معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ٢

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٥٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

عن معارضة ما يقتضي الاشتراط والتخصيص.

ويؤيّد ذلك كلّه ما رواه الصدوق والشيخ عن حريز في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم إذا كان في الصلاة اتّخذ كيسا وجعل فيه قطنا ثمّ علّقه عليه وأدخل ذكره فيه ثمّ صلّى » (١). الحديث.

والأصحاب ـ لوضوح الحكم عندهم ـ لم يتعرّضوا لذكر الحجّة عليه. ونحن لم نر بأسا بالإشارة إليها.

تذنيبان :

الأوّل : ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين أنّ لكلّ من البدن والثوب ـ بالنظر إلى تعذّر الإزالة ـ حكما برأسه. فإذا تعدّدت النجاسة فيهما واختصّ التعذّر بأحدهما وجبت الإزالة عن الآخر.

قال : ولو اختصّت بأحدهما وكانت متفرّقة وأمكن إزالة بعضها وجب. وبتقدير اجتماعهما فإن كانت دما وأمكن تقليله بحيث ينقص عن مقدار الدرهم وجب أيضا. وإلّا ففي الوجوب نظر. وهذا التفصيل لا بأس به.

الثاني : ذكر الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى : أنّه إذا تعذّر غسل البول عن المخرج وجب مسحه بحجر ونحوه (٢).

واحتجّ له الفاضلان بأنّ الواجب إزالة العين والأثر فإذا تعذّرت إزالة الأثر بقيت إزالة العين وسيأتي حكاية كلامهما في بحث الخلوة إن شاء الله.

وفهم من هذا الحكم جماعة من المتأخّرين أنّهم يرون وجوب تخفيف مطلق النجاسة عند تعذّر إزالتها ، وأنّ ذلك بدل اضطراريّ للطهارة من

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٦٤ ، الحديث ١٤٦.

(٢) المعتبر ١ : ١٢٦ ، ومنتهى المطلب ١ : ٢٦٣ ، وذكرى الشيعة : ٢١.

٢٠١

النجاسات كبدليّة التيمّم للطهارة من الأحداث. وصرّح بالموافقة على ذلك البعض.

وعندي في الكلام من أصله نظر ، لأنّ وجوب إزالة العين والأثر حكم واحد مستفاد من دليل واحد. ومن البيّن أنّ الأمر بالمركّب إنّما يقتضي الأمر بأجزائه على الاجتماع لا مطلقا. وحينئذ فلا بدّ في إثبات التكليف بجزء منها على الانفراد من دليل غير الأمر بالمركّب ، وهو مفقود في المتنازع.

بل ظاهر الأخبار المسوّغة للصلاة مع النجاسة عند تعذّر الإزالة نفي التكليف بأمر آخر سوى الإزالة ؛ باعتبار إطلاق الإذن من غير تعرّض للتخفيف بوجه.

وما ورد في بعض الأخبار من ذكر المسح للبول عن المخرج عند تعذّر غسله لا يصلح شاهدا على العموم ؛ لأنّ الوجه فيه منع النجاسة من التعدّي إلى غير محلّها من الثوب أو البدن ، وهو أمر آخر غير التخفيف.

فرع :

قال العلّامة في النهاية : لو كان في ثوبه أو على جسده منيّ أو دم حيض أو بول وهناك ماء لاقاه دم ، أقلّ من سعة الدرهم احتمل وجوب غسله به ؛ لأنّه أزال المانع من الدخول في الصلاة فكان واجبا كالطاهر.

قال : ويحتمل العدم ؛ لبقاء حكم النجاسة المغلّظة وإن زالت العين (١). وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه التحقيق. وما احتمله أوّلا ظاهر الضعف بعيد عن الصواب.

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٨٩.

٢٠٢

تتمّة : [ تشتمل ] على مسائل :

[ المسألة ] الاولى :

ذكر جماعة من الأصحاب أنّ اعتبار الطهارة في ملبوس المصلّي ومحموله اللذين يتمّ فيهما الصلاة إنّما هو فيما يقلّه منهما ولو في بعض أحوال الصلاة. فلو تنجّس طرف الثوب الذي لا يقلّه على حال منها ـ كالعمامة ـ لم يضرّ ، لانتفاء الحمل واللبس عن موضع النجاسة. وهو حسن ؛ لأنّ أصالة البراءة يقتضيه. والأدلّة الدالّة على اشتراط الطهارة وإيجاب الإزالة لا تصلح لتناول مثله.

وممّن تعرّض لهذه المسألة الشيخ في الخلاف فقال : إذا ترك على رأسه طرف عمامة وهو طاهر وطرفها الآخر على الأرض وعليه نجاسة لم تبطل صلاته. ثمّ حكى عن بعض العامّة القول بالبطلان به. وقال بعد ذلك : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمّة. فمن حكم ببطلان هذه الصلاة فعليه الدلالة (١).

[ المسألة ] الثانية :

قال العلّامة في المنتهى : لو كان وسطه مشدودا بطرف حبل وطرفه الآخر مشدودا في نجاسة وصلّى لم تبطل صلاته لأنّه ليس بحامل للنجاسة وسواء كان الحبل مشدودا في كلب أو سفينة فيها نجاسة ، صغيرين أو كبيرين ، وسواء كان الطرف الطاهر من الحبل مشدودا في المصلّي أو تحت قدميه. لا خلاف بين علمائنا فيه.

__________________

(١) الخلاف : ..

٢٠٣

ثمّ حكى عن جماعة من العامّة المصير إلى خلاف ذلك وأنّ منهم من أبطل الصلاة بحمل الحبل دون الوقوف عليه. ومنهم من قال بالبطلان إذا كان الكلب صغيرا يتحرّك بحركة المصلّي لا إذا كان كبيرا لا يتحرّك ، وأنّهم حكموا بصحّة الصلاة إذا كان الحبل مشدودا في موضع طاهر من السفينة ، وبفسادها إن كان الشدّ في موضع نجس.

ثمّ قال : والكلّ باطل إذ بطلان الصلاة يتوقّف على الشرع ، ولا شرع ؛ إذ المبطلات مضبوطة (١). والأمر على ما ذكر.

وانتفاء التأثير في المسألة الاولى ـ للوجه الذي أشرنا إليه ـ يدلّ على عدم التأثير هنا بطريق أولى.

وقد اقتفى العلّامة فيما ذكره هنا أثر الشيخ ؛ فإنّه ذكر المسألة في الخلاف ، واحتجّ لصحّة الصلاة حينئذ بأنّ نواقض الصلاة امور شرعيّة فإثباتها يحتاج إلى أدلّة شرعيّة وليس في الشرع ما يدلّ على أنّ ذلك يقطع الصلاة. ثمّ قال : وأيضا ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام من قواطع الصلاة معروف ولم يذكروا في جملتها شيئا من ذلك ، فينبغي أن لا يكون قاطعا (٢).

[ المسألة ] الثالثة :

قال الشهيد في الذكرى : لو شرب خمرا أو نجسا أو أكل ميتة غير مضطرّ ، أو أدخل دما نجسا ، أو شبهه تحت جلده أمكن وجوب إخراج ذلك لتحريم الاغتداء به ، وأنّه نجاسة إلّا لضرورة. وبه قطع الفاضل.

__________________

(١) منتهى المطلب ٣ : ٣١٨.

(٢) الخلاف ١ : ٥٠٣.

٢٠٤

ووجه العدم : التحاقه بالباطن ، وعليه يتفرّع صحّة الصلاة فيه. ثمّ قال : وفي الجمع بين بطلان الصلاة هنا وصحّتها مع حمل الحيوان غير المأكول بعد الاجتياز حمله نجاسة باطنة فيهما وإمكان الإزالة (١). هذا كلامه.

ويلوح منه أنّه فهم من حكم الفاضل بوجوب الإخراج القول ببطلان الصلاة مع عدمه في الجميع.

وفي استفادة ذلك من كلام الفاضل نظر ؛ لأنّه احتجّ في المنتهى لوجوب القيّ في صورة شرب الخمر وأكل الميتة بأنّ الشرب محرّم فاستدامته كذلك ؛ لأنّ التغذية موجودة. قال : والظاهر أنّ المنع من الشرب والأكل إنّما هو لذلك (٢). واستشكل في النهاية وجوب القيّ (٣).

ولا يخفى عليك أنّ الحكم الذي تثبته هذه الحجّة لا تعلّق له بالذات بأمر الصلاة وإنّما هو حكم مستقلّ ، ربّما تعلّق بها بالعرض بناء على كون الأمر بالشي‌ء مقتضيا للنهي عن ضدّه الخاصّ. وليس هذا محلّ البحث عن مثله.

وعذر الشهيد رحمه‌الله في فهم ذلك من كلامه ذكره للمسألة في جملة من كتبه بغير حجّة. وظاهر الحال أنّه لا يذكر في هذا المقام إلّا ما له تعلّق بالعبارة ولكن بعد الاطّلاع على حجّته يشكل الاعتماد في نسبة الحكم إليه على مجرّد ذلك الظاهر.

وأمّا الحكم بالبطلان في صورة إدخال الدم النجس فمصرّح به في كلام الفاضل.

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ١٧.

(٢) منتهى المطلب ٣ : ٣١٨.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٨٥.

٢٠٥

قال في التذكرة : لو أدخل دما نجسا تحت جلده وجب عليه إخراج ذلك الدم مع عدم الضرر وإعادة كلّ صلاة صلّاها مع ذلك الدم (١). هذا.

واستبعاد الشهيد رحمه‌الله جمع العلّامة بين الإبطال هنا والصحّة مع حمل الحيوان واقع في محلّه وإن كان لإبداء الفرق في الجملة مجال.

لكنّ التحقيق أنّ العمدة في الحكم بالصحّة هناك على أصالة البراءة من التكليف بالاجتناب في حال الصلاة وعدم الدليل عليه وذلك آت هنا.

تذنيب :

موضع البحث في إخراج الدم المحتقن تحت الجلد إنّما هو فيما يدخله الإنسان من خارج تحت جلده وإن كان في الأصل من دمه.

فما يتّفق من احتقان الدم تحت الجلد العارض من دون أن يخرج إلى ظاهر البدن ليس من هذا في شي‌ء.

وأكثر العبارات المتضمّنة لهذا الحكم ظاهرة في ما قلناه.

ومن جملتها : عبارة الشهيد في الذكرى المحكيّة في أوّل المسألة (٢). وقد اتّفق له في البيان والدروس التعبير بما يتناول بظاهره الصورة التي ذكرناها (٣). ولعلّه قصور في التأدية ؛ إذ الحكم بذلك فيها مستبعد لا سيّما مع مخالفته لكلامه في غيرهما وكلام غيره. وعلى كلّ حال فالحكم ما قلناه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٩٧.

(٢) ذكرى الشيعة : ١٧.

(٣) البيان : ٩٤ ، والدروس الشرعيّة ١ : ١٢٨.

٢٠٦

[ المسألة ] الرابعة :

قال المحقّق في المعتبر إذا جبر عظمه بعظم نجس كعظم الكلب والخنزير والكافر أزاله إن لم يخف الضرر وأبقاه إن خاف وأجزأته صلاته. ثمّ حكى عن بعض العامّة إيجاب قلعه ما لم يخف التلف.

واحتجّ بعد ذلك لما صار إليه : بأنّ إيجاب القلع مع خوف الضرر حرج ، فيكون منفيّا.

وبأنّها نجاسة متّصلة كاتّصال دمه فيكون معفوّا عنها (١).

ولا يخفى عليك أنّ الوجه الثاني من الحجّة إن تمّ اقتضى عدم إيجاب القلع وإن لم يحصل بذلك ضرر.

وقد احتمل الشهيد في الذكرى عدم الوجوب مع الاكتساء باللحم ، وعلّله بالالتحاق بالباطن. وهو ناظر إلى ما قاله المحقّق (٢).

واستضعفه بعض الأصحاب من حيث إنّه بعيد عن البواطن المعهودة المختصة بها ويتّجه على هذا المطالبة بالدليل على اعتبار المعهوديّة في عدم تأثير النجاسات المستورة في البواطن.

والتحقيق : أنّ الأدلّة إنّما تدلّ على اشتراط طهارة ظاهر البدن ، وأمّا بواطنه فليس في الأدلّة ما يقتضي اعتبار ذلك فيها. والأصل براءة الذمّة منه إلى أن يقوم على التكليف به دليل واضح.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٤٩.

(٢) ذكرى الشيعة : ١٧.

٢٠٧
٢٠٨

البحث الثاني

في

ما تزول به النجاسات

وبيان كيفية الإزالة وشرائطها

مسألة [١] :

زوال حكم النجاسة حيث كانت يتوقّف على ذهاب عينها إن كان لها عين ، أو استحالتها. وذلك في مواضع مخصوصة نذكرها. ولا عبرة ببقاء الرائحة واللون.

وقد حكى المحقّق في المعتبر إجماع العلماء على ذلك (١).

ويؤيّده ما رواه الشيخ في الحسن عن ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « قلت له : للاستنجاء حدّ؟ قال : لا ، حتّى ينقّي مأثمه. قلت : فإنّه ينقّي مأثمه ويبقى الريح؟ قال : الريح لا ينظر إليها » (٢).

وما رواه عن عليّ بن أبي حمزة عن العبد الصالح عليه‌السلام قال : « سألته أمّ ولد لأبيه ، فقالت : جعلت فداك إنّي اريد أن أسألك عن شي‌ء وأنا أستحيي منه. قال :

سليني ولا تستحيي. قالت : أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته فلم يذهب

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٣٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨ ، الحديث ٧٥.

٢٠٩

أثره؟ قال : اصبغيه بمشق حتّى يختلط ويذهب أثره » (١).

وعن عيسى بن أبي منصور قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته ، فبقي أثر الدم في ثوبها؟ قال : قل لها تصبغه بمشق حتّى يختلط ويذهب أثره » (٢).

والمشق ـ بالكسر ـ المغرة ، ذكره صاحب الصحاح والقاموس (٣).

ولو كان زوال اللون شرطا في زوال النجاسة لم يكن للأمر بالصبغ وجه إذ فائدته إخفاء لون النجاسة عن الحسّ.

مسألة [٢] :

ويعتبر في زوال نجاسة البول من غير الرضيع عن الثوب بالماء القليل غسله مرّتين.

وظاهر كلام المحقّق في المعتبر نفي الخلاف فيه عندنا حيث قال : إنّه مذهب علمائنا (٤).

وعزى الشهيد في الذكرى إلى الشيخ في المبسوط نفي مراعاة العدد في غير الولوغ (٥). وظاهره المخالفة في ذلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٧٢ ، الحديث ٨٠٠.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٧٢ ، الحديث ٨٠١.

(٣) صحاح اللغة ٤ : ١٥٥٥ ، والقاموس ٣ : ٢٨٣.

(٤) المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٥) ذكرى الشيعة : ١٥ ، والمبسوط ١ : ٣٧.

٢١٠

واكتفى العلّامة فيه بالمرّة صريحا إذا كان جافّا (١).

ويظهر من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء بها مطلقا ، حيث قال : إنّ الواجب هو الغسل المزيل للعين. ومن البيّن أنّ زوال العين معتبر على كلّ حال وأنّ مسمّى الغسل يصدق بالمرّة (٢).

وله في المنتهى عبارة تصرّح بالاكتفاء بها مطلقا ، لكنّها اتّفقت بعد حكمه بوجوب المرّتين ، واحتجاجه له بالأدلّة الواضحة. ولم يذكر لما حكم به أخيرا حجّة (٣). وهو أمر مستغرب.

ولقد لاح لي في الكلام احتمال يزول به الاستغراب ويبقى معه الحكم الذي جزم به أوّلا على حاله.

وعلى كلّ حال ، فالقول بإجزاء المرّة مطلقا متحقّق في كلام الأصحاب. فقد صرّح به الشهيد في البيان (٤). وعزي إلى الشيخ في المبسوط (٥) ، كما ذكرنا.

والأظهر اعتبار المرّتين مطلقا.

لنا : ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن البول يصيب الثوب؟ قال : اغسله مرّتين » (٦).

وروى بإسناد آخر يعدّ في الصحيح عن محمّد بن مسلم أيضا قال : « سألت

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٩٣.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٨٠ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٧٧.

(٣) منتهى المطلب ٣ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٤) البيان : ٩٣ ، الطبعة المحققة الاولى.

(٥) المبسوط ١ : ٣٧.

(٦) تهذيب الأحكام ١ : ٢٥١ ، الحديث ٧٢١.

٢١١

أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المركن مرّتين. فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (١).

وما رواه عن ابن أبي يعفور في الصحيح قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الثوب؟ قال : اغسله مرّتين » (٢).

وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الجسد؟ قال :

صبّ عليه الماء مرّتين فإنّما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ فقال : اغسله مرّتين » (٣).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كلام الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم خال من ذكر الحجّة على الاكتفاء بالمرّة مطلقا.

وقد احتجّ العلّامة في المنتهى للاكتفاء بها مع الجفاف بوجهين :

أحدهما : أنّ المطلوب من الغسل إنّما هو إزالة العين والأثر ، والجاف لا عين له فيكفي فيه المرّة.

والثاني : أنّ الماء غير مطهّر عقلا ؛ لأنّه إذا استعمل في المحلّ جاورته النجاسة فينجس وهكذا دائما ، وإنّما عرفت طهارته بالشرع بتسميته طهورا بالنصّ ، فإذا وجد استعمال الطهور مرّة عمل عمله من الطهارة (٤).

وهذا الوجه الأخير يمكن التشبّث به في الاكتفاء بالمرّة مطلقا على رأي

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٠ ، الحديث ٧١٧.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٥١ ، الحديث ٧٢٢.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٤.

(٤) منتهى المطلب ٣ : ٢٦٤.

٢١٢

من لا يعمل بخبر الواحد. وأمّا القائلون بذلك ليسوا منهم.

ثمّ إنّ الجواب عن الوجهين بالنظر إلى التمسّك بهما في حكم الجافّ ظاهر ؛ فإنّ كون المطلوب من الغسل ما ذكره فقط موقوف على الدليل. وقد حكى الشهيد في الذكرى وبعض المتأخّرين التابعين له ولأمثاله زيادة في حديث الحسين ابن أبي العلاء بعد قوله : « اغسله مرّتين » : صورتها الاولى للإزالة والثانية للإنقاء (١).

ولم أر لهذه الزيادة أثرا في كتب الحديث الموجودة الآن بعد التصفّح بقدر الوسع ، ولكنّها موجودة في المعتبر (٢) وأحسبها من كلامه ، وأنّ منشأ الوهم من هناك.

وهذه الزيادة لو ثبتت لصلحت للدلالة على الوجه المذكور فيخصّ بها ما دلّ على المرّتين بما له عين يحتاج إلى الإزالة. ولكنّ الشأن في الثبوت.

وممّا يؤيّد عدمه أنّ العلّامة مع حاجته إليها ـ كما علمت ـ نقل الحديث في المنتهى مجرّدا عنها (٣). ولهذه القضيّة نظير سبق في بحث البئر.

وأمّا جواب الوجه الثاني فهو : أنّ الأخبار التي ذكرناها عامّة في الجافّ وغيره ، بشهادة ترك الاستفصال ، فيخصّ بها دليل كون الماء طهورا لأنّها أخصّ منه.

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ١٥.

(٢) المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٣) منتهى المطلب ٣ : ٢٦٤.

٢١٣

مسألة [٣] :

وأكثر الأصحاب على اعتبار التعدّد في إزالة نجاسة البول من غير الرضيع بالماء القليل عن البدن أيضا ، ومنه مخرجه في حال الاستنجاء. حتّى أنّ المحقّق في المعتبر جمع بين الثوب والبدن حيث قال : إنّ التعدّد مذهب علمائنا (١).

لكنّه جعل المرّتين في الثوب غسلا ، وفي البدن صبّا ؛ مشيا مع الأخبار الواردة بذلك.

وجعل وجه الفرق بين الغسل والصبّ أنّ الغسل يتضمّن العصر ، والصبّ ما لا عصر معه.

قال : وأمّا الفرق بين الثوب والبدن فلأنّ البول يلاقي ظاهر البدن ، ولا يرسب فيه ، فيكفي صبّ الماء ؛ لأنّه يزيل ما على ظاهره. وليس كذلك الثوب ؛ لأنّ النجاسة ترسخ فيه فلا تزول إلّا بالعصر.

إذا تقرّر هذا فاعلم : أنّ جملة ما احتجّوا به من الأخبار لاعتبار المرّتين في البدن مطلقا ثلاث روايات :

إحداها : رواية الحسين ابن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين ، فإنّما هو ماء » (٢).

وقد تقدّمت في حكم الثوب.

والثانية : رواية أبي إسحاق النحوي عنه عليه‌السلام قال : « سألته عن البول يصيب

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٤.

٢١٤

الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين » (١).

والثالثة : رواية نشيط بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال : بمثلي ما على الحشفة من البلل » (٢).

والروايات الثلاث مشتركة في عدم صحّة السند. وتختصّ الأخيرة بعدم الصراحة في المطلوب.

وما قالوه من أنّ المثلين فيها كناية عن المرّتين غير واضح ، مع أنّها معارضة برواية نشيط أيضا عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « يجزي من البول أن يغسله بمثله » (٣).

وقد اقتصر العلّامة في المنتهى على الثوب ، في العبارة التي حكم فيها بوجوب المرّتين (٤). وكذلك صنع في التحرير (٥). وجزم في بحث الاستنجاء من المنتهى والنهاية بالاكتفاء فيه بالمرّة إذا زالت العين (٦) ، وكذا في المختلف (٧). وحكى القول به عن أبي الصلاح وابن إدريس وقال : إنّه الظاهر من كلام

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣٥ ، الحديث ٩٣.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٣٥ ، الحديث ٩٤.

(٤) منتهى المطلب ٣ : ٢٦٣.

(٥) تحرير الأحكام ١ : ٢٤.

(٦) منتهى المطلب ١ : ٢٦٤ ، ونهاية الإحكام ١ : ٩١.

(٧) مختلف الشيعة ١ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٢١٥

ابن البرّاج وهو قول سلّار أيضا (١).

ووجهه ـ بعد ظهور عدم نهوض الأخبار بإثبات التعدّد ـ إطلاق الأمر بغسل البول في الأخبار الواردة في باب الاستنجاء. وأكثرها صحيح السند.

وكذا في رواية عبد الرحمن بن الحجّاج الصحيحة ، قال : « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل يبول بالليل فيحسب أنّ البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ولا تنشّف؟ قال : يغسل ما استبان أنّه أصابه وينضح ما يشكّ فيه من جسده أو ثيابه » (٢). الحديث.

ولا ريب في صدق مسمّى الغسل بالمرّة فيحتاج إثبات الزائد عنها إلى الدليل.

وهذا القول متّجه لو لا ما يشعر به كلام المحقّق من دعوى الإجماع على التعدّد (٣) ؛ فإنّه يجبر وهن تلك الأخبار.

مضافا إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز عن زرارة قال : « كان يستنجي من البول ثلاث مرّات » (٤). الحديث.

ولعلّ المقتضي للقطع الواقع في طريقه ما مرّت الإشارة إليه عن قرب ؛ إذ من المستبعد كونه حكاية عن فعل زرارة.

ثمّ إنّ مجرّد الفعل وإن لم يدلّ على الوجوب ـ لا سيّما بقرينة الزيادة على المرّتين ـ إلّا أنّ فيه إشعارا بحسن ، من أجله جعله مؤيّدا.

وربّما استفيد من كلام المحقّق اختصاص دعوى الإجماع بإزالة البول

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٢٧ ، والسرائر ١ : ٩٧ ، والمهذّب ١ : ٣٩ ، والمراسم : ٥٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ ، الحديث ١٢٣٤.

(٣) المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢٠٩ و ٣٥٤.

٢١٦

عن غير محلّ الاستنجاء حيث حكى في بحث الاستنجاء عن أبي الصلاح أنّه قال : أقلّ ما يجزي ما أزال عين البول عن رأس فرجه (١).

ثمّ احتجّ المحقّق لاعتبار مثلي ما على الحشفة بوجهين :

الأوّل : رواية نشيط السابقة مؤيّدة بما روي من أنّ البول إذا أصاب الجسد تصبّ عليه الماء مرّتين (٢).

والثاني : أنّ غسل النجاسة بمثلها لا يحصل معه اليقين بغلبة المطهّر على النجاسة ، ولا كذا لو غسلت بمثليها.

وأشار بعد هذا إلى رواية نشيط المتضمّنة للاكتفاء بالمثل وقال : إنّها مقطوعة السند. فالعمل بالاولى أولى.

ولا يخفى عليك : أنّ الإجماع لو كان متحقّقا عنده هنا لكان أجدر بالذكر في الاحتجاج من الوجهين اللذين استدلّ بهما.

وحينئذ يقوى الاكتفاء بالمرّة المزيلة في غسله عن مخرجه وإن كان اعتبار المرّتين مطلقا أحوط.

تذنيب :

ذكر جماعة من الأصحاب أنّه يكفي في المرّتين التقدير.

فلو اتّصل الصبّ على وجه لو انفصل لصدق التعدّد حسّا أجزأ.

ووجّهه البعض بدلالة فحوى الاكتفاء بالحسّي عليه.

وهو على إطلاقه مشكل ؛ لأنّ دلالة الفحوى موقوفة على العلم بعلّة الحكم في المنطوق وكونها في المفهوم أقوى. وليست العلّة هنا بواضحة.

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٢٧ ، والمعتبر ١ : ١٢٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣٥ ، الحديث ٩٣.

٢١٧

وربّما كان التعويل في فهمها على الزيادة التي أشرنا إلى إلحاق بعض الأصحاب لها برواية الحسين بن أبي العلاء (١) ، وهي تعليل المرّتين بأنّ الاولى للإزالة والثانية للإنقاء وقد علم حالها.

واعتبر والدي رحمه‌الله الفصل بينهما ووجّهه بتوقّف صدق العدد عليه (٢).

وصرّح الشهيد رحمه‌الله في الذكرى بالاكتفاء في المرّتين بالتقدير ـ عند ذكره لإزالة نجاسة البول عن البدن ـ فقال : وأمّا البدن فيصبّ عليه مرّتين. إلى أن قال : ويكفي في المرّتين تقديرهما كالماء المتّصل (٣).

ثمّ إنّه قال في بحث الاستنجاء من هذا الكتاب : وأمّا البول فلا بدّ من غسله ويجزئ مثلاه مع الفصل ؛ للخبر (٤).

وقد حكى الفاضل الشيخ علي في شرح القواعد عن الذكرى الكلام الأخير ، وذكر أنّ ظاهره إرادة تحقّق الغسلتين ، وهو حقّ ؛ لأنّ التعدّد لا يتحقّق إلّا بذلك. بل لأنّ التعدّد المطلوب بالمثلين لا يوجد بدون ذلك ؛ لأنّ ورود المثلين دفعة واحدة غسلة واحدة. قال : ولو غسل بأكثر من المثلين بحيث يتراخى أجزاء الغسل بعضها عن بعض في الزمان لم يشترط الفصل قطعا. وكأنّ مراد الشهيد من الكلام الأوّل هذا المعنى. فلا يتوهّم التنافي بين كلاميه (٥).

والذي يقوى في نفسي اعتبار صدق المرّتين عرفا مع التراخي ؛ لأنّ

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٤.

(٢) روض الجنان : ١٦٧.

(٣) ذكرى الشيعة : ١٥.

(٤) ذكرى الشيعة : ٢١.

(٥) جامع المقاصد ١ : ١٧٣.

٢١٨

المقتضي للفرق بين التراخي وعدمه ملاحظة تحقّق المرّتين المأمور بهما. والتراخي بمجرّده غير كاف في صدقهما.

مسألة [٤] :

والمعروف بين الأصحاب اعتبار العصر أيضا في الثوب.

وكلامهم في مدرك الحكم مختلف ؛ إذ النصوص خالية من التعرّض له في المواضع التي اعتبروه فيها.

فظاهر كلام المحقّق أنّ الوجه في ذلك عدم تحقّق مفهوم الغسل بدونه (١). وقد حكينا هذا عنه آنفا.

وذكر العلّامة في التذكرة والنهاية أنّ الوجه فيه كون الغسالة نجسة فلا تحصل الطهارة مع بقائها (٢).

وجمع في المنتهى بين الاعتبار الذي ذكره المحقّق وبين ما ذكره في الكتابين (٣).

وعلّله الشهيد في الذكرى بوجوب إخراج النجاسة (٤). وتبعه جماعة من المتأخّرين ، لكنّهم أضافوا إليه الوجه الذي ذكره العلّامة في التذكرة والنهاية.

ولا يخفى عليك ما بين الأحكام الثابتة بهذه الوجوه من الاختلاف ؛ فإنّ الذي يقتضيه الوجه الأوّل : وجوب العصر سواء كانت الغسالة طاهرة أو نجسة ، وكون القدر المعتبر منه ما يصدق معه مسمّى الغسل في العرف حتّى لو بقيت

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٨٠ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٧٧.

(٣) منتهى المطلب ٣ : ٢٦٥.

(٤) ذكرى الشيعة : ١٤.

٢١٩

فيه أجزاء يمكن إخراجها بغير مشقّة لم تضرّ إذا كان مفهوم الغسل قد تحقّق بدون خروجها.

ومقتضى الوجه الثاني : بناء الحكم على الخلاف في نجاسة الغسالة وطهارتها ، فعلى الأوّل يجب العصر وعلى الثاني لا يجب.

وأمّا الوجه الثالث فمقتضاه : عدم وجوب العصر حيث يعلم انتفاء دخول شي‌ء من أجزاء النجاسة في باطن الثوب ، والاكتفاء بالمرّة الواحدة فيما يجب له التعدّد إذا علم بقرينة الحال خروج الأجزاء بها.

ويظهر من كلام الشهيد في بعض كتبه التزام الأمر الثاني حيث اقتصر على إيجاب العصر مرّة واحدة بين الغسلتين (١). واتّفق في كلام الصدوقين نحوه لكنّهما جعلا العصر بعد الغسلتين (٢).

والتحقيق : إناطة الحكم بما يتحقّق معه مسمّى الغسل في العرف ويعلم معه زوال أجزاء النجاسة بأسرها وبناء الزائد عن ذلك على نجاسة الغسالة وطهارتها.

فرع :

قال في التذكرة : لو جفّ الثوب من غير عصر ففي الطهارة إشكال ، ينشأ من زوال النجاسة بالجفاف والعدم ؛ لأنّا نظنّ انفصال أجزاء النجاسة في صحبة الماء بالعصر لا بالجفاف (٣).

وقال الشهيد في البيان : لو أخلّ بالعصر في موضعه فالأقرب عدم الطهارة ؛

__________________

(١) البيان : ٩٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٦٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٨٢.

٢٢٠