غاية المسؤول في علم الأصول

السيّد محمّد حسين بن محمّد علي الشهرستاني

غاية المسؤول في علم الأصول

المؤلف:

السيّد محمّد حسين بن محمّد علي الشهرستاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

في ذلك الفرد بل إنّما يمكن التّقييد إذا نسب الشّيء إلى الكلي الذي فوقه فلا يمكن في المسألة جعل تعدد الجهتين موجبا لتكثّر الموضوع لأنّ الموضوع فرد لهما ومصداق واحد للقدر المشترك بينهما وقد عرفت أنّ الوجود النّفسي فيه واحد فتأمّل الرّابع قد عرفت أنّ الكليّين الذين بينهما العموم من وجه يجب أن يكون فوقهما كلي آخر هو القدر المشترك بينهما وهو موجود واحد إذ لو كان متعددا لما كان بينهما اجتماع أصلا كالمتباينين فنقول على هذا لا حاجة إلى ما ذكره بعضهم من أنّ عدم جواز الاجتماع في المسألة مبني على تعلق الأحكام الشّرعيّة بالأفراد أو بالماهيّة باعتبار الأفراد لأنّ الفرد المشترك موجود بوجود واحد والحكم إنّما يتعلق بالفرد فيجتمع الأمر والنّهي في الواحد الشّخصي وذلك لأنّه وإن كان الحق تعلق الأحكام بالوجودات لأنّ المصلحة والمفسدة إنّما يثبت فيها دون الماهيّات وإلاّ لزم تحقق الامتثال بتصور الصّلاة والمعصية بتصور الزنا لأنّ عارض الماهيّة لا تنفك عنها في الذّهن والخارج بل التّحقيق أنّه لا عارض للماهيّة من حيث هي إلاّ الوجود وجميع العوارض اللاحقة للماهيّة غير الوجود فإنّما يعرضها بواسطة الوجود والتّفرقة إنّما هو باعتبار أقسام الوجود إذ قد يكون عارضا للوجود الخارجي وقد يكون عارضا للوجود الذّهني وقد يكون عارضا لهما والثّالث يسمى عارض الماهيّة اصطلاحا وإلاّ فهو أيضا من عوارض الوجود وبالجملة وإن كان التّحقيق ذلك وأنّ وجود الكليّين في مورد الاجتماع واحد لكن المسألة تتم بغير ذلك ولا تبتني عليه بل يتم منع صحة الاجتماع وإن قلنا بتعلق الأحكام بالماهيّات وذلك لأنّك قد عرفت من لزوم وجود كلي ثالث يكون واحدا بالذّات ولكن قد يعرضه بعض العوارض فيحصل أحد الكليّين وإذا علم أنّه واحد علم أنّه لا يجوز تعلق الأمر والنّهي بالكليّين لا بشرط لأنّه يقتضي كون ذلك الأمر الواحد مأمورا به ومنهيّا عنه مع أنّه واحد مثلا إذا تعلق الأمر بالكون الصّلاتي لا بشرط كان مقتضاه مطلوبيّته وإن وجد معه عارض الغصبيّة أيضا وإذا تعلق النّهي بالكون الغصبي لا بشرط اقتضى مغبوضيّة وإن وجد معه العارض الصّلاتي وحينئذ فيلزم في مورد الاجتماع اجتماع الأمر والنّهي في ذلك الكون مع أنّه واحد بالذّات لما عرفت أنّه لو كان متعددا لزم خلاف المفروض أعني أن يكون بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه فافهم الخامس قد سبق أنّ العنوان في كلمات القوم مختلف حيث جعل بعضهم النّزاع في تعلق الأمر والنّهي بواحد شخصي من جهتين وبعضهم جعل عدم جواز ذلك مفروغا عنه وجعل النّزاع في أنّه إذا تعلق الأمر والنّهي بكليّين بينهما عموم من وجه فهل هو مستلزم لتعلقهما بالفرد الذي هو مورد الاجتماع حتى يكون غير جائز أو لا يستلزم ذلك حتى يكون جائزا ويظهر هذا عن صاحب القوانين والمحقق الشّريف حيث قالوا بأنّ الفرد مقدمة للكلي فوجوب الكلي لا يستلزم وجوبه إلاّ من باب المقدمة ووجوب المقدمة توصلي يسقط الامتثال فيه بالحرام أو أنّه يجوز اجتماعه مع الحرام وبالجملة فالحكم المتعلق بالكلي لا يجب سرايته إلى الفرد ولا بد في تحقيق هذا المطلب من

٣٠١

بيان أمرين أحدهما أنّ الفرد مقدمة للكلي أو لا والثّاني أنّ حكم الفرد هل هو حكم مقدمي أو لا أمّا الأوّل فيظهر الحق فيه بيان النّسبة بين الكلي والفرد فنقول اختلفوا في أنّ الكلي الطّبيعي هل هو موجود في الخارج أو لا وعلى فرض وجوده هل هو عين الفرد أو جزؤه وذهب إلى كل بعض واستدل النّافون لوجوده بأنّه لو كان موجودا لكان إمّا عين الأفراد أو جزءا منها أو خارجا عنها لا سبيل إلى الثّالث لأنّه قدر مشترك ذاتي للأفراد فلا معنى لكونه خارجا عنها وأمّا الأوّل والثّاني فباطلان إذ لو كان عينا للأفراد لزم كون بعض الأفراد أيضا عينا للبعض الآخر لأنّه عين الكلي والكلي عين الفرد الآخر فهو عين الفرد الآخر لأنّ عين عين الشّيء عين ذلك الشّيء ولو كان جزءا لها لزم تقدم الكلي على الفرد في الوجود ضرورة وجوب تقدم الجزء على الكلي مع أنّه فاسد ضرورة فظهر أنّ الكلي لا وجود له في الخارج وإنّما الموجود هو الفرد والكلي شيء منتزع منه عقلا والتّحقيق أنّ الكلي موجود في الخارج وجزء للفرد وذلك لأنّ الكلي الطّبيعي وهو الماهيّة إذا اعتبر معها الوجود الخارجي كانت عين الفرد إذ ليس الفرد عبارة إلاّ عن الماهيّة الموجودة فالوجود إذا عرض على الماهيّة تحقق الفرد فهي مع اعتبار الوجود معها عين الفرد ومع قطع النّظر عن الوجود جزء للفرد لأنّ الفرد مركب من الماهيّة والوجود بالجملة الماهيّة إذا لوحظ معها الوجود الخاص تحقق الفرد المخصوص ولا يلزم من ذلك اتحاد الأفراد لاختلاف الوجودات بالذّات فالماهيّة مع كل وجود خاص عين الفرد الموجود بذلك الوجود ولا يلزم من ذلك اتحاد ذلك الفرد مع الفرد الآخر لأنّ الماهيّة إذا لوحظت مع وجود الفرد الأوّل لم يكن عين الفرد الآخر حتى يلزم اتحاد الفردين وأمّا لزوم تقدم الجزء على الكل فممنوع كليّة والمسلم منه إنّما هو في المركب من الأجزاء الّتي كل منها معروض الوجود كان يكون كل منها ماهيّة وأمّا المركب من أجزاء بعضها نفس وجود باقي الأجزاء فلا يجب فيه تقدم الجزء وجودا على الكل كما نحن فيه فإنّ الفرد مركب من الماهيّة والوجود العارض لها فالماهيّة إذا وجدت تحقق الفرد فلا يلزم وجود الماهيّة أو لا ثم وجود الفرد إذا ظهر هذا تبين أنّ الفرد ليس مقدمة للكلي بل هو عينه بحسب الوجود الخارجي ولا تمايز بينهما خارجا وأمّا الأمر الثّاني فقد ظهر مما قرّرنا لأنّ الفرد إذا كان عين الكلي في الخارج لزم كونه متعلقا لعين الحكم المتعلق بالكلي بأي نحو كان نفسيّا وعينيّا وتعيينيّا وغير ذلك لأنّه عين الكلي الموجود وعلى هذا ربما يشكل الأمر في مثل الواجبات التّعيينيّة كالصّلاة مثلا فإنّ مقتضى كون وجوب الفرد عين وجوب الكلي أن يكون كل فرد منها واجبا نفسيّا وحينئذ يلزم أن لا يحصل الامتثال بأحد الأفراد وإن يتعين الإتيان بالجميع ودفعه ظاهر لأنّ الوجوب المتعلق بالفرد هو عين ما تعلق بالكلي ومعنى وجوب الصّلاة تعيينيّا أنّ الإتيان بماهيّة أخرى غير الصّلاة كالزّكاة مثلا لا يجزي عنها فهذا ثابت في أفرادها أيضا لعدم سقوطها بإتيان فرد من ماهيّة أخرى وهذا لا ينافي التّخيير بين نفس أفراد تلك الماهيّة فافهم السّادس قد عرفت ما ذكره بعضهم من أنّ حكم الكلي لا يسري إلى الفرد بل الفرد مقدمة للكلي فيمكن كون الفرد حراما صرفا مسقطا

٣٠٢

عن الامتثال بالكلي وكذا يمكن كون الفرد واجبا مقدميّا وحراما لجواز اجتماع الواجب التّوصلي مع الحرام وأقول على ما ذكرنا من أنّ الكلي في الوجود عين الفرد وأنّ التّشخص إنّما هو بالوجود ظهر أنّه لا معنى لكون الفرد مقدمة بل هو عين الكلي الموجود ونزيد هنا أنّه ولو سلمنا أنّ التّشخص إنّما هو بغير الوجود بل يحصل بشيء نسبته إلى النّوع كنسبة الفصل إلى الجنس وأنّ الفرد مركب من الماهيّة والتّشخص فنقول لا ريب في فساد القول بأنّ الفرد حرام ومسقط عن الواجب بيان ذلك أنّه يمكن أن يتحقق في شيء واحد عنوانان يكون ذلك الشّيء بأحد العنوانين مقدمة لنفسه بالعنوان الآخر وليس المراد أنّه متقدم على نفسه في الزمان بل المراد بالمقدميّة الأحقيّة في نسبته الوجود كالفصل بالنّسبة إلى الجنس فإنّ المراد من كونه مقدمة له هو أنّ نسبة الوجود إلى الفصل أولى من نسبته إلى الجنس لأنّ نسبة الوجود إلى الخاص وإلى من نسبته إلى العام مثال ذلك المقدمات العلميّة كالصّلاة إلى الجهات الأربع فإنّها واجبة لأن تحصيل العلم واجب فإذا لوحظ مجموع الصّلوات الأربع كان فيها عنوانان أحدهما عنوان تحصيل العلم إذ ليس معنى تحصيل العلم إلاّ إتيان الصّلاة الأربع والثّاني عنوان الصّلاة إلى الجهات وهي بالعنوان الثّاني مقدمة لها بالعنوان الأوّل وحينئذ فنقول في مثل هذا الشّيء إذا ثبت الوجوب له بأحد العنوانين اتصف بالوجوب ولزم الإتيان به ولا ثمرة في البحث عن أنّه هل يجب بالعنوان الآخر هو أو لا والعنوان الآخر لو لم يكن واجبا فلا ريب أنّه لا يمنع عن وجوبه بالعنوان الأوّل وإلاّ لزم عدم وجوب شيء من الواجبات لوجود العناوين الغير الواجبة في جميعها كالصّلاة فإنّ فيها عناوين تحريك البدن والاستقامة والانحناء وأمثال ذلك إذا عرفت هذا فنقول لا ريب أنّ الماهيّة والتّشخص لا تميز بينهما بحسب الخارج بل الموجود في الخارج شيء واحد هو الفرد قد جمع فيه عنوانان أحدهما الماهيّة والآخر عنوان التّشخص والمفروض وجوب عنوان الماهيّة لا بشرط شيء فعنوان التّشخص غير مانع عنه نعم لو اعتبر في المطلوب بعض الخصوصيّات كان غيره من الخصوصيّات مانعا عن مطلوبيّة الماهيّة الموجود معه لعدم وجود عنوان المطلوب فيه وليس المفروض هنا ذلك إذ الفرض وجوب الماهيّة لا بشرط شيء وحينئذ فالفرد يكون واجبا بعين وجوب الماهيّة فالقول بأنّه حرام صرف خارج عن المفروض ومع التّنزل وتسليم أنّ مقصوده هو أن مطلوبيّة الماهيّة مشروطة بغير خصوصيّة الفرد المحرم نقول إنّه لا معنى حينئذ لسقوط الامتثال بذلك الفرد مع عدم كونه مطلوبا أصلا لا نفسيّا ولا مقدميّا إذ مع اعتبار غيره من الخصوصيّات لا يحصل التّوصل به إلى المطلوب فإذا هو غير مطلوب أصلا ولا يحصل التّوصل به إلى المطلوب فما معنى الإسقاط مع عدم حصول الغرض والمطلوب فافهم السّابع في أنّ مقتضى الأصل في المسألة هل هو الجواز أو عدمه قال بعضهم إنّ مقتضى الأصل العقلي والأصل اللّفظي هو الجواز أمّا العقلي فلأنّ المراد بالجواز هو الإمكان ومعناه تساوي طرفي الوجود والعدم والامتناع معناه رجحان طرف العدم كما أنّ

٣٠٣

الوجوب رجحان طرف الوجود ومقتضى الأصل تساوي الطّرفين لأنّ الرّجحان زيادة تنفى بالأصل ولذا ذكر الرّئيس أنّ كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قائم البرهان وأيضا الممكن أكثر فيجب إلحاق المشكوك به وأمّا الأصل اللّفظي فلأنّ الجواز هو مقتضى ظاهر الخطابين لتعلق كل منهما بطبيعة غير ما تعلق به الآخر وهو لا يستلزم أمرا محالا غاية الأمر أنّ المكلّف يجمعها في مورد واحد بسوء اختياره وفيه نظر لأنّ مقتضى العقل في مقام الشّك في الإمكان هو التّوقف لا الحكم بالإمكان وأصالة عدم الرّجحان فاسد لأنّ الامتناع على فرض ثبوته ليس مسبوقا بالعدم حتى يجري الأصل فيه كما سبق بيانه في مبحث المشترك وبالجملة العقل يحكم بالتّوقف والمراد من كلام الرّئيس هو أنّ كل ما قرع سمعك فاجعله أمرا محتملا ولا تحكم بامتناعه بلا دليل ولا بإمكانه أيضا ولذا ذكر أنّ كل من حكم في واقعة بحكم من دون أن يثبت عنده بالدّليل فهو خارج عن فطرة الإنسان ووجهه ظاهر وأمّا جهة الإلحاق بالأكثر ففسادها غير خفي لأنّ الممتنع لا يمكن وجوده حتى يكون الممكن أكثر منه وإن لوحظ الكثرة بالنّسبة إلى المفهومات الممكنة والممتنعة فأكثريّة الممكنة ممنوعة وأمّا الأصل اللّفظي فلا يظهر منه الجواز أمّا أوّلا فمنع تعلق الطّلبين بالطّبيعة بل الطّلب متعلق بإيجادها وهو الأفراد وحينئذ فظاهر الطّلبين اجتماعهما في مورد الاجتماع وهو غير جائز وأمّا ثانيا فلما ذكرنا أنّه يجب أن يكون بين الكليّين لا محالة قدر مشترك ليوجدا معا في مورد الاجتماع والطّلبان يتعلقان بذلك القدر المشترك الذي هو أمر واحد شخصي في مورد الاجتماع وهو محال فعلم أنّ ظاهر الخطابين ليس أمرا جائزا عقلا اللهم إلاّ أن يريد من ذلك أنّ مقتضى ظاهر الطّلبين هو اجتماعهما في مورد واحد فإنّه مسلم لكنّه غير مسألة جواز الاجتماع الذي كلامنا فيه إذ الكلام إنّما هو أنّ مقتضى الخطابين هل هو أمر جائز عقلا أو لا وقد عرفت عدم جوازه سواء قلنا بتعلّق الأحكام بالأفراد أو بالطّبائع فتأمّل إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول اختلفوا في المسألة على أقوال الجواز مطلقا والمنع مطلقا والجواز عقلا لا عرفا استدل المجوزون بوجوه أحدها عدم المقتضي للمنع لأنّ وجه المنع إمّا لزوم اجتماع الضّدين في محل واحد أو لزوم التّكليف بما لا يطاق وكلاهما ممنوعان أمّا الثّاني فلاعتبار المندوحة أي القدرة على الامتثال المنفك عن المعصية وأمّا الأوّل فيقرر بوجهين أحدهما أنّ المأمور به والمنهي عنه لما كان بينهما عموم من وجه وجب تغايرهما ذاتا ووجودا فهما موجودان بوجودين فلا فرق بين الصّلاة والغصب وبينهما وبين النّظر إلى الأجنبيّة إلاّ أنّ تغاير الموجودين في الثّاني ظاهر على الحس دون الأوّل وإذا تغاير الوجودان والذّاتان لم يلزم اجتماع الضّدين في محل واحد وثانيهما أنّ اتحاد الوجودين مسلم لكن تغاير الذّاتين كاف في المطلوب لأنّهما إنّما تعلقا بالطّبيعتين من غير اعتبار الوجود فلا دخل للوجود في الطّلب فلا يلزم اتحاد المطلوب والمبغوض لا يقال إنّ الفرد لما كان مقدمة للطبيعة لزم سراية الحكم إليه من

٣٠٤

باب المقدمة مع أنّ النّهي عن الطّبيعة نهي عن جميع أفرادها فيلزم اجتماع الحكمين في الفرد من باب المقدمة أو الأمر المقدمي والنّهي النّفسي لأنّا نقول لا نسلم أوّلا وجوب المقدمة وثانيا نسلم وجوبها التّوصلي وهو يجوز اجتماعه مع الحرام وثالثا نقول إنّ الفرد حرام صرف لكنّه يسقط الواجب لحصول الطّبيعة في ضمنها هذا حاصل التّقرير وهو متوقّف على مقدميّة الفرد وعدم وجوب المقدمة وجواز اجتماع الوجوب التّوصلي مع الحرام وجواز كون الحرام مسقطا والجميع في معرض المنع ويمكن تقرير الدّليل بطريق لا يتوقّف على تلك المقدمات الممنوعة بأن يقال إنّ وجوب الطّبيعة لا يستلزم وجوب الفرد بل لا حكم للفرد أصلا إذ ما يتصور حكما له إمّا الوجوب المقدمي وهو فرع كون الفرد مقدمة وهو ممنوع أو الوجوب النّفسي وهو أيضا باطل إذ المراد به إمّا النّفسي العيني أو التّخييري الشّرعي أو التّخييري العقلي والأوّل مستلزم لعدم حصول الامتثال ببعض الأفراد والثّاني فرع تعلق الخطاب الشّرعي بالأفراد تخييرا وهو مفقود والثّالث إن أريد به إنشاء العقل الوجوب التّخييري للأفراد فممنوع وإن أريد به حكمه وتصديقه بأنّ الإتيان بأحد الأفراد مسقط للتّكليف لحصول الطّبيعة في ضمنه فمسلم لكنّه ليس بالوجوب الشّرعي الذي هو ضد الحرمة فلم يلزم اجتماع الضّدين في محل واحد هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الدّليل العقلي للمجوزين وبما أسلفنا في المقدمات تعلم فساد جميع ذلك أمّا اعتبار المندوحة فلأنّه لا يوجب دفع المحذور وهو لزوم التّكليف بما لا يطاق إذ ليس علة قبح التّكليف بما لا يطاق كونه إلزاما بما لا يمكن إتيانه حتى لا يجري في الواجب التّخييري بل العلة هي أنّ الطّلب من المكلف لما لا يتمكن من امتثاله قبيح فلو أراد إتيان الصّلاة في الدّار المغصوبة وتركها كان قبيحا لأنّه إرادة ما لا يمكن امتثاله وأمّا منع لزوم اجتماع الضّدين بالوجوه المذكورة فلفساد جميع الوجوه أمّا الأوّل فلما سبق أنّه لا يمكن فرض العموم من وجه إلاّ بأن يكون بين الكليّين قدر مشترك هو الموجود في مورد الاجتماع فالوجود واحد كما أنّ الموجود بالوجود النّفسي أيضا واحد وأمّا الوجه الثّاني فلأنّه مبني على تعلق الأحكام بالماهيّات وكون الفرد مقدمة وجواز اجتماع الواجب التّوصلي مع الحرام أو كون الحرام مسقطا والتّحقيق خلاف ذلك كله بل الأحكام متعلقة بالوجودات الخارجيّة لأنّها المتصفة بالمصالح والمفاسد ولو قلنا بتعلقها بالماهيّة أيضا تم المطلوب لأنّ الماهيّة مع قطع النّظر عن وجودها الذّهني والخارجي عدم صرف لا يمكن كونها متعلقة للطلب فإنّ المطلوب يجب أن يكون مما له ثبوت ولو في ظرف الذّهن فيكون الماهيّة الثّابتة مطلوبة والوجود سواء كان في الذّهن أو في الخارج ليس مغايرا للماهيّة كالأوصاف الخارجيّة من السّواد أو البياض ضرورة تأخّر الصّفة وجودا عن الموصوف ولا يمكن تقدم الماهيّة وجودا على الوجود فهما متحدان ذهنا وخارجا وتغايرهما إنّما هو في التّصور بمعنى أنّه يمكن للذّهن أن يتصور الماهيّة مرة ويتصور لها الوجود بتصور آخر مع أنّها بالتّصور الأوّل أيضا موجودة ذهنا لكن الذّهن لا ينظر إلى ذلك الوجود فتغايرهما إنّما هو بالتّصور ولذا قال بعضهم إنّ الوجود

٣٠٥

عارض الماهيّة تصورا واتحدا هويّة وإذا علم مطلوبيّة الماهيّة الثّابتة فإمّا يراد الثّابتة في ذهن الطّالب وهو محال لعدم قدرة المكلّف على التّصور الذي هو فعل ذهن الطّالب أو الثّابتة في ذهن المكلّف وهو مستلزم لحصول الامتثال بتصور الصّلاة كما سلف فإذا لا يكون المطلوب إلاّ الماهيّة الثّابتة في الخارج وقد عرفت عدم التّمايز بينها وبين الوجود فيلزم اجتماع الطّلبين بالنّسبة إلى الوجود الواحد وهو معنى اجتماع الضّدين وأمّا ما ذكره المستدل المذكور في آخر كلامه من أنّه لا استحالة في أن يقول الحكيم هذه الطّبيعة مطلوبتي ولا أرضى بإيجادها في ضمن هذا الفرد أيضا ولكن لو عصيتني وأوجدتها فيه أعاقبك لما خالفتني في كيفيّة الإيجاد لا لأنّك لم توجد مطلوبي لأنّ ذلك الأمر المنهي عنه خارج عن العبادة فهذا معنى مطلوبيّة الطّبيعة الحاصلة في ضمن هذا الفرد لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد فما لم نحصل معناه فإنّ الكون الصّلاتي في المكان المغصوب أمر واحد متصف باقترانه بعدم إذن المالك وقد عرفت اتحاد وجوب الغصب والصّلاة فيه فإن أراد بما ذكر أنّ ذلك الكون مطلوب صرف والاقتران مبغوض وهو أمر خارج عن العبادة فمع أنّه خروج عن محل البحث وهو العموم من وجه المصداقي وأنّ حرمة الاقتران بعدم الإذن غير معقول لا يجامع قوله لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد وقوله بكون الفرد حراما مسقطا عن الواجب وإن أراد أنّ ذلك الكون حرام لاقترانه بعدم الإذن حصل الاجتماع لوحدة الوجود كما عرفت والظّاهر أنّه قد خلط عليه اجتماع جهتي الحسن والقبح بالمطلوبيّة والمبغوضيّة والواجب التّوصلي بالتّعبدي فإنّ اجتماع الأوّلين ممكن لكن مطلوبيّة الشّيء إنّما هي بعد ملاحظة جميع مصالحه ومفاسده فإن كان فيه المصلحة السّليمة عن معارضة المفسدة كان مطلوبا أو المفسدة السّليمة عن مزاحمة المصلحة كان مبغوضا وإلاّ فمباحا ولا يمكن اجتماع المطلوبيّة والمبغوضيّة في شيء واحد كما يمكن اجتماع العلم والفسق في زيد مع أنّ الأوّل جهة الكمال والثّاني جهة النّقص لكن لا يمكن أن يقال إنّ زيدا كامل وناقص نعم في الواجب التّوصلي يمكن كون الحرام مسقطا لحصول الغرض لا في المقام لعدم حصوله كما عرفته في المطلب السّادس وأمّا جواز اجتماع الوجوب التّوصلي مع الحرمة ففساده ظاهر لأنّ معنى الوجوب لا يتفاوت بكون المصلحة في نفس الواجب أو في غيره بل الوجوب مرتبة من الطّلب مانعة من النّقيض فاجتماعه مع الحرمة اجتماع الضّدين مطلقا وأمّا كون الفرد مقدمة فقد ظهر لك فساده وكذا فساد منع وجوب المقدمة وأمّا الوجه الثّالث فلأنّا نختار الوجوب العيني ولكن على نحو ثبوته للكلي وهو معناه عدم سقوطه بإتيان طبيعة أخرى كما سبق فتلخص مما ذكرنا أنّ اجتماع الأمر والنّهي أعني المطلوبيّة والمبغوضيّة في شيء واحد من جهتين مستلزم للتكليف بما لا يطاق سواء اعتبرت المندوحة أو لا ومستلزم لاجتماع الضّدين في محل واحد سواء قلنا بتعلّق الأحكام بالوجودات أو بالماهيّة الثّابتة ولا ثالث بينهما وأنّ الفرد الحرام لا يمكن كونه مسقطا للواجب لما عرفت أنّ حرمة الفرد معناها مطلوبيّة الطّبيعة الموجودة في ضمن غير ذلك الفرد فبذلك الفرد لا يحصل المطلوب أصلا ولا معنى للسّقوط مع عدم حصول الغرض فالتّحقيق

٣٠٦

عدم جواز الاجتماع عقلا وإذا لم يجز عقلا وجب تأويل كل ما يخالفه من الأدلّة النّقليّة كما سيأتي الثّاني من أدلّة المجوزين الوقوع شرعا فإنّه كاشف عن الإمكان الذي هو المراد بالجواز في المسألة كالعبادات المكروهة بحسب المكان كالصّلاة في الحمام ونحوه أو بحسب الزّمان كالصّوم يوم عرفة على بعض الوجوه وتقريب الاستدلال أنّ مناط البحث في اجتماع الأمر والنّهي هو أنّ تعدد الجهة هل يوجب تكثر الموضوع حتى لا يلزم اجتماع الضّدين في محل واحد أو لا وكما أنّ الوجوب والحرمة ضدان كذا الوجوب والكراهة أيضا ضدان فلو لم يكن تعدد الجهة مجديا في الأوّل لزم عدم جواز اجتماع الأخيرين أيضا مع أنّهم اتفقوا على صحة العبادات المكروهة وليس معنى الصّحة في العبادة إلاّ موافقة الأمر فيعلم من ذلك وجود الأمر والنّهي التّنزيهي أيضا موجود وإلاّ لم تكن مكروهة فقد ثبت الاجتماع وهو المطلوب وأيضا قد ورد في الشّرع اجتماع الحكمين المتماثلين في محل واحد من جهتين كالغسل الواحد للحيض والجنابة أو للجمعة والجامعة لاجتماع الوجوبين في الأوّل والاستحبابين في الثّاني من جهة السّببين فلو لم يجد تعدد الجهة في تكثر الموضوع لامتنع اجتماع المثلين أيضا مع وقوعه هذا غاية تقرير الدّليل وأنت بعد ما عرفت من استحالة الاجتماع عقلا علمت وجوب التّأويل في الظّواهر النّقليّة إذ لا يحصل منها العلم باجتماع الحكمين غاية الأمر الظّهور في ذلك وهو لا يعارض البرهان العقلي وحينئذ فنقول للمانعين في تأويل تلك الظّواهر مسالك عديدة ولنقدم ما ذكروه في العبادات المكروهة فنقول مرجع كل ما يذكر في التّأويل أحد الأمرين وذلك لأنّ الإشكال إنّما نشأ من كون العبادة مطلوب الفعل للأمر ومطلوب التّرك للنّهي وطلب الفعل والتّرك ضدان فدفع الإشكال بناء على القول بالمنع إنّما يكون برفع التّضاد بين طلب الفعل والتّرك فيها بتقييد التّرك المطلوب بما يخرجه عن كونه نقيضا للفعل المطلوب أو يمنع كون النّهي فيها بمعنى طلب التّرك فهنا وجهان أحدهما ما ذهب إليه بعض الأفاضل وتقريره من وجهين الأوّل أنّ وجه امتناع مطلوبيّة الفعل والتّرك هو امتناع اتصاف وجود الشّيء وعدمه بحكم واحد من المطلوبيّة والمبغوضيّة لكون الوجود والعدم متناقضين فيمتنع كونهما معا مطلوبين أو مبغوضين وحينئذ فلو قيد عدم الشّيء بما يخرجه عن كونه نقيضا له لم يكن مانع من اجتماعهما في الحكم الواحد كما في العبادات المكروهة وذلك لأنّ فعل العبادة بقصد القربة مطلوب ونقيض هذا هو ما لا يمكن رفعه معه وهو تركه المطلق فلا يمكن كونه أيضا مطلوبا وأمّا تركه المقيد بقصد القربة فليس نقيضا لفعله المعتبر معه قصد القربة لإمكان ارتفاعهما معا بأن يترك العمل من دون أن يكون التّرك بقصد القربة وحينئذ فلا مانع من كون التّرك المقيد بالقربة مطلوبا أن فعله المقيد بالقربة أيضا مطلوب لكن يجب أن لا يكون الطّلب عينيّا لا لاجتماع الضّدين في محل واحد لما عرفت من تغاير المحلين بل للزوم التّكليف بما لا يطاق لو تعين عليه الفعل بقصد القربة والتّرك كذلك وأمّا الطّلب التّخييري فلا ضرر فيه بل له نظائر عديدة في

٣٠٧

الشّرع قد خير الشّارع فيها بين شيء وجودي وبين ترك شيء آخر كالعتق والصّوم في الكفارة لأنّ الصّوم معناه ترك الأكل بل خير في بعض الموارد بين فعل شيء وتركه المقيد بغير القربة من القيود كالصّوم المندوب وتركه المقيد بإجابة المؤمن في الإفطار بل الأمر كذلك في جميع الواجبات التّخييريّة لأنّ ترك كل واحد مقدمة للآخر فيكون مطلوبا بقيد التّوصل إليه مخيرا فالمكفّر مخيّر بين العتق وتركه المقيد بالإيصال إلى الطّعام أو الصّوم غاية الأمر أنّ الطّلب بالنّسبة إلى التّرك هنا غيري مقدمي وهو غير قادح وبالجملة إذا جاز مطلوبيّة الفعل نفسيّا ومطلوبيّة التّرك المقيد بغير القربة فما وجه الاستبعاد في جواز مطلوبيّة الفعل والتّرك المقيد بالقربة نفسيّا كان أو غيريّا لعدم تفاوت حقيقة الطّلب بالنّفسيّة والغيريّة كما مر وفيه أوّلا ما عرفت سابقا من أنّه لا يمكن جعل قصد القربة قيدا للمطلوب لأنّه مستلزم للدور لتوقف القربة على الأمر وثانيا أنّ قصد القربة بفعل شيء وبتركه أيضا غير معقول والتّخيير في المثال السّابق ليس بين فعل الصّوم وتركه بل إنّما هو بين الفعلين الصّوم والإجابة وثالثا أنّ فيما يكون بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه مثل صل ولا تكن في مواضع التّهم يلزم على ما ذكرت استعمال النّهي في المعنيين أعني الطّلب التّعييني بالنّسبة إلى غير مورد الاجتماع والتّخييري بين الفعل والتّرك بالنّسبة إلى مورد الاجتماع وكذا في صورة العموم المطلق يلزم استعمال الأمر في المعنيين أعني الطّلب التّخييري بين الأفراد الرّاجحة والطّلب التّخييري بين الفعل والتّرك بالنّسبة إلى الأفراد المكروهة فافهم الثّاني أنّ ترك العبادات مطلوبة على تقدير التّوصل به إلى الأفضل وفعلها مطلوب على تقدير عدم التّوصل بتركها إلى الأفضل وبالجملة فالتّرك الموصل مطلوب وهو ليس نقيضا للفعل لإمكان رفعهما معا في ضمن التّرك الغير الموصل وفيه أيضا نظر أمّا أوّلا فلاستلزامه في صورة العموم من وجه إرادة المعنيين من النّهي بأن يكون قوله لا تكن في مواضع التّهم مستعملا في النّهي التّوصلي بالنّسبة إلى مورد الاجتماع وفي النّهي النّفسي بالنّسبة إلى غيره وأمّا ثانيا فلأنّه لا معنى له فيما لا بدل له من العبادات كالتّطوع وقت طلوع الشّمس إذ لا معنى لمطلوبيّة تركه للتّوصل إلى بدله إذ لا يفرض له بدل من نوعه وهو المراد بالبدل لا نوع آخر وإلاّ لزم كراهة كل عبادة كان فوقها ما هو أرجح منها ولو من غير نوعها وأمّا ثالثا فلأنّ ظاهره أنّ سبب الكراهة هو محض حصول التّوصل بتركها إلى الأرجح وعلى هذا فيلزم كراهة الصّلاة في مسجد السّوق لمطلوبيّة تركها للتّوصل إلى مسجد الجامع مثلا وأمّا رابعا فلأنّ حاصل الجواب هو أنّ العبادة باقية على رجحانها الذّاتي غاية الأمر مطلوبيّة التّرك للتّوصل إلى الأفضل وهذا ينافي الأخبار الواردة في الباب لدلالتها على وجود منقصته في أصل تلك العبادة بل دل بعض الأخبار على كونها معصية تأكيدا للكراهة وبالجملة فالجواب بإبقاء النّهي على ظاهره من طلب التّرك بالوجهين المذكورين غير تمام فتأمّل ثانيهما أن ليس المراد بالنّهي في هذه الموارد طلب التّرك بل المراد منه الإرشاد إلى أقلّيّة الثّواب ليترك ويؤتى بالفرد الأفضل وبيانه أنّ الأمر المتعلق بالماهيّة يستفاد منه التّرخيص في إتيان

٣٠٨

أي فرد أراد المكلف وحصول الامتثال بأي فرد كان وتساوي الأفراد في الثّواب فإذا تعلق النّهي ببعض الأفراد فإن كان تحريميّا كان ناظرا إلى رفع الأولين أي التّرخيص والامتثال كما سيأتي في المسألة الآتية وإن كان تنزيهيّا كان ناظرا إلى رفع التّساوي في الثّواب ومبينا لقلة ثواب ذلك الفرد عن ثواب أصل الطّبيعة بواسطة وجود خصوصيّة في ذلك الفرد موجبة للنّقص وذلك لأنّ أصل الطّبيعة له مقدار معين من الثّواب فقد يزيد بواسطة بعض الخصوصيّات وهو المستحب كالصّلاة في المسجد وقد ينقص بواسطة بعض الخصوصيّات وهو المراد بالمكروه كالصّلاة في الحمام وقد يبقى بحاله كالصّلاة في البيت مثلا فارتفع الاعتراض بأنّه يلزم على هذا كراهة أكثر العبادات الّتي ثوابها أقل من عبادة أخرى كالصّلاة في مسجد الكوفة لأنّها أقل ثوابا من الصّلاة في المسجد الحرام وكذا يلزم استحباب العبادات الّتي ثوابها أكثر من عبادة أخرى كالصّلاة في البيت بالنّسبة إلى الصّلاة في الحمام مع أنّه يلزم في الجميع اجتماع الاستحباب والكراهة بالنّسبة إلى ما هو أقل منها ثوابا وإلى ما هو أكثر ووجه ارتفاعه أنّ قلة الثّواب وكثرته فيما ذكرت من الأمثلة إنّما هي لعدم وجود الخصوصيّة الموجبة للزيادة أو الموجبة للنّقص لا لوجود خصوصيّة موجبة لهما فإنّ الصّلاة في البيت ثوابها أكثر من الصّلاة في الحمام لا لخصوصيّة أوجبت ذلك بل لعدم وجود الخصوصيّة المنقصة فيها وكذلك قلة الثّواب في الصّلاة في مسجد الكوفة ليست لوجود منقصة فيها بل لعدم وجود الصّفة الموجودة في المسجد الحرام فيها ثم إنّه قد علم بما ذكرنا أنّه يجب أن يكون ثواب الطّبيعة زائدا عن كفاية الوجوب ليبقى في الفرد المكروه ثواب كاف في الوجوب وإلاّ لم يكن معنى لبقائه على الوجوب والمطلوبيّة والحاصل أنّه لما قام الإجماع على صحة الفرد المكروه وقام الدّليل العقلي على عدم بقاء النّهي على حقيقته وجب حمله على الإرشاد ولازمه بالتّقرير المذكور كون ثواب أصل الطّبيعة زائدا عن كفاية الوجوب وحينئذ فلا يرد أنّ الوجه المذكور مبني على ثبوت أنّ ثواب أصل الطّبيعة زائد عن مقدار كفاية الوجوب وهو موقوف على إثباته بالدّليل واعترض على الجواب المذكور بأنّه لا يتم فيما لا بدل له من العبادات كالتّطوع في وقت طلوع الشّمس مثلا فإنّ كل زمان يسع فيه ركعتان من الصّلاة فهي مستحبة فيه وحينئذ فلا معنى للإرشاد إلى قلة الثّواب طلبا للتّوصل إلى الأفضل إذا الأفضل لا يقوم مقام الأوّل إلاّ إذا علم عدم تمكّن المكلّف من إتيانها معا فيجوز الإرشاد وحينئذ إلى إتيان الأفضل وتخصيص النّواهي بهذه الصّورة بعيد جدا هذا إذا أراد من جعل النّهي للإرشاد بقاءه على معنى الإنشاء بأن يكون حاصله طلب التّرك إرشادا إلى الأكثر ثوابا وأمّا إن أخرجه عن معنى الطّلب وجعله للإخبار بقلة الثّواب من غير قصد الإرشاد إلى الأفضل لم يرد عليه ما ذكر لكن يستلزم ذلك في ما يكون بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه استعمال النّهي في معنيين إنشاء طلب التّرك بالنّسبة إلى غير مورد الاجتماع والإخبار عن قلة الثّواب بالنّسبة إلى المورد وقد يجاب بوجه ثالث وحاصله أنّ النّهي مستعمل في طلب التّرك لكن لا بعنوان أنّه ترك للمستحب حتى يلزم منه مطلوبيّة الفعل والتّرك

٣٠٩

واتصاف طرفي النّقيض بالمطلوبيّة بل بعنوان آخر متحد مع التّرك في الوجود أو مقارن معه نظير الواجبين المتزاحمين كإنقاذ أحد الغريقين فإن فعل كل منهما مطلوب وتركه بعنوان أنّه مقارن لإنقاذ الآخر أيضا مطلوب لا بعنوان أنّه تركه حتى يلزم الحذور وهنا أيضا كذلك فإنّ فعل الصّوم مطلوب والإفطار أيضا مطلوب لا بعنوان أنّه ترك للصّوم بل بعنوان أنّه متحد مع الإجابة لدعوة المؤمن فيكون الشّخص حينئذ مخيرا بين الفعل والتّرك المعنون بذلك العنوان والتّرك أرجح كما في أحد فردي الواجب التّخييري إذا كان أفضل وحينئذ إذا علم العنوان المتحد مع التّرك أو المقارن معه فلا إشكال وإلاّ فنقول إنّ النّهي كاشف عن وجود العنوان في الواقع إجمالا وإن لم نعلمه تفصيلا لا يقال لا يخلو الشّخص من الفعل والتّرك قطعا فما فائدة الطّلب لأنّا نقول الفائدة حصول الثّواب بواسطة الامتثال أنّه لا يمكن الامتثال بدون الطّلب فإن قيل على هذا يلزم الحكم بكراهة كل عبادة كان تركها معنونا بعنوان مطلوب بالطّلب الأرجح من طلب الفعل كالصّلاة في مسجد الكوفة إذا تحقق تركها مقارنا للصلاة في الحرم المطهر على ساكنه السّلام فيلزم كونها مكروهة قلنا بعد تسليم إمكان مقارنة تركها لفعل الأفضل لا يخفى أنّ تركها بعنوان أنّه فعل الأفضل أفضل من فعلها فلا ضرر في الحكم بالكراهة بهذا المعنى كما ذكروا أنّ حكمهم بكراهة الصّوم عند الدّعوة للإفطار وليس لتعلق النّهي بالصّوم بل لورود الخبر رجحان الإفطار للإجابة فإذا كان هذا موجبا للحكم بالكراهة فليكن الخبر الوارد برجحان الصّلاة في الحرم على الصّلاة في المسجد موجبا لكراهة الصّلاة في المسجد وإلاّ فما الفرق فإن قلت على هذا يلزم استعمال النّهي في التّعيين والتّخيير إذا كان المنهي عنه أعمّ من المأمور به من وجه لأنّ المطلوب منه التّرك معينا في غير مورد الاجتماع ومخيرا في المورد قلت هذا ليس جمعا بين المعنيين لأنّ النّهي حقيقة في الأعمّ من التّعيين والتّخيير كالأمر على ما سبق تحقيقه في مبحث الأمر فتأمّل وليعلم أنّ الإشكال في العبادات المكروهة لا يختص بمن لا يجوز الاجتماع بل هو وارد على المجوزين أيضا بالنّسبة إلى ما لا بدل له منها فإنّ الأمر فيها قد تعلق بالفرد عينا ولا يمكن امتثاله في ضمن فرد آخر لأنّه مأمور به بأمر آخر وعلى هذا فيلزم فيه اجتماع الأمر والنّهي في المحل الواحد والتّكليف بما لا يطاق لعدم المندوحة نعم فيما له بدل يمكن لهم التّفصي بأنّ المأمور به كلي والمنهي عنه كلي آخر على ما سبق والعجب من بعض المحققين حيث رام تصحيح الاجتماع فيما لا بدل له أيضا بالوجه الذي ذكروه فيما له بدل وقد أتى في بيانه بما يقتضي منه العجب كما يظهر لمن رجع إلى القوانين وهو أعلم بما قال هذا تمام الكلام في العبادات المكروهة وأمّا مسألة تداخل الأغسال فالكلام فيها من وجهين أحدهما في اجتماع المتضادين فيها إلى الواجب والمستحب كالجمعة والجنابة والثّاني في اجتماع المثلين أي الواجبين كالجنابة والحيض والجمعة والزيارة وأمثالها فنقول قد أجاب بعض المحققين في الأوّل بأنّه لا تضاد بين الوجوب والاستحباب حتى يمتنع اجتماعهما بل الاستحباب عبارة عن الطّلب الغير المانع عن النّقيض والوجوب هو الطّلب المانع عنه ولا تنافي بين ما يقتضي المنع وما لا يقتضيه نعم لو كان

٣١٠

الاستحباب مقتضيا للإذن لامتنع الاجتماع وما يرى من تعريف الاستحباب بقولهم هو طلب الفعل مع الإذن في التّرك ليس لاعتبار الإذن في مفهوم الاستحباب بل إنّما هو باعتبار أنّ المستحب اصطلاحا إنّما يطلق على ما لا يقتضي المنع أصلا بأن لا يكون في الشّيء عنوان يقتضي المنع من التّرك ولازم ذلك تحقق الإذن في التّرك وأمّا مع قطع النّظر عن الاصطلاح فيصدق المستحب على المطلوب بالطّلب الغير المقتضي للمنع وإن قارنه عنوان مطلوب بالطّلب المانع عنه وفيه نظر لأنّ الطّلب الاستحبابي وإن لم يعتبر فيه الإذن في التّرك لكن لا شبهة في أنّه مرتبة خاصة من الطّلب غير مرتبة الوجوب فحاله بالنّسبة إليه حال الظّن بالنّسبة إلى العلم فكما لا يمكن اجتماعهما بالنّسبة إلى متعلق واحد فكذا الطّلب الاستحبابي والوجوبي فالأولى في الجواب عن الوجهين أن يقال أوّلا إنّ الإشكال وارد على المجوزين أيضا في مسألة تداخل الأسباب الواردة لعمل واحد كالوضوء بالنّسبة إلى الغايات الواجبة والمندوبة فإنّ الظّاهر من الشّرع أنّ الوضوء طبيعة واحدة متى تحققت بالوجه الشّرعي ترتب عليها جميع الآثار والغايات فليس هناك عنوانان يتعلق الوجوب بأحدهما والاستحباب بالآخر يجمعهما المكلف في فرد واحد فإنّ الوضوء للصلاة المكتوبة والمندوبة أمر واحد لأنّه بالنّسبة إلى الأوّل نوع وبالنّسبة إلى الثّاني نوع آخر كغسل الجمعة والجنابة فعلى هذا يلزم اجتماع الضّدين لعدم تعدد الجهة التّقييديّة وثانيا أنّ الأمر الوجوبي والاستحبابي والأمران الوجوبيان إذا تعلقا بشيء واحد فمقتضاهما في حال الاجتماع غير مقتضاهما في حال الانفراد فمقتضى الأمرين الوجوبين مرتبة واحدة من الوجوب أشد منها حال الانفراد لا وجوبان ومقتضى الأمرين الاستحبابيين مرتبة واحدة من الاستحباب أشد منها حال الانفراد لا استحبابان وكذا في الوجوبي الاستحبابي يثبت الوجوب الأشد من الثّابت من الأمر الوجوبي حال الانفراد إذا تحقق هذا فنقول إن أردت من اجتماع المتضادين والمتماثلين هنا اجتماع الطّلبين فغير لازم بل هناك طلب واحد كما بينا وإن أردت منه صدق عنوان الاستحباب أو الوجوب مثلا باعتبار تحقق الاستحباب أو لا ثم اشتد فتحقق الوجوب فلا ضرر فيه لأنّ تحقق الوجوب ليس دافعا للاستحباب وإنّما هو استحباب مع شيء زائد وقد أشرنا إليه في مبحث تداخل الأسباب ولا يلزم من ذلك اجتماع الضّدين ليس هنا إلاّ طلب واحد فتأمّل ثم إنّ في المسألة تفصيلين عن بعض المحققين الأوّل التّفصيل بين العقل والعرف فيما إذا كان بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه فحكم بجواز الاجتماع عقلا ومنه عرفا ولا نعرف وجهه إذ المقصود من تفكيك العقل والعرف إمّا يكون بعد فرض اتحاد الموضوع بمعنى أنّه إذا ورد الأمر والنّهي على كليّين أو تعلقا معا بالأفراد فالعقل حاكم بالجواز دون العرف وإمّا يكون بعد فرض اختلاف الموضوع بمعنى أنّ العقل يحكم بجواز تعلقهما بكليّين بينهما عموم من وجه لكن يفهم العرف منهما طلب الأفراد فيكون ممتنعا أمّا الأوّل فبين الفساد إذ العرف إنّما يحكم بمقتضى عقله فكيف يمكن تجويز العقل ومنع العرف وأمّا الثّاني فمع أنّه على فرض تعلق التّكليف بالطّبيعة أيضا يمتنع الاجتماع عقلا على ما عرفت

٣١١

يطابق مذهب القائل حيث ذهب إلى أنّ المتبادر من الأمر طلب الطّبيعة لا الأفراد وبذلك أثبت وضعه لذلك وحينئذ فنقول إذا كان الأمر موضوعا لطلب الطّبيعة وهو المتبادر منه عرفا فما وجه فهم العرف طلب الأفراد فإن كان لأجل امتناع اجتماع الأمر والنّهي في الطّبيعتين فقد حكمت بجوازه وإن كان لقرينة حاليّة أو مقاليّة فلم تظهر لنا بعد بل يجب أن تبين فتأمّل الثّاني التّفصيل فيما إذا كان المنهي عنه أخص من المأمور به مطلقا بين المنهي عنه لوصفه اللازم فمنعه عقلا وعرفا وبين المنهي عنه لوصفه المفارق فجوزه عقلا ومنعه عرفا على احتمال في الجواز أيضا مثال الثّاني قوله صل ولا تصل في الدّار المغصوبة فإنّ النّهي إنّما تعلق بالصّلاة باعتبار وصف الغصب وهو وصف مفارق للصّلاة لأنّ الصّلاة لا يختلف شخصها باختلاف المكان لأنّ نسبة المكان إلى الأفعال كنسبته إلى الأجسام فالمنهي عنه وهو الوصف المفارق مغاير للمأمور به ذاتا ووجودا وليس من مقوماته ومشخّصاته ولو سلم اختلاف الصّلاة بحسب اختلاف المكان فنقول إنّما هو إذا فرض اختلاف المكان بذاته وأمّا المكان بوصف كونه غصبا فليس من المشخّصات جزما فلو فرض زوال الغصبيّة للمكان المفروض لم يلزم مغايرة الصّلاة فيها حينئذ لها حال ثبوت الغصبيّة فثبت في ذلك الجواز عقلا لعدم المانع ومثال الأوّل قوله اقرأ ولا تقرأ جهرا أو اغتسل ولا تغتسل ارتماسا في نهار رمضان فإنّ النّهي قد تعلق بالقراءة والغسل باعتبار وصفهما اللازم أي الجهر والارتماس لاختلاف القراءة بالجهر والإخفات والغسل بالارتماس والتّرتيب والوصف في مثل ذلك من جملة المشخّصات والمقوّمات وحينئذ فلا معنى للاجتماع لأنّ الفرد الخاص إذا كان منهيّا عنه فالمأمور به إمّا الكلي بشرط غير ذلك الفرد أو بشرط ذلك الفرد أو لا بشرط فعلى الأوّل ثبت المطلوب وهو عدم كونه مأمورا به وعلى الثّاني يلزم الاجتماع الآمري وكذا على الثّالث لأنّ مقتضى مطلوبيّة الطّبيعة لا بشرط مطلوبيّة جميع الأفراد هذا حاصل كلامه وأنت بعد ما أسبقنا لك في المقدمات من المطالب تعلم فساد هذا التّفصيل أمّا أوّلا فبأنّ المحسوس من الصّلاة في الدّار المغصوبة هو إيقاع الحركات فيها بالوجه الخاص فإن كان هو منهيّا عنه فأي شيء يبقى مطلوبا وإن كان المنهي عنه هو المقارنة لعدم الإذن فقد مر أنّه يرجع إلى حرمة عدم الاستئذان من المالك أو عدم إذن المالك وكلاهما خارج عن محل الكلام كما عرفت وأمّا ثانيا فبأنّه على القول بمطلوبيّة الطّبيعة كما هو مذهب المفصل لا وجه للفرق بين الوصف اللازم والمفارق فإنّ الوصف اللاّزم ليس مقوما لأصل الطّبيعة الجنسيّة بل هو مقوم للفرد كالفصل بالنّسبة إلى الجنس فإنّه مقسم له وخارج عن حقيقته وإن كان بالنّسبة إلى النّوع مقوما فيكون حاله بالقياس إلى المطلوب وهو الكلي حال الوصف المفارق وهو ظاهر فتأمّل

تذنيبان

الأوّل

قد مضى الإشارة إلى أنّ ثمرة هذه المسألة هي المسألة الأصوليّة أعني ثبوت التّعارض بين الأمر والنّهي ويتفرع عليها مسألة فقهيّة هي صحة الصّلاة في الدّار المغصوبة وعدمها فإن قلنا بعدم التّعارض كان

٣١٢

العمل صحيحا وحراما وإن قلنا بالتّعارض فيجب ترجيح الأمر أو النّهي وإن لم يمكن فالتّساقط والرّجوع إلى الأصول العمليّة فهاهنا مقامان أحدهما في مقتضى الأصل عند التّساقط فنقول الأصل إباحة العمل لدوران الأمر بين الجواز والحرمة إذ الكلام في صورة وجود المندوحة فالفرد الّذي هو مورد الاجتماع يجوز تركه فالأمر دائر بين جواز فعله وحرمته فالأصل هو البراءة هذا في الحكم التّكليفي وأمّا الحكم الوضعي فقد يتوهم أنّه الصّحة إذ لا مقتضى للفساد ولا مانع عن الصّحة إلاّ حرمة العمل وبعد ما ثبت إباحته لم يبق مانع عن صحته وفيه نظر إذ الإباحة الثّابتة في المقام هي الإباحة الظّاهريّة وهي لا تقتضي مطلوبيّة العمل للشّارع واقعا كما هو معنى الصّحة الّتي هي عبارة عن موافقة الأمر بل المفروض انتفاء الأمر عند التّساقط فلا معنى للصّحة لا يقال لا يمكن تفكيك عدم الحرمة عن الإباحة الواقعيّة المستلزمة للصحة لتلازمهما ولا يجوز تفكيك اللاّزم عن الملزوم لأنّا نقول إثبات كل من اللاّزم والملزوم بحسب الظّاهر لا يستلزم إثبات الآخر لجواز التّفكيك في الأحكام الظّاهريّة كالمائع المشكوك كونه بولا أو ماء حيث يحكم بطهارته لأصالة الطّهارة ولا يحكم بكونه ماء مع تلازمهما واقعا وغير ذلك من الموارد فالتّحقيق أن يقال إنّ مقتضى القول بالاشتغال عند الشّك في المكلّف به هو الفساد ومقتضى القول بالبراءة الصّحة بأن يقال إنّ الأمر باق في المقام والشّك إنّما هو في شرطيّة إباحة المكان وبعبارة أخرى الشّك إنّما هو في أنّه هل يشترط كون الصّلاة مؤداة في غير المكان المغصوب أو لا فالأصل البراءة إذ الأصل كما يجري في الشّبهة الوجوبيّة يجري في الشّبهة التّحريميّة أيضا سواء كان الشّك في الشّرطيّة أو الجزئيّة أو غيرهما ويمكن المناقشة فيه بأنّ الأصل المذكور معارض بأصالة عدم إطلاق الأمر بمعنى أصالة عدم كونه لا بشرط لكنّا لسنا بصدد بيان صحة الأصل المذكور وفساده بل المقصود بيان مقتضى الأصل عند كل قوم حسب مذاقه وهو كما ذكرنا فتأمّل وثانيهما في ترجيح الأمر على النّهي وبالعكس والمراد بالمرجح هو المرجح الكلي النّوعي لا الجزئي الموجود في خصوص الموارد فإنّه تابع لنظر المجتهد فنقول قيل بترجيح النّهي على الأمر وجوه منها أنّ النّهي بالنسبة إلى الأمر كالدليل بالنسبة إلى الأصل وذلك لأنّ دلالة النّهي على العموم إنّما هي بالوضع ودلالة الأمر بالإطلاق والأوّل مقدم على الثّاني لأنّ دلالة الإطلاق على العموم البدلي متوقفة على عدم بيان القيد حتى يحكم العقل بإرادة الطّبيعة اللاّبشرط السّارية في جميع الأفراد ودلالة النّهي على العموم بالوضع فلا تتوقف على شيء وهو صالح لتقييد الأمر ومع بيان القيد لا يبقى للعقل حكم بالعموم نظير الأدلّة الشّرعيّة بالنسبة إلى أصالة البراءة ولذا تراهم يقدمون التّقييد على المجاز فإنّ الأمر بالمقيّد إذا كان للاستحباب لم يكن بين المطلق والمقيّد تعارض بل هو من باب أفضل الأفراد ومع ذلك فلا يحكمون بإرادة النّدب من الأمر المتعلق بالمقيد بل يحكمون بالتّقييد وذلك لأنّ بيان القيد يوجب ارتفاع موضوع العموم الإطلاقي أعني عدم بيان القيد فلا يلزم بسبب التّقييد مجاز كما سبق في محله مفصلا وفيه نظر

٣١٣

لأنّ النّهي أيضا كالأمر في اقتضائه العموم بالإطلاق لا بالوضع غاية الأمر استفادة العموم الاستغراقي في النّهي والبدلي في الأمر بواسطة النّفي والإثبات وهو لا يوجب الفرق المذكور نعم يمكن القول بأنّ النّهي أصرح دلالة من الأمر فلتقدمه عليه ظهور عرفي لا يقال يلزم حينئذ حرمة بطلان الفرد الّذي هو مورد الاجتماع على النّاسي والسّاهي والجاهل بالغصبيّة ونحوهم ممن لا يحرم عليه الصّلاة فيها إذ لو تقدم النّهي على الأمر بحسب فهم العرف لقدم مطلقا لأنّا نقول تقييد الأمر بالنهي يثبت بمقدار دلالة الخطاب فمتى وجد النّهي الدّال على الحرمة علم عدم شمول إطلاق الأمر وحيث لم يوجد النّهي بقي الأمر على شموله نعم لو كان النّهي متعلقا ببعض أفراد المأمور به نحو صل ولا تصل في الدّار المغصوبة كشف عن وجود مفسدة في ذاتها مانعة عن الطّلب ثابتة عند عدم الحرمة أيضا ومنها أنّ العمل بمدلول النّهي أرجح من العمل بمدلول الأمر وقرر بوجوه ثلاثة أحدها أسهليّة العمل بالنهي لأنّ المطلوب به هو التّرك وهو أسهل من الفعل وفيه منع ذلك كليّة بل قد يكون امتثال النّهي أصعب الثّاني أنّ العمل بالأمر جلب للمنفعة والعمل بالنهي دفع للمفسدة والثّاني أولى من الأوّل لأنّ جلب المنفعة إنّما هو طلب التّرقي ودفع المفسدة إنّما هو لدفع التّنزل ولا ريب أنّ دفع التّنزل أشدّ في نظر العاقل من طلب التّرقي وفيه منعه كليّة إذ ربما يكون المنفعة قويّة والمفسدة ضعيفة فيقدم جلب الأوّل على دفع الثّاني مع أنّه قد يكون العمل بالأمر دفعا للمفسدة والعمل بالنهي جلبا للمنفعة مضافا إلى أنّه يلزم على ما ذكرت كون فعل أصغر الصّغائر أبغض من ترك أعظم الواجبات لأنّ الأوّل موجب للتنزل والثّاني موجب لعدم التّرقي وليس كذلك قطعا الثّالث الاستقراء فإنّ الغالب في موارد الاجتماع تقديم جانب الحرمة والظّن يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب ولنذكر منها موردين أحدهما الحيض فإنّهم حكموا بأنّ ذات العادة إذا رأت الدّم وجب عليها ترك العبادة لاحتمال كونه حيضا فرجحوا جهة الحرمة وكذا في المبتدئة عند جماعة وأيضا حكموا في ذات العادة إذا تجاوز الدّم عن المعتاد بأنّها تترك العبادة إلى بلوغ العشر فإن تجاوزه قضاها والثّاني الماء الطّاهر المشتبه بالنجس في الإناءين المشتبهين فحكموا بوجوب الاجتناب عنهما معا ووجوب التّيمّم وليس ذلك إلاّ لترجيح جهة حرمة التّطهير بالنجس وفيه نظر لمنع الغلبة لانحصار التّرجيح في موارد محصورة مع أنّه لا دليل فيها على ترجيح جانب الحرمة أمّا في الحيض لاحتمال كون التّرجيح لقاعدة الإمكان فإنّ كل ما أمكن كونه حيضا فهو حيض ولاستصحاب الحيض بعد التّجاوز عن العادة مع أوفقيّته بطبيعة النّساء إذ الاستحاضة إنّما تحصل بسبب حدوث المرض المخرج لها عن الحالة الطّبيعيّة كما نطق به بعض الأخبار فالأصل عدمه فلا يتعين كون الحكم بالحيضيّة لترجيح جانب الحرمة وأمّا في الإناءين فإمّا يكون حرمة الطّهارة بهما بدعيّة أو ذاتيّة وعلى الأوّل لا وجه لترجيحه إذ لا ينافيه ترجيح الوجوب لأنّ العمل به حينئذ بقصد الاحتياط ليس تشريعا فيرتفع موضوع البدعة وعلى الثّاني مع أنّه لا دليل عليه يحتمل

٣١٤

أن يكون ترجيح الاجتناب عن كليهما لأمر آخر مثل وجود البدل للوضوء فلا يتم الاستدلال لقيام الاحتمال

التّذنيب الثّاني

قد ذكرنا أنّ المناط في جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه هو كون تعدد الجهة مجديا ومكثرا للموضوع وعدمه فإن قلنا بأنّه ليس بمكثر للموضوع لم يجز الاجتماع لكونه اجتماع المتضادين وإن قلنا بأنّه مكثر للموضوع لم يمتنع الاجتماع من جهة التّضاد لتعدد الموضوع لكن يمكن امتناعه من جهة أخرى مثل استلزامه التّكليف بما لا يطاق فإذا ثبت عدم الامتناع من هذه الجهة أيضا فلا إشكال في الجواز واعتبار المندوحة في المسألة ليس لأنّ المناط في البحث هو لزوم التّكليف بما لا يطاق وعدمه بل لرفع موانع الجواز من جميع الجهات ومن اعتبر المندوحة إنّما اعتبرها إذا لم يكن عدمها مستندا إلى سوء اختيار المكلف وأمّا إذا كان مستندا إلى سوء اختياره ففي جواز الاجتماع خلاف بين المجوزين ومثلوا له بالمتوسط في الدّار المغصوبة ومحل الكلام فيه هو الخروج حيث اجتمع فيه عنوانان أحدهما التّخلص عن الغصب وهو واجب والثّاني الغصب وهو حرام وفيه بينهم أقوال أحدها أنّه مأمور به ومنهي عنه من جهتين والتّكليف بالمحال إذا كان بسوء اختيار المكلف جائز الثّاني أنّه مأمور به وليس منهيّا عنه ولا عقاب عليه والثّالث أنّه مأمور به فقط لكونه معاقب عليه أقول التّحقيق أنّ هذه المسألة ليست من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنّهي لأنّ حاصل ما قيل في وجهه هو أنّ متعلق الحكم هو كلي التّخلص والغصب وانحصر في الفرد وذلك لا يوجب ارتفاع العموم من وجه بينهما فإنّ التّخلص عن الغصب قد يجتمع مع الغصب وقد يوجد الأوّل دون الثّاني كما لو استأذن عن المالك في الخروج وقد يوجد الثّاني دون الأوّل فيكون المثال من جزئيات المسألة وهو فاسد إذ لا خطاب هناك إلاّ النّهي بقوله لا تغصب مثلا وهو بعمومه يشمل جميع أفراد الغصب من البقاء والدّخول والخروج فلو توسط في الدّار لم يمكن الحكم بحرمة البقاء والخروج كليهما لأنّه تكليف بالمحال والخروج أقلّ قبحا من البقاء فيحكم العقل بوجوبه تخلّصا عن البقاء الّذي هو أقبح وبالجملة ليس هناك أمر ونهي بحيث يدخل في تلك المسألة هذا وأمّا الأقوال المذكورة فالحق فيها عدم جواز الاجتماع وإن قلنا في غيره بالجواز إذ لا فرق في قبح التّكليف بالمحال بين أن يكون مستندا إلى سوء اختيار المكلف وعدمه إذ الغرض من التّكليف إمّا بعث المكلف على الامتثال أو للامتحان الأوّل قبيح عقلا عند عدم قدرة المكلف والثّاني لا يمكن إلاّ مع جهل المكلف بعجز نفسه ليتمكن من التّوطين وإلاّ فهو كتكليف الإنسان بالطيران من باب الامتحان وأمّا ترتب العقاب فاستدلوا عليه بأنّه قبل الدّخول كان منهيّا عن جميع التّصرفات من الدّخول والخروج وغيرهما وبواسطة الدّخول ارتفع عنه النّهي بالنسبة إلى الخروج لكن يصدق أنّه عصى النّهي الثّابت المتعلق بالخروج فإنّه كان متمكنا من امتثاله نظير المتقاعد عن قطع الطّريق إلى ذي الحجة فإنّه ليس مأمورا به حينئذ لكنّه معاقب على ترك الحج لتمكّنه من الامتثال وتفويته بنفسه ويشكل بأنّ نهيه عن الخروج وإن فرض قبل الدّخول مستلزم

٣١٥

لاجتماع الأمر والنّهي فيه لأنّ الخروج شيء واحد قد نهي عنه قبل الدّخول وأمر به بعده واختلاف زمان الأمر والنّهي لا يوجب تعدد المطلوب منهما ذاتا وإن هو إلاّ نظير النّسخ قبل حضور وقت العمل وبالجملة الخروج متوقف على الدّخول فالنهي عنه نهي عن الخروج المحقق بعد الدّخول والمفروض أنّه بعينه مأمور به لكونه تخلصا عن الغصب وعلى هذا فلا يمكن كون الخروج منهيّا عنه وحيث لا نهي فلا عقاب ويمكن دفعه بأن يقال إنّ كل ما يمكن من التّصرفات المفروضة في الغصب فهو منهي عنه فيجب ترك كل من الدّخول والبقاء والخروج منضما بعضها إلى بعض لكنّه إذا عصى بالدخول فقد خالف النّهي واستحق العقاب لكنّه حينئذ يؤمر بالخروج وليس تركه حينئذ مطلوبا لفوات وصف الانضمام والحاصل أنّ الخروج يتصور تركان أحدهما تركه مع ترك الدّخول والثّاني تركه بعد الدّخول والواجب هو الأوّل فيستحق العقاب بمحض الدّخول لأنّه موجب لتفويت الواجب والحرام هو الثّاني ولذا يجب عليه الخروج بعد الدّخول وهذا نظير بعض المستحبات الّذي يجب إتمامه بالشروع كالاعتكاف والحج المستحب وأمثالهما فإنّه بحسب الظّاهر مشكل لأنّ المستحب هو ما يجوز تركه فإذا جاز ترك المركب جاز ترك أجزائه فما معنى وجوب بعض الأجزاء ودفعه أنّ ترك تلك الأجزاء قد يكون مع ترك الأجزاء الباقية وقد يكون مع إتيانه فإنّ ترك الصّوم في اليوم الثّالث من الاعتكاف قد يكون مع تركه في اليومين أيضا وقد يكون مع فعله فيهما والأوّل جائز وبه يصدق الاستحباب لأنّ المستحب هو ما يجوز تركه في الجملة والثّاني حرام فلا إشكال فافهم

تنبيه

قد أفتى الفقهاء بصحة الصّلاة عند الخروج من الغصب ماشيا في ضيق الوقت وهو بحسب الظّاهر ينافي ما حكموا به من بطلان صلاة الجاهل بحرمة الغصب أو بكونه مبطلا إذا كان مقصرا في ابتداء الجهل وإن صار بعد ذلك غافلا وكذا ناسي الغصبيّة أو ناسي الحكم إذا استند النّسيان إلى تقصيره فإنّ صحة الصّلاة حال الخروج إن كانت من جهة قبح التّكليف بما لا يطاق مطلقا وإن كان مستندا إلى سوء اختيار المكلّف فليس الخروج منهيّا عنه فظاهر أنّ هذا الوجه جار في الجاهل الغافل والنّاسي لقبيح تكليفهما وإن استند إلى التّقصير فيجب الحكم بصحة صلاتها أيضا وإن كان بطلان صلاتهما من جهة جواز التّكليف بما لا يطاق إذا استند إلى تقصير المكلف فظاهر أنّه جار في الخارج عن الغصب فيجب الحكم ببطلان صلاته ويمكن الجواب بأن يقال يكفي في بطلان العبادة كونها معصية وإن لم تكن منهيّا عنها حال الفعل فمن أوقع نفسه من شاهق في الماء في نهار رمضان لم يصح منه الغسل ارتماسا وإن ارتفع عنه النّهي عن الارتماس لعدم تمكنه من تركه لأنّ الارتماس معصية فلا يمكن أن يكون مطلوبا بل الكلام جار في كل في فعل منهي عنه لارتفاع النّهي حال وجود العلة التّامة الّتي من جملة أجزائها الإرادة وحينئذ فنقول إنّ صلاة الجاهل الغافل المقصر في الغصب ليست منهيّا عنها لغفلته لكنّها معصية فلا يمكن كونها مطلوبة وأمّا الخروج عن الغصب فليس معصية إذ لم يتعلق به نهي أصلا أمّا بناء على ما قيل من لزوم التّكليف بما لا يطاق لو تعلق به نهي ولو قبل الدّخول لاتحاد موضوع الأمر والنّهي وإن اختلف زمانهما فظاهر وأمّا على ما ذكرنا من كونه نظير إتمام

٣١٦

المستحب فلأنّ المطلوب بالنهي هو ترك الخروج المستند إلى ترك الدّخول وقد جعل معصيته بالدخول وأمّا الخروج المتعقب بالدخول فليس تركه مطلوبا أصلا لكن يشكل حينئذ بأنّه يلزم على هذا صحة صلاة الخارج ماشيا ولو في سعة الوقت ويدفع بأنّ بطلانها إنّما هو لفوات الشّرائط والأجزاء من الاستقرار والسّجود والرّكوع وأمثالهما فافهم

أصل تعلق النّهي بشيء هل يستلزم فساد المنهي عنه أو لا

والمراد من النّهي هو التّحريمي وإن جرى الكلام في النّهي التّنزيهي أيضا لكنّهم جعلوا الكلام فيه من لواحق المسألة ثم إنّ الكلام يعم النّهي الأصلي والتّبعي إذ المناط في البحث هو أنّ كون الشّيء مبغوضا هل يوجب فساده أو لا والمبغوضيّة أعمّ من أن تكون مستفادة من الخطاب قصدا أو تبعا بدلالة الإشارة فقول بعضهم إنّ النّهي التّبعي لا يقتضي الفساد عندهم وتفريعه على ذلك كون النّزاع في اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن ضده مختصا بالنهي الأصلي دون التّبعي لحكمهم بفساد الضّد الموسع بناء على القول بالاقتضاء فاسد أمّا أوّلا فلما ذكرنا من عموم مناط البحث وأمّا ثانيا فلأنّ القائلين بالاقتضاء في تلك المسألة استدلوا بالضرورة والبداهة ولا ريب أنّ دعوى الضّرورة على الدّلالة المقصودة مما لا يصدر عن ذي مسكة لغلبة الغفلة عن الضّد فكيف يكون قصد النّهي عنه ضروريا فهذا دليل على أنّ كلامهم إنّما هو في النّهي التّبعي فحكمهم بالفساد شاهد على أنّ الكلام هنا في الأعمّ من النّهي الأصلي والتّبعي فافهم وتحقيق الحق في المسألة يتم ببيان مطالب الأوّل العبادة في اصطلاحهم لها معنيان أحدهما فعل الشّيء بقصد الامتثال سواء كان قصد الامتثال شرطا في صحة ذلك الشّيء كالتّعبديّات أو لا كالواجبات التّوصليّة لإمكان فعلها بقصد القربة الثّاني ما تعلق الأمر به لأجل التّعبد والامتثال فيخرج الواجبات التّوصليّة فهذا المعنى أخصّ من الأوّل والمعاملة مقابلة للعبادة بالمعنيين فعلى الأوّل للمعاملة فعل الشّيء لا بقصد الامتثال سواء لم يكن قابلا للامتثال كالمحرم والمكروه أو قابلا كالواجبات التّوصليّة وعلى الثّاني يكون المعاملة ما لم يتعلق به الأمر لأجل الامتثال فيدخل فيها الواجبات التّوصليّة وقد يعرف العبادة بالمعنى الأخصّ بما يتوقف صحته على قصد القربة واعترض عليه بأنّه إن كان المراد بالصّحة حصول الامتثال دخل الواجبات التّوصليّة لتوقف حصول الامتثال فيها على قصد القربة وإن كان المراد إسقاط القضاء لزم الدّور لأنّ إسقاط القضاء من آثار العبادة بالمعنى الأخصّ فتعريفها به دور وفيه أنّه يختار الشّق الثّاني ولا يلزم الدّور لأنّ إسقاط القضاء من آثار ماهيات العبادة لا من آثار مدلول لفظ العبادة من حيث إنّه مدلول والتّعريف إنّما هو للمدلول وبعبارة أخرى هناك ماهيات خارجيّة معلومة كالصّلاة والصّوم ونحوهما والصّحة فيها وهي عبارة عن إسقاط القضاء موقوفة على قصد القربة فإذا لم يعلم أنّ لفظ العبادة موضوع لأيّ معنى أمكن تعريفه بأنّه موضوع لما كان إسقاطه القضاء مشروطا بالقربة وهي تلك الماهيات الخارجيّة والقرينة على إرادة هذا المعنى من لفظ الصّحة أنّه تعريف ذكره الفقهاء والصّحة في اصطلاحهم عبارة عن إسقاط القضاء كما سيأتي ثم إنّ الظّاهر من كلماتهم هو أنّ الكلام في المسألة على ما سيأتي إنّما هو في العبادة بالمعنى

٣١٧

الأخصّ لكن يظهر عند التّحقيق أنّ الكلام يجري في المعنى الأعمّ فيشمل الواجبات التّوصليّة أيضا إلاّ أنّ الفساد فيها معناه عدم حصول الامتثال لا عدم حصول الأثر أصلا كما سيظهر وأمّا المعاملة فهي مقابل العبادة فالمراد بها فعل الشّيء لا بقصد الامتثال وذلك الشّيء أعمّ من العقود والإيقاعات وغيرهما ولكن المراد بها في المسألة الفعل المقابل للاتصاف بالصّحة والفساد فإنّ المعاملة بالمعنى المذكور أقسام أحدها ما يقبل الاتصاف بالصّحة والفساد وإن لم يكن من العقود والإيقاعات كالاستنجاء بالحجر فقد حكم بعضهم بفساده إذا وقع بالمطعوم المنهي عنه في الأخبار ولم يعترض عليه غيره بخروجه عن المسألة نعم اعترض عليه بعدم دلالة النّهي على الفساد في مثل ذلك والثّاني ما لا يقبلهما لكن له آثار في الشّرع كالغصب فإنّه لا يتصف بالصحة والفساد لكن له آثار شرعيّة كالضمان ووجوب الرّد ونحوهما والثّالث لا ما يقبلها وليس له أثر شرعا كشرب الماء مثلا ولا ريب في خروج القسمين الأخيرين عن محل النّزاع كما يشهد له العنوان في المسألة بل النّزاع إنّما هو في القسم الأوّل وأمّا الأعيان المتعلّقة للحرمة نحو حرمت عليكم الميتة والدّم وحرمت عليكم أمهاتكم فهي على ما ذكرنا خارجة عن محل النّزاع لعدم قابليتها للصّحة والفساد بالمعنى المتنازع فيه وربما يظهر من بعضهم دخولها فيه ولعل وجهه أنّ التّحريم وإن ورد على الأعيان لكن المحرم في الحقيقة هو الأفعال المقصودة من الأعيان وعلى هذا يتّجه ما ذكره بعضهم من التّفصيل بين ما لو كان الفعل المقصود من ذلك العين قابلا لهما فيدخل في النّزاع كالوطي في مثل تحريم الأمهات وبين ما لو لم يكن قابلا فيخرج كالأكل في مثل تحريم الميتة وفصل بعضهم بين ما لو كان الفعل المقصود معاملة كالعقد في مثال تحريم الأمهات إن قدرنا العقد فيدخل في النّزاع وبين ما لو كان أثر معاملة سابقة كالوطي للأمهات لو قدرناه فإنّه من آثار العقد فيخرج عن محل النّزاع بل التّحريم فيه يدل على فساد تلك المعاملة التزاما وفيه نظر لأنّ حرمة الوطي وإن استفيد منها فساد العقد لكن لا يلزم خروجه عن النّزاع بالنظر إلى آثاره المترتبة عليه من الإلحاق في النّسب ولزوم المهر ونحوهما فالمتّجه هو التّفصيل الأوّل فتأمّل الثّاني في بيان معنى الصّحة والفساد الصّحة لها معنيان بالنسبة إلى العبادات والمعاملات أمّا في العبادات فالمتكلّمون عرفوها تارة بموافقة الأمر وتارة بموافقة الشّريعة لتوهم فساد التّعريف الأوّل من جهة عدم شموله للصّحة في المندوبات لظهور الأمر في الوجوبي واعترض على الثّاني بأنّه يشمل المباح أيضا لموافقته للشريعة وأجيب بأنّ المراد موافقة العبادة للشريعة والمباح يخرج بقيد العبادة والفقهاء عرفوها بإسقاط القضاء والمراد به على ما عرفت في مسألة الإجزاء أعمّ من التّدارك في الوقت وخارجه وأنّ المراد وقوع العمل بحيث لو كان له قضاء لم يجب على المكلف فلا ينتقض بفاسدة العيدين قالوا إنّ الصّحة بتفسير الفقهاء أخصّ منها بتفسير المتكلّمين لأنّ الصّلاة باستصحاب الطّهارة موافقة للشريعة وليست مسقطة للقضاء أقول لا ريب أنّه يجب أن يعتبر في الأخصّ القيود المعتبرة في الأعمّ مع زيادة ومن المعلوم أنّ إسقاط القضاء

٣١٨

لازم لموافقة الأمر وموافقة الأمر مستلزم لسقوط القضاء بالنّسبة إلى ذلك الأمر فكل منهما لازم للآخر ولا عموم في البين إلاّ أن يقال إنّ الأمر الّذي اعتبر موافقته في الصّحة قد يراد به الأعمّ من الواقعي والظّاهري وقد يراد به خصوص الأمر الواقعي فمراد المتكلّمين موافقة الأمر في الجملة أعمّ من الظّاهري والواقعي فيصدق على الصّلاة باستصحاب الطّهارة ومراد الفقهاء إسقاط القضاء بالنّسبة إلى خصوص الأمر الواقعي فلا يصدق عليها لوجوب التّدارك بعد انكشاف الخلاف ثم إنّ الظّاهر أنّ المراد سقوط القضاء بالنسبة إلى الواقعي في الجملة أعمّ من الواقعي الاختياري والاضطراري إذ لو أريد سقوطه بالنسبة إلى الاختياري فقط لزم أن يحكموا بفساد الصّلاة مع التّيمّم على القول بوجوب الإعادة لو تمكن من الماء وليس كذلك إذا عرفت معنى الصّحة فنقول إنّ الفساد مقابل لها فمعناه في العبادات عند الفقهاء عدم إسقاط القضاء عند المتكلّمين عدم موافقة الشّريعة ولا بأس بإيراد كلام في المقام لارتباطه بالمرام فنقول ذكر بعض المحققين أنّ الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد وفيه نظر بالنّسبة إلى العبادات لأنّ الكلام قد يفرض في العبادة الّتي تعلق بها أمر ظاهري فيشكّ في إسقاطها القضاء بالنسبة إلى الواقعي أو تعلق بها الأمر الواقعي الاضطراري فيشكّ في إجزائه بالنسبة إلى الواقعي الاختياري وحكمه بأصالة الفساد هنا ينافي ما اختاره في مسألة الإجزاء من أنّ المكلف به أمر واحد هو الكلي والطّبيعة والفرد الظّاهري أو الاضطراري أيضا من أفراده وفرع عليه لثبوت الإجزاء هناك فكيف يحكم بأنّ الأصل هو الفساد ومع قطع النّظر عن ذلك نقول لا أقل من الشّك في أنّ المكلف به هو القدر المشترك بينهما أو هو خصوص الواقعي الاختياري فإن ارتفع العذر في الوقت أمكن دعوى عدم سقوط القضاء لإطلاق الأمر الواقعي لكن هذا أيضا ينافي ما ذكره من أنّ إطلاق الأمر غير معلوم للشّكّ في أنّه مطلوب مطلقا أو ما دام لم يأت بمقتضى الأمر الظّاهري أو الاضطراري ومع الشّكّ في الإطلاق فالأصل هو البراءة وإن ارتفع العذر خارج الوقت فعلى القول بتبعيّة القضاء للأداء يجري الكلام المذكور بعينه وعلى القول بعدمه فلا وجه للحكم بوجوب القضاء للشّكّ في صدق عنوان الفوت الّذي هو شرط وجوب القضاء إلاّ أن يقال إنّ الفوت أمر عدمي يمكن إحرازه بالأصل لأنّه عبارة عن عدم حصول مطلوب الشّارع وقد سبق القول في ذلك وقد يفرض الكلام في العبادة الّتي تعلق بها النّهي كالصّلاة في الدّار المغصوبة للشّكّ في أنّ الامتثال الكلي الصّلاة هل يحصل بهذا الفرد أو لا فلا ريب أنّ الشّك هنا يرجع إلى أنّه هل يشترط في صحة الصّلاة عدم وقوعها في المكان المغصوب أو لا وحكمه بأصالة الفساد هنا ينافي ما ذهب إليه من القول بأصالة البراءة عند الشّك في شرطيّة شيء للعبادة أو جزئيّته لها وعدمه وقد يفرض الكلام فيما لا أمر به ظاهرا وحينئذ فلا شكّ في المقام حتى يرجع إلى الأصل إذ قد يعلم عدم الأمر قطعا وحينئذ فلا ريب في أنّ وجودها كالعدم وقد يشكّ في ثبوت الأمر وحينئذ فإن فعل بقصد

٣١٩

المشروعيّة كانت بدعة محرمة فاسدة قطعا وإن فعلها بقصد الاحتياط فإن اتفق ثبوت الأمر في الواقع كان صحيحا مسقطا للقضاء قطعا وإلاّ فهي كالعدم إذ لا أمر حتى يوافقه أو لا فأين مورد إجراء الأصل وأمّا كلامه في المعاملات فصحيح ووجهه أنّ الصّحة في المعاملة معناها ترتّب الأثر وهو موقوف على كون المعاملة سببا ومتى شكّ في السّببيّة فالأصل عدمها مع أنّ نفس الشّك في التّأثير كاف في حرمة ترتيب الآثار وهذا مقتضى الأصل الأولى ولكن ربما يستدل بأصالة الصّحة في بعض المقامات نظرا إلى الأصل الثّانوي الثّابت بالعمومات والإطلاقات في بعض المعاملات وكذا في بعض الشّبهات الموضوعيّة منها وقد يتمسك لإثبات أصالة صحة المعاملات بأصالة الإباحة والبراءة نظرا إلى أنّ ترتيب الآثار على المعاملة المشكوكة الصّحة وكذا إجراء نفس الصّيغة عمل مشكوك الحرمة فالأصل الإباحة كإثبات صحة البيع بقوله تعالى أحلّ الله البيع وفيه أنّه إن أراد رفع الحرمة الذّاتيّة لا بأصل فلا كلام فيها وإن أراد رفع الحرمة البدعيّة ففاسد لأنّ المعاملة متى لم يثبت صحتها بالأدلّة الشّرعيّة فيترتب الآثار الشّرعيّة عليها بدعة محرمة قطعا ولا شكّ في ذلك حتى يجري أصالة البراءة والإباحة وإلاّ لجرت في العبادات المشكوكة أيضا ورده بعضهم بوجه آخر وهو أنّ أصالة الإباحة أو البراءة إنّما تجري في الأفعال المقدورة والمعاملة ما لم تثبت صحتها لا يقدر الشّخص على ترتيب الآثار الشّرعيّة عليها وبالجملة الأصل إنّما يثبت إباحة المعاملة الصّحيحة فلا يثبت صحة المعاملة المشكوكة ومراده غير واضح والّذي يمكن أن يوجه به كلامه هو أنّ المعاملات العرفيّة منها ما هو سبب في النّقل واقعا ومنها ما ليس كذلك وإمضاء الشّارع كاشف عن السّببيّة الواقعيّة لا أنّه جاعل للسّببيّة وعلى هذا فإذا لم يعلم إمضاء الشّارع لم يعلم السّببيّة الواقعيّة فلا يقدر على إيجاد الأثر به وليس ذلك إلاّ كإيجاد الإحراق بما لم يعلم كونه نارا وهو محال فقوله تعالى أحل الله البيع ليس بنفسه جاعلا للسّببيّة حتى يلزم الدّور بإرادة الصّحيح من البيع بل كاشف عن الواقع ويمكن المناقشة فيه بأنّه لا دليل على ثبوت السّببيّة الواقعيّة مع قطع النّظر عن إمضاء الشّارع بل نقول إنّ للمعاملات في العرف آثارا مختلفة أمضى الشّارع بعضها فصار صحيحا شرعا ولم يمض بعضها ففسد فثبت صحة البيع بنفس قوله تعالى أحل البيع فلا يمكن أن يكون المراد بالبيع البيع الصّحيح بل المراد طبيعة البيع وحينئذ فلا يكون ما ذكره ره مانعا عن إجراء أصالة الإباحة بل الجواب هو ما ذكرنا فتأمّل الثّالث قسموا المنهي عنه إلى أقسام سبعة المنهي عنه لنفسه ولجزئه ولشرطه ولوصفه اللاّزم ولوصفه الفارق ولأمر خارج متحد معه في الوجود أو مفارق ومثلوا للأوّل في العبادات بصلاة الحائض نظرا إلى أنّ الحائض منهيّة عن طبيعة الصّلاة لا أنّ المرأة منهيّة عن الصّلاة الواقعة في أيّام الحيض لتدخل فيما يكون منهيّا عنه لوصفه وفي المعاملات بنكاح الخامسة نظرا إلى أنّ من عنده أربع نساء منهي عن طبيعة النّكاح والمراد بالمنهي عنه لجزئه أن يتعلق النّهي بالعمل

٣٢٠