تمهيد القواعد

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

تمهيد القواعد

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-022-7
الصفحات: ٦٤٨

أهل الكتاب ، فيتوقف ثبوته في حقنا على استمرار حكمه. وربما قيل هنا بثبوت الحكم وإن لم تثبت القاعدة ، لتعقبه بقوله ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) فقد قيل في تفسيره : إن المراد بها الثابتة في جهة الصواب بحيث لم تنسخ.

فائدة

تصرّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعلا وقولا : تارة بالتبليغ ، وهو الفتوى ؛ وتارة بالإمامة ، كالجهاد والتصرّف في بيت المال ؛ وتارة بالقضاء ، كفصل الخصومة بين المتداعيين بالبينة أو اليمين أو الإقرار. وكل تصرف في العبادة فإنه من باب التبليغ.

وقد ورد التردد في مواضع بين القضاء والتبليغ :

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (١) فقيل : تبليغ وإفتاء ، فيجوز الإحياء لكل أحد ، وإن لم يأذن له الإمام (٢).

وقيل : تصرّف بالإمامة ، فلا يجوز الإحياء إلا بإذن الإمام ، وهو قول أكثر الأصحاب (٣).

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين قالت له : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني ، فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خذي لك ولولدك

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٣٩ كتاب الحرث ، مختصر سنن أبي داود ٤ : ٢٦٥ باب في إحياء الموات ، الموطأ ٢ : ٧٤٣ كتاب الأقضية حديث ٢٦ ، وفي الكافي ٥ : ٢٧٩ باب في إحياء أرض الموات حديث ٤ ، التهذيب ٧ : ١٥٢ حديث ٦٧٣ ، والاستبصار ٣ : ١٠٨ حديث ٣٨٢ ، الوسائل ١٧ : ٣٢٧ ، كتاب إحياء الموات باب ١ حديث ٥ ، مواتا بدل ميتة.

(٢) الشرح الكبير ٦ : ١٥١ ، ونقله عن الشافعي وأبي يوسف ومحمد ، شرح الكرماني ١٠ : ١٥٩ كتاب الحرث ، معالم السنن ٤ : ٢٦٥.

(٣) المبسوط ٣ : ٢٧٠ ، ٢٩٥ ، شرائع الإسلام ٣ : ٧٩١ ، قواعد الأحكام ١ : ٢١٩ ، تحرير الأحكام : ١٢٩.

٢٤١

ما يكفيك بالمعروف » (١) فقيل : إفتاء ، فتجوز المقاصّة للمسلّط بإذن الحاكم وبغير إذنه (٢). وقيل : تصرف بالقضاء ، فلا يجوز الأخذ إلا بقضاء قاض (٣).

وأغلبية تصرّفه بالتبليغ يرجّح الأول ، ترجيحا للغالب على النادر. ويشترط (٤) إذنه في الإحياء بدليل خارج على تقدير ترجيح هذا الغالب.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قتل قتيلا فله سلبه » (٥) فقيل : فتوى ، فيعمّ ، وهو قول ابن الجنيد (٦).

وقيل : تصرّف بالإمامة ، فيتوقف على إذن الإمام (٧).

وهو أقوى هنا ، لأن القصة في بعض الحروب ، فهي مختصة بها.

ولأن الأصل في الغنيمة أن تكون للغانم ، لقوله تعالى ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) (٨) الآية ، فخروج السلب منه ينافي ظاهرها.

ولأنه كان يؤدي إلى حرصهم على قتل ذي السلب دون غيره ،

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٥٤٩ كتاب الأقضية باب ٤ حديث ٧ « بتفاوت يسير » ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٦٩ حديث ٢٢٩٣ ، عوالي اللئالي ١ : ٤٠٣ حديث ٥٩.

(٢) المغني لابن قدامة ٩ : ٢٤٥ ، شرح مسلم ( إرشاد الساري ) ٧ : ٢٦٣.

(٣) جعله أحد وجهي أصحابه في شرح مسلم ( إرشاد الساري ) ٧ : ٢٦٣.

(٤) في « ح » : واشتراط.

(٥) صحيح البخاري ٦ : ١١٢ باب فرض الخمس ، صحيح مسلم ٤ : ٢١ كتاب الجهاد والسير حديث ٤١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٤٧ حديث ٢٨٣٨ ، الموطأ ٢ : ٤٥٤ كتاب الجهاد حديث ١٨ ، ١٩.

(٦) نقله عنه في تحرير الأحكام ١ : ١٤٤.

(٧) شرائع الإسلام ١ : ٢٤٩ ، الشرح الكبير لابن قدامة ١٠ : ٤٥٣.

(٨) الأنفال : ٤١.

٢٤٢

فيختل نظام المجاهدة.

ولأنه ربما أفسد الإخلاص المقصود من الجهاد.

ولا يعارض بالاشتراط ، لأن ذلك إنما يكون عند مصلحة غالبة على هذه العوارض.

٢٤٣

الباب الثامن في الأخبار

مقدمة :

المركّب التام ـ وهو المفيد فائدة يحسن السكوت عليها ـ إن احتمل التصديق والتكذيب فهو : الخبر ، والقضية ، والقول الجازم.

وإن لم يحتملهما ، فهو الإنشاء ، وهو جنس للأمر ، والنهي ، والقسم ، والتمنّي ، والترجي ، والعرض ، والدعاء ، والنداء. وقد ظهر الفرق بينه وبين الخبر من التقسيم.

ويفرّق بينهما أيضا : بأن الإنشاء يوجد مدلوله في نفس الأمر ، والخبر تقرير لا إيجاد ؛ وأنّ الإنشاء سبب لمدلوله ، والخبر ليس كذلك. ويلزمه أن يتبعه مدلوله ، بخلاف الخبر ، فإنه تابع لمدلوله ، بمعنى أنه تابع لتقرره في زمانه ، ماضيا كان أم حاضرا أم مستقبلا ؛ لا أنه تابع لمخبره في وجوده ، وإلا لم يصدق إلا في الماضي ، فإن الحاضر مقارن ، فهو مساو في الوجود ، والمستقبل وجوده بعد الخبر ، فكان متبوعا لا تابعا.

ثم الخبر يكفي فيه الوضع الأصلي ، والإنشاء قد يكون منقولا عن وضعه كما في صيغ العقود والإيقاعات ، فإن الصحيح أنها منقولة عن الخبر إلى الإنشاء ، لئلا يلزم الكذب ، أو توقف كل صيغة على أخرى فيتسلسل.

٢٤٤

وقال بعض الأصوليين : هي إخبار عن الوضع اللغوي ، والشرع مقدم مدلولاتها قبل النطق بها بآن ، لضرورة صدق المتكلم بها ، والإضمار أولى من النقل. وهو مع ندوره تكلّف.

قاعدة « ٩٠ »

الخبر ـ كما عرفت ـ هو الكلام الّذي يحتمل التصديق والتكذيب ، كقولنا : قام زيد ، ولم يقم.

وإنما عدلنا عن الصدق والكذب إلى ما ذكرناه ، لأن الصدق مطابقة الخبر للواقع ، والكذب عدم مطابقته ، ونحن نجد من الأخبار ما لا يحتمل الكذب ، كخبر الله تعالى وخبر رسوله ، وقولنا : محمد رسول الله ؛ وما لا يحتمل الصدق ، كقول القائل : مسيلمة رسول الله ، مع أن كل ذلك يحتمل التصديق والتكذيب ، لأن التصديق هو كونه يصح من جهة اللغة أن يقال لقائله : صدق ، وكذلك التكذيب. وقد وقع ذلك ، فالمؤمن صدّق خبر الله وخبر رسوله وكذّب مسيلمة ، والكافر بالعكس ؛ مع أن التعبير بالصدق والكذب يحتمل التأويل أيضا بكونه يحتملهما باعتبار شخص ما ، ولو كان سوفسطائيا ، أو أنه يحتمله بحسب نوعه ، أو باعتبار أنه ثبوت شي‌ء لشي‌ء مع قطع النّظر عن مخبره ، وغيره من الأحوال الخارجة عنه ، ونحو ذلك.

إذا تقرر ذلك فمن فروع القاعدة :

ما إذا قال لزوجاته : من أخبرتني بقدوم زيد فهي عليّ كظهر أمي ، فأخبرته إحداهن بذلك كاذبة ، وقع الظهار.

ومنها : ـ وهو مشكل على القاعدة ـ ما لو قال : من أخبرني بموت زيد أو

٢٤٥

بقدومه فله علي كذا ، على وجه الجعالة أو النذر ، فأخبره مخبر بذلك كاذبا ، فمقتضى القاعدة اللزوم.

ولكن يشكل بأن ظاهر حاله إرادة الخبر الصادق ، ليترتب عليه سروره وحصول غرضه ، وهو لا يحصل بالكاذب.

والأمر في النذر سهل ، لأنه يتخصّص بالنية والقصد ، أما الجعالة فيتعارض فيها الأصل والظاهر.

ومنها : ـ ما أطلقوه وهو مشكل على القاعدة أيضا ـ ما إذا قال : إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة قبل كسرها فأنت علي كظهر أمي ، ولم يقصد معرفة الّذي فيها على التمييز ، قالوا : فالخلاص أن تذكر عددا تعلم أن الرمانة لا تنقص عنه ، ثم تزيد واحدا فواحدا ، حتى تبلغ ما تعلم أنها لا تزيد عليه.

وعلى القاعدة لا يفتقر إلى ذلك ، بل يكفي في تخلّصها إخبارها بأي شي‌ء اتفق ، لأن غايته أن يكون كذبا ، والخبر يصدق مع الكذب.

ومنها : ما لو قال لثلاث : من لم تخبرني بعدد ركعات فرائض اليوم والليلة فهي عليّ كظهر أمي ، فقالت واحدة : سبع عشرة ، وأخرى : خمس عشرة ، وثالثة : إحدى عشرة ، تخلّصن عن تعليقه ، لأن الأول المعروف ، والثاني ليوم الجمعة ، والثالث للمسافر ، كذا قال جماعة من الفضلاء (١). وفيه ما سبق.

وإنما يتمّان لو أراد الخبر المطابق ، لا مطلق الخبر ، ولعلّهم أرادوا ذلك ، بقرينة ما اعتبروه في الجواب ، وإلا لكفى في التخلص إخبارهن بأيّ عدد اتفق.

وقد تقدّم في هذا المثال بحث في باب المفرد المضاف والمحلى فراجعه ثمّ (٢).

__________________

(١) التمهيد : ٤٤٤.

(٢) قاعدة ٥٦.

٢٤٦

قاعدة «٩١»

المحققون على أنّ الخبر إما صدق أو كذب ، والصدق هو المطابق للواقع ، والكذب غير المطابق.

وجعل الجاحظ بينهما واسطة ، فقال : الصدق هو المطابق مع اعتقاد كونه مطابقا ، والكذب هو الّذي لا يكون مطابقا مع اعتقاد عدم المطابقة ؛ فأما الّذي ليس معه اعتقاد فإنه لا يوصف بصدق ولا كذب ، مطابقا كان أم غير مطابق (١). فالقسمة عنده ثلاثية.

واستند في ذلك إلى قوله تعالى ( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (٢) حيث حصر المشركون دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون ، بمعنى امتناع الخلو ، وليس إخباره حال الجنون كذبا ، لجعلهم الافتراء في مقابلته ، ولا صدقا ، لأنهم لم يعتقدوا صدقه ، فيكون قسما ثالثا.

وأجيب : بأن الافتراء هو الكذب عن عمد ، فهو نوع من الكذب ، فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا ، لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب ، وهو الكذب لا عن عمد ، فيكون التقسيم للخبر الكاذب أو للخبر مطلقا ، والمعنى : أفترى أم لم يفتر ، وعبّر عن الثاني بقوله ( أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) لأن المجنون لا افتراء له.

إذا عرفت ذلك ، فمن فروع القاعدة :

ما لو قال : إن شهد شاهدان بأن عليّ كذا فهما صادقان ، فإنه يلزمه الآن

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الأحكام ٢ : ١٧.

(٢) سبأ : ٨.

٢٤٧

على القولين معا ، لأنا قد قررنا أنّ الصدق هو المطابق للواقع ، وإذا كان مطابقا على تقدير الشهادة لزم أن يكون ذلك عليه ، لأنه يصدق كلما لم يكن ذلك على تقدير الشهادة ، لم يكونا صادقين ، لكنه قد حكم بصدقهما على تقديرها ، فيكون ذلك عليه الآن.

ومثله لو قال : إن شهد عليّ شاهد ، إلى آخره.

وليس كذلك لو قال : إن شهد فلان عليّ بكذا فهو صادق. وإن صدق الدليل المذكور ، لأن الشخص المعيّن يجري عليه عرفا ما لا يجري على الشاهد مطلقا ، لجواز أن يعتقد المقرّ استحالة شهادته بذلك لاعتقاده صدقه ، وأنه بري‌ء من المذكور.

ومثل ذلك في المحاورات واقع كثيرا ، يقول أحدهم : إن شهد فلان أني لست لأبي فهو صادق ، ولا يريد به صدقه في هذا الخبر ، بل استحالة نطقه بالخبر ، لاعتقاده صدقه.

وهذا لا يجري في مطلق الشاهدين ، بل الشاهد الواحد المطلق ، لأن الإنسان لا يعتقد في جميع الشهود أنهم لا يشهدون إلا صدقا ، وإنما يجري في المعيّن.

قاعدة « ٩٢ »

الخبر المحفوف بالقرائن يفيد العلم ، وإن لم يفده بدونها ، كمن يخبر عن مرضه عند الحكيم ، ونبضه ولونه يدلان عليه. وكذا من يخبر عن موت أحد والنياح والصياح في بيته ، وكنّا عالمين بمرضه. وأمثال ذلك كثير.

وهل الإفادة من القرائن ، أو منها ومن الأخبار؟ وجهان.

وتظهر الفائدة : فيما لو دلّت القرائن على شي‌ء من غير خبر ، ولعل الأول أظهر.

٢٤٨

ومن فروع القاعدة :

جواز أكل الضيف بتقديم الطعام من غير إذن ، والتصرف في الهدية من غير لفظ ، والشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع والعري في الخلوة ، والقبول من الصبي المميز في الهدية ، وفتح الباب.

وفي رجوع بعض هذه إلى القاعدة نظر ، لأنها إنما تستفاد من الظن الغالب لا العلم.

وقد اختلف الأصوليون والمحدّثون في قبول خبر الصبي الّذي لم يجرّب عليه كذب. والأصح عندهم عدم القبول ، إلا أن تحتف به القرائن كما ذكر ، أو يكون ذا يد على ما يخبر بطهارته أو تنجيسه ، أو يخبر بأن مثل هذا المرض يبيح التيمم أو الفطر ، أو مخوّف يقتضي كون التصرفات من الثلث على القول بأنه الضابط ، فيقبل من حيث إنّ ضابط ذلك الظن الغالب كيف اتفق ، وأن ذا اليد قوله مقبول فيما في يده كذلك.

ومن هذا الباب إخبار غير العدل من المكلّفين بما ذكر؟ لأن شرط المخبر العدالة ، كما يشترط فيه البلوغ والعقل ؛ ولكن هذه الموارد خرجت بدليل آخر.

٢٤٩
٢٥٠

المقصد الثالث في الإجماع

وهو اتفاق المجتهدين من أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على حكم ، وهو حجة عند العلماء إلا من شذ.

واختلفوا في مدرك حجيته ، فالجمهور على أنه للآية (١) والرواية (٢) ، والخاصة على أنه دخول المعصوم فيهم.

وتظهر الفائدة فيما لو خالف غيره من المجتهدين ، فإنه لا يقدح في حجية ما وافق هو عليه عند الخاصة ، لأن العبرة بقوله ؛ لكن يصدق معه أن الإجماع حجة وإن لم يكن من حيث هو إجماع.

ومن هنا نسب بعضهم إلينا القول بأن الإجماع ليس بحجة (٣)

__________________

(١) وهي قوله تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) النساء : ١١٥ ، وقوله تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ ). البقرة : ١٤٣.

(٢) الروايات التي تمسكوا بها كثيرة منها « أمتي لا تجتمع على خطأ » ، و « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » و « لا تجتمع أمتي على ضلالة » ، و « يد الله مع الجماعة » ، و « سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على الضلالة فأعطيتها » ، وغيرها.

(٣) منهم الرازي في المحصول ٢ : ٨ ، وصاحبا مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت٢ : ٢١٣ ، المطبوع مع المستصفى للغزالي.

٢٥١

وليس بصحيح ، وإنما الاختلاف في الحقيقة.

وعند الجمهور تقدح مخالفة غير النادر ، واختلفوا فيه على أقوال محرّرة في الأصول.

وفرّع أصحابنا ـ على ما وجّهوه من حجية الإجماع ـ كون إجماعهم خاصة حجة مع عدم تمييز المعصوم فيهم بعينه.

وعليه لو قدّر مخالفة واحد أو ألف معروفي النسب فلا عبرة بهم. ولو كانوا غير معروفين قدح ذلك في الإجماع. وفي هذا كله عندي نظر قد حققته في محل مفرد.

ولا يخفى ما يتفرع عليه في تضاعيف الفقه من المسائل الخلافية ، وهي أكثر من أن تحصى ، بل هذا من أهم الأصول التي تبتني عليها الأحكام.

وكلامهم فيه غير منقّح ، ومذاهبهم فيه مختلفة جدا لمن استقرأ كلامهم.

قاعدة « ٩٣ »

إذا قال بعض المجتهدين قولا وعرف به الباقون فسكتوا عنه ولم ينكروا عليه ، فالحق عندنا أنه لا يكون حجة ولا إجماعا ؛ لأن السكوت أعم من الرضا به ، وجاز أن يكون سكوته لتوقفه في المسألة ، أو ذهابه إلى تصويب كل مجتهد ، أو الخوف ، أو غيرها. ومن وجيز العبارة قولهم : لا ينسب إلى ساكت قول (١).

وفي المسألة للأصوليين مذاهب :

منها : أن يكون حجة وإجماعا مطلقا (٢).

__________________

(١) حكاه عن الشافعي في المستصفى١ : ١٩١ ، والمحصول ٢ : ٧٥.

(٢) نقله عن الجبائي في المحصول ٢ : ٧٤.

٢٥٢

ومنها : أنه حجة لا إجماع ، لأن الظاهر الموافقة. اختاره الآمدي ووافقه ابن الحاجب في المختصر الكبير (١). وأما في المختصر الصغير فإنه جعل اختياره محصورا في أحد مذهبين ، وهما القول بكونه إجماعا ، والقول بكونه حجة (٢).

ومنها : أنه مع انقراض العصر ، أي موت الساكتين ، يتبين أنه إجماع ، لأن استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعّف الاحتمال (٣).

وفصّل خامس فقال : إن كان ذلك في غير عصر الصحابة فلا أثر له. وإن كان في عصرهم ، فإن كان فيما يفوت استدراكه ، كإراقة الدم واستباحة الفرج ، فيكون إجماعا ، وإن كان فيما لا يفوت ، كأخذ الأعيان ، كان حجة (٤).

وفي كونه إجماعا حتى يمتنع الاجتهاد وجهان.

إذا تقرر ذلك فللقاعدة فروع :

منها : إذا أتلف شيئا ومالكه ساكت يلزمه الضمان.

ومنها : إذا حضر المالك عند الفضولي وسكت ، فإنه لا يكون إجازة.

وكذا سكوت البائع على وطء المشتري في مدة خياره.

ومنها : إذا قال في ملأ من الناس عن رجل معيّن : هذا عدل ، ولم ينكر عليه أحد ، لم تثبت عدالته بذلك عندنا ، خلافا لأبي حنيفة ، سواء كان القائل عدلا أم فاسقا (٥).

ومنها : إذا استلحق بالغا بنفسه ، بأن قال : هذا ولدي ، فسكت ، فإنه لا يلحقه ، بل لا بد من تصريحه بالتصديق. وقيل : يكفي هنا السكوت ، اختاره

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٥ ، منتهى الوصول : ٤٢ ، وهو المختصر الكبير.

(٢) شرح المختصر لعضد الدين ١ : ١٣٤.

(٣) نقله عن أبي علي من المعتزلة في المعتمد ٢ : ٦٦ ، وهو منقول عن البدنيجي من الشافعية.

(٤) نقله عن الماوردي والروياني في التمهيد : ٤٥٣.

(٥) أصول السرخسي ١ : ٣٧٠.

٢٥٣

الشيخ رحمه‌الله (١).

ومنها : إذا استدخلت المرأة المولى منها ذكر الزوج لم تنحلّ يمينه بذلك ، وهل تحصل به الفيئة ويرتفع حكم الإيلاء؟ وجهان.

وبقي أمور مخالفة لحكم القاعدة بدليل خارج :

منها : ما إذا (٢) استؤذنت البكر فسكتت ، فإنه يكفي على الصحيح ، للنص (٣) ، بخلاف غيرها. وينبغي تقييده بعدم ظهور أمارة الكراهة منها.

ومنها : ما إذا أخرج أحد المتبايعين من المجلس مكرها ، فإن منع من الفسخ بأن سدّ فمه ، لم ينقطع خياره ؛ وإن لم يمنع انقطع. ويمكن إخراج هذا من القاعدة ، من حيث إنّ المبطل لخياره حينئذ استصحاب حكم العقد ، وتحقق المفارقة الموجبة للزوم.

ومنها : ما لو حلق المحلّ رأس المحرم مع قدرته على الامتناع ، فالسكوت فيه موجب للكفارة ؛ ولو كان مكرها أو نائما فلا.

وأمور أخر مشكلة :

منها : إذا فعل مع الصائم ما يقتضي الإفطار ، بأن طعن جوفه ، وكان قادرا على دفعه ، فلم يفعل ، ففي فطره وجهان : من قدرته ، وعدم فعله.

ومثله ما إذا نزلت النخامة إلى الباطن ، وكان قادرا على مجّها ، فتركها حتى جرت بنفسها.

ومنها : إذا زوّج صغيرة بصغير ، ثم دبّت الزوجة فارتضعت من أم

__________________

(١) فتح العزيز١١ : ١٨٨ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٦٨٤.

(٢) في « د » زيادة : قال.

(٣) الكافي ٥ : ٣٩٤ باب استيمار البكر حديث ٨ ، الوسائل ١٤ : ٢٠٦ أبواب عقد النكاح باب ٥ حديث ١ ـ ٣.

٢٥٤

الزوج رضاعا محرّما ، وكانت الأم مستيقظة ساكتة ، فهل يحال الرضاع على الكبيرة لرضاها ، أم لا لعدم فعلها كالنائم؟ وجهان. وتظهر الفائدة في لزوم المهر.

ومنها : إذا حلف لا يدخل الدار ، فحمل بغير أمره ، وكان قادرا على الدفع ، فهل هو كدخوله مختارا؟ وجهان.

ومنها : إذا ادّعى رقّ شخص بالغ في يده وباعه ، ولم يصرّح الشخص له بالملك ولا بعدمه ، فهل يكون اعترافا بملكه؟ وجهان.

وعلى التقديرين يجوز الإقدام على شرائه عملا بالظاهر ، من أن الحر لا يسترق. ويحتمل عدم جواز شرائه حتى يصرّح بأنه مملوك.

ومنها : إذا نقض بعض المشركين الهدنة ، وسكت الباقون ، فلم ينكروا على الناقضين بقول ولا فعل ، ففي انتقاض عهدهم بذلك وجهان.

وإن أنكروا بالفعل أو القول ، بأن بعثوا إلى الإمام بأنا مقيمون على العهد ، لم ينتقض عهدهم.

مسألة :

إذا اختلف أهل العصر على قولين ، جاز بعد ذلك حصول الاتفاق منهم على أحد القولين ، ويكون حجة ، خلافا للصيرفي (١).

وادّعى بعضهم أنّ هذا الإجماع أقوى من إجماع لم يتقدمه خلاف ، لأنه يدل على ظهور الحق بعد التباسه (٢).

وهذه المسألة لم يذكرها أصحابنا في كتب الأصول كغيرهم ، وهي قليلة الجدوى على أصولنا ، لأن العبرة إذا كانت بقول المعصوم ، فلا أثر لقول من خالفه أولا ، ولا لمن وافقه ثانيا. وفرضها في اتفاق جماعة غير منحصرين بعد

__________________

(١) نقله عنه في المحصول ٢ : ٦٦. ومنهاج الوصول ( الابتهاج ) : ١٩٩.

(٢) حكاه الماوردي والروياني كما في التمهيد : ٤٥٨.

٢٥٥

اختلافهم كذلك بعيد.

وعلى هذا فلو اختلفوا ، ثم ماتت إحدى الطائفتين أو ارتدّت ـ والعياذ بالله تعالى ـ فإنه يصير قول الباقين إجماعا ، لكونه قول كل الأمة.

إذا عرفت ذلك فمن فروع المسألة :

ما إذا مات وخلّف ولدين ، فأقرّ أحدهما بثالث ، وأنكر الآخر ، ثم مات المنكر ولم يخلّف وارثا غير الأخ ، فإن المقرّ به يشاركه في النصف ، لانحصار الإرث في المقرّ.

قاعدة « ٩٤ »

إذا أجمعوا في شي‌ء على حكم ، ثم حدث في ذلك الشي‌ء المجمع عليه صفة ، جاز الاجتهاد فيه بعد حدوث الصفة.

وقيل : لا يجوز ، بل يستصحب الإجماع قبل الصفة بعدها ، ويمتنع الاجتهاد (١).

ومن فروعها :

جواز الاجتهاد في بطلان التيمم وعدمه بقدرة المتيمم على استعمال الماء بعد دخوله في الصلاة ، مع أنهم أجمعوا على بطلان التيمم برؤية الماء قبل الشروع في الصلاة.

والأصح عندنا عدم بطلانها ، وهو موافق للقاعدة.

__________________

(١) أصول السرخسي ٢ : ١١٦ ، ونقله عن داود في التمهيد : ٤٥٩.

٢٥٦

المقصد الرابع في القياس

مقدمة :

الاستدلال إما من الكلي على الجزئي ، وهو القياس عند المنطقيين ؛ أو من الجزئي على الجزئي ، وهو القياس عند الفقهاء ؛ أو من الجزئي على الكلي ، وهو الاستقراء.

وحاصل القياس المبحوث عنه هنا : تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لعلة متحدة فيهما ، كما يقال : النبيذ حرام كالخمر ، لاشتراكهما في علة الحرمة وهي الإسكار ، وكل واحد منهما جزئي للمسكر.

ثم العلة إن كانت منصوصة ، فالعمل به جائز على أصح القولين عندنا ، وإن كانت مستنبطة لم يجز.

والنص الدال عليها ، إما أن يكون قطعيا في دلالته عليها ، مثل : لعلة كذا ، أو لسبب كذا ، ومن أجل كذا.

أو ظاهرا ، مثل : لكذا ، أو بكذا ، أو أنه كذا. كما في قوله تعالى ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) (١).

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

٢٥٧

وقوله تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ ) (١)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الهرّة : « إنها من الطّوافين عليكم » قال ذلك لما امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب ، فقيل له : إنك تدخل بيت فلان وعنده هرة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنها ليست بنجسة » إلى آخره (٢).

أو بالإيماء ، كما إذا وقع جوابا عن السؤال ، كما لو قيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفطرت في شهر رمضان ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليك الكفارة ، فإنه يفيد ظن وجوب الكفارة للإفطار.

وكتقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله على وصف الشي‌ء المسئول عنه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر : « أينقص إذا جف؟ » قيل : نعم ، قال : « فلا إذن » (٣) ففهم منه أنّ النقص بسبب الجفاف علة الحكم ، ونحو ذلك.

إذا عرفت ذلك فمما يتفرع عليه :

المنع من بيع العنب بالزبيب ، وكل رطب بيابسه ، للعلة المومى إليها. ووجوب غسل الجنابة لغيره ، لقول الصادق عليه‌السلام لما سئل عن المرأة الجنب تريد الاغتسال فيأتيها الحيض وهي في المغتسل : « قد جاءها ما يفسد الصلاة ، فلا تغتسل » (٤) ففي قوله « قد جاءها ما يفسد الصلاة » إيماء إلى أنّ غسل الجنابة إنما وجب لأجل الصلاة ، فإذا لم تجب عليها الصلاة لم يجب عليها الغسل.

__________________

(١) الأنفال : ١٣.

(٢) سنن النسائي ١ : ٥٥ باب سؤر الهرّة ، سنن ابن ماجة ١ : ١٣١ حديث ٣٦٧.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٦١ حديث ٢٢٦٤ ، سنن النسائي ٧ : ٢٦٨ باب اشتراء التمر بالرطب ، الموطأ ٢ : ٦٢٤ كتاب البيوع حديث ٢٢.

(٤) الكافي ٣ : ٨٣ باب المرأة ترى الدم وهي جنب حديث ١ ، التهذيب ١ : ٣٧٠ حديث ١١٢٨ ، وفي ص ٣٩٥ حديث ١٢٢٤ ، الوسائل ٢ : ٥٦٥ أبواب الحيض باب ٢٢ حديث ١.

٢٥٨

مسألة :

اختلف مجوز والقياس مطلقا في جوازه في الحدود والكفارات والتقديرات والرخص.

فجوّزه الشافعية فيها (١) ، ومنعه الحنفية (٢).

فمن فروع الحدود :

إيجاب قطع النبّاش (٣) ، قياسا على السارق ؛ والجامع أخذ مال الغير خفية.

ومن فروع الكفارات :

إيجابها على قاتل النّفس عمدا ، قياسا على المخطئ ، لأنه هو المنصوص في الآية (٤).

وإيجابها بالإفطار بالأكل قياسا على الوقاع ؛ بجامع الإفساد.

وبقتل الصيد خطأ ، قياسا عليه عمدا ، المقيّد به النص ، قال تعالى ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) (٥).

ومن فروع المقدّرات :

إجزاء نزح دلو واحد في الفأرة إذا كان يسع عشرين دلوا.

وذكروا للرخص فروعا :

منها : جواز التداوي بغير أبوال الإبل من النجاسات ما عدا الخمر الصرف على أصحّ القولين عندهم ؛ وأصل الخلاف أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الجماعة الذين قدموا المدينة فمرضوا فيها أن يخرجوا إلى إبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في البادية ، ويشربوا من

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٤ : ٦٤.

(٢) فواتح الرحموت٢ : ٣١٧ ، أصول السرخسي ٢ : ١٦٣.

(٣) أي : قطع يد النبّاش الّذي ينبش القبور ويسرق الأكفان.

(٤) ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) الآية ( النساء : ٩٢ ).

(٥) المائدة : ٩٥.

٢٥٩

أبوالها وألبانها ، فشربوا فصحوا (١). فشربهم للأبوال رخصة ، جوّز لأجل التداوي عند القائل بالنجاسة.

ومنها : إذا صلى صلاة شدة الخوف ، فمشى في أثنائها ، واستدبر القبلة للحاجة إليه ، لم تبطل صلاته ، لورود النص بذلك (٢). فلو ضرب ضربات متوالية أو ركب وحصل من ركوبه فعل كثير فقيل : تبطل ، لأن النص ورد في هذين ، فلا يقاس عليهما غيرهما ، لأن الأصل في الفعل الكثير هو البطلان (٣) وقيل : لا تبطل ، قياسا على ما ورد (٤).

ومنها : أنه ورد الحديث الصحيح بجواز الصوم عن الميت (٥) ، مع أنّ القاعدة امتناع النيابة في الأفعال البدنية ، فاختلفوا في تعديته إلى الصلاة والاعتكاف ، فالأكثر على منعه.

ونقل النوويّ في « شرح مسلم عن جماعة من العلماء أنه يصل إلى الميت ثواب جميع العبادات من الصلاة والصوم والقراءة وغير ذلك. قال : وحكى صاحب « الحاوي » عن عطاء بن أبي رباح وإسحاق بن راهويه : أنهما قالا بجواز الصلاة عن الميت ، ومال الشيخ أبو سعيد عبد الله بن أبي عصرون من أصحابنا المتأخرين في كتابه « الانتصاف » إلى اختيار هذا ، قال : ودليلهم

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٦٠ كتاب الطب ، صحيح مسلم ٣ : ٤٩٩ كتاب القسامة حديث ١٦٧١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١١٥٨ كتاب الطب حديث ٣٥٠٣.

(٢) الكافي ٣ : ٤٥٩ باب صلاة المطاردة حديث ٦ ، ٧ ، التهذيب ٣ : ١٧٣ حديث ٢٨٣ ، الوسائل ٥ : ٤٨٢ أبواب صلاة الخوف باب ٣ حديث ٢ ـ ٤.

(٣) شرح فتح القدير ٢ : ٦٦ ، المهذب ( المجموع ) ٤ : ٤٢٥ ، ونقله عن الشافعي.

(٤) التمهيد للأسنوي : ٤٦٤ ، فتح العزيز٤ : ٦٤٦ ، المجموع ٤ : ٤٢٧ ، ونقلوه عن ابن سريج والقفال وأبي إسحاق.

(٥) الكافي ٣ : ١٩٦ باب الرّجل يموت وعليه من صيام شهر رمضان وغيره ، الوسائل ٧ : ٣٤٠ أبواب أحكام شهر رمضان باب ٢٣ ، صحيح البخاري ٣ : ٤٥ باب من مات وعليه صوم.

٢٦٠