : ـ

« الشرّ كامنٌ في طبيعة كلّ أحد ، فإن غلبه صاحبُه بَطَن ، وإن لم يغلبه ظهر »(١) .

وفي حديث الإمام الباقر عليه‌السلام : ـ

« إنّ طبايع الناس كلّها مركّبة على الشهوة ، والرغبة ، والحرص ، والرهبة ، والغضب ، واللّذة .

إلّا أنّ في الناس من زَمَّ هذه الخلال بالتقوىٰ ، والحياء ، والأنَف .

فإذا دعتك نفسك إلى كبيرة من الأمر فارمِ ببصرك إلى السماء .

فإن لم تخف من فيها فانظر إلى مَن في الأرض لعلّك تستحيي ممّن فيها .

فإن كنت لا ممّن في السماء تخاف ولا ممّن من الأرض تستحي ، فعُدَّ نفسك من البهائم »(٢) .

ولذلك حثَّ أولياءُ الله على مكارم الأخلاق ، وأمروا بها ، ورغّبوا الناس فيها ، كي يرفعوهم عن الدناءات إلى المحاسن ، ويسعدوهم بالخُلق الطيّب ، والحياة السعيدة .

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : ـ

( يا معاذ : علّمهم كتاب الله ، وأحسِن أدبهم على الأخلاق الصالحة )(٣) .

__________________________________

(١) فهرس غرر الحكم / ص ١٧٣ .

(٢) مستدرك وسائل الشيعة / ج ١١ / ص ٢١٢ / ح ٤ .

(٣) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ١٢٨ .

١٠

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ـ

( ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن ، وقودوها إلى المكارم )(١) .

هذا .. وعلم الأخلاق من المفاهيم المتأصّلة الثابتة التي سارت مع سير الاُمم ، وواكبت جميع الحضارات .

لكن لم يكمل ولم يرشد هذا العلم والأدب إلّا في أخلاق الدِّين الإلهي الإسلامي من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام .

وقمّة الأخلاق الفاضلة هي أخلاق العترة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين .

فالمناهج الأخلاقيّة تختلف عند الطوائف والاُمم بين كونها جافّة مرهقة ، أو تابعة للأهواء المتحكّمة ، أو سائرة خلف التقاليد والنزعات ، أو غير موجبة لتزكية الروح وكمال النفس المطلوب منها ، ممّا يجرّدها عن الأصالة والواقعيّة ، ويفصلها عن تربية الإنسان على الخُلق الكريم ، وتهذيبه على الملكات الفاضلة والمحاسن الروحيّة .

حتّى الحضارات المعروفة التي اهتمّت بعلم الأخلاق وكتبت فيه الكتب كالمذاهب الفلسفيّة لم تبلغ مفهومه الواقعي ، ولم تصل إلى أثره الروحي .

فتلاحظ مثلاً أنّ ( سُقراط )(٢) يعرّف الأخلاق بأنّه هو : ـ

( أن يؤدّي كلّ فردٍ وظيفته بالنسبة إلى الأفراد الاُخرى )(٣) .

وأنت تعرف أنّ هذا شيءٌ حسن ، لكنّه ليس من الأخلاق ، بل هي الحياة الاجتماعيّة الطيّبة ، والوظيفة الإنسانيّة المطلوبة ، لا الحقيقة الأخلاقيّة .

__________________________________

(١) تحف العقول / ص ٢٢٦ .

(٢) فيلسوف يوناني من أثينا ، كان في القرن الرابع قبل الميلاد ، استاذ أفلاطون ، قيل عنه أنّه أحكم اليونانيّين [ الموسوعة العربيّة الميسرة / ص ٩٨٥ ] .

(٣) سير حكمت در اوربا / ج ١ / ص ١٥ .

١١

فقد يؤدّي الإنسان وظيفته للآخرين ، ويراعي حقوق الآخرين لكن لا يكون في نفسه ذا مكرمة أخلاقيّة كالصبر والشجاعة .

وتلاحظ أيضاً أنّ ( هيجل )(١) يجعل الأخلاق عبارة عن : ـ

( اتّباع القوانين وإطاعتها ) بأنّ الإنسان الخلوق هو من كان من نيّته أن يطيع القانون .

وأنت تعرف أنّ هذا المفهوم أيضاً ليس من الأخلاق الكريمة ، بل هو من النظام الاجتماعي المتحاشى عن الشرّ والضرر .

فكم هناك من اُناس يلتزمون بكلّ القوانين والأنظمة لكن تراهم في غاية تكبّر النفس ، وخشونة الأخلاق ، وسوء الأدب .

والقانون لا يجلب حُسن الخُلق ، وإنّما يجلبه ويوجبه تهذيب الروح ، وتزكية النفس ، وتربية السجيّة .

والملحوظ للباحث المنصف ، والمتتبّع الخالي عن التعسّف ، أنّ الأخلاق الواقعيّة هي أخلاق الأنبياء والأوصياء المتّصلة بوحي السماء .

والأكمل الأفضل من الأخلاق الواقعي ، بل الكامل الوحيد من ذلك منحصرٌ في النهج الإسلامي ؛ المستمدّ من القرآن الكريم والمتمثِّل في أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين كانوا المَثَل الأعلى والنمط الأرقى للأخلاق الطيّبة ، والسجايا الكريمة ، والشيم الفاضلة .

وهم الذين كانت سيرتهم الغرّاء ، وتعاليمهم الأخلاقيّة ، متّصفة بأصالة المبدأ ، وحكمة التوجيه ، وسموّ الغاية .

وهم القدوة والاُسوة ، والنموذج الصفوة في محاسن الخُلق ، ومكارم الأخلاق .

وبالتأسّي بهم ، والتعلّم منهم ، والاستضاءة بأخلاقهم ، يسمو الإنسان فرداً

__________________________________

(١) فيلسوف ألماني ، كان في القرن السابع عشر الميلادي ، وعلى أساس فلسفته قام المذهب المادّي [ الموسوعة العربيّة الميسّرة / ص ١٩٢٤ ] .

١٢

ومجتمعاً ، نحو القمّة الشاهقة في الأخلاق والآداب .

فقد كانوا حقّاً وحقيقةً معلِّمي الأخلاق بالقول والفعل ، والإرشاد والعمل ، كما اعترف لهم بذلك الصديق والعدوّ .

وقد أقرّ ابن أبي الحديد المعتزلي ببلوغهم غاية الفضل ومنتهى الفضيلة في السجايا الكريمة ، والأخلاق العظيمة .

فقال فيما قدّمه في فضل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ـ

( وما أقول في رجلٍ تُعزى إليه كلّ فضيلة ، وتنتهي إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة .

فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عُذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلّى حلبتها ، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى ...

وأمّا الشجاعة فإنّه أنسى الناس فيها ذكرَ من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده .

ومقاماته في الحرب مشهورة يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة .

وهو الشجاع الذي ما فرَّ قطّ ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحداً إلّا قتله ، ولا ضرب ضربةً قطّ فاحتاجت الاُولى إلى ثانية ...

وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ...

وجملة الأمر أنّ كلّ شجاع في الدُّنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادى في مشارق الأرض ومغاربها ...

وأمّا السخاء والجود فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثِر بزاده .

وفيه أنزل : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا )(١) .

__________________________________

(١) سورة الإنسان : ٨ و ٩ .

١٣

وقال الشعبي وقد ذكره عليه‌السلام : ـ كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبّه الله : السخاء والجود ، ما قال لسائلٍ قطّ .

وقال عدوّه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبيّ لمّا قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال :

ويحك ! كيف تقول إنّه أبخل الناس ، لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن ، لأنفد تبره قبل تبنه ...

وهو الذي لم يخلّف ميراثاً وكانت الدُّنيا كلّها بيده ، إلّا ما كان من الشام .

وأمّا الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسيء .

وقد ظهر صحّة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم ـ وكان أعدى الناس له وأشدّهم بغضاً ـ فصفح عنه .

وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد ... فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيراً ، فصفح عنه وقال : إذهب فلا أرينّك ، لم يزده على ذلك .

وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة ـ وكان له عدوّاً ـ فأعرض عنه ، ولم يقُل له شيئاً .

وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلمّا ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس ، عمّمهنّ بالعمائم وقلّدهنّ بالسيوف .

وحاربه أهل البصرة ، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ولعنوه ، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادىٰ مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يُتبَع مولٍّ ، ولا يُجهز على جريح ، ولا يُقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاح فهو آمن ، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن ، ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبىٰ ذراريهم ، ولا غَنِم شيئاً من أموالهم .

ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لَفعَل ، ولكنّه أبى إلّا الصفح والعفو ، وتقبّل سنّة

١٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكّة ، فإنّه عفا والأحقاد لم تبرد ، والإساءة لم تُنسَ ...

وأمّا سماحة الأخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيّا والتبسّم ، فهو المضروب به المثل فيه ...

قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدّة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه ..

وقد بقى هذا الخُلُق متوارثاً ، متناقلاً في محبّيه وأولياءه إلى الآن ، كما بقى الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر .

ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك )(١) .

فأهل البيت عليهم‌السلام هم قمّة الأخلاق الكريمة ، وذروة الشيم العظيمة ، بالوجدان والعيان ، وبتصديق المؤالف والمخالف .

فإنّهم هم الذين اهتمّوا بالأخلاق الفاضلة غاية الاهتمام ، حتّى جعلها سيّدهم الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غايات البعثة النبويّة الشريفة حيث قال : ـ

( بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق )(٢) .

وجعله وصيّه أمير المؤمنين عليه‌السلام رأس الايمان حيث قال : ـ

(رأس الإيمان حُسن الخلق ، والتحلّي بالصدق )(٣) .

لذلك تلاحظ أنّه حتّى على الصعيد الإسلامي الذي هو القمّة الشاهقة في حقل الأدب الأخلاقي ، يتمثّل المسلك الصحيح والخالص من كلّ شوب في مذهب أهل البيت عليهم‌السلام فقط دون سائر المذاهب والفرق الإسلاميّة ، وفي سيرة محمّد

__________________________________

(١) شرح نهج البلاغة / ج ١ / ص ١٧ ـ ص ٢٦ .

(٢) مستدرك الوسائل / ج ١١ / ص ١٨٧ .

(٣) غرر الحكم / ص ٩٤ .

١٥

وآل محمّد سلام الله عليهم دون سيرة غيرهم ، ومن أحاديث آل الرسول لا من أسفار غيرهم التي أدّت إلى الانحراف عن الطريق الحقّ .

ويكفيك لاتّضاح ذلك وثبوته المقارنة بين الأحاديث الأخلاقيّة لأهل بيت العصمة عليهم‌السلام المجموعة في أبواب العِشرة من كتاب بحار الأنوار التي سنذكر جملةً منها إن شاء الله تعالى فيما يلي ، وبين كتب الأخلاق لغير مذهب أهل البيت ، وأهمّها كتاب إحياء العلوم لأبي حامد الغزالي الشافعي المتوفّى سنة ٥٠٥ هجريّة .

فانظر ما فيه من النماذج الأخلاقيّة ، وقارن بينها وبين أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام ، ثمّ أحكم بما يحكم به العقل السليم والوجدان المستقيم .

وإنّي أنقل فيما يلي بعض التهذيبات الأخلاقيّة التي استحسنها الغزالي في كتابه إحياء العلوم .

ثمّ أذكر فيما بعده ما ردّ عليه أبو الفرج بن الجوزي الذي هو من علماء أهل السنّة أيضاً .

قال في الاحياء : ـ

كان بعض الشيوخ في بداية إرادته ـ لقيام الليل ـ يكسل عن القيام فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل لتسمح نفسه بالقيام عن طوع ، قال :

وعالج بعضهم حبّ المال بأن باع جميع ماله ورماه في البحر إذا خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود والرياء البذل ، قال :

وكان بعضهم يستأجر من يشتمه علىٰ ملأ من الناس ليعوّد نفسه الحلم ، قال :

وكان آخر يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الموج ليصير شجاعاً .

وقال قبل أن يورد هذه الحكايات :

ينبغي للشيخ أن ينظر إلى حالة المبتدئ فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر حاجته أخذه وصرفه في الخير وفرّغ قلبه منه حتّى لا يلتفت إليه ،

١٦

وإن رأى الكبرياء قد غلب عليه أمَرَهُ أن يخرج إلى السوق للكدّ ويكلّفه السؤال والمواظبة على ذلك ،

وإن رأى الغالب عليه البطالة استخدمه في بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان ،

وإن رأى شَرَه الطعام غالباً عليه ألزمه الصوم ،

وإن رآه عزباً ولم تنكسر شهوته بالصوم أمره أن يفطر ليلةً على الماء دون الخبز وليلةً على الخبز دون الماء ويمنعه اللّحم رأساً .

وعن ابن الكريني أنّه قال : نزلتُ في محلّةٍ فعُرفتُ فيها بالصلاح فدخلتُ الحمّام وغيّبتُ عليَّ ثياباً فاخرة فسرقتُها ولبستُها ثمّ لبستُ مرقعتي فوقها وخرجتُ فجعلتُ أمشي قليلاً قليلاً فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفّعوني فصرتُ بعد ذلك أُعرف بلصّ الحمّام فسكَنت نفسي .

قال أبو حامد :

فهكذا كانوا يروّضون أنفسهم حتّى يخلّصهم الله من النظر إلى الخلق ثمّ من النظر إلى النفس(١) .

وردَّ عليه ابن الجوزي بقوله : ـ

قلتُ : وإنّي لأتعجّب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة ؟

وكيف يحلّ القيام على الرأس طول الليل فينعكس الدم إلى وجهه ويورثه ذلك مرضاً شديداً ؟

وكيف يحلّ رمي المال في البحر وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن إضاعة المال ؟

وهل يحلّ سبّ مسلم بلا سبب وهل يجوز للمسلم أن يستأجر عن ذلك ؟

__________________________________

(١) إحياء العلوم / ج ٣ / ص ٥٤ .

١٧

وكيف يجوز ركوب البحر زمان اضطرابه وذلك زمانٌ قد سقط فيه الخطاب بأداء الحجّ ؟

وكيف يحلّ السؤال لمن يقدر أن يكتسب ، فما أرخص ما باع أبو حامد الغزالي الفقه بالتصوّف ؟!

ثمّ قال : سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحلّ ، والعجب أنّه يحكيه ويستحسنه ويسمّي أصحابه أرباب أحوال ، وأيّ حالة أقبح وأشدّ من حال من يخالف الشرع ويرى المصلحة في المنهيّ عنه ؟!

وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي ، أوَقَد عدم في الشريعة ما يصلح قلبه حتّى يستعمل ما لا يحلّ فيها ، وكيف يحلّ للمسلم أن يعرّض نفسه لأن يُقال عنه سارق وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ، ومحو ذلك عند شهداء الله في الأرض ، ثمّ كيف يجوز التصرّف في مال الغير بغير إذنه ؟!

ثمّ في نصّ مذهب أحمد والشافعي أنّ من سرق الحمّام ثياباً عليها حافظ وجب قطع يده ، فعجبي من هذا الفقيه المستلب عن الفقه بالتصوّف أكثر من تعجّبي من هذا المستلب الثياب ، انتهى(١) .

هذا ما تلاحظه من المسلك الخشن في الأخلاق الذي يأباه الدِّين والعقل السلم .

والأعجب من ذلك ما تلاحظه في السيرة الأخلاقيّة التي كانت من كبرائهم ، المنقولة في أحاديثهم ، وفي معتبرات كتبهم ، ننقل نموذجاً منها بالنصّ فيما يلي : ـ

١ / في صحيح البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر :

أنّ عبد الله بن اُبيّ لمّا توفّى جاء ابنه إلى النبيّ ، فقال : يا رسول الله أعطني

__________________________________

(١) تلبيس إبليس / ص ٥٩٧ .

١٨

قميصك أكفّنه فيه ، وصلِّ عليه ، واستغفر له .

فأعطاه النبيّ قميصه ، فقال : آذنّي اُصلّي عليه .

فآذنه ، فلمّا أراد أن يصلّي عليه جذبه عمر فقال : أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين ؟

فقال : أنا بين خيرتين ، قال : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) فصلّى عليه(١) .

٢ / في صحيح مسلم بسنده عن عروة بن الزبير :

أنّ عائشة زوج النبيّ قالت :

إعتمّ ـ أي أبطأ ـ رسول الله ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي تُدعى العتمة ، فلم يخرج رسول الله حتّى قال عمر بن الخطّاب نام النساء والصبيان .

فخرج رسول الله فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم : ـ ... وما كان لكم أن تتزروا ـ أي تستعجلوا ـ رسول الله على الصلاة ، وذلك حين صاح عمر بن الخطّاب(٢) .

٣ / في حلية الأولياء بسنده عن ابن عسيب :

قال : خرج رسول الله ليلاً فدعاني ، فخرجت إليه ، ثمّ مرّ بأبي بكر ، فدعاه فخرج ، ثمّ مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه ، فانطلق حتّى دخل حائطاً لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط : أطعمنا بُسراً . فجاء بعذقٍ ، فوضعه ، فأكلوا ، ثمّ دعا بماءٍ فشرب فقال : ـ لتُسئلُنَّ عن هذا يوم القيامة .

قال : وأخذ عمر العذق ، فضرب به الأرض ، حتّى تناثر البُسر نحو وجه

__________________________________

(١) صحيح البخاري / أحكام الجنائز /باب الكفن من القميص ، ورواه الترمذي أيضاً في سننه / ج ٢ / ص ١٨٥ ، والنسائي في سننه / ج ١ / ص ٢٦٩ ، وابن ماجه في سننه / باب الصلاة على أهل النفاق ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب / ج ١ / ص ٣٦٦ .

(٢) صحيح مسلم / كتاب المساجد / باب وقت العشائين وتأخيرها .

١٩

رسول الله ، ثم قال : يا رسول الله ، إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة ؟

قال : نعم(١) .

هذه نماذج ثلاثة تلاحظ فيها بوضوح سوء الأخلاق وإساءة الأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان قمّة في الأخلاق ، وصاحب الخلق العظيم ، بشهادة ربّ العالمين .

لذلك أورد عليه السيّد الفيروزآبادي بقوله : ـ

( أقول ) أمّا جذب عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرواية الاُولى لمّا أراد أن يصلّي علىٰ عبد الله بن اُبيّ وقوله له أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين ، فهو ما فيه دلالة واضحة على تجسّر عمر علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسوء أدبه معه ، بل يظهر منه أنّ عمر كان يرى الصلاة علىٰ عبد الله أمراً حراماً شرعاً وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ارتكب الحرام الشرعي فأراد أن ينهاه عن المنكر .

ولم يكتف بالنهي عنه بالكلام فقط بل نهاه عنه قولاً وعملاً فجذبه وقال له : أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين . ومن المعلوم أنّ من ينهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المنكر فهو يرى نفسه أتقى لله وأورع ، وهذا لعمري إن لم يكن كفراً محضاً كما لا يبعد فهو ضلال بيِّن لا محالة لا يرتاب فيه إلّا أهل الضلال .

ولو كان مقصود عمر مجرّد الاستفهام والاطّلاع على السبب الباعث لصلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ابن أُبيّ لتقدّم إليه واستفهمه بالكلام الطيّب ، ولم يتجسّر عليه بجذبه عن الصلاة وبالقول الخشن المذكور ، وهذا واضح ظاهر .

( وأمّا صياح عمر بن الخطّاب ) على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرواية الثانية حين تأخّر في الخروج إلى صلاة العشاء كما يظهر من آخر الرواية حيث قال وذلك حين صاح

__________________________________

(١) حلية الأولياء / ج ٢ / ص ٢٧ ، وذكره العسقلاني في الإصابة / ج ٧ / القسم الأوّل / ص ١٣١ ، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده / ج ٥ / ص ٨١ ، والطبري في تفسيره / ج ٣٠ / ص ١٨٥ ، وابن سلطان في المرقاة / ج ٤ / ص ٣٩٧ وقال : إنّه رواه البيهقي أيضاً .

٢٠