الكشف والبيان - ج ٤

أبي محمّد بن عاشور

الكشف والبيان - ج ٤

المؤلف:

أبي محمّد بن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

كَذَّبُوكَ فَقُل رَّ‌بُّكُمْ ذُو رَ‌حْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَ‌دُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِ‌مِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَ‌كُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَ‌كْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّ‌مْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِ‌جُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُ‌صُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّ‌مَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَ‌ةِ وَهُم بِرَ‌بِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)

[ثمّ بيّن] المحرمات فقال (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) أي شيئا محرّما (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) آكل يأكله.

وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : يَطَعَّمُهُ مثقلة بالطاء أراد يتطعّمه فأدغم ، وقرأت عائشة على طاعم طعمه (١) (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [مهراقا] سائلا. قال عمران بن جرير : سألت أبا مجلز عمّا يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدر تعلوها حمرة الدم. قال : لا بأس به إنّما نهى الله سبحانه عن الدم المسفوح.

وقال إبراهيم : لا بأس الدم في عروق أو مخ إلّا المسفوح الذي تعمّد ذلك ، قال عكرمة : لو لا هذه الآية لاتّبع المسلمون من العروق ما تتبّع اليهود (٢) (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) خبيث (أَوْ فِسْقاً) معصية (أُهِلَ) ذبح (لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ، وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير. مثل الإبل والنعّام والإوزة والبط.

قال ابن زيد : هو الإبل فقط. وقال القتيبي : هو كلّ ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب ، وقد حكاه عن بعض المفسّرين ، وقيل : سمّي الحافر ظفرا على الاستعارة وأنشد قول طرفة :

فما رقد الولدان حتّى رأيته

على البكر يمريه بساق وحافر (٣)

فجعل الحافر موضع القدم.

وقرأ الحسن كُلَّ ذِي ظِفْرٍ مكسورة الظاء مسكنة الفاء. وقرأ [أبو سماك] ظِفِرٍ بكسر الظاء والفاء وهي لغة.

__________________

(١) بفعل ماض.

(٢) راجع تفسير القرطبي : ٧ / ١٢٤.

(٣) البيت لجبيها الأسدي كما في اللسان : ٤ / ٢٠٦.

٢٠١

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) يعني [الشروب] وشحم الكليتين (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي ما علق بالظهر والجانب إلّا من داخل بطونها (أَوِ الْحَوايا) يعني الماعز (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) مثل لحم الإلية (ذلِكَ) التحريم (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) بظلمهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في أخبارنا عن هؤلاء اليهود وعمّا حرّمنا عليهم من اللحوم والشحوم.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [لمّا الزمنا بينهم] الحجّة وتبيّنوا وتيقنوا باطل ما كانوا عليه (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) من قبل (وَلا حَرَّمْنا) ما حرّمنا من التغاير والسوايب وغير ذلك لأنّه قادر على أن يحمل بيننا وبين ذلك حتّى لا نفعله ولكنّه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأصنام وتحريم الحرث والأنعام وأراد منّا وأمرنا به فلم يحل بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيبا لهم وردّا عليهم (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ولو كان كذلك خيرا من الله تعالى عن من كذّبهم في قولهم (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) لقال كذلك (كذّب الذين من قبلهم) بتخفيف الذال وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب.

وقال الحسن بن الفضل : [لمّا خبّروا بهذه المقالة] تعظيما وإجلالا لله سبحانه وتعالى وصفة منهم به لمّا عابهم ذلك ، لأن الله قال (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) وقال سبحانه : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقال (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) والمؤمنون يقولون هذا ولكنّهم قالوا ذلك تكذيبا وتخرصا وبدلا من غير معرفة بالله تعالى وبما [يقولون] نظيره قوله (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) (١) ، قال الله تعالى (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) بقولهم هذا من غير علم بيّنهم بآية والمؤمنون وبقوله وعلم منهم بالله عزوجل ثمّ قال (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) من حظ وحجّة على ما يقولون من غير علم ويقين (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) تكذّبون (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) التامة الكافية على خلقه (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أي احضروهم وأتوا بهم فقالوا : نحن نشهد ، فقال الله تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) إلى قوله (يَعْدِلُونَ) يشركون.

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّ‌مَ رَ‌بُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِ‌كُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْ‌زُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَ‌بُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ‌ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّ‌مَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلَا تَقْرَ‌بُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا

__________________

(١) سورة الزخرف : ٢٠.

٢٠٢

وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْ‌بَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُ‌ونَ (١٥٢) وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ‌اطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّ‌قَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَ‌حْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَ‌بِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَ‌كٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْ‌حَمُونَ (١٥٥)

ثمّ قال (قُلْ) يا محمد (تَعالَوْا أَتْلُ) أقرأ (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حقّا يقينا كما أوحى إليّ ربّي وأمرني به لا ظنّا ولا تكذيبا كما يزعمون (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) اختلفوا في محل أن فقال بعضهم : [محلّه] نصب ، ثمّ اختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه : حرّم أن تشركوا ولا صلة كقولهم : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ).

وقيل : إنّك ألّا تشركوا ، وقيل : أوحى ألا تشركوا ، وقيل : [ما] بدل [من] ما حرّم ، وقيل : الكلام عند قوله (حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ثمّ قال : عليكم أن لا تشركوا على الكفر ، وقال بعضهم : موضع [من] معناه : وهو أن لا تشركوا جهرا بكفركم ، وأما بعده فيجوز أن يكون في محل النصب عطفا على قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا)) وأن [...] (١) لأنّه يجوز أن يكون جزم على الأقوى كقوله (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ).

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف بالنهي على الخبر قال الشاعر :

حج وأوصي بسليمي إلا عبدا

أن لا ترى ولا تكلم أحدا

ولا يزال شرابها مبردا (٢)

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) ولا تئدوا بناتكم خشية العيش فإني أرزقكم وإياهم والإملاق الفقر ونفاد الزاد.

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها) يعني علانية (وَما بَطَنَ) يعني السرّ قال المفسّرون : كانوا في الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السرّ فحرّم الله تعالى الزنا في العلانية والسر وقال الضحاك : (ما ظَهَرَ) الخمر (وَما بَطَنَ ... وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) [نهى وهي] نفس مؤمن أو معاهد (إِلَّا بِالْحَقِ) يعني بما أباح قبلها وهي الارتداد والقصاص والرجم.

وروى مطر الوراق عن نافع بن عمر عن عثمان رضي‌الله‌عنه أشرف على أصحابه وقال : علام يقتلونني فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث :

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) تفسير الطبري ٨ : ١٠٨.

٢٠٣

رجل زنا بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل عامدا فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحدا فاقيد نفسي ، ولا ارتدت منذ أسلمت ، إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله» [١٦٠] (١)

(ذلِكُمْ) النبيّ الذي ذكرت (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني بما فيه صلاحه وتثميره ، وقال مجاهد : هو التجارة فيه ، وقال الضحاك : أموال يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا.

وقال ابن زيد : وأن يأكل بالمعروف إن افتقر ، وإن استغنى لم يأكل ، وقال الشعبي : من خالط مال اليتيم حتّى يفصل عليه فليخالطه ، ومن خالطه ليأكل منه وليدعه حتّى يبلغ أشده.

وقال يحيى بن يعمر : بلوغ الحلم ، وقال الشعبي : الأشد الحلم حيث يكتب له الحسنات وعليه السيئات ، وقال أبو العاليّة : حتّى يعقل ويجتمع قوّته.

وقال الكلبي : الأشد ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة. وقال السدّي : هو ثلاثون سنة ثمّ جاء بعدها حتّى بلغوا النكاح.

والأشد جمع شدّ ، مثل قدّ وأقدّ ، وهو استحكام قوما لفتى وشبابه وسنه ، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه ، يقال : أتيته شدّ النهار ومد النهار وقال الفضل بن محمد في شد بيت عنترة :

[عهدي به] شدّ النهار كأنّما

خضب اللبان ورأسه بالعظلم (٢)

وقال آخر :

تطيف به شد النهار ضعينة

طويلة أنقاء اليدين سحوق (٣)

وليس بلوغ الأشد ممّا يدع قرب ماله بغير الأحسن وقد تمّ الكلام.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [على الأبد] (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن ، وقال أهل المعاني : معناه : إلّا يسعها ويحلّ لها ولا يخرج عليه ولا يضيق عنه وذلك أنّ لله تعالى من عباده أنّ كثيرا منهم ضيق نفسه عن أن يطيّب لغيره بما لا يجب عليها له فأمر المعطي بإيفاء الحق ربّه الذي هو له ويكلّفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها ، وأمر صاحب الحق بأخذ حقّه ولم يكلفه الرضا بأقل منه لمّا فيه في النقصان عليه من ضيق نفسه ، فلم يكلّف نفسا منهما إلّا ما لا حرج فيه ولا يضيق عليه.

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٣ / ٦٧.

(٢) لسان العرب : ٣ / ٢٣٥.

(٣) لسان العرب : ١٠ / ١٥٤.

٢٠٤

قال ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم فقد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي فاصدقوا في الحكم والشهادة (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) محذوف الاسم يعني ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قربة (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يتّعظون.

قال ابن عباس : هذا الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب وهنّ محرّمات على بني آدم كلّهم وهنّ أمّ الكتاب من عمل بهن دخل الجنّة ومن تركهن دخل النار.

قال كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنّ هذا لأوّل شيء في التوراة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآيات.

وقال الربيع بن خيثم لأصحابه : ألا أقرأ عليكم صحيفة عليها خاتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفك فقرأ هذه الآية (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ وَأَنَّ هذا) يعني وصّاكم به في هاتين الآيتين (صِراطِي) طريقي وديني (مُسْتَقِيماً) مستويا قويما (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) يعني الطرق المختلفة التي عداها مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات (فَتَفَرَّقَ) فيمتدّ وتخالف [وتشتت] (بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) عن طريقه ودين النبيّ الذي ارتضى وبها وصّى (ذلِكُمْ) الذي ذكرت (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني ثمّ قل يا محمد لهم آتينا موسى الكتاب ، لأنّ موسى أوتي الكتاب قبل محمد عليهما الصلاة والسلام. وقيل : ثمّ بمعنى الواو لأنّهما حرفا عطف قال الشاعر :

قل لمن ساد ثمّ ساد أبوه

ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه (١)

(تَماماً) نصب على القطع ، وقيل : على التفسير (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) قال بعضهم : معناه تماما على المحسنين. ويكون (الَّذِي) بمعنى (من) وتقديره على الذين أحسنوا ، لفظه واحد ومعناه جمع كما تقول : أوصي بمالي للذي غزا وحجّ يريد الغازين والحاجين.

وقال الشاعر :

شبّوا عليّ المجد وشابوا واكتهل

يريد : واكتهلوا.

يدلّ عليه قراءة عبد الله بن مسعود (على الذين أحسنوا).

وقال أبو عبيد : معناه على كل من أحسن ، ومعنى هذا القول أتممنا [طلب] موسى بهذا الكتاب ، على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليهم ، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون. وقيل :

__________________

(١) البيت لأبي نؤاس في مدح العباس بن عبيد الله ، كما في شرح الرضي على الكافية : ٤ / ٣٩٠.

٢٠٥

معناه : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) متما للمحسنين يعني تتميما منّا للأنبياء والمؤمنين الكتب (عَلَى) بمعنى (اللام) كما تقول أتم الله عليه فأتم له. قال الشاعر :

رعته أشهرا وخلا عليها

فطار التي فيها واستعارا (١)

أراد : وخلا لها.

وقيل : (الَّذِي) بمعنى (ما) ، يعني آتينا موسى الكتاب تماما على ما أحسن موسى من العلم والحكمة أي زيادة على ذلك.

وقال عبد الله بن بريدة : معناه تماما منّي على منّي وإحساني إلى موسى ، وقال ابن زيد : معناه تماما على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم ، وقال الحسن : فمنهم المحسن ومنهم المسيء فنزل الكتاب تماما على المحسنين ، وقرأ يحيى بن يعمر : على الذي أحسنُ ، بالرفع أي على الذي أحسن (وَتَفْصِيلاً) بيانا (لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه من شرائع الدين (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) هذا يعني وهذا القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) واعملوا بما فيه (وَاتَّقُوا) وأطيعوا (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فلا تعذبون.

أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَ‌اسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّ‌بِّكُمْ وَهُدًى وَرَ‌حْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنظُرُ‌ونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَ‌بُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَ‌بِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَ‌بِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرً‌ا قُلِ انتَظِرُ‌وا إِنَّا مُنتَظِرُ‌ونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّ‌قُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُ‌هُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ‌ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَ‌بِّي إِلَىٰ صِرَ‌اطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَ‌اهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِ‌كِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِ‌يكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْ‌تُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ‌ اللَّهِ أَبْغِي رَ‌بًّا وَهُوَ رَ‌بُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ‌ وَازِرَ‌ةٌ وِزْرَ‌ أُخْرَ‌ىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَ‌بِّكُم مَّرْ‌جِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْ‌ضِ وَرَ‌فَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَ‌جَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَ‌بَّكَ سَرِ‌يعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ (١٦٥)

(أَنْ تَقُولُوا) يعني [لئلّا] تقولوا كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا) (٢) يعني أي لا تقولوا يعني لئلّا تقولوا.

__________________

(١) شرح الرضي على الكافية : ٤ / ٣٢٢.

(٢) سورة المائدة : ١٩.

٢٠٦

وقيل : معناه أنزلناه كراهة أن يقول ، وقال الكسائي : معناه : اتقوا أن تقولوا : يا أهل مكّة ، وقرأ ابن محيصن والأعمش كلاهما والقراءة بالياء بقوله تعالى فقد جاءكم (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) يعني اليهود والنصارى (وَإِنْ كُنَّا) وقد كنّا (عَنْ دِراسَتِهِمْ) قرأتهم (لَغافِلِينَ) لا نعلم ما هي وإنّما قال : دراستهم ، ولم يقل : دراستهما ، لأن كل طائفة جماعة ، كقوله تعالى (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) وأن ما يقال من المؤمنين اقتتلوا. (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) يعني أصوب من اليهود والنصارى دينا (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) حجّة واضحة لمن يعرفونها (وَهُدىً) وبيان (وَرَحْمَةٌ) ونعمة لمن اتبعه وعمل به (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ) وأعرض عنها (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) شدة العذاب (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) يعرضون (هَلْ يَنْظُرُونَ) وينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) بلا كيف لفصل القضاء من خلقه في موقف القيامة ، وقال الضحاك : يأتي أمره وقضاؤه (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يعني طلع الشمس من مغربها (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) وقرأ ابن عمر وابن الزبير : يوم تأتي بعض آيات ربّك بالتاء ، قال المبرّد : على التأنيث على المجاورة لا على الأصل ، كقولهم : ذهبت بعض أصابعه. قال جرير :

لمّا أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشع (١)

فأتت فعل السور ، وهو مذكّر لاتصاله بمؤنّث.

روى عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقوم الساعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين وذلك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)» [١٦١] الآية (٢).

وروى مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع إلى مغربها أو من مطلعها [فكسى] ضوؤها ، وإن كان القمر منوّر على مقادير ساعات الليل والنهار ثمّ ينطلق بها ما بين السماء السابعة العليا وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر [جبال] المشرق من سماء إلى السماء ، فإذا ما وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح ويضيء النهار فلا يظل الشمس والقمر ، كذلك حتّى يأتي الوقت الذي وقت الله التوبة لعباد وتكثر المعاصي في الأرض ، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد ، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش كلما

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ١٤٨.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٢٣١.

٢٠٧

سجدت واستأذنت من أن تطلع لم يجيء لها جواب حتّى يراقبها القمر [فيجيء معها] ويستأذن من أن تطلع فلا يجاب لهما بجواب حتّى تحبسا مقدار ثلاث ليالي للشمس وليلتين للقمر ، فلا يعرف طول تلك الليالي إلّا المتهجّدون في الأرض ، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين في هوان من الناس وذلّة من أنفسهم ، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي ، ثمّ يقوم ويتوضّأ ويدخل مصلّاه فيصلّي ورده ، فلا يصبح نحو ما كان يصبح كلّ ليلة فينكر ذلك فيخرج فينظر إلى السماء فإذا هو بالليل فكأنه والنجوم قد استدارت مع السماء فصارت إلى أماكنها من أول الليل ، فينكر ذلك ويظن فيها الظنون فيقول : قد خففت قراءتي وقصرت صلواتي أم قمت قبل حيني.

قال : ثمّ يقوم فيعود إلى مصلّاه فيصلّي نحو صلاته الليلة الثانية ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج أيضا فإذا بالليل مكانه فيزيده ذلك إنكارا ويخالطه الخوف ويظن في ذلك الظنون من السوء ، ثمّ يقول فلعلّي قصّرت صلواتي ثمّ خفّفت قراءتي [أم قمت] في أوّل الليل ثمّ يعود وهو وجل مشتت خائف لما توقّع من هول تلك الليلة فيقوم فيصلّي أيضا مثل [ورده] كلّ ليلة قبل ذلك ، ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج الثالثة فينظر إلى السماء فإذا بالنجوم قد استدارت مع السماء فصارت في أماكنها عند أوّل الليل فيشفقه عند ذلك شفقة المؤمن العارف لما كان يحذر فيستحييه الخفّة ويستخفّه الندامة ، ثمّ ينادي بعضهم بعضا وهم كانوا قبل ذلك يتعارفون ويتواصلون فيجتمع المتهجدون من كل بلدة في تلك الليلة في مسجد من مساجدهم ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء ويصلّوا بقيّة تلك الليلة.

فإذا ما تمّ لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله إليهما جبرائيل فيقول : إنّ الرب تبارك وتعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه وإنّه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وجلا من الله عزوجل وخوف يوم القيامة وبكاء يسمعه أهل سبع سماوات ومن دونها وأهل سرادقات العرش وحملته ومن فوقهما ، فيبكون جميعا لبكائهما من خوف الموت والقيامة ، فيرجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما فبينما المتهجّدون يبكون ويتضرّعون إلى الله عزوجل ، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد : ألا إن الشمس والقمر قد طلعا من المغرب فينظر الناس فإذا هم بهما أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) وقوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) فيرتفعان كذلك مثل البعيرين القرنين ينازع كلّ واحد منهما صاحبه اشتياقا ، ويتصايح أهل الدنيا وتدخل الأمّهات (١) على أولادها والأحبّة عن غمرات قلوبها ، فتشتغل كلّ نفس بما ألمها ، فأمّا الصالحون والأبرار فإنّه ينفعهم بكاؤهم يومئذ فيكتب لهم ذلك عبادة ، وأمّا الفاسقون والفجّار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب

__________________

(١) في تفسير الدر المنثور (٣ / ٦١) : وتذهل الأمهات (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها).

٢٠٨

ذلك حسرة عليهم فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرّت السماء وهي منصفها جاءهما جبرائيل عليه‌السلام فأخذ بقرونهما فردّهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة».

فقال له عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله وما باب التوبة؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عمر خلق الله تعالى بابا للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب مكلّلان بالدرّ والجوهر ما بين المصراع إلى المصراع الآخر أربعون سنة للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا منذ خلق الله آدم إلى ذلك اليوم إلّا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب. لم يرفع إلى الله تعالى».

فقال له معاذ بن جبل : بأبي أنت وأمي يا رسول الله وما التوبة النصوح؟

قال : «أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله عزوجل ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع.

قال : فيغر بهما جبريل في ذلك الباب ثمّ يرد المصراعين ثمّ يلتئم ما بينهما فيصير كأنّه لم يكن بينهما صدع قط ، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل من العبد بعد ذلك توبة ولم ينفعه حسنة يعملها في الإسلام ، إلّا من كان قبل ذلك محسنا فإنّه يجري عليه ما كان يجري عليه قبل ذلك اليوم فذلك قوله عزوجل (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً).

فقال أبي بن كعب : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر يومئذ بعد ذلك وكيف بالناس والدنيا.

فقال : «يا أبي إنّ الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور ، ثمّ يطلعان على الناس ويغربان ، كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان ، فإنّ الناس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية يلحون على الدنيا حتّى يجروا فيها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار ويبنوا البنيان. وأمّا الدنيا فلو نتج لرجل مهرا (١) لم يركبه حتّى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى أن ينفخ في الصور» [١٦٢] (٢).

قال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب : كنّا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما تذاكرون؟»

__________________

(١) في كتاب الفتن : فرسا.

(٢) تفسير الدر المنثور : ٣ / ٦١ ، وكتاب الفتن لنعيم : ٣٩٧.

٢٠٩

[قلنا :] نتذاكر الساعة.

قال : «إنها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفا بالمشرق ، وخسفا بالمغرب ، وخسفا بجزيرة العرب ، ويأجوج ومأجوج ، ونارا تخرج من قعر عدن ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها» [١٦٣] (١).

ويقال : إنّ الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاما فعاما (٢).

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : والحكمة في طلوع الشمس من مغربها إنّ إبراهيم عليه‌السلام قال لنمرود : ربّي الله (يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (٣).

وأن الملحدة والمنجّمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون هو غير [كائن] فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته فإنّ الشمس من ملكه إن شاء أطلعها من المطلع وإن شاء من المغرب.

وقال عبد الله بن عمر : يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتّى يغرسوا النخل.

قال الله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) العذاب (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) قرأ حمزة والكسائي : فارقوا بالألف أي خرجوا من دينهم وتركوه وهي قراءة عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ ، ورواه معاذ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ الباقون مشدّدا بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب أي جعلوا دين الله ـ وهو واحد دين الحنيفيّة ـ أديانا مختلفة فتهوّد قوم وتنصّر آخرون يدلّ عليه قوله (وَكانُوا شِيَعاً) أي صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك.

وروى ليث عن طاوس عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «[إنّ] هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وليسوا منك ، هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل من هذه الأمّة (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)» ، أي [نفر] منهم ورسول الله [١٦٤] (٤).

قالوا : وهذه اللفظة منسوخة بآية القتال.

وقال زادان أبو عمر قال لي علي عليه‌السلام : «يا أبا عمر أتدري كم افترقت اليهود؟

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٦.

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ١٤٧.

(٣) سورة البقرة : ٢٥٨.

(٤) جامع البيان للطبري : ٨ / ١٣٩.

٢١٠

قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : «افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة وهي الناجية. أتدري على كم افترقت النصارى»؟

قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : «افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة هي [الناجية].

أتدري على كم تفترق هذه الأمّة»؟

قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : «تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة فهي الناجية.

ثمّ قال علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ أتدري على كم تفترق فيّ؟

قلت : وإنّه لتفترق فيك يا أمير المؤمنين؟

قال : نعم تفترق فيّ اثنا عشر فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة وهي الناجية وأنت منهم يا أبا عمر» [١٦٥] (١).

[ومنهم فرق الروافض والخوارج].

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ) يعني التوحيد : لا إله إلّا أنت (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) قرأ الحسن وسعيد بن جبير. ويعقوب عشرٌ [منون] أمثالُها رفع على معنى فله حسنات عشر أمثالها ، وقرأ الباقون بالإضافة على معنى : فله عشر حسنات أمثالها ، وإنما لم يقل عشرة والمثل مذكر فأنث العدد لأنه مضاف إلى مؤنث فرده إلى الحسنة والدرجة (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) في الشرك (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) النار (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وقيل : هو عام في جميع الحسنات والسيّئات.

روى [المقدوس] بن يزيد عن أبي ذر : قال : حدّثني الصادق المصدّق أنّ الله عزوجل قال : «الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة ثمّ لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة» [١٦٦] (٢).

قال ابن عمر وابن عباس : هذه الآية في الأحزاب وأهل البدو ، قيل : فما لأهل القرى قال : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) وأقلها سبعمائة ضعف ، وقال قتادة : في هذه الآية ذكر لنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الأعمال ستة فموجبة وموجبة مضاعفة ومثل وبمثل فأمّا الموجبتان فمن لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنّة ومن لقى الله يشرك به

__________________

(١) كنز العمال : ١ / ٣٧٨ / ح ١٦٤٣.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ١٥٥ ، والمعجم الأوسط : ٧ / ٢٣٦.

٢١١

دخل النار ، فأمّا المضاعفتان فنفقة الرجل على أهله عشر بعشر أمثالها ونفقة الرجل في سبيل الله سبعمائة ضعف ، وأمّا مثل بمثل فإنّ العبد إذا همّ بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت واحدة وإذا عملها كتبت [عشرة]» [١٦٧].

وعن سفيان الثوري لمّا نزلت (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ربّي زدني» فنزلت (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) الآية قال : يا رب زدني فنزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ، قال : ربّ زدني؟ فنزلت : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [١٦٨].

(قُلْ) يا محمد (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً)» قرأ أهل الكوفة والشام : (قِيَماً) بكسر القاف وفتح الياء مخففا. وقرأ الباقون : قَيِّماً بفتح القاف وكسر الياء مشددا وهما لغتان وتصديق التشديد قوله تعالى (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١). و (دِيناً قِيَماً) معناهما : ذلك الدين القويم المستقيم.

واختلف النّحاة في وجه انتصابه فقال الأخفش : معناه هداني دينا قيّما ، وقيل : عرفت دينا قيّما ، وقيل : أعني دينا قيّما ، وقيل : نصب على الآخر يعني ابتغوا دينا قيّما.

وقال قطرب : نصب على الحال [وضع] (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل من الدين (حَنِيفاً) نصب على الحال (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) قال أهل التفسير يعني ذبيحتي في الحج والعمرة.

وقيل : ديني (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) يعني حياتي ووفاتي قال : يمان : (مَحْيايَ) بالعمل الصالح (وَمَماتِي) إذا مت على الإيمان. وقرأ أهل المدينة وَمَحْيايْ بسكون الياء.

وقرأت العامة بفتح الياء لئلّا يجتمع ساكنان. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى : ومحييّ بتشديد الياء الثانية من غير ألف وهي [لغة عليا مضر] يقولون : [قفي وعصي] وقرأ السلمي نُسْكِي بجزم السين والباقون بضمّتين (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قال قتادة أوّل المسلمين من هذه الأمّة ، قال الكلبي : أوّل من أطاع الله من أهل زمانه.

وروى سعيد بن جبير عن عمران بن [حصين] قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فاطمة قومي واشهدي أضحيّتك فإنّه يغفر لك في أوّل قطرة من دمها كل ذنب عملته ثمّ قولي : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ـ إلى قوله ـ الْمُسْلِمِينَ)».

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٦ ، والروم : ٣٠ ، ويوسف : ٤٠.

٢١٢

قال عمران : يا رسول الله هذه الآية لأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة؟

قال : «بل للمسلمين عامّة» [١٦٩] (١).

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) سوى الله أطلب سيّدا (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) لا تؤخذ مما أتت من المعصية وارتكبت من الذنوب سواها.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) يعني ولا تحمل نفس حمل طبق محل اخرى ما عليها من الذنوب ولا تأثم نفس آثمة بإثم أخرى ، بل كل نفس مأخوذ بجرمها ومعاقبة بإثمها (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) يعني أهل القرون الماضية والأمم الخالية وأورثكم الأرض من بعدهم ثمّ جعلكم خلائف منهم فيما يخلفونهم فيها ويعمرونها بعدهم والخلاف جمع خليفة ، كالوصيف يجمع وصيفة فكل من جاء من بعد من مضى فهو خليفة يقال : خلف فلان فلانا في داره يخلفه خلافة فهو خليفة كما قال الشماخ :

تصيبهم وتخطئني المنايا

وأخلف في ربوع عن ربوع (٢)

(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) يعني وخالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والقوّة والبسطة والعلم والفضل والمعاش والمعاد (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) يعني الغنى والفقر والشريف والوضيع والحر والعبد (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) يعني ما هو آت قريب ، وقيل : الهلاك في الدنيا.

وقال الكلبي : إذا عاقب فعاقبه سريع ، وقال عطاء : سريع العقاب لأعدائه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لأوليائه.

__________________

(١) كنز العمال : ٥ / ١٠٢ / ح ١٢٢٣٦.

(٢) تفسير الطبري : ٨ / ١٥٠ ، ولسان العرب : ٨ / ١٠٢.

٢١٣

سورة الأعراف

وهي مائتان وست آيات

روى أبو أمامة عن أبي بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس سترا وكان آدم له شفيعا يوم القيامة» [١٧٠] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِ‌كَ حَرَ‌جٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ‌ بِهِ وَذِكْرَ‌ىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّ‌بِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُ‌ونَ (٣) وَكَم مِّن قَرْ‌يَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْ‌سِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْ‌سَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُ‌وا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْ‌ضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُ‌ونَ (١٠)

(المص) روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : (المص) قسم أقسم الله عزوجل ، وقال عطاء بن أبي رباح : هو من ثناء الله سبحانه على نفسه ، أبو صالح عن ابن عباس : اسم من أسماء الله تعالى ، أبو الضحى عن ابن عباس : أنا الله أفصل وقال وهي هجاء موضوع ، قتادة : اسم من أسماء القرآن. وقيل : اسم السورة ، مجاهد : فواتح افتتح الله بها كتابه ، الشعبي : فواتح السور من أسماء الله تعالى إذا وصلها كانت اسما.

وقال أبو روق : أنا الله الصادق ، سعيد بن جبير : أنا الله أصدق ، محمد بن كعب : إلّا أن افتتاح اسمه أحد أول آخر ، واللام افتتاح اسمه لطيف ، والميم افتتاح اسمه مجيد وملك ، والصاد افتتاح اسمه صمد وصادق أحد وصانع المصنوعات.

ورأيت في بعض التفاسير معنى (المص) : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وقيل : هي حروف هجاء مقطّعة ، وقيل : هي حساب الجمل ، وقيل : هي حروف اسم الله الأعظم ، وقيل : هي

__________________

(١) تفسير الكشاف : ٢ / ١٩٣.

٢١٤

حروف تحوي معاني كثيرة ، وقيل : الله بها خلقه على مراده كلّه من ذلك ، وموضعه رفع بالابتداء و (كِتابٌ) خبره كأنّه قال : (المص) حروف (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، وقيل : (كِتابٌ) خبر ابتدأ في هذا كتاب.

وقيل رفع على التقديم والتأخير ، يعني أنزل كتاب إليك وهو القرآن (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) قال أبو العالية : ضيق ، وقال مجاهد : تنك ، وقال الضحاك : إثم ، وقال مقاتل : فلا يكن في قلبك شك في القرآن. إنّه من الله ، وقيل : معناه لا أطبق قلبك بإنذار من أرسلتك بإنذاره وإبلاغ من أمرتك بإبلاغه إياه (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي عظة لهم وموعظة ، وموضعه رفع مردود على الكتاب.

وقيل : هو نصب على المصدر تقديره ويذكر ذكرى. ويجوز أن يكون في موضع الخفض على معنى (لِتُنْذِرَ) في موضع خفض ، والمعنى الإنذار والذكرى ، وأمّا (ذِكْرى) فمصدر فيه ألف التأنيث [بمنزلة] دعوت دعوى ورجعت رجعي إلّا أنّه اسم في موضع المصدر.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم : اتبعوا ولا تتبعوا من دونه أولياء.

قرأ العامّة بالعين من الاتباع ، وروى عاصم الجحدري عن أبي [الشيخ] ومالك بن دينار «ولا تبتغوا» بالغين المعجمة أي لا تطلبوا (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) بالعذاب وموضع (كَمْ) الرفع بالابتداء وخبره في (أَهْلَكْناها) وإن شئت نصبته برجوع الهاء ، (فَجاءَها بَأْسُنا) عذابنا (بَياتاً) ليلا [كما يأت بالعساكر] (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني نهارا في وقت [القائلة] وقائلون نائمون ظهيرة ، ومعنى الآية : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني : إن من هذه القرى ما أهلكت ليلا ومنها ما أهلكت نهارا وإنّما حذفوها [لاستثقالهم] نسقا على نسق ، هذا قول الفراء ، وجعل [الزجاج] بمعنى أو [التحيّر] والإباحة تقديره : جاءهم بأسنا مرّة ليلا ومرّة نهارا (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي قولهم ودعاؤهم مثل قوله تعالى (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) (١) قال الشاعر :

وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي

بدعواك من مذل بها فتهون (٢)

مذل رجله إذا خدرت (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) عذابنا (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) مسيئين آثمين ولأمره مخالفين أقرّوا على أنفسهم.

روى ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما هلك قوم حتّى يعذروا من أنفسهم. قال : قلت : كيف يكون ذلك؟

فقرأ هذه الآية : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) الآية [١٧١] (٣).

__________________

(١) سورة الأنبياء : ١٥.

(٢) لسان العرب : ١١ / ٦٢١.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٦٠ ، وليس فيه ذكر الآية.

٢١٥

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) يعني الأمم عن إجابتهم الرسل (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عن تبليغ الأمم (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قال ابن عباس : ينطق لهم كتاب أعمالهم يدلّ عليه قوله (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) الآية (١).

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن الرسل فيما يلقون وعن الأمم فيما أجابوا (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ) يعني [السؤال] (الْحَقُ) قال مجاهد : والقضاء يومئذ العدل ، وقال آخرون : أراد به دون [وزن الأعمال] وذلك أن الله عزوجل ينصب الميزان له [يدان وكفّان] يوم القيامة يوزن أعمال العباد خيرها وشرها فيثقل مرّة ميزان الحسنات لنجاة من يريد نجاته. ويخفّف مرّة ميزان الحسنات علامة هلاك من يريد هلاكه.

فإن قيل : ما الحكمة في وزن أعمال العباد والله هو العالم بمقدار كلّ شيء قبل خلقه إياه وبعده قلنا أربعة أشياء : أحدهما : امتحان الله تعالى عباده بالإيمان به في الدنيا ، والثاني : جعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة في العقبى.

والثالث : تعريف الله عزوجل للعباد ما عند الله من جزاء على خير وشر ، والرابع : إلقائه الحجّة عليه.

ونظيره قوله (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (٢) الآية فأخبر ما تأتي الأعمال ونسخها مع علمه بها ما ذكرناه من المعاني والله أعلم.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) قال مجاهد : حسناته (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) إلى قوله تعالى (يَظْلِمُونَ) يجحدون قال حذيفة : صاحب الموازين يوم القيامة جبرائيل يقول الله تعالى «يا جبرائيل زن بينهم فردّ بعضهم على بعض» قال : ليس ثمّ ذهب ولا فضّة وإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فيرد على المظلوم وإن لم يكن له حسنات يحمل عليه من سيئات صاحبه ، يرجع الرجل وعليه مثل الجبال [١٧٢].

قال ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات في ميزان لسان وكفتان فأمّا المؤمن فيؤتي بعمله في أحسن صورة فيرتفع في كفّة الميزان وهو الحق فينقل حسناته على سيئات فيوضع عمله في الجنّة يعرفها بعمله فذلك قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجون ولهم غرف بمنازلهم في الجنّة إذا انصرفوا إليها من أهل [الجنّة] إذا انصرفوا إلى منازلهم.

وأمّا الكفّار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فيوضع في كفّة الميزان وهي الباطل فيخفّ وزنه حتّى يقع في النار ثمّ يقال للكافر : الحق بعملك.

__________________

(١) سورة الجاثية : ٢٩.

(٢) سورة الجاثية : ٢٩.

٢١٦

فإن قيل : كيف تصح وزن الأعمال وهي غراض وليست بأجسام فيجوز وزنها ووصفها بالثقل والخفة وإنما توزن الأعمال التي فيها أعمال العباد مكتوبة.

يدلّ عليه حديث عبد الله بن عمر ، وقال : يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثمّ خرج له تسعة وتسعون سجلّا كلّ سجل منها مثل مدى البصر فيها خطاياه وذنوبه فيوضع في الكفّة ثمّ يخرج له كتاب مثل الأنملة فيها شهادت أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوضع في الكفّة الأخرى فيرجّح خطاياه وذنوبه ، ونظير هذه الآية قوله (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١).

فإنّ قيل : لما جمعه وهو ميزان واحد.

قيل : يجوز أن يكون [أعظم] جميعا ومعناه واحد كقوله (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) (٢) و (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) (٣) وقال الأعشي :

ووجه نقي اللون صاف يزيّنه

مع الجيد لبّات لها ومعاصم

أراد لبّة ومعصما.

وقيل : أراد به الأعمال الموزونة.

وقيل : الأصل ميزان عظيم ولكل عبد فيه ميزان معلّق به.

وقيل : جمعه لأن الميزان ما اشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يحصل الوزن إلّا باجتماعهما.

وقيل : الموازين أصله : ميزان يفرق به بين الحق والباطل وهو العقل ، وميزان يفرّق بين الحلال والحرام وهو العلم ، وميزان يفرّق به بين السعادة والشقاوة هو عدم سهو الإرادة ، وبالله التوفيق.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) ملّكناكم في الأرض ووطّأنا لكم وجعلناها لكم قرارا (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) يعيشون بها أيام حياتكم من المأكل والمشرب والمعايش جمع المعيشة الياء من الأصل فلذلك لا تهمز (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) فيما صنعت إليكم.

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْ‌نَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْ‌تُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ‌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ‌ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (١٢) قَالَ

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٤٧.

(٢) سورة آل عمران : ١٧٣.

(٣) سورة المؤمنون : ٥١.

٢١٧

فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ‌ فِيهَا فَاخْرُ‌جْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِ‌ينَ (١٣) قَالَ أَنظِرْ‌نِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِ‌ينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَ‌اطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَ‌هُمْ شَاكِرِ‌ينَ (١٧) قَالَ اخْرُ‌جْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورً‌ا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) قال ابن عباس : خلقنا أصلكم وأباكم آدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) في أرحام أمهاتكم قال قتادة والربيع والضّحاك والسدي : أمّا (خَلَقْناكُمْ) فآدم وأمّا (صَوَّرْناكُمْ) فذرّيّته. قال مجاهد : خلقنا آدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) في ظهر آدم.

وقال عكرمة : (خَلَقْناكُمْ) في أصلاب الرجال و (صَوَّرْناكُمْ) في أرحام النساء قال عطاء : خلقوا في ظهر آدم ثمّ صوروا في الأرحام.

وقال يمان : خلق الإنسان في الرحم ثمّ صوّره ففتق سمعه وبصره وأصابعه ، فإن قيل : ما وجه قوله (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وإنّما خلقنا بعد ذلك وثمّ يوجب الترتيب والتراخي.

كقول القائل : قمت ثمّ قعدت لا يكون القعود إلّا بعد القيام.

قلنا : قال قوم : على التقديم والتأخير ، قال يونس : الخلق والتصوير واحد [...] (١) إلينا ، كما نقول : قد ضربناكم وإنّما ضربت سيّدهم ، قال الأخفش : ثمّ بمعنى الواو ومجازه : قلنا ، كقول الشاعر :

سألت ربيعة من خيرها

أبا ثم أما فقالت لمّه (٢)

أراد أبا وأمّا.

(فَسَجَدُوا) يعني الملائكة (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) لآدم فقال الله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) قال بعضهم : لا زائدة [وإن صلة] تقدير الكلام : ما منعك السجود لآدم ، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال الله عزوجل : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣).

قال الشاعر :

ويلحينني في اللهو أن لا أحبه

وللهو داع دائب غير غافل (٤)

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) تفسير الطبري : ٨ / ١٦٩.

(٣) سورة الأنبياء : ٩٥.

(٤) جامع البيان : ١ / ١٢١ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٤٨.

٢١٨

أراد : أن أحبّة.

وقال آخر :

فما ألوم البيض أن لا تسخروا

لما رأيتي الشمط القفندرا (١)

وقال آخر :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله (٢)

أراد : أبى جوده البخل.

سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال : كان بعضهم يكره القالا ، وتناول في المنع بمعنى القول ، لأن القول والفعل يمنعان ، وتقديره : من قال لك لا تسجد. قال بعضهم : معنى المنع الحول بين المرء وما يريد. والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال : أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد (٣).

(إِذْ أَمَرْتُكَ) قال إبليس مجيبا له (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) لأنّك (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) والنار خير وأفضل وأصفى وأنور من الطين قال ابن عباس : أوّل من قاس إبليس. فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس.

وقال ابن سيرين : أوّل من [قاس] إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس.

وقالت الحكماء : أخطأ عدو الله حين فضّل النار على الطين ، لأن الطين أفضل من النار من وجوه :

أحدها : إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحلم والحياء والصبر ، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي [سبقت] له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتنباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب ، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والإصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق.

والثاني : إنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها.

والثالث : إن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وفي النار ترابا.

__________________

(١) جامع البيان : ١ / ١٢١ / ، ولسان العرب : ٢ / ١١٢.

(٢) تفسير الطبري : ٨ / ١٧٠ ، ولسان العرب : ١٢ / ٥٨٩.

(٣) تفسير الطبري : ٨ / ١٧١.

٢١٩

والرابع : إن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لأعدائه وليس التراب سببا للعذاب.

والخامس : إنّ الطين [يسقى] من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.

فقال الله له : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي من الجنّة ، وقيل : من السماء إلى الأرض فألحقه بجزائر البحور وإنّما سلطانه وعظمته في خزائن البحور وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل في الأرض إلّا لهبة السارق عليه أطمار تروع فيها [من يخرج] منها (فَما يَكُونُ لَكَ) فليس لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) في الجنّة ، وليس ينبغي أن يسكن الجنّة ولا السماء [متكبر] ولا بخلاف أمر الله عزوجل (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأذلاء والصغر الذل والمهانة قال إبليس عند ذلك (قالَ أَنْظِرْنِي) أخّرني واجلني وأمهلني ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة ، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت ، (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) المؤخّرين.

ثمّ بيّن مدّة النظر والمهلة في موضع آخر ، فقال (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١) وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلّهم (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي). اختلفوا في ما قال : فبعضهم قال : هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ثمّ ابتدأ فقال (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) فقيل : هو ما الجزاء يعني فإنّك أغويتني لأجل أنك أغويتني لأقعدن ، وقيل : هو ما المصدر في موضع القسم تقديره : بإغوائك إياي لأقعدن كقوله (بِما غَفَرَ لِي) (٢) يعني بغفران ربّي (٣).

وقوله (أَغْوَيْتَنِي) أضللتني عن الهدى. وقيل : أهلكتني ، من قول العرب غوى الفصيل [يعني] غوي وذلك إذا فقد اللبن فمات. قال الشاعر :

معطفة الأثناء ليس فصيلها

برازئها درا ولا ميّت غوى (٤)

وحكى عن بعض قبائل طيئ أنها تقول : أصبح فلان غاويا أي مريضا غارا ، وقال محمد بن جرير : أصل الإغواء في كلام العرب تزيين الرجل للرجل الشيء حتّى يحسنه عنده غارا له (٥).

قال الثعلبي : وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد الحسين بن هاني قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد [الراوساني] قال : حدثنا عليّ بن سلمة قال : حدثنا أبو معاوية الضرير عن رجل لم يسمّ قال : كنت [عند] طاوس في المسجد الحرام فجاء رجل ممّن يرمي القدر من كبار الفقهاء فجلس إليه فقال طاوس : [يقوم أو يقام] فقام الرجل فقال لطاووس : تقول هذا الرجل فقيه ، فقال إبليس : أفقه منه بقول إبليس (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ويقول : هذا أنا أغوي نفسي.

__________________

(١) سورة الحجر : ٣٨.

(٢) سورة يس : ٢٧.

(٣) تفسير الطبري : ٨ / ١٧٦.

(٤) الصحاح : ٦ / ٢٤٥٠ ، والبيت لعامر المجنون كما في تاج العروس.

(٥) جامع البيان للطبري : ٨ / ١٧٥.

٢٢٠