زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]
المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-022-7
الصفحات: ٦٤٨
حصر ذكاته في ذكاة أمه ، فلا يحتاج إلى ذكاة أخرى. ولا يقدح كونه مجازا من حيث إن ذكاة الأم فري الأعضاء المخصوصة ، وهو غير حاصل فيه ، لأن إضافة المصادر تخالف إسناد الأفعال ، فيكفي فيها أدنى ملابسة ، كقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (١) وإن امتنع أن يقال : حج البيت على الفاعلية ، وذكيت الجنين على المفعولية.
ومن رواه بنصب الثانية فهو بنزع الخافض ، أي ذكاته داخلة في ذكاة أمه ، فحذف حرف الجر ، ونصبه على المفعولية ، كدخلت الدار.
وبه (٢) احتج الموجبون لذكاته ، أي : يذكى مثل ذكاتها ، فحذف المضاف مع بقية الكلام ، وأقيم المضاف إليه مقامه.
وفيه ـ مع مخالفته لرواية الرفع الصحيحة الموافقة لرواياتنا صريحا (٣) ـ تعسّف ظاهر.
ومنها : قوله صلىاللهعليهوآله في المواقيت لما عدها : « هن لهنّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن » (٤) فإنه يفيد حصر المواقيت (٥) في الأهل دون العكس ، لأن ضمير « هن » راجع إلى المواقيت ، وهو المبتدأ ؛ وفي « لهن » ضمير (٦) راجع إلى أهل المواقيت ، وهو الخبر ، والتقدير : المواقيت لأهل هذه الجهات ، أي لإحرامهم.
__________________
(١) آل عمران : ٩٧.
(٢) أي : وبرواية النصب.
(٣) الوسائل ١٦ : ٣٢٨ أبواب الذبائح باب ١٨.
(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٦٥ باب مهل أهل الشام ، صحيح مسلم ٣ : ١١ الحج حديث ١١ ، سنن النسائي ٥ : ١٢٤ باب ميقات أهل اليمن ، وص ١٢٦ باب ميقات من كان أهله دون الميقات.
(٥) في « ح » زيادة : لما عداهنّ لهن وبمن.
(٦) ضمير ليست في « د » ، « م ».
فيجب انحصار المواقيت فيهم ، ومن أتى عليها من غير أهلها ، ولا يجب انحصار إحرام أهل الجهات في المواقيت ، قضية للقاعدة ، وهو عند العامة مطلق ، فيجوز الإحرام من غيرها مطلقا (١). وعندنا مع النذر وشبهه ، ولمن خاف تقضّي رجب قبل الوصول إلى أحدها للعمرة المفردة (٢).
وهذا بخلاف ميقات الإحرام الزماني للحج وعمرة التمتع ، فإنه لا يجوز التقديم عليه مطلقا ، لقوله تعالى ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (٣). فيجب بمقتضي القاعدة انحصار الحج في الأشهر الثلاثة مطلقا.
ومنها : قوله صلىاللهعليهوآله : « الشفعة فيما لم يقسم » (٤) فإنه يفيد انحصارها في المشترك ، فلا تثبت بمجرّد الجوار (٥) عندنا.
وقد يستفاد أيضا اشتراط قبوله للقسمة ، باعتبار وصفه السلبي ، الدال على أنّ من شأنه ذلك. ولو نوقش في ذلك فهو مستفاد من دليل آخر ، والله الموفق.
__________________
(١) كتاب الأم ٢ : ١٣٩ ، المبسوط للسرخسي ٤ : ١٦٦ ، المغني لابن قدامة ٣ : ٢١٥.
(٢) الخلاف ٢ : ٢٨٦ مسألة ٦٢ ، الشرائع ١ : ١٧٨ ، القواعد ١ : ٧٩.
(٣) البقرة : ١٩٧.
(٤) صحيح البخاري ٣ : ١١٤ باب الشفعة ، سنن النسائي ٧ : ٣٢١ باب الشفعة ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٣٤ حديث ٢٤٩٧ ، ٢٤٩٩.
(٥) في النسخ : الجواز ، انظر الخلاف ٣ : ٤٢٧ ، والشرائع ٤ : ٧٧٧.
المقصد الثاني في الأفعال
قاعدة « ١٤١ »
الفعل المضارع المثبت كقولنا : زيد يقوم ، مشترك بين الحال والاستقبال على المشهور بين النحاة ، وزاد ابن مالك أنّ الحال يترجّح عند التجرّد عن القرائن ، وذهب بعضهم إلى أنه حقيقة في الحال ، ومجاز في الاستقبال ، وبعض إلى عكسه ؛ وآخرون إلى أنه حقيقة في الحال خاصة ، لا يستعمل في الاستقبال حقيقة ولا مجازا ، وآخرون إلى عكسه.
وهذه الأقوال حكاها أبو حيان في « الارتشاف » واختار المشهور ، وو جعله ظاهر كلام سيبويه (١).
إذا تقرر ذلك ، فمن فروع القاعدة :
ما إذا قال : والله لأضربن زيدا ، فيتخير بين ضربه الآن وفي المستقبل. ويجيء على القول الثاني والرابع (٢) تعيّن الحال. وعلى القول بوجوب حمل المشترك على جميع معانيه لا يبرّ إلا بضربه في الحال و
__________________
(١) كما في التمهيد للأسنوي : ١٤٥.
(٢) يعني : القول الثاني والرابع مما عدا القول المشهور من الأقوال.
ضربه (١) أيضا فيما بعده. وبه صرّح بعض الشافعية ، تفريعا على مذهبه فيه (٢).
ومنها : إذا قال المدعى عليه : أنا أقرّ بما يدعيه ، فعلى المشهور لا يكون إقرارا ، لاحتماله الوعد ، إلا أنه خلاف المشهور في الفتوى من قبول الإقرار بذلك ، ولعل القرينة مرجحة للحال هنا. وأما على قول ابن مالك ومن جعله حقيقة في الحال فواضح.
وكذا لو حملنا المشترك على جميع معانيه حيث لا تقوم قرينة على البعض ، فإن الحال يدخل ضمنا ويقع الإقرار.
ومنها : إذا أوصى بما تحمله هذه الشجرة ، أو الجارية ، فإنه يعطى الحمل الحادث ، دون الموجود في الحال ، كما ذكره جماعة (٣). وهو خلاف السابق ، ومشكل على المشهور ، إلا مع دعوى القرينة على نفي الحال.
ومنها : إذا قال الكافر : أشهد أن لا إله إلا الله إلى آخره ، فإنه يكون مسلما بالاتفاق ، حملا له على الحال. وهو لا يجزئ على المشهور أيضا ، ولعل الشرع خصه به.
ومنها : إذا أتى الشاهد عند الحاكم بصيغة أشهد ، فإنها تقبل بالاتفاق ، حملا له على الحال أيضا ، والكلام فيه كالذي قبله.
ومنها : إذا أسلم الكافر على ثمان نسوة مثلا ، فقال لأربع : أريدكن ، ولأربع : لا أريدكن ، ففي حصول التعيين بذلك وجهان مبنيان على القاعدة ، مضافا إلى قرينة الحال المخصصة بالحال دون الوعد.
__________________
(١) في « د » : بضربة في الحال وضربة.
(٢) التمهيد : ١٤٦.
(٣) التمهيد : ١٤٧.
قاعدة «١٤٢»
المضارع المنفي بلا يتخلص للاستقبال عند سيبويه (١). وقال الأخفش : إنه باق على صلاحيته (٢). واختاره ابن مالك في « التسهيل » (٣).
فإن دخلت عليه لام الابتداء ، أو حصل النفي بـ « ليس » أو « ما » ففي تعيّنه للحال مذهبان ، الأكثرون كما قاله في أوائل التسهيل على أنه يتعين (٤).
ثم صحح في الكلام على ما الحجازية خلافه.
إذا علمت ذلك فيبني على هذه المسائل :
ما إذا حلف على شيء بهذه الصيغ ، وتفريعها لا يخفى.
ومن فروعها أيضا : ما إذا قال : لا أنكر ما يدعيه ، فعلى الأول لا يكون إقرارا بل وعد ؛ وعلى القول ببقائه مشتركا وجهان ، أجودهما العدم ، للاشتراك الرافع للجزم بأحدهما ، منضما إلى ثبوت واسطة بين الإقرار والإنكار.
ويحتمل كونه إقرارا ، نظرا إلى أنّ الإنكار وقع نكرة منفية فيعم سائر أفراده ، مضافا إلى دلالة ظاهر العرف عليه.
ولو قال : ما أنا منكر ، أو لست منكرا ، فالوجهان ، وأولى بكونه إقرارا.
ومنها : إذا أذن المرتهن للراهن في التصرف ببيع وعتق ونحوهما ، فقال الراهن : لا أفعل ، ثم فعل ، هل يكون ردا للإذن أم لا؟ وجهان مبنيان ، فإن جعلناه للاستقبال ، لم يناف القبول بعده ، وكذا إن جعلناه مشتركا ، للشك في
__________________
(١) غنية الأريب : ١٢٧ ، شرح المفصل ٨ : ١٠٨.
(٢) نقله عنه في التمهيد : ١٤٩.
(٣) التسهيل : ٥.
(٤) التسهيل : ٥.
مفسد الإذن ، مع احتماله هنا خاصة أو مطلقا لبطلان الإذن بالرد. وقال بعضهم : الإذن لا تبطل بالرد مطلقا. وليس ببعيد.
وعليه يتفرع ما لو ردّ الإذن في تناول الطعام ، أو ردّ الوكيل الوكالة ثم قبل إن جعلناها إذنا مجردا ، خصوصا إذا ردّ من غير أن يعلم الموكل.
ومنها : إذا قال الوصي : لا أقبل هذه الوصية ، فهل يكون ردا لها؟
الوجهان. ولو قال : لست أقبلها ، أو : ما أقبلها ، فأولى بكونه ردا.
ومنها : لو قال المالك بعد أن عقد الفضولي على ماله ، أو الولي بعد أن عقد الفضولي على المولى عليه عقد النكاح : لا أجيز ، فهل له الإجازة بعده؟
الوجهان. وكذا لو قال : لست أجيز أو ما أجيز.
قاعدة « ١٤٣ »
الفعل الماضي إذا وقع شرطا انقلب إلى الإنشاء باتفاق النحاة.
ومن فروعه إذا قال : إن قمت فأنت عليّ كظهر أمي ، فلا يحمل على قيام صدر منها في الماضي إلا بدليل آخر ، وكذا لو قال : إن دخلت داري فلك عليّ كذا ، على جهة النذر ؛ أو قال لولده : إن حفظت القرآن مثلا فلك كذا ، ونحو ذلك.
قاعدة « ١٤٤ »
إذا وقع الفعل المذكور صلة أو صفة لنكرة عامة ، احتمل المضي والاستقبال ، كما قاله في التسهيل (١). ومن مثل (٢) الاستقبال في الصفة
__________________
(١) التسهيل : ٦.
(٢) في « د » ، « ح » زيادة : في.
قوله صلىاللهعليهوآله : « نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ، فأداها كما سمعها » (١). ونازع أبو حيان فيما ذكره ابن مالك ، وقال : الّذي نراه حمله على الحقيقة ، إلا أن يقوم دليل من خارج كما في الاستشهاد.
إذا علمت ذلك ، فمن فروع القاعدة :
ما إذا قال : إن أكرمت الّذي أهنته ، أو رجلا أهنته ، فأنت عليّ كظهر أمي. فإن أكرمت الّذي أهانه قبل التعليق وبعده وقع الظهار ، وإن أهانه في أحدهما روجع ، فإن تعذّرت مراجعته لم يقع شيء على مقتضى ما قاله ابن مالك ، وقياس على ما قاله أبو حيان من تعلقه بالماضي فقط.
وقريب منه ما لو قال : إن أكرمت الّذي أكرمته فلك عليّ كذا ، على وجه النذر ؛ وما لو حلف لا يلبس مما غزلته ، ففي حنثه بما غزلته قبل اليمين ، أو به وبما بعده ، الوجهان.
ولو قال : مما تغزله ، لم يحنث إلا بما يتجدد بعدها ، كما أنه لو قال : من غزلها ، دخل فيه الماضي والمستقبل ؛ وكذلك الحكم في نظائره.
ومنها : عموم تحريم وسم الدواب على وجهها ، فإنه روي عن النبي صلىاللهعليهوآله : « أنه رأى حمارا قد وسم على وجهه فقال : لعن الله من فعل هذا » (٢) فإن هذا الماضي وهو « فعل » إن كان للاستقبال دلّ على التحريم ؛ وإن كان باقيا على حقيقته من المضي ، فإن قلنا : إن ترتيب الحكم على الوصف يفيد العلية ، دلّ أيضا على تحريمه ، وكذا إن جعلنا فيه إيماء إلى العلة.
__________________
(١) سنن الترمذي ٤ : ١٤١ حديث ٢٧٩٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٨٦ حديث ٢٣٦ ، مسند أحمد ٤ : ٨٢ بتفاوت يسير.
(٢) صحيح مسلم ٤ : ٣٣٧ حديث ١٠٧ ، سنن أبي داود ٣ : ٢٦ حديث ٢٥٢٦.
وإن قلنا : لا يفيدها ، فإن حملنا المشترك على معنييه ، دلّ أيضا على تحريمه ، وإلا فلا ، لأنه أخبر عن هذا الشخص بخصوصه بأن الله تعالى قد لعنه أو دعا عليه بذلك ، وسكت عن الموجب له.
قاعدة « ١٤٥ »
« كان » تدل على اتصاف اسمها بخبرها في الماضي ، وهل تدل على انقطاعه ، أم لا ، بل هي ساكتة عنه؟
فيه مذهبان ، والأكثرون كما قاله في الارتشاف على أنها تدل عليه ، ثم استدل بالقياس على سائر الأفعال الماضية.
وما ادعاه من الانقطاع في غيرها ممنوع.
إذا علمت ذلك ، فمن فروع القاعدة :
ما إذا ادعى عينا ، فشهدت له البينة بالملك في الشهر الماضي مثلا ، أو أنها كانت ملكه فيه أو مطلقا ؛ أو ادعى اليد ، وأقام بينة بنحو ما ذكرناه ، ففي قبولها وجهان مرتبان ، وأصحهما أنها لا تقبل.
نعم يجوز أن يقول : كان ملكه ولا أعلم له مزيلا ، فيقبل حينئذ ؛ وأن يشهد بالملك في الحال ، استصحابا لما عرفه قبل ذلك من شراء وإرث وغيرهما.
ومنها : لو قال المدعى عليه : كان ملكك بالأمس ، فقيل : لا يؤاخذ به ، كما لو قامت بينة بذلك ، فإنها لا تسمع ، والأصح أنه يؤاخذ به. والفرق بين صحة إقراره بالملك في الزمان الماضي ، وعدم صحة الشهادة عليه : أنّ الإقرار لا يكون إلا عن تحقيق ، والشاهد قد يخمّن ، حتى لو استندت الشهادة إلى تحقيق ، بأن قال : هو ملكه اشتراه ، قبلت.
ومنها : لو قال : والله لا أتزوج امرأة قد كان لها زوج ، فطلق امرأته ثم
نكحها ، فهل يحنث بذلك؟ وجهان مبنيان على ما ذكر وزيادة ، هي : أن المتكلم هل يدخل في عموم كلامه وإطلاقه أم لا؟ وكذا الإشكال لو كانت مطلقة بائنا له قبل اليمين ، فتزوجها بعد ذلك.
وأما دلالة « كان » على التكرار ، فلم أقف فيه للنحاة على كلام. نعم اختلف الأصوليون فيه ، فصحح ابن الحاجب أنها تفيده. قال : ولهذا استفدناه من قولهم : كان حاتم يقري الضيف (١). وصحّح في المحصول أنها لا تقتضيه لا عرفا ولا لغة (٢).
قاعدة « ١٤٦ »
« ليس » فعل على المشهور (٣).
وقيل : إنها حرف بمنزلة « ما » لعدم تصرفها ، إذ الأصل في الأفعال هو التصرف ، وأيضا فإن وزنها ليس على شيء من أوزان الأفعال (٤).
وأجابوا عن الثاني بأن ياءها مكسورة في الأصل ، ولكن سكنوها للتخفيف ، وكان قياسها على هذا كسر أولها عند إسنادها للضمير ، وقد نقله الفراء ، ونقل أيضا ضمها. وهو يدل على أن أصل الياء فيها هو الضم لا الكسر.
واعترض على ذلك كله : بأن الياء لو كانت محركة في الأصل ، لكان
__________________
(١) الفوائد الضيائية : ٢٧٣.
(٢) المحصول ١ : ٣٩٥.
(٣) مغني اللبيب ١ : ٣٨٧.
(٤) القائل به هو : ابن السراج ، وتابعه الفارسي في الحلبيات وابن شقير وجماعة ، نقله عنهم في مغني اللبيب ١ : ٣٨٧.
يلزم انقلابها ألفا ، لتحركها ، وانفتاح ما قبلها.
ثم اختلفوا في معناها ، فقيل : إنها للنفي مطلقا (١). وقال الزمخشري : لا يصح نفيها للمستقبل. وقال جماعة : لا يجوز نفيها للماضي ، ولا للمستقبل ، الكائنين مع « قد » فلا تقول : ليس زيد قد ذهب ، ولا قد يذهب.
وذهب أبو علي الشلوبين إلى أنها لنفي الحال في الجملة التي لم تقيد بزمان ، وأما المقيدة به فإنها لنفي ما دل عليه التقييد. وصححه في « الارتشاف ».
ونحوه ذكر ابن هشام في المغني فجعلها لنفي الحال ، وتنفي غيره بالقرينة ، نحو : ليس خلق الله مثله (٢).
إذا علمت ذلك ، فمن فروع القاعدة :
ما إذا قال لولد يلحق به : ليس قد تولّدت مني. فعلى حمل النفي على الماضي أو الحال أو الشامل لهما وللمستقبل ، يكون نفيا ، تترتب عليه أحكامه ، وعلى القول بعدم نفيه للمقترن بقد ، لا يكون نفيا ، ولا يترتب عليه أثر ، والأقوى تحققه ، لدلالة العرف عليه ، مضافا إلى ما ذكره جماعة.
ومنها : ما لو قال : الشيء الفلاني لست أملكه ، ثم ادعاه وأقام به بينة ، فإنه مكذّب لها على الأقوال الأول ، فلا تسمع دعواه ولا بينته.
وعلى قول الشلوبين وأبي حيان إنما يفيد نفي الملك فيما دلّ عليه الفعل من الزمان ، وهو المستقبل ، فلا ينافي ملكه في الحال ، فيسمع.
ويحتمل قويا عدم السماع مطلقا ، لأن ملكه له في الحال يستلزم ملكه في الاستقبال المتصل به ، وهو زمن الدعوى ، استصحابا لحكم الملك السابق ، فيقع التنافي.
__________________
(١) حكاه في همع الهوامع ١ : ١١٥.
(٢) مغني اللبيب ١ : ٣٨٦.
قاعدة «١٤٧»
صيغة « تفاعل » وما تصرف منها كقولنا : تخاصم زيد وعمرو يتخاصمان تخاصما ، يدل على المشاركة ، أي وقوع الفعل من كل واحد.
ومن فروع القاعدة :
ما لو باع عينا لرجلين بألف ، بشرط أن يتضامنا ، فإنه يصح العقد ، ويلزم كل منهما أن يضمن صاحبه ؛ ولكن لا يفيد عندنا فائدة ، لانتقال ما على كل واحد منهما إلى ذمة الآخر ، فيبقى الأمر كما كان ، إلا أن يختلف ما على كل منهما قدرا أو صفة ، كالحلول والتأجيل ، فيفيد.
وعلى القول بأنه ضم ذمة إلى ذمة تتحقق الفائدة مطلقا ، لجواز مطالبة كل منهما بالمجموع. والشافعية مع ظهور الفائدة عندهم لقولهم بالضم ، منعوا اشتراط التضامن هنا ، من حيث إنّ اشتراط ضمان المشتري لغيره باطل عندهم ، لأنه شرط خارج عن مصلحة عقده ، بخلاف اشتراط ضمان غيره له.
قاعدة « ١٤٨ »
« استفعل » وما تفرع عليه ، كالمضارع والأمر ، يدل على طلب الفعل ، فإذا قيل : استعان فلان بغيره ، فمعناه : طلب منه الإعانة ، وكذا استطعم ونحوه.
وقد يخرج عن ذلك ، ويفيد صدور أصل الفعل ، ومنه قوله تعالى ( اسْتَوْقَدَ ناراً ) (١) أي أوقد.
__________________
(١) البقرة : ١٧.
ويتفرع على ذلك أمور :
منها : الاستعانة في الطهارة ، فإن مقتضاه على الغالب طلب الإعانة عليها ، فلا تكره الإعانة مطلقا ، كما إذا وقعت من غير طلب.
وتجيء على فرض وقوعها بمعنى الفعل الكراهة ؛ وهذا هنا هو الحق ، لأن الاستعانة ليست لفظ النصوص ، وإنما وردت بكراهة الاشتراك في العبادة ، مع أنّ المعين في بعضها كان مبتدئا بها ، فنهاه الإمام عنها معللا بالآية. وحينئذ فحمل كلام الفقهاء على أصل الإعانة أولى.
ويتفرع على ذلك أيضا : كراهة الفعل من كل من المعين والمتطهّر ، لأن النهي تعلق بإيقاع الفعل كيف كان ، وعلى الأول يحتمل عدم الكراهة في حق المعين ، لجعلهم المكروه هو الاستعانة لا الإعانة ؛ والأقوى الكراهة في حقه أيضا ، لأنه معين عليها ، كما تحرم الإعانة على المحرّم ، وإن لم يكن محرّما في الأصل على المعين ، كما لو باع بعد النداء من لا يخاطب بالجمعة للمخاطب بها ، لدخوله في عموم ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١).
ويمكن الفرق بأنّ هذا قد تناوله النهي الدال على التحريم ، وأما فاعل المكروه فلم يدخل في نهي الآية ، فيبقى على أصالة الإباحة.
ومنها : إذا حلف لا يستخدم فلانا ، فخدمه ، والحالف لم يطلب ذلك منه ، فإنه لا يحنث ، لأن مدلوله الأغلبي لم يوجد ، ويجيء على المثال النادر الحنث.
ولو طلب منه الخدمة ، فخدمه ، حنث. وإن لم يخدمه ، فمقتضى القاعدة الحنث أيضا ، لتحقق الطلب.
أما الإشارة من القادر على اللفظ ، فلا أثر لها ، لأن اسم الطلب لا يصدق
__________________
(١) المائدة : ٢.
عليها حقيقة ؛ ولو تعذر عليه النطق ، فأشار ، ففي حنثه وجهان.
ومنها : إذا قال صاحب الدين لغريمه : استوفيت منك ، أو قال أجنبي له : هل استوفيت من غريمك؟ فقال : نعم ، فمقتضى القاعدة أنه لا يكون إقرارا بالقبض ، لأن معناه طلب الوفاء ، لا حصوله ، ولعل الأقرب كونه إقرارا ، لقضاء العرف به ، مع عدم منافاة الطلب له.
ولكن هل يكون إقرارا باستيفاء جميعه ، أو ما هو أعم ، فيقبل قوله في استيفاء البعض؟ وجهان ، أجودهما قبوله في البعض ، حيث لا يدل اللفظ على غيره ، بأن قال : استوفيت مالي منه ، أو جميع مالي ، ونحوه.
وكذا الحكم لو لم يذكر السين بأن قال : أليس قد أوفيتك؟ فقال : بلى.
ولو قال السيد : استوفيت منه مال الكتابة ، أو ما كاتبته عليه ، أو قال البائع : قبضت ثمن مبيعي ، أو قال الموجر : استوفيت الأجرة ، أو أجرة بيتي ونحوه ، لم يقبل في البعض. وكذا لو قال : أوفيتك كذا ، فقال : نعم ، أو أليس أوفيتك؟ فقال : بلى.
ومنها : لو قال جاريتي هذه قد استولدتها ، أو هي مستولدتي ، ففي ثبوت الاستيلاد بذلك الوجهان. ولو ادعى موت الولد بعد ذلك ، فالأقوى عدم القبول ، لأصالة بقائه ، فيكلّف إثبات موته. ومثله ما لو ثبت الاستيلاد بأيّ وجه كان ، ثم ادعى موت الولد.
ومنها : ما ذكره الأصحاب من بطلان خيار المشتري بالتصرف على بعض الوجوه ، الّذي من جملته الاستعمال. فلو كان عبدا فخدمه وهو ساكت ، لم يمنع الرد ، لعدم صدق الاستعمال ، ولا التصرف. ولو طلبه منه ولم يفعل ، فمقتضى الاستعمال سقوط الخيار ، لصدقه بذلك ، وفيه نظر ، لأن ذلك ليس مدلول النص. ومن فروع إرادة أصل الفعل من الاستفعال : قولهم « يجب الاستقلال في القيام للصلاة » فإن المراد به الاستقلال به ، وهو
الاستبداد من غير معين ، لا طلبه.
قاعدة « ١٤٩ »
« رأى » يستعمل بمعنى « علم » ومنه قول الشاعر :
رأيت الله أكبر كل شيء |
|
محاولة وأكثرهم جنودا (١) |
أي : علمت.
وبمعنى « ظنّ » كقولهم : رأى فلان كذا ، أي أدّى اجتهاده إليه ، وغلب ظنه عليه. ومن ذلك إطلاق أهل الرّأي على الحنفية ، لاستعمالهم الأقيسة كثيرا.
إذا علمت ذلك ، فمن فروع القاعدة :
ما إذا قال لغيره : أنت تعلم أنّ العبد الّذي في يدي حر ، فإنا نحكم بعتقه ، لأنه قد اعترف بعلمه ، ولو لم يكن حرا ذلك الوقت لم يكن المقول له عالما بحريته.
ولو قال : أنت تظن أنه حر ، لم يحكم بعتقه ، لأنه قد يكون مخطئا في ظنه.
ولو قال : أنت ترى أنه حر ، احتمل العتق وعدمه ، لأن الرؤية تطلق على العلم والظن ، وحينئذ فلا يقع العتق للاحتمال. ويجيء على استعمال المشترك في جميع معانيه توجه الحكم بعتقه أيضا ؛ والأولى مراجعته في ذلك حيث يمكن ، وإلا لم يعتق.
وعلى قولهم « أنه لو قال : عبدي لزيد ، لم يصح الإقرار للتناقض » يجيء
__________________
(١) البيت لخداش بن زهير ، أحد بنى بكر بن هوازن ، وقد أورده ابن هشام في شرح قطر الندى : ١٧٠ رقم ٦٧ ، وابن عقيل رقم ١١٨.
بطلان الإقرار هنا أيضا ، لاستحالة وصفه بالعبودية والحرية.
ويندفع بإمكان حمله على أنه كان قبل ذلك حقيقة أو مجازا ، أو أنّ العبد الّذي ينسب إليّ ظاهرا حر في نفس الأمر.
ومثله ما لو قال : ثوبي أو بستاني وما شاكل ذلك لزيد ، والأقوى القبول في الجميع ، فإن الإضافة تصدق بأدنى ملابسة ، ككوكب الخرقاء وشهادة الله ، وحج البيت.
المقصد الثالث : في الحروف
وهي أقسام
الأول حروف الجر
قاعدة « ١٥٠ »
الباء الموحدة تقع للإلصاق ،. قيل : وهو معنى لا يفارقها ، فلهذا اقتصر عليه سيبويه (١). ثم الإلصاق حقيقي ، كأمسكت بزيد ، إذا قبضت على شيء من جسمه ، أو على ما يلبسه من ثوب ونحوه. ومجازي ، نحو مررت بزيد ، أي ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد.
وللاستعلاء ، نحو ( مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ ) (٢) الآية بدليل ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) (٣) ونحو ( وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ
__________________
(١) كما في مغني اللبيب ١ : ١٣٧ ، كتاب سيبويه ٤ : ٢١٧.
(٢) آل عمران : ٧٥.
(٣) يوسف : ٦٤.
يَتَغامَزُونَ ) (١) بدليل ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ ) (٢).
وللتبعيض ، إما مطلقا ، كما اختاره جماعة ، منهم الفارسي ، والقتيبي ، وابن مالك ، والكوفيون (٣) وجعلوا منه ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) (٤).
وقوله :
شربن بماء البحر ثم ترفعت
(٥) وقوله :
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
(٦) أو مع دخولها على المتعدي بنفسه ، كما اختاره جماعة من الأصوليين (٧). وبه فرّقوا بين مسحت المنديل ، ومسحت به.
وللسببية ، كقوله تعالى ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) ( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ ) ( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) (٨).
__________________
(١) المطففين : ٣٠.
(٢) الصافات : ١٣٧.
(٣) الألفية ( شرح السيوطي ) : ١٢٦.
(٤) الإنسان : ٦.
(٥) هو لأبي ذؤيب الهذلي يصف سحبا ، وتمام البيت : « متى لجج خضر لهن نئيج » ، ومعنى البيت : أن السحب شربت من ماء البحر وارتفعت من لجج خضر ولهن نئيج ، يعني لهن سرعة وصوت. والبيت في ديوان الهذليين ١ : ٥١.
(٦) هذا البيت منسوب إلى جميل بثينة ، وينسب إلى عمر بن أبي ربيعة وعبيد بن أوس ، وصدره : « فلثمت فاها آخذا بقرونها » ومعنى البيت : أنه لثم فاها وهو ماسك بشعرها لثما كشرب النزيف أي العطشان من ماء الحشرج ، أي الحفرة في الجبل يجتمع فيها الماء ، والبيت في ديوان جميل بثينة : ٤٢.
(٧) منهم الرازي في المحصول ١ : ١٦٧ ، وأبو الحسين في المعتمد ١ : ٣٣.
(٨) النساء : ١٦٠ ، البقرة : ٥٤ ، العنكبوت : ٤٠ بالترتيب.
وللظرفية ، بمعنى « في » كقوله تعالى ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ) ( نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ) ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ ) (١) أي وفي الليل.
إذا علمت ذلك فمن فروعه :
الاكتفاء في مسح الرّأس في الوضوء ببعضه ، كما اختاره أصحابنا ، حملا للباء على التبعيض ، إما للنص عليه عندنا ، كما ورد مصرحا في خبر زرارة (٢). أو لدخولها على المسح المتعدي بنفسه ، أو مطلقا على مذهب جماعة. أو لاشتراكها بين معان منها التبعيض ، فيجوز الاقتصار على مسح البعض ، لأصالة عدم وجوب الزائد.
وقيل : إنّ الباء هنا للإلصاق (٣) ، وهو لا ينافي التبعيض ، مضافا إلى الأصل ، مع أنه لا منافاة بين الإلصاق والتبعيض ، كما لا منافاة بينه وبين غيره من المعاني كما سبق.
ومنها : إذا قال : إن عصيت بسفرك فأنت عليّ كظهر أمي ، أو قال لعبده : ضربتك كذا ، فينظر إن أراد أحد الأمرين الأخيرين ، ترتب الحكم عليه ، وإن تعذر معرفة إرادته أو أطلق ، فالمتجه أنّ الحكم لا يترتب على أحدهما فقط ، لجواز إرادة الآخر ، أو لأنه أعم منه ، فلا يحمل عليه بغير قرينة ، ولأصالة البراءة.
ومن هنا يعلم أنّ قول الأصحاب : إن العاصي في سفره يترخص ، دون العاصي بسفره ، إنما يستقيم على أن يريدوا بالباء السببية ، لا الظرفية ، فما احترزوا عنه وفرّوا منه لم يتم معهم مطلقا.
__________________
(١) آل عمران : ١٢٣ ، القمر : ٣٤ ، الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨ بالترتيب.
(٢) الكافي ٣ : ٣٠ حديث ٤ ، ١ ، الفقيه ١ : ٥٦ حديث ٢١٢ ، وسائل الشيعة ١ : ٢٩٠ أبواب الوضوء باب ٢٣ حديث ١.
(٣) مغني اللبيب ١ : ١٤٣.
قاعدة «١٥١»
« من » تستعمل لمعان ، منها : الابتداء ، وهو الغالب عليها ، حتى ادعى جماعة أنّ سائر معانيها راجعة إليه (١). ويقع في غير الزمان نحو ( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) (٢) و ( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ) (٣).
وقال الكوفيون وجماعة (٤) : وفي الزمان أيضا ، كقوله تعالى ( مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) (٥) وفي الحديث : « مطرنا من الجمعة إلى الجمعة » (٦).
ومنها : التبعيض ، كقولك : أخذت من الدراهم. ويعرف بصلاحية إقامة صيغة « بعض » مقامها ، فتقول في المثال : أخذت بعض الدراهم ؛ ومنه ( حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (٧) وقرأ ابن مسعود : حتى تنفقوا بعض ما تحبون (٨).
ومنها : بيان الجنس ، وكثيرا ما تقع بعد « مهما » و « ما » وهما بها أولى ، لإفراط إبهامهما ، نحو ( ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ) ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ( مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ ) (٩) وهي ومخفوضها في ذلك في موضع نصب على الحال.
__________________
(١) منهم الفيروزآبادي في القاموس ٤ : ٢٧٥ ، وحكاه في المغني ١ : ٤١٩.
(٢) « سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى » الإسراء : ١.
(٣) « إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » النمل : ٢٩.
(٤) حكاه في مغني اللبيب ١ : ٤١٩ ، والإنصاف ١ : ٣٧.
(٥) « لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ » التوبة : ١٠٨.
(٦) صحيح البخاري ٢ : ٣٦ كتاب الاستسقاء.
(٧) آل عمران : ٩٢.
(٨) الكشاف ١ : ٣٨٥.
(٩) فاطر : ٢ ، البقرة : ١٠٦ ، الأعراف : ١٣١ بالترتيب.