معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ٢

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٥٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

وأجاب بأنّه لعلّ المراد بالوضوء التحسين لا رفع الحدث. قال : ويلزم من المنع منه للتحسين المنع من رفع الحدث بل أولى (١). ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسّف.

ويمكن أن يقال : إنّ استثناء (٢) حال الضرورة إشارة إلى تسويغ استعماله في غير الطهارة عند الاضطرار.

ومنها ما رواه الصدوق في الموثّق عن سعيد الأعرج أنّه « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر اليهوديّ والنصرانيّ أيؤكل أو يشرب؟ قال : لا » (٣).

ورواه الكليني والشيخ في الحسن عن سعيد عنه عليه‌السلام لكن بإسقاط قوله : « أيؤكل أو يشرب » (٤).

وما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن رجل صافح مجوسيّا؟ قال : يغسل يده ولا يتوضّأ » (٥).

وما رواه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « في مصافحة المسلم لليهودي والنصراني؟ قال : من وراء الثياب فإن صافحك بيده فاغسل يدك » (٦).

وحجّة القول بطهارة أهل الكتاب الأصل ، وظاهر قوله تعالى ( وَطَعامُ

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٧.

(٢) في « ب » و « أ » : إنّ الاستثناء.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ١٦٥ ، كتاب الطهارة ، باب نجاسة أسآر أصناف الكفار ، الحديث ١ ، عن الكليني والشيخ.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ١٦٥ ، كتاب الطهارة ، باب نجاسة أسآر أصناف الكفار ، الحديث ١ ، عن الكليني والشيخ.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٢٦٣ ، الحديث ٧٦٥ ، باب تطهير الثياب من النجاسات.

(٦) تهذيب الأحكام ١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، الحديث ٧٦٤ ، باب تطهير الثياب من النجاسات.

١٠١

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (١) ؛ فإنّ العرف قاض في مثله بالعموم ، والاعتبار يرشد إليه بنحو التقريب الذي ذكرناه في بحث المفرد المعرّف باللام من مقدّمة الكتاب.

وإذا ثبت عمومه فمن البيّن أنّ الغالب في الطعام المصنوع المباشرة بالأيدي مع قبوله الانفعال من حيث الرطوبة ، وإثبات التحليل حينئذ لا يجامع الحكم بالتنجيس.

ثمّ الأخبار الكثيرة كصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال : « قلت للرضا عليه‌السلام : الخيّاط أو القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا ـ وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ـ ما تقول في عمله؟ قال : لا بأس » (٢).

وصحيحته أيضا قال : « قلت للرضا : الجارية النصرانيّة تخدمك وأنت تعلم أنّها نصرانيّة ولا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة؟

قال : لا بأس بغسل يديها » (٣).

ورواية إسماعيل بن جابر الصحيحة ـ على ما هو المعروف بين متأخّري الأصحاب ـ قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في طعام أهل الكتاب؟

فقال : لا تأكله ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال :

لا تأكله ولا تتركه ». تقول : إنّه حرام؟ ولكن تتركه تتنزّه عنه إنّ في آنيتهم

__________________

(١) سورة المائدة : ٥.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ٢ : ١١٣ ، باب نجاسة الكفّار ، الحديث ٤ ، نقلا عن التهذيب.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ١٠٢٠ ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، باب نجاسة الكافر ، الحديث ١١ ، وفيه : « تغسل يديها ».

١٠٢

الخمر ولحم الخنزير » (١).

قال والدي رحمه‌الله : تعليل النهي في هذه الرواية بمباشرتهم للنجاسات يدلّ على عدم نجاسة ذواتهم ؛ إذ لو كانت نجسة لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضيّة التي قد يتّفق وقد لا يتّفق (٢).

ورواية العيص بن القاسم وطريقها يعدّ في الصحيح. قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مؤاكلة اليهوديّ والنصرانيّ؟ فقال : لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسي : فقال : إذا توضّأ فلا بأس » (٣).

وهذه هي الرواية التي سبق نقلها في كلام المحقّق مستشهدا بها لما ذكره الشيخ في النهاية (٤).

وحسنة الكاهلي ، قال : « سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسيّ أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال : أمّا أنا فلا أدعوه ولا اواكله فإنّي لأكره أن احرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم » (٥).

ورواية زكريّا بن إبراهيم قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت : إنّي رجل من أهل الكتاب وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانيّة

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٤ ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمّة ، الحديث ٩.

(٢) مسالك الأفهام ٢ : ٢٤٦ ، الطبعة الحجرية ، كتاب الصيد والذباحة.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٣ ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمة ، الحديث ٣ ، والحديث هكذا : [ سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي؟ قال : إن كان من طعامك فتوضّأ فلا بأس به ].

(٤) النهاية ونكتها ٣ : ١٠٧ ، باب الأطعمة المحظورة.

(٥) الكافي ٦ : ٢٦٣ ، كتاب الأطعمة ، باب أحكام أهل الذمة ، الحديث ٤.

١٠٣

وأنا معهم في بيت واحد لم افارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال لي : يأكلون لحم الخنزير؟ قلت : لا ولكنّهم يشربون الخمر. فقال لي : كل معهم واشرب » (١).

وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام وقد سأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا إلّا أن يضطرّ إليه (٢).

وقد ذكرت في حجّة القول بالتنجيس. وهي إلى القول بالطهارة أقرب لما في التأويل المذكور هناك لموضع الدلالة فيها على الطهارة من التكلّف.

ورواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب غيره على أنّه يهوديّ؟ فقال : نعم. قلت : فمن ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال : نعم » (٣).

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ للنظر مجالا في كلتا حجّتي نجاسة أهل الكتاب وطهارتهم :

أمّا حجّة النجاسة فلأنّه يرد على الاحتجاج فيها بالآيتين ما قلناه في حجّة نجاسة من عداهم.

ويرد على التمسّك بالروايات التي ذكرت أنّ أكثرها أو كلّها لا تصريح فيها بنجاسة ذاتهم كما هو المدّعى ، بل محتملة لإرادة النجاسة العرضيّة باعتبار انهماكهم فيها فربّما حصل العلم العادي بعدم انفكاكهم من آثارها.

وبتقدير كونها ظاهرة في نجاسة الذات في الجملة فهي معارضة بروايات

__________________

(١) المصدر نفسه ، الحديث ١٠.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ٢ : ١٤ ، الباب ٥ من أبواب المياه ، الحديث ١٠ نقلا عن التهذيب.

(٣) في « أ » و « ج » : قلت فمن ذاك الماء. راجع جامع أحاديث الشيعة ٢ : ٥٢ ، أبواب الأسآر ، باب نجاسة سؤر الكفّار ، الحديث ٣.

١٠٤

الطهارة.

والتأويل ممكن من الجانبين فيحتاج ترجيح جعله في خصوص أحدهما إلى مرجّح.

وقد ذكر والدي رحمه‌الله في المسالك : « أنّ روايات الطهارة أوضح دلالة » (١) ؛ إذ أكثر أخبار النجاسة يلوح منها إرادة الكراهة فإنّ النهي عن المصافحة والاجتماع على الفراش الواحد لا بدّ من حمله على الكراهة إذ لا خلاف في جوازه. والأمر بغسل اليد من المصافحة مع كون الغالب انتفاء الرطوبة محتاج إلى الحمل على خلاف الظاهر أيضا. وهذا كلّه يوجب ضعف دلالتها فيقرب فيها ارتكاب التأويل وذلك بحمل نواهيها على الكراهة وأوامرها على الاستحباب.

وأمّا حجّة الطهارة فيرد على التعلّق فيها بالآية : أنّ الطعام إن كان بحسب الظاهر عامّا ـ كما ذكر ـ : إنّ الأخبار ناطقة بتخصيصه.

فمن ذلك ما رواه الصدوق عن هشام بن سالم في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في قول الله عزوجل ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (٢).

قال : العدس والحمّص وغير ذلك » (٣).

__________________

(١) مسالك الأفهام ٢ : ٢٢٥ ، السطر ٢٠ من الطبعة الحجرية ، قال الشهيد الثاني رحمه‌الله : إنّ أخبار الحلّ أصحّ سندا وأوضح دلالة على ما عرفت ». ولم نجد في باب الطهارة ما يدلّ على ذلك. فالظاهر أنّ باقي الكلام هو من صاحب المعالم رحمه‌الله لا من الشهيد الثاني رحمه‌الله.

(٢) سورة المائدة : ٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٤٧ ، الحديث ٤٢١٩ ، باب طعام أهل الذمّة من كتاب الصيد والذبائح ، الحديث ٢.

١٠٥

وروى الكليني في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن طعام أهل الذمّة ما يحلّ منه؟ قال : الحبوب (١).

وروى عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل :

( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ).

فقال : الحبوب والبقول » (٢).

وروى بإسناد يعدّ في الصحيح عن قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وقد ذكر له قول الله تعالى ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ). فقال : كان أبي يقول : إنّما [ هو ] الحبوب وأشباهها » (٣).

وروى هذا الحديث الشيخ في الاستبصار أيضا بطريق صحيح عن قتيبة (٤). وروى الكليني بطريق آخر عن قتيبة عنه عليه‌السلام وقد ذكرت له الآية ، فقال : إنّ أبي كان يقول ذلك : الحبوب وما أشبهها (٥).

وذكر بعض المتأخّرين أنّ في تخصيص الآية بالحبوب وشبهها إشكالا حاصله :

أنّ الحبوب ونحوها داخلة في عموم الطيّبات من قوله سبحانه ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ). وعطف الخاص على العام إنّما يجوز مع وجود نكتة كما قرّر في محلّه. وأيّ نكتة هنا بعد التخصيص يصحّ من أجلها الإخراج والعطف؟

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٣ ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمّة ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٤ ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمّة ، الحديث ٦.

(٣) الكافي ٦ : ٢٤٠ ، كتاب الذبائح ، باب ذبائح أهل الكتاب ، الحديث ١٠. والآية في سورة المائدة : ٥.

(٤) الاستبصار ٤ : ٨١ ، كتاب الصيد والذبائح ، باب ذبائح الكفّار ، الحديث ٥.

(٥) الكافي ٦ : ٢٤١ ، كتاب الذبائح ، باب ذبائح أهل الكتاب ، الحديث ١٧.

١٠٦

وأمّا إذا أبقي الطعام على عمومه فإنّ النكتة تكون حينئذ ظاهرة من حيث إنّ تعليق التحليل بالطيّبات يؤذن بأنّ طعام أهل الكتاب ليس محلّلا على الإطلاق ؛ إذ المانع منه لا ينفكّ من ملاقاة النجاسات غالبا أو من مخالطة بعض المحرّمات فيحسن لذلك إفراده بالذكر وبيان الرخصة في تحليله مطلقا.

وقد اعترف مورد هذا الإشكال بالعجز عن جوابه وترجّى من الله سبحانه أن يفتح عليه به.

وأرى الجواب عنه سهلا بعد ثبوت كون المراد من الآية هو الخصوص بدلالة النصوص ؛ فإنّ وجود النكتة على تقدير إبقاء الآية على عمومها من جهة احتمال عدم صدق وصف الطيّب على المائع للاعتبار الذي ذكره ينقدح بملاحظته وجود نحوه على تقدير التخصيص ؛ فإنّ الاحتمال قائم في الحبوب وشبهها ، وذلك لأنّ المباشرة بأيديهم والمزاولة في وقت التصفية وغيرها لا يؤمن معها ملاقاة ما يوجب التنجيس أو يقتضي الاستخباث ، فبيّن سبحانه أنّ قيام مثل هذا الاحتمال لا يخرج عن وصف الطيّب الذي علّق التحليل به.

ويحتمل الكلام وجها آخر وهو أن يكون الحكم بحلّ طعام أهل الكتاب للمسلمين وحلّ طعام المسلمين لأهل الكتاب كناية عن عدم إرادة قطع الوصلة بين الفريقين رأسا ، كما قد يشعر به المباينة الدينية ، وكون مساق جملة من الآيات السابقة على هذه الآية لبيان ما حرّم على المسلمين والكفّار يستحلّونه.

وقوله سبحانه في جملة تلك الآيات ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (١)

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

١٠٧

ثمّ قوله ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) (١) فغير مستبعد بعد هذا كلّه أن يقع في الوهم انقطاع الوصلة بين المسلمين والكفّار بكلّ وجه فذكر سبحانه ما يزيل الوهم وسوّغ للمسلمين إعطاء أهل الكتاب طعامهم بالبيع ونحوه وأباح لهم أخذ طعام أهل الكتاب كذلك وجعله دليلا على عدم التكليف بالتقاطع في مثل ذلك.

وفي الحقيقة لا بدّ من ارتكاب نحو هذا التقريب في ذكر حلّ طعام المسلمين لأهل الكتاب فيقرب اعتباره في الطرف الآخر هذا.

ويرد على التمسّك بالروايات في أصل الحجّة أنّه وإن كان أكثرها واضح الدلالة والأصل معها عضد قويّ إلّا أنّ موافقتها لأهل الخلاف يتطرّق به احتمال التقيّة.

وربّما كان في بعضها إشعار بذلك كقوله في رواية الكاهلي : أمّا أنا فلا أدعوه ولا اواكله وإنّي لأكره أن احرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم (٢).

ثمّ إنّ مصير جمهور الأصحاب إلى القول بالتنجيس مقتض للاستيحاش في الذهاب إلى خلافه. بل قد ذكرنا أنّ جماعة ادّعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف. وكلام العلّامة في المنتهى ظاهر فيه أيضا (٣).

وكأنّهم لم يعتبروا الخلاف المحكيّ في ذلك. أمّا من جهة المفيد فلأنّه موافق في أحد قوليه (٤) ، ولعلّهم اطّلعوا على أنّه المتأخر. وأمّا ابن الجنيد فلأنّ

__________________

(١) سورة المائدة : ٤.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٣ ، كتاب الأطعمة ، باب طعام أهل الذمة ، الحديث ٤.

(٣) منتهى المطلب ٣ : ٢٢٢.

(٤) المعتبر ١ : ٩٥.

١٠٨

المشهور عنه العمل بالقياس فلا التفات إلى خلافه. وبالجملة فالمسألة قويّة الإشكال.

وقد اتّضح طريق الرأيين فيها للرائين وسلوك سبيل الاحتياط هو الراجح في نظر الورعين.

فروع :

[ الفرع ] الأوّل :

ظاهر كلام جماعة من الأصحاب أنّ ولد الكافرين يتبعهما في النجاسة الذاتية ، بغير خلاف ؛ لأنّهم ذكروا الحكم جازمين به غير متعرّضين لبيان دليله كما هو الشأن في المسائل التي لا مجال للاحتمال فيها. وممّن ذكر الحكم كذلك العلّامة في التذكرة (١).

ولكنّه في النهاية أشار إلى نوع خلاف أو احتمال فيه ، فقال : الأقرب في أولاد الكفّار التبعيّة لهم (٢).

وأنت إذا أحطت خبرا بما قرّرناه في نجاسة الكافر وجدت للتوقّف في الحكم بالنجاسة هنا على الإطلاق مجالا إن لم يثبت انعقاد الإجماع عليه.

وربّما استدلّ له بأنّه حيوان متفرّع من حيوانين نجسين فيثبت له حكمهما ، كالكلب والخنزير.

ويشكل بأنّ الظاهر كون المقتضي لثبوت الحكم في المتولّد من الحيوانين النجسين هو صدق اسم الحيوان النجس عليه لا مجرّد التولّد. وبهذا صرّح العلّامة في أثناء كلام له في المنتهى فقال : إنّ ولد الكلب ليس نجسا باعتبار

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٦٨.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٧٤.

١٠٩

تولّده عن النجس بل باعتبار صدق اسم الكلب عليه (١).

وقد عرفت استشكاله في جملة من كتبه للحكم بنجاسة المتولّد بين الكلب والخنزير إذا كان مباينا لهما وحينئذ يكون الحكم في ولد الكافر موقوفا على صدق عنوان الكفر عليه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ بعض الأصحاب استثنى من الحكم بنجاسة ولد الكافر هنا ما إذا سباه المسلم.

واستشكل ذلك في بحث الجهاد بعدم الدليل عليه واقتضاء الاستصحاب بقاءه على النجاسة إلى أن يثبت المزيل.

ثمّ ذكر أنّ ظاهر الأصحاب عدم الخلاف بينهم في طهارته والحال هذه ، وإنّما اختلفوا في تبعيّته للمسلم في الإسلام بمعنى ثبوت أحكام المسلم له وهذا أمر آخر زائد على الحكم بالطهارة كما لا يخفى.

وصرّح الشهيد في الذكرى بـ [ بناء ] الحكم بطهارته أو نجاسته على الخلاف في تبعيّته للمسلم وعدمها حيث قال : ولد الكافرين نجس ولو سباه مسلم وقلنا بالتبعيّة طهر وإلّا فلا (٢).

والتحقيق : أنّ احتمال بقاء النجاسة بعد سبي المسلم له ضعيف ؛ لما قد ظهر من انحصار المقتضي للحكم بالتنجيس قبله في الإجماع إن ثبت ، ولا ريب في انتفائه بالنظر إلى ما بعده.

والتمسّك باستصحاب النجاسة مردود بمنع العمل بالاستصحاب في مثله كما بيّناه في محلّه من مقدّمة الكتاب.

__________________

(١) راجع تذكرة الفقهاء ١ : ٦٦.

(٢) ذكرى الشيعة : ١٤ ، مبحث النجاسات ، الأعيان النجسة ، المسألة ١٤ ، الطبعة الحجرية.

١١٠

وبهذا يظهر جودة احتجاج العلّامة وجماعة للحكم بطهارته حينئذ بأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة ، وضعف مناقشة بعض الأصحاب فيه بأنّ الأمر بالعكس ؛ لأنّ النجاسة تحقّقت بمجرّد الولادة فيجب استصحابها وهو أصل سالم عن معارضة يقين الطهارة.

وتوضيح وجه الجودة والضعف : أنّه لا ريب في أنّ الأصل في الأشياء كلّها الطهارة إلى أن يقوم على خلافها دليل وحيث إنّ الدليل المخرج عن حكم الأصل في موضع النزاع مخصوص بالحالة السابقة على الشي‌ء ، فالقدر المحقّق من المخالفة لأصالة الطهارة هو ذاك وما عداه باق على حكم الأصل لعدم قبول الاستصحاب إذا كان دليل الحكم المستصحب مقيّدا بحال كما مرّ.

[ الفرع ] الثاني :

نصّ جمع من الأصحاب على عدم الفرق في نجاسة الكافر بين ما تحلّه الحياة منه وما لا تحلّه.

وظاهر كلام العلّامة في المختلف عدم العلم بمخالف في ذلك سوى المرتضى (١) فإنّه حكم بطهارة ما لا تحلّه الحياة من نجس العين. وقد مرّت حكاية خلافه آنفا. وبيّنا أنّ الحجّة المحكيّة عنه في ذلك ضعيفة.

ولكنّ الدليل المذكور هناك للحكم بالتسوية بين جميع الأجزاء لا يتأتّى هنا لخلوّ الأخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك.

وقد نبّهنا على ما في التمسّك بالآيتين من الإشكال فلا يتمّ التعليق بهما في هذا الحكم حيث وقع التعليق فيهما بالاسم. وحينئذ يكون حكم ما لا تحلّه الحياة من الكافر خاليا من الدليل فيتّجه التمسّك فيه بالأصل إلى أن يثبت

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٤٧٢ ، كتاب الطهارة ، أصناف النجاسات.

١١١

المخرج عنه.

[ الفرع ] الثالث :

حكى في المعتبر عن الشيخ أنّه حكم في المبسوط بنجاسة المجبّرة والمجسّمة من فرق المسلمين. ولم يرتض ذلك المحقّق (١).

واحتجّ للطهارة : بأنّ النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة.

وبظواهر بعض الأخبار وافق الشيخ في المجسّمة جماعة من الأصحاب.

واختلف في ذلك كلام العلّامة ، فقال في المنتهى ـ بعد أن ذكر أنّ حكم الناصب والغالي حكم الكافر لإنكارهما ما علم ثبوته من الدين ضرورة ـ : وهل المجسّمة والمشبّهة كذلك؟ الأقرب المساواة ، لاعتقادهم أنّه تعالى جسم وقد ثبت أنّ كلّ جسم محدث (٢) واختار هذا القول في التحرير والقواعد أيضا (٣).

واستقرب في التذكرة والنهاية القول بالطهارة (٤).

واتّفق للشهيد مثله فإنّه استضعف في الذكرى كلام الشيخ (٥).

وعدّ في البيان المجسّمة بالحقيقة والمشبّهة كذلك في أقسام الكافر المنتحل للإسلام وهو جاحد لبعض ضروريّاته ، بعد حكمه بنجاسة الكافر بجميع

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٧ ، باب الأسآر ، الفرع الثاني.

(٢) منتهى المطلب ٣ : ٢٢٤.

(٣) تحرير الأحكام ١ : ٥ ، الطبعة الحجرية ، وقواعد الأحكام ١ : ١٨٥ ، الطبعة المحققة الاولى.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٦٨ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٣٩ ، الفصل الخامس ، الأسآر.

(٥) ذكرى الشيعة : ١٣ ، الطبعة الحجرية.

١١٢

أنواعه (١). وأطلق في الدروس نجاسة المجسّم (٢).

وجزم بعض الأصحاب بنجاسة المجسّمة بالحقيقة وهم الذين يقولون : إنّ الله سبحانه جسم كالأجسام ، وتردّد في حكم المجسّمة بمجرّد التسمية وهم القائلون بأنّه تعالى جسم لا كالأجسام.

وناقشه بعضهم بأنّ الدليل الدالّ على التنجيس في الأوّل دالّ على الثاني ؛ فإنّ مطلق الجسمية توجب الحدوث.

وعندي في الدليل نظر ؛ لأنّ ظاهره كون المقتضي للنجاسة هو القول بالحدوث لا مجرّد التجسيم ، ومن البيّن أنّ المجسّم ينفي الحدوث قطعا فكأنّه يتخيّل برأيه الفاسد عدم المنافاة بين الجسميّة والقدم.

وأمّا حكم الشيخ بنجاسة المجبّرة فقد تكرّر نقله عنه في كلام المتأخّرين من دون تعرّض لحجّته بل اقتصر أكثرهم على تضعيفه (٣).

وذكر في المنتهى في بحث الأسآر أنّه يمكن أن يكون مأخذ الشيخ في حكمه بنجاسة سؤر المجبّرة والمجسّمة قوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (٤) ؛ والرجس النجس. ثمّ قال : وتنجيس سؤر المجبّرة ضعيف وفي المجسّمة قوّة (٥).

ولا يخفى ما في الإحتجاج لقول الشيخ بمجرّد الآية من القصور.

__________________

(١) البيان : ٩١ ، الطبعة المحققة الاولى.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٤ ، الطبعة المحققة الاولى.

(٣) في « ب » : بل اقتصر بعضهم على تضعيفه.

(٤) سورة الأنعام : ١٢٥.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

١١٣

ولعلّ نظر الشيخ إلى ما ذكره بعض المفسّرين من دلالة قوله تعالى ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‌ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (١) الآية ، على كفر المجبّرة. وإذا ثبت كفرهم تناولهم دليل نجاسة الكافر.

وذكر في توجيه دلالة الآية على ذلك : أنّها إخبار بما سوف يقوله المشركون ، ثمّ لمّا قالوه قال سبحانه ( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (٢) ، يعنون بكفرهم وتمرّدهم أنّ شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحلّ الله بمشيّة الله وإرادته ، ولو لا مشيّة الله لم يكن شي‌ء من ذلك كمذهب المجبّرة بعينه.

قال : ومعنى قوله سبحانه ( كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) جاءوا بالتكذيب المطلق لأنّ الله عزّ وعلا ركّب في العقول وأنزل في الكتب ما دلّ على غناه وبراءته من مشيّة القبائح وإرادتها والرسل خبّروا بذلك (٣) ، فمن علّق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيّته وإرادته فقد كذّب التكذيب كلّه وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ونبذ أدلّة العقل والسمع وراء ظهره.

وهذا التوجيه قريب. إلّا أنّ الكلام يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون المراد بالتكذيب تكذيب الرسل اللازم من قولهم هذا.

وبالجملة فدلالة الآية على بطلان قولهم ممّا لا ريب فيه. وأمّا إطلاق التكذيب عليه نفسه حتّى يكون كفرا فمحتمل كاحتمال إطلاقه على لازمه الذي هو عدم اتّباع الرسل.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٨.

(٢) سورة الزخرف : ٢٠.

(٣) في « ب » : والرسل أخبروا بذلك.

١١٤

[ الفرع ] الرابع :

ذهب ابن إدريس إلى نجاسة من لم يعتقد الحقّ عدا المستضعف (١). حكى ذلك عنه جماعة من الأصحاب مجرّدا عن التعرّض لحجّته. وذكره عنه العلّامة في المنتهى عند حكايته قول الشيخ بنجاسة المجبّرة والمجسّمة كما سبق نقله (٢).

وقال : إنّه يمكن أن يكون مأخذه ما احتمل كونه مأخذ الشيخ أعني قوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ ) (٣) ، الآية.

وحكى فخر المحقّقين في شرحه عن المرتضى القول بنجاسة غير المؤمن لقوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ ) الآية. ولقوله تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) (٤) و( مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (٥) والإيمان يستحيل مغايرته للإسلام فمن ليس بمؤمن ليس بمسلم.

ثمّ قال : ليس بجيّد لقوله تعالى ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) (٦) ، ولقوله عليه‌السلام : « إنّما امرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله محمّد رسول الله » ؛ والمراد هنا الإسلام استعمالا للّفظ الخاص في العام (٧). هذا كلامه.

__________________

(١) السرائر ١ : ٨٤ ، في الأسآر.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

(٣) سورة الأنعام : ١٢٥.

(٤) سورة آل عمران : ١٩.

(٥) سورة آل عمران : ٨٥.

(٦) سورة الحجرات : ١٤.

(٧) الفوائد ١ : ٢٧ ، مبحث النجاسات.

١١٥

وينبغي أن يعلم أنّ الحجّة التي عزاها إلى المرتضى ليست وجها واحدا بل هي وجهان. والمناقشة التي أوردها عليها مختصّة بالوجه الثاني منها ، وضعفه بيّن ولم يتعرّض للأوّل ، وهو ضعيف أيضا لابتنائه على إرادة المعنى العرفي للإيمان من الآية. وليس ذلك بواضح ، وعلى كون المراد من الرجس النجس بالمعنى المعهود عند أهل الشرع وقد عرفت ما فيه.

[ الفرع ] الخامس :

حكى في التذكرة عن ابن إدريس أنّه حكم بنجاسة ولد الزنا وعلّله بأنّه كافر (١) ، وذكر في المختلف أنّ القول بكفره منقول عن السيّد المرتضى وابن إدريس (٢). وقد مرّ في بحث الأسآر أنّ كلام الصدوق يشعر بذلك أيضا.

ثمّ إنّه في المختلف ـ بعد أن نسب القول بكفره إلى الجماعة ـ قال : وباقي علمائنا حكموا بإسلامه وهو الحقّ.

وقال في المعتبر : ربّما تعلّل المانع يعني من سؤر ولد الزنا بأنّه كافر ونحن نمنع ذلك ونطالبه بدليل دعواه. ولو ادّعى الإجماع كما ادّعاه بعض الأصحاب كانت المطالبة باقية فإنّا لا نعلم ما ادّعاه (٣).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعتمد عندي هو القول بطهارته لكونها مقتضى الأصل والمخرج عنه غير معلوم.

وقد حاول العلّامة في المنتهى الاحتجاج للقول بكفره فقال : يمكن أن يستدلّ عليه بما رواه محمّد بن يعقوب بإسناده عن الوشّاء عمّن ذكره عن أبي

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٦٩ ، الطبعة المحققة.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٣١ ، الطبعة المحققة.

(٣) المعتبر ١ : ٩٨ ، الأسآر ، نهاية الفرع الثاني.

١١٦

عبد الله عليه‌السلام أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّما خالف الإسلام. وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب (١).

قال : ووجهه أنّه لا يريد بلفظة « كره » المعنى الظاهر له وهو النهي عن الشي‌ء نهي تنزيه لقوله « واليهوديّ » ؛ فإنّ الكراهة فيه تدلّ على التحريم فلم يبق المراد إلّا كراهة التحريم ، ولا يجوز أن يرادا معا وإلّا لزم استعمال المشترك في كلا معنييه أو استعمال اللفظ في معنيي الحقيقة والمجاز وذلك باطل.

ثمّ إنّه أجاب عن الاحتجاج : بالمنع من الحديث ؛ فإنّه مرسل. سلّمنا لكن قول الراوي « كره » ليس إشارة إلى النهي بل الكراهة التي في مقابلة الإرادة.

وقد يطلق على ما هو أعمّ من المحرّم والمكروه. سلّمنا. لكن الكراهة قد تطلق على النهي المطلق فليحمل عليه (٢).

وهذا الجواب واضح. وفي الاحتجاج تعسّف ظاهر.

ويوجد في كلام بعض المتأخّرين نسبته إلى القائل بكفره. والجواب عنه بنحو ما ذكره العلّامة. والحال على ما حكيناه.

مسألة [١١] :

ذهب الشيخ رحمه‌الله في بعض كتبه إلى أنّ المسوخ نجسة (٣).

حكى ذلك عنه جماعة وعزى في المختلف إلى سلّار وابن حمزة موافقته (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ١١ ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء من سؤر الحائض والجنب ، الحديث ٦.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٦٠.

(٣) المبسوط ٢ : ١٦٦ ، والخلاف ٢ : ١٨٤.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٤٦٦.

١١٧

ويحكى عن بعض الأصحاب أنّه حكم بنجاسة لعابها ، وقد ذكرنا في بحث الأسآر أنّ كلام سلّار في الرسالة صريح في نجاسة اللعاب ، ومحتمل لنجاسة العين (١) ، وأنّ ظاهر كلام ابن الجنيد يعطي القول بنجاستها أو نجاسة لعابها.

وقال أكثر الأصحاب بطهارة غير الخنزير منها عينا ولعابا. وهو الأظهر.

لنا الأصل ، وما رواه الشيخ عن الفضل أبي العبّاس قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه. فقال : لا بأس به. حتّى انتهيت إلى الكلب ، فقال : رجس نجس » (٢). الحديث.

وقد مرّ في بحث الأسآر ، وأشرنا إلى جودة سنده ، وإن لم يتّضح لنا بلوغه حدّ الصحّة فمثله كاف مع الأصل.

ولا يخفى أنّ الحديث كما يدلّ على طهارة العين لكون نجاستها منافية لطهارة السؤر ، كذلك يدلّ على طهارة اللعاب ؛ لعدم انفكاك السؤر عن ملاقاته.

حجّة القائلين بالتنجيس ـ على ما ذكره العلّامة في المختلف وجماعة ـ : أنّ بيعها محرّم ولا وجه لذلك إلّا النجاسة (٣).

وذكروا أنّ الحجّة في تحريم بيعها رواية مسمع عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القرد أن يشترى أو يباع » (٤).

والجواب المنع من تحريم البيع أوّلا فإنّ الرواية التي ذكرت دليلا عليه

__________________

(١) راجع مبحث الأسآر : ٣٥٧.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٥ ، الحديث ٦٤٦.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٤٦٧.

(٤) في « أ » : أن تشترى أو تباع. راجع تهذيب الأحكام ٧ : ١٣٤ ، الحديث ٥٩٤.

١١٨

ضعيفة السند جدّا ، مع كونها مختصّة بالقرد.

ثمّ يمنع ثانيا كون المقتضي لحرمة البيع هو النجاسة ويطالب بالدليل على انحصار المقتضي بينها.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ بيان أنواع المسوخ مرويّ في عدّة أخبار أقواها إسنادا ما رواه الشيخ عن الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّ الضبّ والفأرة والقرد والخنازير مسوخ » (١).

وما رواه في الصحيح عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن الحسن الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « الفيل مسخ كان ملكا زانيا (٢) ، والذيب كان أعرابيّا ديّوثا ، والأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها ، والوطواط مسخ كان يسرق من تمور الناس ، والقردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت ، والجرّيث والضبّ فرقة من بني إسرائيل (٣) حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم لم يؤمنوا فتاهوا فوقعت فرقة في البحر ، وفرقة في البرّ ، والفأرة هي الفويسقة (٤) ، والعقرب كان نمّاما ، والدبّ والوزغ والزنبور كان لحّاما يسرق في الميزان » (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٩ ، الحديث ١٦٣.

(٢) في « أ » و « ب » : ملكا زنا.

(٣) في « أ » و « ب » : فرقة من بني إسرائيل.

(٤) في « ب » : الوسيقة ، وفي « ج » : العويسقة.

(٥) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٩ ، الحديث ١٦٦.

١١٩

مسألة [١٢] :

وأوجب الشيخ في النهاية غسل ما يصيبه الثعلب أو الأرنب أو الفأرة أو الوزغة من الثوب أو البدن مع الرطوبة (١).

وقرنها في هذا الحكم مع الكلب والخنزير مع أنّه في باب المياه من هذا الكتاب نفى البأس عمّا وقعت فيه الفأرة من الماء الذي في الآنية إذا خرجت منه. وكذا إذا شربت. وقال : إنّ الأفضل ترك استعماله على كلّ حال ، وقد مرّ نقل ذلك عنه (٢).

واقتصر المفيد في المقنعة على الفأرة والوزغة فجعلهما كالكلب والخنزير في غسل الثوب إذا مسّاه برطوبة وأثّرا فيه (٣).

وحكى في المختلف عن أبي الصلاح أنّه أفتى بنجاسة الثعلب والأرنب وهو قول السيّد أبي المكارم بن زهرة أيضا (٤).

وقد سبق في آخر مباحث الماء المطلق حكاية كلام للصدوقين يؤذن بالقول بنجاسة الوزغ (٥).

وفي رسالة الصدوق الأوّل ما يظهر منه القول بنجاسة الفأرة أيضا.

__________________

(١) النهاية ونكتها ١ : ٢٦٧.

(٢) في « ب » : وقد نقل ذلك عنه.

(٣) المقنعة : ٧٠.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٤٦٤ ، وراجع الكافي في الفقه : ١٣١.

(٥) في « أ » : للصدوق يؤذن بالقول بنجاسة الوزغ. راجع الصفحة : ٢٤٥.

١٢٠