غاية المسؤول في علم الأصول

السيّد محمّد حسين بن محمّد علي الشهرستاني

غاية المسؤول في علم الأصول

المؤلف:

السيّد محمّد حسين بن محمّد علي الشهرستاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

المتعدّدة فاسد لأنّ حمل المسمى لا يقتضي إلاّ صدق المسمّى على الموضوع وكونه من مصاديق المسمى كما يقال الذّهب مسمّى العين فإنّه ليس معناه أنّه جميع مسميات العين إذ النّكرة لا تعم في سياق الإثبات اللهمّ إلاّ أن يقال إن مراده من إثبات الكلية بالرّجوع إلى العرف لا يمكن إلاّ بجعل الحمل الحاصل في العرف عبارة عن حمل المفهوم المسمّى بجميع أفراده ليتم الكليّة فإن حمل مفهوم المسمى في الجملة لا يثبت الكليّة وحينئذ فيلزم المحذور فلا يتم الجواب لا أن محض حمل المسمّى يستلزم ذلك المحذور ومنها ما ذكر الفاضل البهبهاني قدس‌سره من أن كليّة الكبرى تعلم بالرجوع إلى العرف فإذا رأينا أنّهم سلبوا لفظا مجردا عن القرينة عن شيء نعلم مجازيّته لأن تجرّده عن القرينة قرينة على اتحاده معنى إذ لو كان مشتركا لم يصحّ تجرّده عن القرينة وإذا ثبت اتحاده معنى فبسلبه عنه يلزم سلب جميع الحقائق عنه إذ لا حقيقة له سوى المسلوب وعلى هذا لا يلزم أن نعلم المعنى الحقيقي أصلا بل محض تجرّده عن القرينة الصارفة والمعيّنة دليل على كونه حقيقة دون غيره وربما يناقش في ذلك بأن سلب اللّفظ المجرّد عن القرينة عن شيء إنما يدفع احتمال اشتراكه في غير المسلوب عنه فلم لا يجوز أن يكون للّفظ موضوعا للمسلوب عنه أيضا ويكون السلب قرينة على إرادة المعنى الآخر من المسلوب لعدم جواز سلب الشّيء عن نفسه فلم يلزم من التجرّد عن القرينة سلب جميع الحقائق ونظير ذلك ما ربما يقال من أن قولهم عدم صحة السّلب معناه صحة الحمل وحمل ذات الحقيقة على شيء يستلزم ثبوت وصف الحقيقية له باطل لأنّ حمل الشّيء على شيء لو كان حقيقيّا لتم ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون الحمل ادعائيا ويكون القرينة عليه علم المتسامعين بتغايرهما فإذا سمعنا أنه قال واحد من أهل العرف لآخر البليد حمار لا يمكن لنا إثبات الوضع له بذلك لجواز أن يكون الحمل ادعائيا ويكون القرينة علم المتكلّم والمخاطب بالتّغاير والجواب أمّا عن الثاني فظاهر لأن الحمل حقيقة في الحمل الحقيقي مجاز في الادعائي إذ لا تفاوت بين المادة والهيئة فكما أن الأوّل موضوع فكذا الثّاني والأصل في الاستعمال الحقيقة مضافا إلى ما هو متداول لأن في العرف من حمل الكلمات على ظواهرها وإن لم يكونوا مخاطبين بها ولو كانت هذه الاحتمالات لوجب التّوقّف لكل من لم يكن مخاطبا فيما كان هناك حمل لاحتمال ادعائية الحمل أو مجازية المحمول ويكون القرينة علم المتسامعين فلو سمع زيد ابني وجب التّوقّف لاحتمال أن يكون زيد غير ابنه وعلمهما بهذا قرينة على ادّعائية الحمل أو على مجازية الابن بإرادة التّربية منه مع أنا نشاهدهم لا يتوقّفون في ذلك أصلا وهو ظاهر وأمّا عن الأوّل فبأنه وإن صحّ ما قلت من احتمال الاشتراك بين المعنيين بأن يكون السلب قرينة على إرادة المعنى الآخر من المسلوب لكن أصالة عدم الاشتراك وندرته يدفع هذا الاحتمال أو يقال إن في غالب الموارد نعلم وحدة المعنى إنما الاشتباه في تعيينه فبصحة سلب اللّفظ

٤١

المجرد عن القرينة عنه عرفا نعلم أنّه ليس بموضوع له وبعدمها نعلم أنّه هو مضافا إلى ما عرفت من إثبات الحقيقيّة بعدم صحة سلب البعض ولا نحتاج إلى أخذه كلية فافهم تنبيهان الأوّل قد نوقش في كون صحّة السّلب علامة للمجاز بأن صحة السّلب معنا صحة سلب حمل المعنى الحقيقي عن المشكوك والحمل المتداول في العرف هو حمل الكليّ على الفرد فمعنى صحة السلب سلب فرديّته للمعنى الحقيقي لا سلب عينيّته له وسلب الفرديّة له الاحتمالات أحدها أن يراد بالمسلوب مفهوم المسمّى وقد أثبتنا بطلانه لأنه مجاز بل الظاهر سلب الحقائق والذوات والثّاني أن يكون المسلوب فرديته للمعنى الحقيقي بأن يكون عينه وذلك كأن يقال الذّهب ليس بذهب أي ليس فردا له بل هو عينه والثالث أن يراد سلب فرديته له بأن يكون متباينا معه وإن كان موضوعا له بوضع آخر كما يقال الذهب ليس بفضة أي ليس فردا لها لكنّه موضوع له برأسه والرابع أن يراد بسلب الفرديّة كونه مجازا وسلب الفرديّة أعم من المذكورات فهو مجمل لا يمكن به إثبات المجازيّة ونظير ذلك أن يقال في عدم صحّة السّلب أن معناه عدم صحة سلب الحمل المتعارفي بمعنى صحّة الحمل المتعارفي وغاية ما يثبت منه كونه فردا للمعنى الحقيقي لا أنّه موضوع له إذ هو لا يثبت إلاّ بالحمل الذّاتي وهو غير متداول في العرف والجواب أمّا عن الإيراد في عدم صحّة السّلب فبأنّه ليس الغرض من هذه العلامة إلاّ إثبات أنه لو استعمل في المشكوك لكان على وجه الحقيقة وهو يحصل بالفردية أيضا إذ الفرد عين الكلي الموجود غاية الأمر عدم ثبوت الوضع له بخصوصه بذلك وهو يحصل بالفردية أيضا إذا الفرد عين الكلي الموجود غاية الأمر عدم ثبوت الوضع له بخصوصه بذلك وهو مسلم هذا إن قلنا بصحة سلب الكلّ عن الجزء عرفا وإلاّ بأن نقول لا يصحّ سلب الكل عن الجزء في العرف كما هو الظاهر فإنه لو رأى ورقا من المعالم مثلا فقال ليس هذا كتاب المعالم لخطئوه في ذلك فنقول حينئذ يتردّد عدم صحة السلب بين العينيّة للمعنى الحقيقي والفردية والجزئية له فيثبت أنه مربوط بالحقيقة لا أجنبي عنه ولا يثبت به الوضع وأمّا في صحّة السّلب فنقول الاحتمال الأول مدفوع بما عرفت وأمّا الثاني فظاهر البطلان لندرته عرفا بل هو غير مستعمل قطعا وأمّا الثالث فإنه وإن كان محتملا إلاّ أنّه مدفوع بما عرفت من أصالة عدم الاشتراك وندرته والرابع هو المطلوب الثاني صحة السلب وعدمها إنما يجريان في المعاني المستقلّة التي يمكن حمل شيء بخلاف المعاني الغير المستقلّة كالمعاني الحرفيّة والفعلية إذ لا يصح حمل شيء عليهما وبهذا علم فساد قول من قال إن الاستفهام في قوله تعالى ما مَنَعَكَ أَنْ لا تَسْجُدَ مستعمل في الاستفهام الحقيقي بجعله أعمّ مما كان المراد طلب الفهم لنفس المتكلّم أو غيره والمراد في الآية الثّاني والغير هو الملائكة مستدلاّ بعدم صحة سلب الاستفهام عن الاستفهام الذي كان الغرض منه طلب الفهم للغير فلا يقال إنه لم يستفهم وذلك للفرق بين مادة الاستفهام وأداته فعدم صحة سلب الأوّل

٤٢

لا يدلّ على حقيقية الثّاني كما هو المطلوب نعم لو علم أن المعنى الحرفي مترادف مع المعنى الاسمي في غير جهة الاستقلال وعدمه لصحّ ذلك كما لو علمنا أن معنى كلمة من هو معنى الابتداء إلاّ أنّه مستقل وهذا غير مستقلّ وحينئذ فلو شككنا في أن استعمال كلمة من في ابتداء الزمان حقيقة أو مجاز لصح الاستدلال بعدم صحة سلب الابتداء عن ابتداء الزّمان فيعلم بانضمام المقدّمة الخارجيّة وهي التّرادف أن كلمة من أيضا حقيقة فيه فليتدبّر

ومنها الاطراد وعدمه

واختلف في ذلك على أقوال فقيل بأنّ الاطراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز ولازم هذا القول تساوي الاطراد مع الوضع وقيل بأن الاطراد أعمّ من الحقيقة لوجوده في المجاز وعدمه أعمّ من المجاز لوجوده في الحقيقة فليس شيء منها دليلا وقيل إنّ الاطراد أعمّ وعدم الاطراد غير موجود بل جميع المجازات مطردة وقيل الاطراد أعمّ وعدم الاطراد خاصّ بالمجاز فيثبت به المجازية ولا يثبت الوضع بالاطراد فهناك أقوال أربعة والحق هو الأخير وتحقيق الحقّ يتوقّف على تمهيد مقدّمة فنقول الاطراد عبارة عن عموم صحة استعمال اللّفظ في المعنى وبعبارة أخرى أن يكون استعمال في المعنى غير مختص ببعض الموارد بأن لا يختلف باختلاف الموارد كما يصحّ استعمال زيد في مسمّاه في جميع الموارد إنشاء وإخبارا أمرا ونهيا وهكذا سواء كان اختلاف الموارد موجبا لتكثّر المعنى حقيقة أو لا فالأوّل كالنخلة في الطّويل فإنّ اختلاف موارد استعماله يوجب اختلاف حقيقة الطّويل فإنه قد يلاحظ بالنّسبة إلى الإنسان الطّويل وقد يلاحظ بالنّسبة إلى الجبل والحائط الطّويلين وحقيقة الطّول الحاصل في الإنسان غير الحاصل في الجبل حيث يلاحظ فيه القطر والعرض الخاص والثّاني كالرقبة في الإنسان فإن اختلاف موارد استعماله إنما هو باختلاف الأحكام كما يقال أعتق الرّقبة أو اضرب الرّقبة أو جاء الرّقبة فإن الرّقبة واحدة وإنما المختلف أحكامه المتعلّقة بها والاطراد عبارة عن صحّة استعماله في جميع الموارد سواء كان اختلاف الموارد موجبا لتكثر المعنى أو لا وعدمه عبارة عن عدم صحة ذلك بأن كان استعماله في بعضها صحيحا دون بعض أعمّ من أن يكون الاختلاف سببا لتكثّر المعنى أو لا هذا والفرق بين الاطراد والاستقراء ظاهر إذا الاستقراء عبارة عن الحكم على جملة بما وجد في جزئيّاتها وذلك يتصور بوجهين أحدهما أنا نرى لفظ ضارب مثلا مستعملا في من قام به الضّرب ونعلم أنّه موضوع له لكن نشكّ في أنّه لوحظ تفصيلا بمادته الخاصّة ووضع له اللّفظ أو لا بل لوحظ إجمالا في ضمن قضيّة كليّة هي آلة لملاحظة الجزئيات أعني كلّ ما كان على زنة فاعل لكلّ من تلبس بالمبدإ فنثبت بالاستقراء أن الملاحظ هو الكلّيّة لا خصوص المواد وحينئذ فالوضع عام والموضوع

٤٣

له خاصّ والثّاني أن نشكّ في كونه موضوعا بخصوصه تفصيلا وكونه موضوعا بالعرض بأن يكون الموضوع هيئة الفاعل لمن تلبس بالمبدإ فبالاستقراء نثبت أن الموضوع هو الهيئة لمن تلبس بالمبدإ فالوضع عام والموضوع له عام ويظهر الثّمرة في صحّة قياس ما لم نجده من الأفراد على ما وجدناه لو أثبتنا أن الموضوع هو الهيئة أو أنّ المعتبر في الوضع هو القضية الكلّيّة وعدم صحته لو كان المعتبر هو خصوص كلّ واحد منها وبالجملة يعتبر في الاستقراء إحراز الوضع بالنّسبة إلى الجزئيات ويكون الشّكّ في أنّ الموضوع هل هو الهيئة أو لا فيثبت بالاستقراء بخلاف الاطراد فإن مورده الشّكّ في الوضع كما إذا رأينا استعمال الإنسان في الحيوان النّاطق وشككنا في أنّه حقيقة أو لا فباطراد استعماله فيه ثبت حقيقيّته فيه وبذلك ظهر أن تمثيل بعضهم للاطراد بوضع المشتقات ليس على وجهه إلاّ أن يقال إن في وضع المشتقات جهتين بالنسبة إلى الشّكّ في الموضوع هل هو الخصوص أو الهيئة وبالنسبة إلى الموضوع له هل هو ما تلبس بالمبدإ مطلقا أو لا بل خصوص كلّ مادة فبالاستقراء يثبت الأوّل وبالاطراد الثّاني إذا عرفت ذلك فنقول إنّه إذا لوحظ اللّفظ والمعنى الخاصّ فإمّا أن يصحّ استعماله فيه في جميع الموارد أو يختصّ ببعض موارد ذلك المعنى فالأوّل هو الاطراد والثّاني عدمه وعدم الاطراد مختصّ بالمجاز إذ لا معنى لعدم اطراد الحقيقة لأن فائدة وضع اللّفظ للمعنى أن يصح استعماله فيه في أيّ مورد أريد ذلك حتى أنّه لا يجوز للواضع بعد الوضع أن يمنع عن الاستعمال لمنافاته لغرضه وبهذا رد كون وضع المبهمات عاما والموضوع له عامّا فإنه قيل في تصحيحه إن الواضع بعد الوضع منع عن الاستعمال ولهذا لا يستعمل فيه فردّ بأنّه لا يجوز له أن يمنع عن الاستعمال بعد الوضع فإن معنى الوضع جعله علامة له فأي فائدة فيه إذا لم يجز استعماله فيه بخلاف المجاز فإنّ المدار فيه على العلائق والمناسبات الذّوقية فيجوز أن يكون المناسبة الحاصلة بين المعنى المجازي والحقيقي الّتي هي منشأ صحّة استعماله منشئا في خصوص بعض الموارد دون بعض كما نشاهد في الرّقبة حيث يصحّ استعمالها في الإنسان في مورد تعلّق العتق الّذي هو مثل فكّ القيد المناسب للرقبة ولا يصحّ في مثل جلس الرّقبة أو نامت ونحوهما نعم لو كان محض المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي معتبرا مع قطع النّظر عن مورد دون مورد الاطراد استعماله في جميع الموارد كالأسد في الشّجاع حيث لم يلاحظ فيه غير المناسبة في الشّجاعة فيصحّ استعماله فيه في جميع الموارد وبهذا صار الاطراد أعم من الحقيقة لوجوده في هذا القسم من المجاز والحاصل أنا إذا رأينا استعمال اللّفظ في معنى وشككنا في وضعه له فنلاحظ سائر الموارد فإن رأينا صحّة استعماله في ذلك في الجميع لم نعرف وضعه لاحتمال كونه مجازا على القسم الثّاني وإن رأينا اختصاص

٤٤

الصّحّة بذلك المورد دون سائر الموارد علمنا أنّه مجاز في المورد المستعمل فيه فإذا رأينا اختصاص استعمال الرّقبة بالإنسان بمورد العتق علمنا أنّه مجاز فيه في ذلك المورد لا في سائر الموارد الغير المستعملة فلا يرد ما ذكره بعضهم أن المجاز لا يمكن أن يكون غير مطرد فإنّه فيما يصحّ استعماله فيه مطرد وفيما لا يصحّ استعماله فيه غلط إلاّ أنّه مجاز وغير مطرد وذلك لأنا لا نقول المجاز بعنوان أنّه مجاز غير مطرد بل نقول إن استعمال اللّفظ في المعنى إذا لم يطرد في جميع الموارد فعدم صحة استعماله في بعض الموارد كاشف عن كونه مجازا في الموارد التي يصحّ الاستعمال فيها وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل إن نكتة عدم الاطراد في المجاز هو أن المعتبر فيه هو نوع العلاقة والعلاقة ليست بعلة تامة بخلاف الوضع وذلك لما علمت أنّ النّكتة أن العلاقة قد تلاحظ بخصوصية المقام لا أن نوع العلاقة كافية وقد توجد ولا يصحّ الاستعمال لأن النّوع ليس كافيا كما أن الشّخص ليس بلازم بل المدار هو المناسبة الذّوقيّة وعدم الاستعمال عرفا فعلم أن الاطراد أعمّ من الحقيقة وعدم الاطراد خاصة المجاز والجواب عن عدم اطراد بعض الحقائق كالقارورة والسّخيّ والفاضل واضح نعم ربما أمكن الاستدلال بالاطراد على الحقيقة بضميمة ندرة الاطراد في المجاز ولزومه في الحقيقة إلحاقا للمشكوك بالأعمّ الأغلب فإن قلت هلا جعلت الاطراد بلا قرينة علامة للحقيقة حتّى لا يكون أعمّ كما جعلت التّبادر وعدم صحّة السّلب كذلك قلت لأن الاطراد حينئذ معناه عموم الاستعمال بلا قرينة ونفس الاستعمال بلا قرينة علامة للوضع فلا نحتاج إلى عمومه فيكون الاطراد لغوا بل المراد من الاطراد عموم الاستعمال من حيث هو مطلقا

تذنيب

قد عرفت أن إجراء الاطراد في نفس المعنى ليس علامة للحقيقة لوجوده في المجاز فاعلم أنه يمكن إجراؤه في القيود اللاّحقة ويستكشف به عن الوضع وذلك ما قيل إن صحة الاستثناء من اللّفظ دليل على وضعه للعموم فإن معنى الاعتناء حقيقة هو إخراج ما لولاه لدخل إذ هو مجاز في المنقطع وحينئذ فذكر الاستثناء دليل على شمول المستثنى منه للمستثنى وإلاّ لم يتحقق الإخراج واعترض عليه بأن غاية ما يدل عليه الاستثناء دخوله في الإرادة لولاه أمّا دخوله في الوضع فلا وأجيب بأن محض صحة الاستثناء وإن احتمل ذلك لكن اطراد الصّحّة بالنسبة إلى جميع الاستعمالات حتى فيما لم يكن قرينة دليل على العموم لوجهين (أحدهما) أنه حينئذ كاشف عن استعمال اللّفظ في العموم بلا قرينة وهو معنى الوضع لا يقال فحينئذ محض الاستعمال بلا قرينة كاف ولا يحتاج إلى الاطراد قلنا الاطراد كاشف عن استعماله بلا قرينة لا أنا نعلم الاستعمال بلا قرينة جزما ويعلم الاطراد بالرّجوع إلى العرف فيمكن تحصيل العلم به إجمالا باطراد الاستعمال ويعلم منه استعماله فيه بلا قرينة أيضا في بعض الموارد لأنه معنى الاطراد وهو كاشف عن الوضع (والثّاني) أن الاطراد

٤٥

كاشف عن استعماله في العموم في جميع الموارد فيدلّ على وحدة المستعمل فيه والأصل في الاستعمال الواحد الحقيقة وإلاّ لزم ثبوت المجاز بلا حقيقة واعترض على الثّاني بأنه حينئذ مثبت لموضوع علامة أخرى وليس علامة مستقلة وعلى الأول بأنّه لم لا يجوز أن لا يكون المستثنى منه موضوعا للعموم واستعمل فيه مجازا بقرينة الاستثناء والجواب عن الثّاني أمّا أوّلا فبأن الاستثناء الفعلي لو سلم إمكان كونه قرينة فلا يضرّ بما نحن فيه لأنا نقول قابلية اللّفظ للاستثناء مطردا وعدم تنافره مع الاستثناء كلية دليل على أنّه موضوع لمعنى يقبله وهو العموم الاستثناء الفعلي وبهذا علم أنّه لا نحتاج إلى الدّليل الثّاني حتى يرد عليه الاعتراض بأنّه مثبت لموضوع علامة أخرى وأمّا ثانيا فبأنّ كون الاستثناء الفعلي قرينة على إرادة المجاز في العام من المستثنى منه أول الكلام لأنه مبنيّ على إجراء أصالة الحقيقة في الاستثناء وأنّه موضوع لإخراج ما لولاه لدخل ولا يمكن ذلك إلاّ بإرادة العموم من المستثنى منه فنقول لو كان المستثنى منه موضوعا للخصوص لكان مقتضى أصالة الحقيقة إرادة الخصوص فيعارض إجراء أصالة الحقيقة في الاستثناء لاستلزامه صيرورته منقطعا وترجيح الثّاني على الأوّل محل كلام كما ذكروا فيما لو أقرّ بأنّ له علي دراهم إلاّ ثوبا فالأمر دائر بين إضمار المقدار حتى يكون الاستثناء متصلا وبين إرادة الانقطاع وترجيح الأول محلّ نظر نعم يمكن ذلك أعني إجراء أصالة الحقيقة فيه وصيرورته قرينة فيما إذا لم يعارضه معارض وذلك في موضعين أحدهما ما إذا حذف مميز المستثنى منه أو نفسه كقولنا له عشرة إلاّ درهما أو ما جاءني إلاّ زيد فهو قرينة على كون المستثنى منه شاملا للمستثنى وعلى كونه من جنسه والثّاني فيما لو كان المستثنى منه مشتركا بين الخاص والعام فذكر الاستثناء قرينة على إرادة العموم بضميمة أصالة الحقيقة فإمكان كون الاستثناء قرينة لمجازية المستثنى منه مطلقا محل كلام فعلم بذلك أن اطراد صحّة الاستثناء وقابلية اللّفظ له كلية دليل على وضعه للعموم والمناقشة في ذلك باطلة

ومنها صحة التّقسيم

وهو إمّا بالأداة كالتقسيم بكلمة إمّا وأو وإمّا بالمادة كقولنا ينقسم الكلمة إلى الاسم والفعل والحرف وعلى أيّ تقدير فهو كاشف عن استعمال اللّفظ في القدر الجامع بين الأقسام وأنّه الموضوع له فهنا مقامان الأول في دلالته على الاستعمال في القدر المشترك الذي هو كلي والثّاني في إثبات أنّه موضوع له أمّا المقام الأوّل فنقول استدلّ على ذلك بالدليل العقلي وهو أن المقسم لا يخلو إمّا أن يكون أحد الأقسام أو مباينا لها أو قدرا مشتركا بينها والأوّلان باطلان فتعيّن الثّالث واستدلّ بعضهم على ذلك في خصوص المادة مضافا إلى ما ذكر بأن لفظ القسمة موضوع للدّلالة على كون المقسم قدرا مشتركا بين الأقسام ويشكل ذلك بأنّ معنى القسمة التّبعيض والتّجزئة

٤٦

فهي تصدق بكون المقسم مركّبا والأقسام أجزاؤه لا قدرا مشتركا بينهما بل القسمة موضوعة لذلك فإن قلت إنها تستعمل في تقسيم الكلي إلى الأفراد أيضا مع أنّه ليس مركّبا ذا أجزاء قلت استعمال القسمة في ذلك إنّما هو بالنّظر إلى أن الكلي بحسب تعدّد وجوده بالنسبة إلى الأفراد معروض للكثرة التي تنقسم إلى أفراد الكليّ فالأفراد بهذا الاعتبار أجزاء فيصحّ استعمال القسمة فيه بهذه الجهة ولذا قيل إن الأمر البسيط من جميع الجهات ليس قابلا للقسمة وذلك لاشتراط الكثرة في المقسم ولا تعلق لما ذكر بالبحث إذ لا كلام لنا في خصوص المادّة إنما الكلام في القسمة مطلقا وقد عرفت دلالته على كون المقسم أمرا عاما بالدّليل العقلي أو غيره وهو ظاهر وأمّا المقام الثّاني وهو إثبات أنّ القدر المشترك هو الموضوع له فقد استدلّ له بوجوه ثلاثة (أحدها) أن معنى تقسيم شيء إلى أمور كونه موضوعا للعام الشّامل لتلك الأمور فإن معنى القسمة ضم القيود إلى الكليّ لتحصيل الأقسام و (الثّاني) أن مقتضى القسمة حمل المقسم على الأقسام فإنّ قولنا الكلمة اسم أو فعل يستلزم حمل الكلمة على الاسم والفعل بطريق العكس المستوي وهو قولنا الاسم كلمة وظاهر الحمل كون الموضوع من الأفراد الحقيقية للمحمول وبعبارة أخرى التّقسيم يستلزم صدق عنوان المقسم على مصداق الأفراد حقيقة لأن المقسم محمول في العكس والأفراد موضوع والمحمول يراد به العنوان كما أن المراد بالموضوع المصداق ومقتضاه صدق الكلمة عنوانا على مصاديق الاسم والفعل والحرف حقيقة والثّالث أن الغالب في التّقاسيم تقسيم المعنى الحقيقي وتقسيم المجازات نادرا واعترض على الأوّل بأن التّقسيم إنما يدلّ على الاستعمال في العام لا على كونه موضوعا له والقول بأصالة الحقيقة في الاستعمال باطل لما سيجيء وعلى الثّاني بأنّ قوله إن الظّاهر من الحمل كون الموضوع من الأفراد الحقيقيّة للمحمول إن أراد من الحقيقيّة فيه الواقعي مقابل الادّعائي فلا يستلزم المطلوب وهو الوضع وإن أراد به مقابل المجازي فغير مسلم لوجود الحمل بالنّسبة إلى المعنى المجازي أيضا ويشهد لذلك أنّهم أعرضوا عن صحّة الحمل إلى عدم صحة السّلب في علامة الحقيقة وأيضا لو كان صحّة الحمل علامة الحقيقة لكان مقتضاه أن الأصل في الاستعمال الحقيقة كما يقوله السّيّد المرتضى لوجود الحمل في المجازات أيضا فإن قولنا رأيت أسدا يرمي معناه رأيت من هو من أفراد الرّجل الشّجاع الّذي هو الحيوان المفترس على ما بيّن في محله فهو أيضا متضمّن لحمل الأسد على زيد مثلا ولو ضمنا ومقتضى ما ذكر أن يكون حقيقة وإن قيل أنّ الكلام في الحمل المجرّد عن القرينة والحمل في المجازات مستند إلى القرينة قلنا القرينة الخارجيّة يمكن تجرّد الحمل عنها لكن لم لا يجوز أن يكون علم السّامع والمتكلّم بالتغاير قرينة على المجازية كما يقال البليد حمار بدون نصب قرينة وذلك

٤٧

لأن علمهم بالتغاير قرينة المجازية والحاصل أن الحمل بلا قرينة أيضا موجود في المجازات فلو قيل بأنه دليل الحقيقة لزم القول بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة مع أنّه باطل وعلى الثّالث بمعنى الغلبة المفيدة للظّنّ وعدم كفاية مجرّد الغلبة بدون إفادتها الظّنّ هذا حاصل ما قيل في الاعتراض وأقول أمّا الاعتراض الأوّل فصحيح وأمّا الثّاني والثّالث فباطلان أمّا الثّاني فلأنّ مبناه أنّ العلم بالتغاير يمكن أن يكون قرينة على مجازيّة المحمول وهو باطل لأنّ الكلام إنما هو في أن حمل المعنى الحقيقي على شيء دليل فرديّة له وهذا مما لا يرد عليه شيء لا أن القضيّة الحملية دليل عليه مع أنّ لنا أن نقول بالثاني أيضا لأن احتمال كون العلم بالتغاير قرينة المجازيّة غير معتبر في العرف لما عرفت سابقا من أنّه يستلزم أن لا يجوز لغير المخاطب حمل كلام المتكلّم على ظاهره مضافا إلى أن العلم بالتغاير لا يعين مجازيّة المحمول بل إنما يقتضي صرف الكلام عن ظاهره إمّا بمجازية المحمول أو ادعائية الحمل فيصير مجملا فقول المتكلّم الفقّاع خمر يحتمل أنّه لما كان عالما بتباينهما فعلمه بذلك قرينة على إرادة خلاف الظّاهر إمّا بمجازية الخمر بعلاقة الشّباهة في الإسكار فيثبت بالحمل أن الفقّاع أيضا مسكر أو بادعائية الحمل بأن يكون المراد حقيقة الخمر ويكون حمله على الفقّاع ادعائية لوجود جميع أحكامه فيه فعلى الأوّل لا يثبت حكم الخمر للفقّاع بخلاف الثّاني فيصير مجملا وكذا لو قال زيد ابني يحتمل أنّه عالم بالتغاير وهو قرينة على مجازية الابن في الابن التّعليمي مثلا وادّعائية الحمل فلا يكون إقرارا مع أنا نراهم يجعلون ذلك إقرارا ولا يعتبرون هذه الاحتمالات مع أنّ الاحتمال المذكور ثابت في عدم صحّة السّلب وكذا في صحّة السّلب على ما سبق وليس وجه إعراضهم عن صحّة الحمل إلى عدم صحّة السّلب ما ذكر بل الوجه جعله مقابلا لصحّة السّلب مع أن بعضهم ذكر صحّة الحمل دون عدم صحة السّلب فافهم وأمّا الثّالث فلأنّ الإنصاف أنّ الغالب في التّقاسيم تقسيم المعنى الحقيقي وتقسيم المجازي لا يمكن إلاّ بإرادة مفهوم المسمّى وهو نادر جدّا فلو قيل العين على أقسام ذهب وفضة وغيرهما لكان قبيحا من القول كما إذا قيل زيد على أقسام زيد بن عمرو وزيد بن بكر وغيرهما

تنبيهان

الأوّل المقسم قد يكون ذاتيّا للأقسام كقولهم الحيوان إمّا إنسان أو بقر وقد يكون عرضيّا كقولهم الحيوان إمّا أبيض أو أسود لعدم مأخوذية مفهوم المقسم في الأقسام في هذا القسم ولا ينافي ذلك ما سبق أن المقسم معتبر في الأقسام لأن المراد بالأبيض في التّقسيم الحيوان الأبيض لكن ليس الحيوان معتبرا في مفهوم الأبيض من حيث هو وإذا شك في أن المقسم ذاتيّ أو عرضيّ فهل الأصل الأوّل أو الثّاني محل نظر مبني على أن الغالب أيّهما وتعيّنه مشكل ويظهر الثّمرة في تعيين معنى القسم أيضا بصحّة التّقسيم على الأوّل دون الثّاني فلو قيل الغراب على قسمين أبيض وأسود وشكّ في أنّ الأبيض أي شيء فعلى الأوّل

٤٨

يختصّ الأبيض بنوع الغراب لأنّ الغراب حينئذ ذاتي له فلو ورد حكم على عنوان الأبيض اختصّ بالغراب الأبيض بخلاف الثّاني لاحتمال وجود الأبيض في غير الغراب أيضا لكن الأبيض من الغراب هو القدر المتيقّن فيتعلّق به الحكم قطعا وأما تعديه إلى الغير أيضا فهو موقوف على دليل خارجي يعيّن وجوده في شيء آخر أو انحصاره في الغراب مثلا ومع الشّكّ يرجع إلى الأصول العملية

الثّاني هل الظّاهر من التّقسيم انحصار المقسم في الأقسام المذكورة الظّاهر نعم لو كان في كلام جماعة من أهل اللّغة المتصفحين المتتبّعين لأن عدم ذكرهم له دليل على عدم وجدانهم ويحصل منه الظّنّ بعدم الوجود أما لو وقع في كلام غيرهم فلا يظهر الثّمرة في موضعين أحدهما في التّعارض فإنه لو أفاد الحصر تعارض مع كلام من أثبت قسما آخر والثّاني فيما إذا ورد الحكم على المقسم فلو أفاد الحصر لم يحصل الامتثال إلا بالأقسام المذكورة دون المشكوكة وإلاّ فما أمكن الامتثال بالمعلومة تعيّن وإلاّ وجب الإتيان بالمشكوكة لقاعدة الاشتغال نظير ما قيل إنه إذا أمر بعتق الرّقبة وشكّ في إرادة المؤمنة أو الأعم فما أمكن عتق المؤمنة تعيّن وإلا وجب عتق الكافرة للقاعدة المذكورة

ومنها الاستقراء

وعرفه المحقق بأنّه الحكم على جملة بحكم وجد فيما اعتبر من جزئيات تلك الجملة وهو تعريف بالغاية إذ الاستقراء هو تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي وهو باصطلاح الأصوليّين يطلق على قاعدة الغلبة أيضا وهي عبارة عن إثبات الحكم للكلي بوجوده في أغلب الأفراد وإن كان هناك فرد لم يثبت الحكم فيه قطعا لكن يستثنى الأفراد المنتفية الحكم عن الكلي كما يقال كل حيوان يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ إلاّ التّمساح ويلحق الأفراد المشكوكة بالغالب فيدخل تحت الكلي والحاصل أنه أعمّ مما إذا ثبت الحكم في جميع الجزئيات فيحكم على الكلّي بالحكم المذكور كما إذا وجد جميع جزئيات هيئة فاعل موضوعا لمن تلبس بالمبدإ فيحكم بأن الهيئة موضوعة لذلك وكذا إن الرّفع علامة الفاعلية إذ الاستقراء كما يثبت وضع اللّفظ كذا يثبت وضع صفاته من الإعراب والبناء ونحوهما وهذا هو الاستقراء المنطقي ومما إذا ثبت الحكم في الغالب وانتفى في النّادر فتلحق المشكوكة بالغالب فيحكم على جملة المشكوكة والمعلومة بحكم الجزئيات المعلومة وهذا هو القاعدة الغلبة والغالب في الاستقراء المذكور في الأصول هو هذا القسم ويمكن دخوله في التّعريف المذكور بأن يراد من الجملة أعمّ من الكليّ الشّامل لجميع الأفراد ومن جملة الجزئيّات المعلومة والمشكوكة ثم إن بعضهم منع عن العمل بالقسم الثّاني أعني قاعدة الغلبة نظر إلى أنه قياس وهو منهيّ عنه وللاتفاق على عدم حجيّته في اللّغات وذلك لأن القياس هو مشاركة جزئي لجزئي في علّة الحكم ليثبت فيه وهنا أيضا كذلك

٤٩

حيث الحق الأفراد المشكوكة بالمعلومة في الحكم الجامع دخولها تحت الكليّ وأجاب بعضهم بأنّ الإلحاق في القياس إنّما هو الجامع بخلاف الاستقراء فإنه عبارة عن تساوي الشّيئين في الحكم لا الجامع وفيه أنّه لا معنى لذلك فإن إلحاق شيء بشيء بدون أن يكون بينهما مناسبة لا معنى له ويؤيد الاحتياج إلى الجامع تقسيم الاستقراء إلى الجنسي والنّوعي والصّنفي وإن الصّنفي مقدّم على النّوعي وهو على الجنسي فالواحد من أفراد الجنسي يحكم بسواده إلحاقا له بصنفه لا ببياضه إلحاقا له بنوعه وليس ذلك إلاّ للاحتياج إلى الجامع وإن كان من محض الاتفاق لم يكن لتقديم الصّنفي على النّوعي وجه وكذا تقديم النّوعي على الجنسي والأولى في الجواب أن يقال إنّ الجامع في الاستقراء يعلم بنفس الغلبة ولا يحتاج إلى استنباط واجتهاد فهو كالقضايا التي قياساتها معها نظير التّجربيّات والحاصل أن الغلبة لازم الوضع للكلي وجدانا لبعد اتحاد الوضع بالنسبة إلى الجزئيات المتباينة وحينئذ فإثبات الوضع به من باب طريق الإنّ استدلالا باللاّزم على وجود الملزوم وإثبات الملازمة من الوجدان كالتّجربيّات بخلاف القياس فإن ثبوت ملازمة الحرمة مع الإسكار ليس وجدانيّا بل يحتاج إلى الاستنباط والاجتهاد في تعيين العلّة فهو الدّليل اللّمي الغير المعتبر في اللّغات بخلاف الاستقراء ولعل مراد من قال بعدم احتياج الاستقراء إلى جامع أنه لا يحتاج إلى الاستنباط والاجتهاد في تعيينه بل هو واضح بنفس الغلبة فهو كالقياس المنصوص العلة مضافا إلى أنّ تعيين الجامع بالغلبة لا يسمى قياسا في الاصطلاح والنّهي وبالاتفاق إنما تعلّقا بعنوان القياس فافهم ثم إن الغالب في الاستقراء أنّه يثبت الوضع الشّخصي كما ذكروا في إثبات الحقيقة الشّرعيّة من استقراء أرباب الحرف والصّنائع فإن كلّ لفظ كان لهم فيه اصطلاح جديد فهو مستعمل في ذلك بطريق الحقيقة لا المجاز فكذا الألفاظ المستعملة في المعاني الشّرعيّة فهذا الاستقراء وإن أثبت القاعدة الكلية وهي أن كل لفظ استعمل في معنى جديد في اصطلاح الشّارع فهو موضوع له لكن الغرض منه وضع مثل الصّلاة والزكاة ونحوهما والوضع فيها شخصي لا نوعي والفرق ظاهر بين الوضع النّوعي وبين القضيّة الكليّة المذكورة وهي أن كل لفظ إلى آخره فإنّ الوضع النّوعي عبارة عن كون الموضوع نوعا والقضية المذكورة ليس معناها أن النّوع موضوع بل هي آلة لملاحظة الأوضاع الثّابتة في الألفاظ نوعيّا كان أو شخصيا كما يقال إنّ جميع الألفاظ موضوع لمعنى فهذا غير الوضع النّوعي المتداول في الألسنة والكتب والحاصل أن الثّابت بالاستقراء هو القاعدة الكليّة سواء كان في الوضع النّوعي أو الشّخصي أو في طريقة استعمال اللّفظ في المعنى كعدم جواز استعمال المشترك في المعنيين واللّفظ في المعنى الحقيقي والمجازي أو في طريقة التّجوز وأن المدار فيه على الذّوق

٥٠

وعدم الاستهجان ولا يلزم فيه نقل الآحاد ولا نقل أنواع العلاقة كما صرّح به بعض المحققين فكلّ ذلك يعلم من الاستقراء بل المدار في أغلب موارد اللّغة عليه هو حجّة قطعا لما مرّ في محلّه لا يعتريه شكّ وريبة ولذا أرجع بعضهم دليل الحكمة إليه بنيانه أنهم استدلّوا على إثبات أن للعام صيغة تخصّه بدليل الحكمة وأن وجه الحكمة في الوضع هو الاحتياج والعام من المعاني المحتاج إليها فلا بدّ أن يكون له صيغة موضوعة واعترض عليه بأنّه قياس ولا حجيّة فيه وقرره بعض المحقّقين بإرجاعه إلى الاستقراء بأن يقال إنا نجد أغلب المعاني التي يشتدّ إليها الحاجة قد وضع بإزائها لفظ فإذا شككنا في معنى من المعاني المحتاج إليها هل وضع بإزائها لفظ فالظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب ثم أورد عليه بأنا نجد غالب المعاني المحتاج إليها لم يوضع بإزائها لفظ كأنواع الرّوائح كرائحة المسك والعنبر والورد وأمثالها وكذا المياه المضافة كماء الورد وماء الرّمان ونحوهما فانتقض الغلبة المذكورة وأجاب بأنّ من المعاني ما يكون هي مستقلة غير مرتبطة بغيرها ولا يمكن حصولها بالإضافة ونحوها كالسّماء والأرض والتّمر والحنطة وأمثالها فهذا مما يجب أن يوضع بإزائها لفظ ومنها ما يكون مرتبطا بالغير بحيث يتميّز بانضمامه إليه فهناك قد وضع قانون الإضافة ووضع لفظ المضاف والمضاف إليه وبعد ذلك لا يحتاج إلى وضع لفظ خاصّ بإزائها فإن أراد المورد أنه لم يوضع بإزاء المذكورات لفظ أصلا ولو بأوضاع عديدة فممنوع أو عدم لفظ مفرد فقد عرفت أنّه لا حاجة إليه ثم أورد النّقض بالجزئيات الحقيقية فإنها مما يشتد إليه الحاجة مع أن الواضع لم يضع بإزائها لفظا وإنّما وضع للمعاني الكليّة التي تندرج فيها تلك الجزئيات ولو قيل إنه اكتفى في ذلك بوضع الكلي وإفهام الخصوصيات بانضمام القرائن قلنا فلا حاجة حينئذ إلى وضع الكليّات أيضا وإن اشتدّ إليه الحاجة بل يكفي وضع اللّفظ لجنس الأجناس ويفهم الأنواع والخصوصيات بالقرائن حينئذ فلا يمكن إجراء القاعدة المذكورة في الموارد المفروضة إذ هناك ألفاظ موضوعة لمعاني كليّة يندرج فيها أكثر المعاني المتداولة وأجاب عنه بالفرق الظّاهر بين الجزئيات والكلّيات إذ لا نهاية للجزئيات بل ليس الجزئي مطلوبا بخصوصه بل هو مطلوب من حيث دخوله تحت كلّي نعم قد يحصل في بعضها مزيّة لكثرة الدّوران فيحتاج إذن إلى وضع شخصي كما في الأعلام الشّخصية ولا ربط له بوضع الواضع بل يتصدّى له من يحتاج إلى التّعبير عنه بخلاف المعاني الكليّة كالتّمر فإن مطلوبيّته إنما هو بعنوان التّمرية لا لدخوله تحت الجسم مثلا فلو اكتفى بوضع اللّفظ لجنس الأجناس وفهم الخصوصية بالقرينة أو الإشارة كأن يقول جئني بهذا الجسم مشيرا إلى التّمر لفاتت ما هو المطلوب وتوهم

٥١

مراد بعنوان أنّه جسم ولم يكن الكلّيات أمورا غير متناهية حتى لا يمكن للواضع أن يضع لها لفظا فالمقتضي موجود والمانع مفقود بخلاف الجزئيّات هذا ولا يخفى عدم الاحتياج إلى الاستدلال بالاستقراء فيما نحن فيه لما مرّت الإشارة إليه من أنّ أمثال هذه الأقيسة حجة حيث نعلم أن العلّة المستنبطة شيء اعتبرها الواضع كالاحتياج فيما نحن فيه بخلاف ما إذا كانت بحيث لا يعلم اعتبار الواضع لها كأكثرية الفائدة ونحوها مما تمسّكوا به في تعارض الأحوال

تتميم

وقد يجري الاستقراء بالنسبة إلى ظهور اللّفظ في المعنى ولو كان مجازا كظهور الأمر الواقع عقيب الخطر في الإباحة لغلبة استعماله فيه وظهور قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمُّهاتُكُمْ في تحريم الوطي ونحو ذلك ثم إن ثبت بالاستقراء الوضع بالنوع العرفي ثبت في زمان الشّارع أيضا بأصالة عدم النّقل إنما الإشكال فيما إذا ثبت به الظّهور فإنّه لا يمكن إثباته في زمان الشّارع لأنّه مستند إلى الغلبة ومع الشّكّ في ثبوت الغلبة في زمان الشّارع يجري أصالة تأخر الحادث وحينئذ فيثبت عدم الظّهور في زمان الشّارع مع أنا نراهم يكتفون بمحض الظّهور عرفا في حمل اللّفظ الواقع في السّنّة على المعنى الظّاهر وهذا الإشكال لا يختصّ بما ثبت فيه الظّهور بالاستقراء بل يجري في المطلق الشّائع في الفرد عرفا وغلبة التّخصيص التي يستدلون بها على تقديمه على المجاز ونحو ذلك مما ثبت فيه الظّهور في عرفنا وقد عرفت عدم اطراده في زمان الشّارع وأجاب بعضهم عن الإشكال بما يرجع إلى تسليمه وحاصله أن فيما يثبت الظّهور في العرف ثلاثة صور أحدها أن نعلم ظهور اللّفظ في ذلك المعنى في زمان الشّارع أيضا وحينئذ فلا إشكال والثّاني إن نشكّ في أصل ثبوت الغلبة في زمان الشّارع وحينئذ فيجري أصالة التّأخّر ولا يمكن اطّراد الظّهور إلى زمان الشّارع والثّالث أن يعلم بثبوت الغلبة في الزّمانين ويشكّ في اتحاد المستعمل فيه وحينئذ فيحكم بالاتحاد لأصالة عدم تعدد الغلبة هذا كلامه وفيه نظر إذ لا معنى لأصالة عدم تعدد الغلبة للقطع بتعددها فإن تعدّد الغلبة ليس إلاّ بتعدد الاستعمال الغالب لا بتعدّد المستعمل فيه فالشّيوع الثّابت في زمان الشّارع غير الشّيوع في هذا الزّمان وإن كان المعنى الشّائع واحدا فوحدة المستعمل فيه لا يجعل الغلبة واحدا وإجراء أصالة عدم تعدد المستعمل فيه أيضا باطل لعدم الحجّيّة فيها وإلاّ لوجب الحكم بأن مراد زيد وعمرو لو استعمل كلّ منها لفظا مشتركا بلا قرينة متحد لأصالة عدم تعدّد المستعمل فيه ولا يخفى بطلانه والأولى أن يستدلّ في ذلك بأصالة عدم النّقل لأنّها لا تختص بإثبات تقدّم الوضع بل الضّابط في إثباتها أن يشكّ في نقل اللّفظ من الصّفة الثّابتة له سابقا إلى صفة أخرى سواء كان الصّفة الثّابتة سابقا

٥٢

هي الوضع أو الظّهور وفيما نحن فيه نعلم بظهور اللّفظ في زمان الشّارع في معنى ونشكّ في نقله من ذلك الظّهور إلى ظهور آخر فالأصل عدمه والحاصل أن مجرى أصالة عدم النّقل هو فيما يكون بحيث لو لم يجر الأصل المذكور لزم حدوث حادث ثم هجره عنه وحدوث حادث آخر فالأصل عدم تعدّد الحوادث كما فيما نحن فيه بخلاف ما إذا يلزم ذلك ولذا لا يمكن التّمسّك لوجود الحقيقة الشّرعيّة بأصالة عدم النّقل إلى المعنى الشّرعي في زمان المتشرّعة إذ لا يلزم من عدم إجرائه حدوث حادث في زمان الشّارع ثم هجره وحدوث آخر لكفاية الوضع اللّغوي في استعماله في زمان الشّارع ولا يلزم حدوث حادث إذا عرفت ذلك علمت وجه الاطراد في الصّورة الثّالثة وبهذا التّقرير علم أنّه لا يمكن التّمسك بالأصل في الصّورة الثّانية إذ لا نعلم الغلبة أصلا في زمان الشّارع حتى يلزم الهجر عنه على تقدير عدم إجراء الأصل المذكور لجواز كون اللّفظ مجملا في زمانه أو ظاهرا في الموضوع له فإنه حينئذ لا يلزم حدوث حادث والهجر عنه حتى يجب إجراء الأصل مع أنّا نراهم لا يفرّقون بين الصّور الثّلاث في طرد الظّهور إلى زمان الشّارع أيضا ولعل ذلك لأصالة تشابه الأزمان فإنّ مدار العقلاء والعلماء على إجرائها من دون توقّف نظير التّسامع والتّظافر في وجود حاتم ورستم إذ لا نقل معنعن في البين وإنما حصل العلم بذلك بمحض تسالم أهل العصر ومنه علم تسالم الطّبقة الثّانية أيضا وهكذا لتشابه الأزمان فإذا رأينا ظهور الأمر عقيب الحظر في الإباحة في زماننا حصل لنا الظّنّ بثبوته في الزمان السّابق أيضا مضافا إلى ما نرى من ادعائه في الكتب المدوّنة في الزّمن السّابق أيضا ونحو ذلك من القرائن المفيدة للظّنّ الّذي عليه المدار في باب اللّغات على ما عرفت سابقا

ومنها الاستعمال

واختلفوا فيه على أقوال الأوّل أنه دليل الحقيقة مطلقا وهو المعروف عن المرتضى والثّاني أنه دليل المجازيّة مطلقا ويعزى إلى ابن جنّي والثّالث أنه دليل الحقيقيّة إذا كان المستعمل فيه واحدا دون المتعدّد فيحكم حينئذ بحقيقية واحد ومجازيّة غيره والرّابع التّوقّف ونسب إلى المشهور واعترض عليه بأنّ المشهور هو الثّالث للإجماع على الحكم بالحقيقيّة في المتّحد المعنى والحقّ أنهما واحد ومن عبر بالتوقّف أراد به التّوقّف من حيث الاستعمال مع قطع النّظر عن الخارج ومن ذكر التّفصيل لم يرد أن نفس الاستعمال يستلزمه بل هو لأمور خارجيّة كما سيظهر واعلم أن المراد بمتحد المعنى أن يكون المعنى المحتمل الحقيقيّة واحدا وإن كان المستعمل فيه متعدّدا أو قطع بمجازية غير واحد منها وكذا المراد من متعدّد المعنى تعدّد المعاني المحتمل الحقيقيّة ثم إن محلّ النّزاع في متعدّد المعنى هو ما إذا كان بين المعاني مناسبة مصحّحة للتجوّز وإلاّ لم يكن القول بالمجازية لأنّ

٥٣

المجاز فرع المناسبة وأيضا يجب أن يكون للّفظ موضوع له في غير ما علم من المستعملات وإلاّ بأن قطعنا بعدم خروج الموضوع له عنها لم يجر قول ابن جنّي بمجازية الجميع لاستلزامه ثبوت المجاز بلا وضع وهو باطل إذا المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضع له لمناسبة الموضوع له إذا عرفت ذلك فالحقّ هو التّوقّف من حيث الاستعمال لأنّه جنس الحقيقة والمجاز إذ قد عرفوا كلا منهما بالكلمة المستعملة والعام لا دلالة له على الخاصّ ثم إن اتّحد المعنى كان حقيقة إذ لو قلنا بكونه مجازا لزم ثبوت المجاز بلا حقيقة ظاهرة وهو نادر جدّا حتى قيل بامتناعه من جهة أن المجاز فرع الوضع وإذا ثبت الوضع لزم الاستعمال لأن فائدة الوضع هو الاستعمال والمستعمل فيما وضع له هو الحقيقة وفيه نظر لأنه غاية الوضع ولا يجب ترتّبه عليه نعم هو نادر جدّا لا ممتنع وأمّا في صورة التّعدّد فيحكم بحقيقيّة واحد ومجازيّة البواقي فإن لم يعلم حقيقية معنى خاصّ حكم بحقيقية واحد غير معيّن فيصير اللّفظ مجملا كالمشترك وإن علم أنّه حقيقة في البعض وشكّ في الباقي حكم بالمجازيّة في الباقي وحمل اللّفظ على ذلك المعنى لو استعمل ولو يعلم المراد أمّا الحكم بحقيقيّة واحد غير معين في الأوّل فلأن لا يلزم المجاز بلا حقيقة وأما الحكم بمجازية البواقي مطلقا فلندرة الاشتراك والمجاز خير منه واستدلّ له بأصالة عدم الاشتراك وفيه أنها إن أفادت الظّنّ فهو لندرة الاشتراك على ما ذكرنا لأنّ مستند الظّنّ هو الغلبة وإلاّ فلا حجيّة فيها لما عرفت من أن حجية الأصول ليست من باب التّعبّد بل لإفادتها الظّنّ لا يقال إن الظن إنما يحتاج إليه في إثبات اللّغات أما نفيها فيكفي فيه عدم الظّنّ بالوجود وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المقصود نفي الوضع لأنا نقول لو كان المقصود محض نفي اللّغة لم يحتجّ إلى الظّنّ لكن الغرض نفيه ليتفرع عليه اتحاد الموضوع له وكونه مرادا مجردا عن القرينة وغير ذلك من الأمور الوجوديّة التي لا يمكن تفريعها بدون حصول الظّنّ بالنفي المذكور وربّما قيل في ردّ الأصل المذكور بأنّه معارض بأصالة عدم الوضع المجازي وفيه أن وضع المجازات نوعي ثابت ولو مع القطع بالاشتراك لجواز استعمال المشترك باعتبار بعض معانيه في بعض بخلاف الحقيقة للزوم الوضع الخاصّ فيها ومع الشّكّ فالأصل عدمه واعترض عليه أيضا بمعارضته بأصالة عدم اعتبار المتكلم المناسبة المعتبرة في المجاز وعدم ملاحظة للقرينة الصّارفة والمعيّنة وفيه أن أصالة عدم الوضع وارد على ذلك إذ الشّكّ في اعتبار المناسبات والقرائن مسبّب عن الشّكّ في أنه موضوع له أو لا وبعد إجراء أصالة عدم الاشتراك يثبت عدم الوضع ويترتّب عليه لوازمه من اعتبار المناسبة وغير ذلك لا يقال إنّه حينئذ أصل مثبت لأن اعتبار المناسبة ليس من الأحكام الشّرعيّة للمجازيّة لأنا نقول الأصل المثبت عبارة عما إذا أريد إثبات صحّة

٥٤

الغسل مثلا بأصالة عدم المانع من وصول الماء فإنّه ليس من لوازم ذلك بل هو من لوازم وصول الماء وهو لازم عادي لعدم المانع في خصوص المقام وهو فرض حصول الارتماس في الماء مثلا وإلاّ فيمكن عدم وجود المانع وعدم وصول الماء كتارك عن الغسل مع عدم مانع في بدنه بخلاف ما نحن فيه لأنّ لزوم اعتبار المناسبة والقرينة حين الاستعمال من لوازم عدم الوضع وليس منفكّا عنه نعم لو أريد تفريع وحدة المعنى الحقيقي وكونه مرادا في مقام الإطلاق ونحو ذلك وعليه لم يمكن لكونه أصلا مثبتا لا حجيّة فيه إلاّ من باب الظّن دون التّعبّد وهو عين ما ذكرنا فتأمّل واستدلّ ابن جنّي بأنّ أغلب لغة العرب مجازات وفيه أنّ ذلك لأنّ أغلب الألفاظ متعدد المعنى وأغلب تلك المعاني مجازات وهو لا يثبت ما ادعاه من المجازيّة في صورة وحدة المعنى ومجازيّة الجميع في صورة التّعدّد وإنما يثبت ذلك إذا كان أغلب الألفاظ مجازا في جميع المعاني وهو نادر جدا مع أنّ ما ذكره على فرض تسليمه معارض بغلبة الاستعمال في المعنى الحقيقي حتى قيل إنّ نفس غلبة الاستعمال في المعنى علامة الحقيقة واستدل السّيّد بوجهين أحدهما أنّ سجيّة العرف وأهل اللّسان الحكم بالحقيقيّة بمحض الاستعمال كما نقل عن الأصمعي حيث قال ما كنت أعرف الدّهاق حتى سمعت أعرابيا يقول اسقني دهاقا وكذا ما نقل عن بعضهم حيث فهم معنى الفاطر بقول الأعرابي هذا بئر فطرها أبي ولا زال ذلك سجيّتهم وطريقتهم في تمييز معنى اللّفظ كما يعرفه من تتبّع في العرف والثّاني أنّ قولنا الأصل في الاستعمال الحقيقة متّفق عليه عند الشّكّ في المراد مع تميز الحقيقة والمجاز وليس ذلك إلاّ ظهور الاستعمال في المعنى الحقيقي لغلبة الاستعمال فيه وإذا كانت الغلبة موجبا للحكم بأنّ المراد المعنى الحقيقي فلا يتفاوت الأمر بين أن نعلم المعنى الحقيقي ونشكّ في إرادته أو نعلم المراد ونشكّ في كونه حقيقة وأجيب عن الأول بأنّ ذلك إنما هو فيما كان المعنى واحدا إمّا بالقطع أو بالظّنّ بضميمة أصالة عدم التّعدّد فيصير متّحد المعنى والحكم بالحقيقيّة فيه مسلم ولا يثبت ذلك في متعدّد المعنى وفيه أنّ الأصل المذكور لا يجري هنا لما عرفت أنّ حجيّة الأصل في اللّغات إنّما هو لإفادة الظّنّ والظّنّ هنا على خلافه لغلبة التّعدّد ولو فرض حجيته تعبدا فإنّما هو بعد الفحص مع أنّ حكم العرف بالحقيقيّة إنّما هو بمحض الاستعمال بدون التّفحّص عن المعنى هل هو متحد أو لا والحق في الجواب عدم تسليمه كليّة بل إنما يسلم فيما إذا كان الاستعمال مقرونا بلوازم الوضع كعدم القرينة أو كونه غالبا ونحو ذلك لا مطلقا كما هو مراد السّيّد والجواب عن الثّاني بالفرق الظّاهر بين المقامين إذ المعنى الغالب في الأول معلوم والشّكّ في أنّ المعنى

٥٥

المراد هل هو أو غيره فالظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب بخلاف المقام الثّاني للعلم بغلبة المعنى الحقيقي المردد بين المعاني المستعمل فيها اللّفظ والشّكّ إنما هو في ثبوت وصف الغلبة للمعنى المراد أي وصف الحقيقيّة فترديد إثبات محل الغلبة بنفس الغلبة وهو باطل إذ كما يحتمل أن يكون هذا المستعمل فيه هو الغالب يحتمل أن يكون المستعمل فيه الآخر هو الغالب ولو قيل يحكم بأنّ كليهما حقيقة بالغلبة قلنا أولا يلزم الاشتراك المرجوح وثانيا أنّ المفروض أنّ الغالب شيء واحد سواء كان جميع المعاني حقيقة في الواقع أو لا لأن الغالب في الحقائق أيضا معنى واحد ونظير ما ذكرنا أنّا إذا علمنا أنّ الغالب في الإنسان لون البياض وشككنا في فرد منه ألحقناه بالغالب وإذا علمنا أنّ الغالب عليه هو لون ما مرددا بين البياض والسّواد فإذا رأينا فردا أبيض لم يمكن لنا القول بأنّ الغالب هو البياض إلحاقا للفرد بالغالب إذ كما يحتمل إلحاق الأبيض بالغالب فيحكم بغلبة البياض كذا يحتمل أن يكون الفرد الأسود ملحقا بالغالب فيحكم بغلبة السّواد فافهم

مسائل الأولى

يثبت اتحاد المعنى بالعلم أو بالظّنّ أما اعتبار الأول فظاهر وأما الثّاني فلما عرفت من أنّ مدار اللّغات على الظّنون إلاّ أنّه معارض بغلبة التّعدّد والمعتبر أقوى الظّنّين والظّاهر أنّ بعد الفحص وعدم وجدان معنى آخر يحصل الظّنّ بطرف الاتحاد لأنّ الغالب أنّه لو كان له معنى آخر لعثر المتفحّص عليه وربما قيل بجريان أصالة عدم التّعدّد وفيه ما عرفت من أنّ مرجعه إلى الظّنّ نعم لو قيل بحجيّته تعبدا فلا بد من الفحص وبعده وعدم وجدان معنى آخر يحصل الظّنّ بعدمه غالبا فيكون كالسّابق وإن لم يحصل الظّنّ به ولا بالتعدد حكم بالاتحاد على هذا القول بخلاف ما اخترناه فيجب التّوقف حينئذ بناء عليه وإن حصل الظّنّ بالتعدّد بسبب غلبته فعلى جعل الأصل حجة من باب الظّن يعتبر أقوى الظّنّين وعلى التّعبّد لا عبرة به في مقابلة الغلبة لأنّه حينئذ دليل حيث لا دليل الثّانية إذا لم يكن بين المعاني المتعددة مناسبة حكم بالاشتراك اللّفظي إلاّ بحقيقيّة واحد ومجازيّة البواقي لعدم إمكان مجازيّة البواقي بالنسبة إلى ذلك المعنى الحقيقي لعدم المناسبة ولا بالنسبة إلى معنى آخر محتمل الوضع لأنّه مع أنّ الأصل عدمه يستلزم الاشتراك للحكم بأنّ أحد تلك المعاني حقيقة كما عرفت فإن كان المعنى المحتمل أيضا موضوعا له حتى يكون سائر المعاني مجازا بالنّسبة إليه لزم الاشتراك مضافا إلى ندرة ذلك وهو استعمال اللّفظ في مناسب الموضوع له وعدم استعماله فيه فالأولى القول بالاشتراك اللّفظي بين تلك المعاني للزوم الاشتراك لو قلنا بمجازيّة البواقي أيضا مع ما عرفت من ندرة ذلك الثّالثة إذا كان بين المعاني قدر مشترك قيل يحكم بالاشتراك المعنوي حذرا من المجاز والاشتراك اللّفظي واعترض عليه بأنّه لازم في الاشتراك المعنوي أيضا

٥٦

بالنّسبة إلى الخصوصيّتين وأجيب بأنّه يمكن استعماله فيهما بطريق الحقيقة بإرادة الخصوصيّة من الخارج فليس فيه التزام بالمجازيّة بخلاف ما إذا قلنا بحقيقيّة واحد ومجازيّة الآخر إذ لا يمكن حينئذ استعماله في الآخر بطريق الحقيقيّة وفيه أنّ ذلك إثبات اللّغة بالترجيح الغير المعتبر إذ لا نعلم أنّ عدم التزام المجاز معتبر في التّرجيح عند الواضع والحق أنّ المتصوّر في المقام صور ستة الأول أن يكون الاستعمال في الكلي والخصوصيّتين معلوما والثّاني أن يكون الاستعمال في الكلي معلوما وفي الخصوصيّة مشكوكا والثّالث بالعكس والرّابع أن يكون الاستعمال في الكلي معلوما وفي الخصوصيّة معلوم العدم والخامس بالعكس والسّادس أن يكون الاستعمال فيهما مشكوكا بأنّ نعلم استعماله في الفرد ولا نعلم أنّ الخصوصيّة أيضا مراد من اللّفظ أو مفهوم بالقرينة والمراد هو الضّابط في الجميع أنّ المدار على الظّن الحاصل بالغلبة وقد يجري عليه أصالة عدم الاشتراك أيضا فإن وافق الغلبة فهو وإلاّ فإن أفاد الظّنّ فالمعتبر أقواهما وإلاّ فلا يعارض الغلبة مطلقا سواء كان حجيّة من باب الظّن أو التّعبّد وإن لم يحصل الظّنّ من شيء وجب التّوقّف إلاّ أن نقول بحجّيّة الأصل تعبد فيجري حينئذ وأمّا التّفصيل في الأقسام فنقول فيه (أما القسم الأول) فيحكم فيه بالاشتراك المعنوي إلاّ إذا كان الاستعمال في الخصوصتين غالبا فيحكم بالحقيقيّة والمجاز إن كان بينهما مناسبة وإلاّ فبالاشتراك اللّفظي أمّا الحكم بالاشتراك المعنوي في الأول فلأن الغالب في العرف أنّ اللّفظ المستعمل في الكلي والفرد موضوع للكلي دون الفرد مضافا إلى أصالة عدم الاشتراك وأما الحكم بعدمه في الثّاني فلأنّ غلبة الاستعمال علامة الحقيقة ثم الحكم بالحقيقيّة والمجازيّة في صورة وجود المناسبة ظاهر رأسا الحكم بالاشتراك اللّفظي في صورة عدم وجودها فلأنّ الاشتراك اللّفظي وإن كان نادرا إلاّ أنّه في خصوص المقام يقدم على الاشتراك المعنوي لما ذكرنا من أنّ غلبة الاستعمال أمارة الحقيقة وبهذه الغلبة يترجّح الاشتراك اللّفظي ويضعف الظّنّ الحاصل من أصالة عدم الجاري في هذه الصّورة (وأما القسم الثّاني) فيحكم فيه بالاشتراك المعنوي للغلبة المذكورة مضافا إلى لزوم المجاز بلا حقيقة لو قيل بالوضع للخصوصيّة إذا الكلي الذي علم استعماله فيه مجاز حينئذ والخصوصيّة التي يشكّ في استعماله فيها المنفي بأصالة العدم موضوع له فيلزم تحقق المجاز بلا حقيقة لا يقال إنّ كليهما حقيقة لندرة الاشتراك فإن قلت إنّ أصالة عدم تعدّد الاستعمال لا يجري في المقام إذا الغالب التّعدّد كما مر فلا يفيد الظّن وقد قلت إنّ حجّيّة الظّنّ وقد قلت إنّ حجيّة الأصل في اللّغات إنما هي لإفادة الظّنّ فلا يلزم المجاز بلا حقيقة لجواز ثبوت الاستعمال في الخصوصيّة

٥٧

وإن لم يوجد قلت تعدّد استعمال الكلي يتصوّر بوجهين أحدهما أن يستعمل في الماهيّة مرة وفي الخصوصيّة أخرى بأن يراد الخصوصيّة من اللّفظ والثّاني أن يستعمل في الماهيّة مرة ويطلق على الفرد أخرى وما ذكرنا سابقا من غلبة التّعدّد المراد به مطلق الاستعمال الشّامل لإطلاق الكلي على الفرد وما ذكرنا هنا من أصالة عدم التّعدّد المراد به الاستعمال بالوجه الأول والتّعدّد بالوجه الثّاني موجود في الكلي فلا يضر عدم التّعدّد بالوجه الأول بما ذكرنا من غلبة التّعدّد لثبوتها في الكلي بالوجه الثّاني فافهم ومما ذكرنا علم حكم القسم الرّابع أيضا (وأما القسم الثّالث) فيحكم فيه بعدم الاشتراك المعنوي حذرا من المجاز بلا حقيقة للزوم كونه مجازا في الخصوصيّة وموضوعا للكلي مع عدم استعماله فيه بحكم الأصل وحينئذ فإن كان بين الخصوصيّتين مناسبة حكم بأنّ أحدهما حقيقة والأخرى مجاز وإلاّ فبالاشتراك اللّفظي ومنه يعلم حكم القسم الخامس أيضا وأما القسم السّادس فحكمه التّوقّف لعدم تحقق غلبة في المقام مع ندرة هذا القسم في نفسه

تذييل

ربما يتوهّم التّناقض بين قولهم الأصل في الاستعمال الحقيقة وقولهم الاستعمال أعم من الحقيقة وجمع بينهما بعض الأفاضل بحمل الأوّل على مقام الشّكّ في المراد بعد تميز الحقيقة والمجاز وعلى بعض أقسام الشّكّ في الحقيقة والمجاز بعد تميز المراد وهو الأقسام التي حكم بالحقيقة فيها أعني المتحد المعنى والمتعدد مع عدم المناسبة حيث حكم فيه بالاشتراك اللّفظي والمتعدّد مع وجود جامع بينهما حيث حكم بالاشتراك المعنوي وحمل الثّاني على غير ما ذكر وبعض المحقّقين جمعهما بحمل الأوّل على مقام الشّكّ في المراد والشّكّ في الحقيقة في بعض أقسامه وهو خصوص متحد المعنى سواء قيل فيه بالوضع للمعنى الخاص أو للقدر المشترك وحمل الثّاني على غيرهما والأولى أن يقال باختصاص الأول بالشّكّ في المراد والثّاني بالشّكّ في الوضع ولو في متحد المعنى حكم فيه بالحقيقيّة أو بالاشتراك المعنوي أو لا إذ المراد أنّ الاستعمال من حيث هو لا يدلّ على شيء وإثبات الحقيقيّة في الموارد المذكورة ليس بالاستعمال بل بالأمور الخارجيّة على ما عرفت مفصلا والغالب في استعمال هذه القاعدة هو في مقام الشّكّ في الوضع للقدر المشترك بطريق الاشتراك المعنوي فيقولون الاستعمال أعم يريدون منه أنّه إذا قطع النّظر عن غير الاستعمال فلا يدلّ الاستعمال على شيء فتأمّل واستبصر

ومنها

اختلاف الجمع والمراد به اختلاف جمع اللّفظ بالنسبة إلى المعنيين مع القطع بحقيقية أحدهما إجمالا والشّكّ في الآخر فهو دليل على مجازيته في الآخر كالأمر يستعمل في القول وجمعه أوامر وهو حقيقة فيه قطعا إما بالوضع له بخصوصه أو للقدر المشترك الذي هو فرده وفي الفعل وجمعه أمور وهو مشكوك الوضع والاختلاف

٥٨

المذكور دليل على مجازيته فيه وينفي الاشتراك المعنوي واللّفظي معا أو هو ينفي الاشتراك المعنوي وبضميمة أصالة عدم الاشتراك اللّفظي يثبت أنّ المجازيّة على الاختلاف في تقريره ويمكن الاستدلال للطّريق الأول بوجهين أحدهما أنّ الاختلاف المذكور موجود في المجاز غالبا والظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب أو غير موجود في الحقيقة فيدل على عدم كونه حقيقة وفيه أنّا لم نجد الاختلاف بالنّسبة إلى المعنى المجازي أصلا فكيف بأن يكون غالبا فإنّ المجاز في الجمع تابع للمفرد فكما يقال أسد للرجل الشّجاع والحيوان المفترس فكذا يقال أسود وأسد لهما بخلاف المشترك لوجود الاختلاف به كعود فإنّه يجمع على أعواد بالنسبة إلى أحد معانيه وهو الخشب وعلى عيدان لمعناه الآخر وهو آلة اللهو وكذا العين بالعيون والأعيان بالنّسبة إلى الباصرة والذّات وغير ذلك بل لا يبعد أن يقال إنّ الغالب في الاختلاف الوجود في المشترك اللّفظي فبوجوده يحصل الظّنّ بالاشتراك ويعارض أصالة عدمه التي تمسّك بها في الطّريق الثّاني لأنّ حجيّتها في اللّغات لإفادتها الظّنّ وهو غير حاصل في المقام الغلبة الاشتراك في مثله كما أشرنا إليه مضافا إلى حكمة الوضع لإغنائه عن القرينة المعيّنة في المشترك نعم يمكن به نفي الاشتراك المعنوي لأنّ الجمع للقدر المشترك يصح إطلاقه على ما يطلق عليه مفرده فلا معنى للاختلاف فيه والثّاني أن اختلاف الجمع دليل على اختلاف حال اللّفظ بالنسبة إلى المعنيين وليس ذلك في المشترك المعنوي واللّفظي وفيه أنّه إن أراد منه اختلاف حال اللّفظ بالنسبة إليهما وصفا بأن يكون موضوعا لأحدهما دون الآخر فكون اختلاف الجمع دليلا على هذا أول الكلام وإن أراد منه اختلاف حاله بالنسبة إليهما مطلقا فهو غير مسلّم مطلقا أوّلا لوجود طلب وطلاب وطلبة جمعا لطالب وموجود في المشترك ثانيا لأنّ كلاّ من المعنيين فيه موضوع بوضع مستقل وقولنا في العنوان مع القطع بحقيقيّة أحدهما إنما هو لتبعيّة القوم وإلاّ فمقتضى ما ذكروه الحكم بحقيقيّة أحد المعنيين المختلفي الجمع ومجازيّة الآخر لا على التّعيين في صورة عدم القطع بحقيقيّة المعين أيضا

ومنها

امتناع الاشتقاق من اللّفظ المستعمل في المعنى لمن قام به ذلك المعنى كالأمر فإنّه يستعمل في الفعل ولا يشتق منه بالنسبة إلى من قام به الفعل فلا يقال أمر أي فعل ولا أمر أي فاعل وهو دليل مجازيته فيه على ما قيل ولا بد في إتمامه من القول بعدم وجود الامتناع المذكور في الحقيقة أصلا أو وجوده في المجاز غالبا وهما ممنوعان أما الأوّل كأسماء العلوم والملكات فلا يشتق من مادة النّحو شيء لمن قام به ولا من الصّرف وأما الثّاني فالاستعارة التّبعيّة المشهورة في الأفعال بالنسبة إلى مصادر ما المذكورة في علم البيان يغنينا عن البيان ونطقت الحال ناطق بذلك بألف لسان حيث

٥٩

اشتق من النّطق المستعار للدّلالة نطق لمن قام به وغير ذلك ثم لا معنى أصلا لكون الامتناع المذكور دليلا على المجازيّة إذ المراد به إمّا امتناع الاشتقاق فعلا فلا دلالة فيه مع جواز الاشتقاق شأنا وقابليّة وإن أراد به أنّه ليس قابلا للاشتقاق لمنع أهل اللّغة عنه فعدمه لا يضر بالحقيقيّة لتوقيفيّة اللّغات فيجوز وضع اللّفظ للمعنى وعدم الإذن في الاشتقاق منه

ومنها أصالة العدم

ويثبت بها الوضع سابقا ولاحقا فالأول كما إذا ثبت الوضع للمعنى عرفا ونشكّ في وضعه له لغة فنثبته بأصالة عدم النّقل والثّاني كعكسه وينفى به الوضع أيضا فيما ذكر بالنسبة إلى معنى آخر واختلف في أنها استصحاب أو لا بل قاعدة برأسها مستفادة من الغلبة وعمل العقلاء وعلى أي حال فلا كلام في حجيّتها أو لا لانسد باب العمل بظواهر الكتاب والسّنة ونحوهما مما لا يثبت فيه معنى اللّفظ إلا بأصالة عدم النّقل ويترتب على القولين وجوب إخراج الاستصحاب العدمي من محل النّزاع في حجيّة الاستصحاب لو جعلت الأصل المذكور استصحابا للإجماع على حجيّتها وعدم إخراجه عنه لو لم يجعل استصحابا وأورد على جعلها استصحابا أنه حينئذ لا يمكن إثبات الوضع سابقا بها لأنّها حينئذ هي الاستصحاب القهقرى لإثباته الشّيء الثّابت لاحقا في السّابق ولا دليل على حجيّة هذا القسم من الاستصحاب وفيه أنه حينئذ تثبت عدم النّقل المعلوم سابقا في الزّمان اللاحق ولازمه اتحاد المعنى السّابق واللاحق فهو الاستصحاب المعروف لا القهقرى وأورد بأنه حينئذ أصل مثبت لأن الاتحاد لازم لعدم النّقل في خصوص المقام وفيه أنّه لما كان المدار في اللّغات على الظّنّ فالأصل المثبت فيها حجة الاستلزام الظّنّ بالملزوم الظّنّ باللازم ويظهر الثّمرة بين القولين في لزوم ملاحظة الحالة السّابقة وإبقائها لو كانت من باب الاستصحاب وعدم لزوم ذلك لو كانت قاعدة برأسها لكن لما عرفت أن حجّيّة الاستصحاب في اللّغات أيضا من باب الظّن المطلق لا تعبدا فمستنده أيضا الغلبة والظّهور فلا ثمرة بينهما إلاّ بالاعتبار وهل يثبت بها ماهيّة الموضوع له لو شكّ في جزئيّة شيء لها أو لا الحق عدمه لكون أصالة عدم الوضع للزائد معارضا بأصالة عدم الوضع للناقص وليس هناك قدر متيقّن في الوضع فإن الزّائد إما يكون معتبرا في الوضع فالناقص ليس موضوعا له وإلاّ فلا يكون الزّائد بموضوع له فالأمر دائر بين الوضع للأقل بشرط شيء وبشرط لا والمراد من قولنا بشرط لا عدم اعتبار شيء آخر في الوضع ولازمه خروجه عن الموضوع له وإن كان حاصلا مع الموضوع له في الوجود في الأمر الدّائر بين الأخذ بشرط شيء وبشرط لا ليس في البين قدر متيقن يؤخذ به وينفى الزّائد بالأصل ولا يمكن الوضع للأقلّ لا بشرط لأنّ اللاّبشرطيّة إما يلاحظ بالنسبة إلى الوجود بمعنى جواز انضمام شيء آخر إليه في الوجود فهو لا ينافي ما قلنا من كون الزّائد حينئذ خارجا

٦٠