تمهيد القواعد

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

تمهيد القواعد

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-022-7
الصفحات: ٦٤٨

وحيث قلنا : يدل على الفساد فقيل : يدل من جهة اللغة (١) ، وقيل : من جهة الشرع (٢) وهو الأظهر.

وإذا قلنا : لا يدل على الفساد ، لا يدل على الصحة بطريق أولى. وبالغ أبو حنيفة وتلميذه محمد فقالا : يدل على الصحة ، لأن التعبير به يقتضي انصرافه إلى الصحيح ، إذ يستحيل النهي عن المستحيل (٣).

إذا تقرر ذلك ففروع القاعدة كثيرة جدا لا تخفى ، كالطهارة بالماء المغصوب ، والصلاة في المكان المغصوب ، والصوم الواجب سفرا عدا ما استثني ، والحج المندوب بدون إذن الزوج والمولى ، وبيع الرّبا والغرر وغيرها.

ومن هذا الباب ما لو ترك المتوضئ غسل رجليه في موضع التقية ، أو مسح خفيه كذلك ، وإن أتى بالهيئة المشروعة عنده ، لأن العبادة المأمور بها حينئذ هي الغسل والمسح ، والعدول عنهما منهي عنه ، والواقع بدلهما جزء من العبادة منهي عنه ، فيقع فاسدا. بخلاف ما لو ترك التكتف أو التأمين في موضعهما ، فإنهما أمران خارجان عن ماهية العبادة فلا يقدحان في صحّتها.

وقد اختلف فيما لو صلى مستصحبا لشي‌ء مغصوب غير مستتر به ، هل تصح صلاته أم لا؟ ومقتضى القاعدة الصحة ، إذ النهي خارج عن ذات الصلاة وشرطها ، وهو اختيار المحقق (٤) ، والمشهور الفساد (٥) ، نظرا إلى صورة النهي

__________________

(١) حكاه في فواتح الرحموت١ : ٣٩٦ ، والتمهيد : ٢٩٣.

(٢) المعتمد ١ : ١٧٦ ، منتهى الوصول : ٧٣ ، الإحكام للآمدي ٢ : ٢١٠.

(٣) نقله عنهما أبو زيد كما في الأحكام للآمدي ٢ : ٢١٤ ، واختاره في المستصفى٢ : ٢٨.

(٤) المعتبر ٢ : ٩٢.

(٥) المغني والشرح الكبير ١ : ٦٢٦ ، ٤٦٤.

١٤١

الواقع في العبادة ، ولا يخفى ضعفه.

ومن هذا الباب الصلاة مع سعة الوقت بعد وجوب أداء الحق المضيق من دين مطالب به ، أو حق يجب أداؤه على الفور ، لأن المستحق في قوة المطالب.

وقد تقدم الكلام فيه (١).

قاعدة « ٤٣ »

المطلوب بالنهي إنما هو فعل ضد المنهي عنه ، فإذا قال : لا تتحرك ، فمعناه : اسكن ، لا التكليف بعدم الحركة ، لأن العدم غير مقدور عليه ، إلا أنه متوقف على وجود الفعل.

وقال أبو هاشم والغزالي : المطلوب بالنهي هو نفس ألا يفعل ـ وهو عدم الحركة في مثالنا ـ لأن العدم الّذي لا يقدر عليه إنما هو العدم المطلق لا العدم المضاف (٢). وفائدة الخلاف تظهر مما سبق.

وهل هذا الترك من قسم الأفعال أم لا؟ فيه مذهبان ، أصحهما عند الآمدي وابن الحاجب وجماعة : نعم ، ولهذا قالوا في حد الأمر أنه اقتضاء فعل غير كف (٣).

إذا علمت ذلك فمن فروعه :

ما إذا نزلت من رأس الصائم نخامة ، وحصلت في حدّ الظاهر من الفم ، فإن قطعها ومجّها لم يفطر ، وإن ابتلعها.

__________________

(١) ١٣٧ ، قاعدة ٤

(٢) نقله عن أبي هاشم في المحصول ١ : ٣٥٠ ، المستصفى١ : ٩٠.

(٣) نقله عن الآمدي في التمهيد : ٢٩٤ ، منتهى الوصول : ٦٥ ، وكالعضدي في شرح المختصر ٢ : ٧٧ ، والتفتازاني في حاشية شرح المختصر ٢ : ٧٧.

١٤٢

قصدا أفطر ، وإن تركها حتى نزلت بنفسها فوجهان مبنيان ، وأصحهما الفطر.

ومنها : ما لو طعنة ، فوصلت الطعنة إلى جوفه ، وكان قادرا على دفعه ولكن تركه ، ففي الفطر أيضا الوجهان.

ويمكن القول بعدم الفطر هنا وإن قيل به ثم (١) لقيام الفعل هنا بالطعن ، بخلاف نزول النخامة.

ومنها : ما لو ألقاه في نار لا يمكنه الخلاص منها ، فمات ، فعليه القصاص. وإن أمكنه التخلص فلم يفعل حتى هلك لم يجب ، لأنه قاتل نفسه ، نعم يجب ضمان ما تأثر بالنار بأول الملاقاة قبل تقصيره في الخروج ، سواء كان أرش عضو أم حكومة.

ومنها : ما لو دبّت (٢) الزوجة الصغيرة ، فارتضعت من أم الزوج مثلا ، وهي مستيقظة ساكتة ، فهل يحال الرضاع على الكبيرة لرضاها ، أم لا لعدم فعلها؟ وجهان.

ومنها : ما لو قال لزوجته : إن فعلت ما ليس لله تعالى فيه رضى فأنت عليّ كظهر أمي ، فتركت صوما أو صلاة ، ففي وقوع الظهار عليها الوجهان ، من حيث إنه ترك وليس بفعل. ولو سرقت وقع ؛ وكذا لو زنت ، إلا أن يكون الموجود منها فيه مجرد التمكين على العادة ، لأنه أيضا ترك للدفع ، وليس بفعل من المرأة.

__________________

(١) والمراد أنه وإن قيل بالفطر في مسألة النخامة.

(٢) في « م » ، « ح » : دنت.

١٤٣

قاعدة (٤٤) الأمر والنهي متعلقهما إما أن يكون معينا ، أو مطلقا.

والمعين إما أن يتجزأ ، أولا.

والأول يشترط في امتثال أمره الاستيعاب ، كمن حلف على الصدقة بعشرة ، فلا يكفي البعض.

وفي النهي يكفي الانتهاء عن البعض. فلو حلف أن لا يأكل رغيفا ، أو علّق الظهار به ، لم يحنث بأكل بعضه ، ولم يقع الظهار ، بل باستيعابه ، لأن الماهية المركبة تعدم بعدم جزء منها.

وقال بعض العامة : يحنث في النهي بمباشرة البعض ، فلو أكل بعض الرغيف المحلوف على تركه حنث ، لأنه إذا أكل منه شيئا فقد أخرجه عن مسمى الرغيف ، لأن الحقيقة المركبة تعدم بعدم أجزائها (١).

قلنا : توجه النهي إنما هو على المجموع ، ولم يحصل.

أما ما لا يتجزأ فلا فرق فيه بين الأمر والنهي ، كالقتل لو حلف على فعله أو تركه.

وأما المطلق ففي الأمر يخرج عن العهدة بجزئي من جزئياته ، وفي النهي لا بد من الامتناع عن جميع جزئياته ، فلو حلف على أكل رمان ، برّ بأكل واحدة ، ولو حلف على تركه ، لم يبرأ إلا بترك الجميع ، لأن المطلق في جانب النهي كالنكرة المنفية في العموم ، مثل : لا رجل عندنا.

__________________

(١) المدونة الكبرى٢ : ١٢٧.

١٤٤

قاعدة «٤٥»

يصح كل من الأمر والنهي عينا.

وكذا الأمر تخييرا ، ويتعلق الأمر بالقدر المشترك بين الأفراد ، وهو مفهوم أحدها ولا تخيير فيه ، ومتعلق التخيير هو خصوصيات الأفراد ، لأنه لا يجب عليه عين أحدها ، كما لا يجوز له الإخلال بجميعها.

وأما النهي ، فقد وقع تخييرا في مثل نكاح الأختين ، والأم والبنت ، وقد تقدم ذلك كله (١).

وقد ينقدح المنع في النهي من حيث إنّ متعلّقه هو مفهوم أحدها ، الّذي هو مشترك بينها ، فتحرم جميع الأفراد ، لأنه لو دخل فردا إلى الوجود لدخل في ضمنه المشترك ، وقد حرم بالنهي ، والتحريم في الأختين والأم والبنت ليس على التخيير ، لأنه إنما تعلّق بالمجموع عينا ، لا بالمشترك بين الأفراد ؛ ولما كان المطلوب أن لا تدخل ماهية المجموع في الوجود ، وعدم الماهية يتحقق بعدم جزء من أجزائها ، أيّ الأجزاء كان ؛ فأي أخت تركها خرج عن عهدة النهي عن المجموع ، لا لأنه نهي عن القدر المشترك ، بل لأن الخروج عن عهدة المجموع يكفي فيه فرد من أفراد ذلك المجموع ، ويخرج عن العهدة بواحدة لا بعينها.

وهكذا القول في خصال الكفارة ، فإنه لما وجب المشترك ، حرم ترك الجميع ، لاستلزامه ترك المشترك ، فالمحرم ترك الجميع ، لا واحدة بعينها من الخصال ، فلا يوجد نهي على هذه الصورة إلا وهو معلّق بالمجموع لا بالمشترك ، إذ من المحال عقلا أن يفعل فرد من نوع ، أو جزئي من كلي مشترك ، ولا يفعل

__________________

(١) قاعدة ١٠.

١٤٥

ذلك المشترك المنهي عنه ، لاشتمال الجزئي على الكلي ضرورة ، وفاعل الأخص فاعل الأعم ، فلا يخرج عن العهدة في النهي إلا بترك كل فرد ، وذلك يخرج عن التخيير.

١٤٦

الباب الرابع في العموم والخصوص

وفيه فصول :

الفصل الأول في ألفاظ العموم

مقدمة :

الجمهور على أنّ العرب وضعت للعموم صيغا تخصّه ، فإن استعمل للخصوص كان مجازا.

وعكس جماعة (١). وقيل : اللفظ مشترك بينهما (٢).

وتوقف آخرون (٣).

__________________

(١) نقله عن الجبائي والبلخي في التلويح في كشف حقائق التنقيح ١ : ٧٣.

(٢) الذريعة ١ : ٢٠١.

(٣) الإحكام للآمدي ٢ : ٢٢٢. ونقله عن القاضي والأشعري في المستصفى٢ : ٤٦.

١٤٧

قاعدة «٤٦»

صيغ العموم عند القائل به « كلّ » و « جميع » وما يصرف منها ، كأجمع وجمعاء وأجمعين ، وتوابعها المشهورة ، كأكتع وأخواته.

و « سائر » شاملة إما لجميع ما بقي ، أو للجميع على الإطلاق ، على اختلاف تفسيريها.

وكذا « معشر » و « معاشر » و « عامّة » و « كافّة » و « قاطبة » و « من » الشرطية والاستفهامية ، وفي الموصولة خلاف.

وقال بعضهم : « ما » الزمانية للعموم أيضا وإن كانت حرفا ، مثل ( إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (١). وكذا « المصدرية » إذا وصلت بفعل مستقبل ، مثل : يعجبني ما تصنع.

و « أيّ » في الشرط والاستفهام وإن اتصل بها « ما » مثل : أيّما امرأة نكحت. و « متى » و « حيث » و « أين » و « كيف » و « إذا » الشرطية إذا اتصلت بواحد منها « ما ».

و « مهما » و « أيّ » و « أيّان » و « إذ ما » إذا قلنا باسميتها كما قاله المبرد (٢) ، وعلى قول سيبويه بأنها حرف (٣) ليست من الباب.

و « كم » الاستفهامية و « الجمع المضاف » و « المعرّف » و « النكرة المنفية ».

وحكم اسم الجمع كالجمع ، كالناس والقوم والرهط.

والأسماء الموصولة كـ « الّذي » و « التي » إذا كان تعريفهما للجنس ، و

__________________

(١) آل عمران : ٧٥.

(٢) نقله عنه في شرح قطر الندى : ٣٧.

(٣) كتاب سيبويه ١ : ٥٠٥.

١٤٨

تثنيتهما وجمعهما.

وأسماء الإشارة المجموعة ، مثل قوله تعالى ( أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) (١) ( أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (٢).

وكذا مثل ( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلّا أَحْصاها ) (٣) ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) (٤).

وكذا الواقع في سياق الشرط مثل ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ) (٥).

وقيل « أحد » للعموم في قوله تعالى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) (٦).

وكذا قيل (٧) : النكرة في سياق الاستفهام الإنكاري مثل قوله تعالى : ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (٨) ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ) (٩).

قيل : وإذا أُكّد الكلام بالأبد أو الدوام أو الاستمرار أو السرمد أو دهر الداهرين أو عَوْض أو قطّ في النفي ، أفاد العموم في الزمان.

قيل : وأسماء القبائل مثل « ربيعة » و « مضر » و « الأوس » و « الخزرج » (١٠).

فهذه جملة الصيغ ، وسنشير إلى بعضها مفصلا للتدريب.

__________________

(١) التوبة : ٢٠.

(٢) البقرة : ٨٥.

(٣) الكهف : ٤٩.

(٤) القصص : ٨٨.

(٥) النساء : ١٧٦.

(٦) التوبة : ٦.

(٧) نقله عن الجويني في نضد القواعد الفقهية : ١٥٠.

(٨) مريم : ٧.

(٩) مريم : ٩٨.

(١٠) حكى هذه الأقوال في نضد القواعد الفقهية : ١٥٠.

١٤٩

قاعدة «٤٧»

دلالة العموم على أفراده كلّيّة أي يدل على كل واحد منها دلالة تامة ، ويعبّر عنه أيضا بالكلّي التفصيليّ ، والكلّي العددي ؛ وليست من باب الكل ، أي الهيئة الاجتماعية المعبّر عنه بالكل المجموعي ، لأنها لو كانت من باب الكل المجموعي لتعذر الاستدلال بها في النفي على البعض ، كقوله تعالى ( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) (١) ( وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (٢) وكذلك في النهي ، كقوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (٣) ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) (٤) كما لو قال قائل : ما جاءني عشرة ، أو : لا تضرب العشرة ، فإنه لا يلزم منه النفي أو النهي عما دونها ، بخلاف الإثبات.

والفرق بين المعنيين : أن الكلي هو المعنى الّذي يشترك فيه كثيرون ، كالعلم والجهل والإنسان والحيوان ، واللفظ الدال عليه يسمى مطلقا ، وقسيمه الجزئي. والكل هو المجموع من حيث هو مجموع ، ومنه أسماء الأعداد ؛ فإن ورد في النفي أو النهي صدق بالبعض ، لأن مدلول المجموع ينتفي به ، ولا يلزم نفي جميع الأفراد ، ولا النهي عنها ، فإذا قال : ليس له عندي عشرة ، جاز أن يكون له عنده تسعة ، بخلاف الثبوت ، فإنه يدل على الأفراد بالتضمن ، لأن الجزء بعض الشي‌ء.

__________________

(١) البقرة : ٧٤.

(٢) فصّلت : ٤٦.

(٣) الإسراء : ٣٢.

(٤) الأنعام : ١٥١.

١٥٠

إذا تقرر ذلك فيتفرع عليه فروع :

منها : ما إذا قال المالك لجماعة : بيعوا هذه السلعة ، أو : وكّلتكم في بيعها ، أو : وكلت فلانا وفلانا ، أو : أوصيت إليهما ؛ أو قالت المرأة لجماعة : زوّجوني ، اشترط الاجتماع ، لأن الحكم مرتب على الكل المجموعي ، لا على الكلي.

ولو قال : والله لا أكلّم الزيدين ، أو : لا ألبس هذه الثياب ، أو : لا آكل هذه الرغيفان أو عبّر بالمثنى ، كالثوبين ، والرغيفين ، والزيدين فلا يحنث إلا بالجميع.

وفي معناه ما لو قال : لا أكلم زيدا وعمرا ، أو : لا آكل اللحم والعنب ، فإنه لا يحنث إلا بكلامهما وبأكلهما معا.

ولو كرر « لا » فقال : لا أكلم زيدا ولا عمرا ، فهما يمينان ، فلا تنحل إحداهما بالحنث في الأخرى.

ولو قال : لا أكلم أحدهما ، أو قال : واحدا منهما ، حنث بكلام الواحد ، وانحلّت اليمين ، فلا يحنث بكلام الآخر.

ومن مواضع الإشكال على القاعدة : ما لو حلف أن لا يأكل بسرا أو رطبا ، فأكل منصفا ، فقد قيل : إنه يحنث (١). وعلّل بأن المنصف يشتمل عليهما ، مع أن الرطب جمع « رطبة » كما صرّح به الجوهري (٢) وغيره (٣) ، والبسر مثله.

وقد نصّ الجوهري أيضا على أنّ العنب جمع « عنبة » (٤) وهو مثلهما. والمتجه أن لا يحنث به لذلك ، أما البسرة والرطبة فلا يحنث بالمنصفة قطعا.

ومنها : ما لو قال لزوجاته الأربع : والله لا وطئتكنّ ، فإن الإيلاء يتعلق

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١١ : ٣١٤.

(٢) الصحاح ١ : ١٣٦.

(٣) كالفيومي في المصباح : ٢٣٠.

(٤) الصحاح ١ : ١٨٩.

١٥١

بالمجموع من حيث هو مجموع لا بكل واحدة ، فله وطء ثلاث ، فيتعين التحريم في الرابعة ، ويثبت لها الإيلاء بعد وطئهن. ولها المرافعة حينئذ ؛ وتجب الكفارة بوطء الجميع.

ولا يزول الحكم بطلاق واحدة ولا أزيد متى بقي واحدة ، لإمكان وطء المطلقة ولو بالشبهة. وفي زواله بموتها وجهان ، من الشك في تحقق إطلاق الوطء عليها ، ولعلّ تحققه أوضح.

ومنها : ما لو قال : والله ما ألبس حليا ، فلبس فردا منه ، كخاتم أو سوار أو نحوه ، فقد حكموا بأنه يحنث ، مع أن الحلي ـ بفتح الحاء وسكون اللام ـ مفرد ، وجمعه حلي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء ، وفيه لغة بكسر الحاء. ووزنه على اللغتين « فعول » فإن « فعلا » يجمع على « فعول » كفلس وفلوس. وأصله حلوى ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمتا على القاعدة الصرفية ، ثم كسرت اللام ، لما في الانتقال من الضمة إلى الياء من العسر. ثم أجازوا مع ذلك كسر الحاء إتباعا للّام.

ومقتضى القاعدة : أنّ المحلوف عليه إن كان هو الحلي المضموم المجموع لا يحنث بالواحد ، وإن كان المفتوح حنث ، فينبغي التنبه له حيث يوجد في كلامهم ، لئلا يلتبس ، فيقع الإشكال ، كالسابق.

قاعدة « ٤٨ »

صيغة « كلّ » عند الإطلاق من ألفاظ العموم الدالة على التفصيل ، أي ثبوت الحكم لكل واحد كما قررناه. وقد يراد بها الهيئة الاجتماعية بقرينة.

ومن فروع القاعدة :

ما إذا قال أجنبي لجماعة : كل من سبق منكم فله دينار ، فسبق ثلاثة ، ففي

١٥٢

استحقاق الجميع دينارا ، أو استحقاق كل واحد دينارا ، وجهان ، أجودهما الثاني ؛ بخلاف ما لو اقتصر على « من » فإنهم يشتركون في الدينار قطعا. كذا قاله بعضهم (١) ، وفيه نظر.

ومنها : إذا قال : والله لا أجامع كل واحدة منكنّ فإن حكم الإيلاء ، من ضرب المدة والمطالبة يثبت لكل واحدة على انفرادها ، حتى إذا طلّق بعضهن كان للباقيات المطالبة.

ولو وطئ واحدة منهن ففي انحلال اليمين في حق الباقيات وجهان : من أنها يمين واحدة ، وقد خالف مقتضاها ، ومن تعددها في المعنى بحسب تعدد متعلقها. وبالثاني قطع الفاضل (٢) ، وفيه نظر.

قاعدة « ٤٩ »

« من » عامة في أولي العلم ، و « ما » عامة في غيرهم ، هذا هو الأصل ، وهو المعروف أيضا (٣) (٤). ولسيبويه نصّ يوهم أنّ « ما » لأولي العلم وغيرهم (٥) ، وقال به جماعة (٦). وشرط كونهما للعموم ـ كما قاله في المحصول

__________________

(١) التلويح في كشف حقائق التنقيح ١ : ١١٦.

(٢) قواعد الأحكام ٢ : ٨٧ ، تحرير الأحكام ٢ : ٦٣.

(٣) جاء في هامش « د » ، بخطه : المشهور في عبارة الأصوليين وأهل العربية أن « من » لمن يعقل ويحسن ، عبّرنا عنه بأولى العلم لعدم تناول من يعقل لله ، مع تناول « من » له في مواضع كثيرة ، وسيأتي تحريره في قسم النحو من باب الموصول ـ قاعدة ١١٢.

(٤) كما في المحصول ١ : ٣٤٥ ، والمعتمد ١ : ١٩١.

(٥) نقل ذلك في التمهيد : ٣٠٣.

(٦) التلويح في كشف حقائق التنقيح ١ : ١١٥ ، شرح الكافية ١ : ٥٥.

١٥٣

وغيره (١) ـ أن تكونا شرطيتين أو استفهاميتين.

فأما النكرة الموصوفة نحو : مررت بمن أو بما معجب لك ، أي شخص معجب ، والموصولة نحو : مررت بمن قام أو بما قام ، أيّ بالذي ، فإنهما لا يعمان. وكذلك إذا كانت « ما » نكرة غير موصوفة ، وهي ما التعجبية.

ونقل القرافي عن بعض الأصوليين أن الموصولة تعم ، وردّ عليه نقله (٢).

إذا علمت ذلك فمن فروع القاعدة :

ما إذا قال : من يدخل الدار من عبيدي فهو حر ، على وجه النذر ، فينظر إن أتى بالفعل مجزوما مكسورا على أصل التقاء الساكنين عمّ العتق جميع الداخلين ، وإن أتى به مرفوعا لزمه عتق واحد فقط ، هذا مقتضى لفظ « من » بعرف النحو ؛ فإن لم يعرفه سئل عن مراده ، فإن تعذّر حمل على المحقق ، وهو الموصولة.

ومنها : الواقعة المشهورة ، وهي أنه وقع حجر من سطح ، فقال رجل لامرأته : إن لم تخبريني الساعة من رماه فأنت طالق ، عند العامة ، أو عليّ كظهر أمي ، عندنا.

قال بعضهم : إن قالت رماه مخلوق ، لم يقع ، وإن قالت رماه آدمي وقع ، لجواز أن يكون رماه كلب أو ريح (٣).

وفي الاكتفاء بلفظ المخلوق مع كون السؤال وقع بمن الموضوعة للعقلاء نظر ، مرتب على الخلاف السابق ، مع أن السائل بها إنما يجاب بتعيين الشخص لا بالنوع.

ومنها : إذا أوصى بما تحمله هذه الشجرة أو الجارية ، ولم يبيّن مدة

__________________

(١) المحصول ١ : ٣٥٤ ، نهاية السؤل ٢ : ٣٢٤.

(٢) شرح التنقيح : ١٨٠.

(٣) منقول عن القاضي حسين في التمهيد للأسنوي : ٣٠٤.

١٥٤

الاستحقاق ، فإنه يعطى له حمل يحدث ، دون حمل موجود.

لكن هل يعطى الحمل الأول خاصة لأنه المحقق ، أم يستحق الجميع لأن اللفظ يصدق عليه؟ وجهان ، مبنيان على أن « ما » الموصولة هل تعم أم لا.

ومنها : لو كان في يد شخص عين فقال : وهبنيها فلان وأقبضنيها في صحّة ، وأقام بذلك بينة ، فأقام باقي الورثة بينة بأن الواهب رجع فيما وهبه ، حيث يجوز له الرجوع فيه ، فالأجود أن لا تنزع العين من يده بهذه البينة ، لاحتمال أنّ هذه العين ليست من المرجوع فيه ، بناء على أن الموصولة لا تعم ، مع أنه يحتمل كونها أيضا نكرة موصوفة وغير ذلك.

قاعدة « ٥٠ »

صيغة « أي » عامة في أولي العلم وغيرهم. كذا ذكره جمهور الأصوليين ، منهم الفخر الرازي وأتباعه (١) ، إلا أنها ليست للتكرار ، بخلاف « كل » ونحوها ، فإنها تقتضي التكرار.

ومن فروعه :

ما لو قال لوكيله : أيّ رجل دخل المسجد فأعطه درهما ، اقتصر على إعطاء واحد ، لأنه المتيقن بخلاف ما لو قال : كل رجل دخل المسجد فأعطه درهما ، فإنه يعطى الجميع.

واعلم أن بين « أي » و « كل » فرقا ظاهرا ، وذلك لأنه يصح أن يقول : أيّ أولادك أسنّ؟ ولا يصح ذلك مع « كل ».

وكذلك : أيّ أولادك ضرب ، أزيد أم عمرو أم بكر؟ ولا يصح « مع كل »

__________________

(١) المحصول ١ : ٣٥٤ ، تهذيب الوصول : ٣٥.

١٥٥

مطلقا. وبذلك يظهر أن عموم « أيّ » ليس للشمول بل للبدل ، إلا أن الفرق بينها وبين النكرة : أنّ النكرة إذا لم يسند الحكم فيها إلى ماضٍ تدل على فرد وأفراد غير متعينة ، بخلاف « أي ».

والفرق بينهما وبين المطلق : أن المطلق لا يدل على شي‌ء من الأفراد ، بل على الماهية فقط.

قاعدة « ٥١ »

الجمع ، إذا كان مضافا أو محلّى بـ « ال » التي ليست للعهد يعمّ عند جمهور الأصوليين ، إذا لم تقم قرينة تدل على عدم العموم.

إذا علمت ذلك فيتفرع عليه فروع :

منها : إذا قال : إن كان الله يعذّب الموحدين فأنت عليّ كظهر أمي ، وقع الظهار إن قصد تعذيب أحدهم ، ولو قصد تعذيب الجميع أو لم يقصد شيئا لم يقع ، لأن التعذيب يختص ببعضهم.

ومنها : التلقيب بملك الملوك ونحوه ، كـ « شاة شاة » (١) بالتكرار ، فإنه بمعناه أيضا ، فينظر إن أراد ملوك الدنيا ونحوه ، وقامت قرينة للسامعين تدل على ذلك جاز ، سواء كان متصفا بهذه الصفة أم لا ، كغيره من الألقاب الموضوعة للتفاؤل (٢) أو المبالغة.

وإن أراد العموم فلا إشكال في التحريم ، أي تحريم الوضع بهذا القصد ، وكذلك التسمية بقصده ، سواء قلنا : إنه للعموم أم مشترك بينه وبين الخصوص.

__________________

(١) كذا ، ومن الواضح للعارف بالفارسية أنه تصحيف شاهنشاه.

(٢) في « م » ، « ح » : للتناول.

١٥٦

وكذلك لو قلنا إنه للخصوص ، لأنه أحدث له وضعا آخر.

وإن أطلق عارفا بمدلوله بني على أنه للعموم أم لا؟

وهذه المسألة وقعت ببغداد في سنة تسع وعشرين وأربعمائة ؛ لما استولى الملك الملقب بجلال الدولة ، أحد ملوك الديلم على بغداد ، وكانوا متسلطين على الخلفاء العباسيين ، فزيد في ألقابه شاهان شاه (١) الأعظم ملك الملوك ، وخطب له بذلك على المنبر ، فجرى في ذلك ما أحوج إلى استفتاء علماء بغداد في جواز ذلك ، فاختلفوا فيه ، وأفتى الأكثر بالجواز ؛ وجرى بينهم في ذلك مباحث ورسائل نقضا وجوابا.

وكان من حجة المحرم : ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « إنّ أخنع اسم عند الله تعالى رجل يسمى ملك الأملاك (٢) » وفي رواية : « أخنى » وفي رواية : « أغيظ رجل عند الله تعالى يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الملوك ، لا ملك إلا الله تعالى » رواه البخاري ومسلم إلا الأخيرة ، فإنها لمسلم (٣).

وأخنع وأخنى بالخاء المعجمة والنون ومعناهما : أذل وأوضع وأرذل.

ومنها : جواز الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب ، أو بعدم دخولهم النار. فقيل : يحرم ذلك ، لأنا نقطع بإخبار الله تعالى وإخبار الرسول أنّ منهم من يدخل النار (٤). وأما الدعاء بالمغفرة في قوله تعالى

__________________

(١) كذا ، وفي هامش « د » : شاهنشاه. وهو الأصوب.

(٢) في « م » : الملوك.

(٣) صحيح البخاري ٨ : ٥٦ باب أبغض الأسماء ، صحيح مسلم ٤ : ٣٥٥ باب تحريم التسمي بملك الأملاك حديث ٢١٤٣.

(٤) الفروق للقرافي ٤ : ٢٨١.

١٥٧

حكاية عن نوح ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) (١) ونحو ذلك مما ورد في الأخبار والدعوات وهو كثير ، فإنه ورد بصيغة الفعل في سياق الإثبات ، وذلك لا يقتضي العموم ، لأن الأفعال نكرات ؛ ولجواز قصد معهود خاص ، وهو أهل زمانه.

ومنها : ما لو أوصى للفقراء ونحوهم ، أو فقراء بلد. فإن كانوا منحصرين وجب صرفه إليهم أجمع ، عملا بالعموم مع إمكانه.

وإن كانوا غير منحصرين صرف إلى ثلاثة فصاعدا ، لأن العموم غير مراد ، فيحمل على الجميع. والمروي صرفه إلى من بالبلد منهم وإن زادوا عن ثلاثة (٢).

ومنها : لو حلف على معدود كالمساكين ، فإن كانت يمينه على الإثبات ، لم يبرّ إلا بثلاثة ، اعتبارا بأقل الجمع كما قلناه ؛ وإن كانت على النفي ، حنث بالواحد ، اعتبارا بأقل العدد.

والفرق : أنّ نفي الجميع ممكن ، وإثبات الجميع متعذّر ، فاعتبر أقل الجمع في الإثبات ، وأقل العدد في النفي.

ومنها : لو حلف ليصومنّ الأيام ، فيحتمل حمله على أيام العمر لإمكانه ؛ وعلى ثلاثة ، نظرا إلى عدم الانحصار عادة كما سلف.

فائدة :

إذا احتمل كون « أل » للعهد ، وكونها لغيره ، كالجنس أو العموم ، حملت على العهد ، لأصالة البراءة من الزائد ، ولأن تقدّمه قرينة مرشدة إليه.

__________________

(١) نوح : ٢٨.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨ باب ما يجوز من الوقف. حديث ٣٧ ، الفقيه ٤ : ٢٤٠ حديث ٥٥٧٤ ، التهذيب ٩ : ١٣٣ حديث ٥٦٣ ، الوسائل ١٣ : ٣٠٨ أحكام الوقوف باب ٨.

١٥٨

ومن فروعها :

ما لو حلف لا يشرب الماء ، فإنه يحمل على المعهود ، حتى يحنث ببعضه ، إذ لو حمل على العموم لم يحنث.

ومنها : إذا حلف لا يأكل البطيخ ، قال بعضهم : لا يحنث بالهندي ، وهو الأخضر (١). وهذا يتم حيث لا يكون الأخضر معهودا عند الحالف إطلاقه عليه إلا مقيدا.

ومنها : الحالف لا يأكل الجوز ، لا يحنث بالجوز الهندي. والكلام فيه كالسابق ، إذ لو كان إطلاقه عليه معهودا في عرفه حنث به ، إلا أنّ الغالب خلافه ، بخلاف السابق ، فإنه على العكس.

قاعدة « ٥٢ »

الجمع إذا لم يكن مضافا ، ولم يدخل عليه « أل » نحو : أكرم رجالا ، قال الجبائي : إنه للعموم ، استنادا إلى أنه حقيقة في الثلاثة والألف وغيرهما من أنواع العدد ، والمشترك عنده يحمل على جميع معانيه (٢).

والجمهور على أنه لا يعمّ ، بل أقله ثلاثة على الصحيح عند جمهور الأصوليين ، كما هو الصحيح عند النحاة والفقهاء. وقيل : اثنان (٣).

وهذا الخلاف المذكور آخرا يجري في المضاف والمقرون « بال » إذا قامت قرينة تدل على أنّ العموم غير مراد.

وينبغي تحرير محل النزاع ، فنقول : الخلاف في اللفظ المعبّر عنه بالجمع ،

__________________

(١) نقله عن الرافعي في التمهيد : ٣١٥.

(٢) نقله عنه في كشف الأسرار ١ : ١٢٢ ، ومعارج الأصول : ٨٧.

(٣) منتهى الوصول : ٧٧ ، المستصفى٢ : ٩١.

١٥٩

نحو الزيدين ورجال ، لا في لفظ « ج م عليه‌السلام » فإنه يطلق على الاثنين بلا خلاف ، كما قاله جماعة من المحققين ، منهم الآمدي (١) وابن الحاجب في المختصر الكبير (٢) لأن مدلوله ضمّ شي‌ء إلى شي‌ء ؛ ولا في لفظ الجماعة أيضا ، فإن أقله ثلاثة.

واعلم أنه لا فرق عند الأصوليين والفقهاء بين التعبير بجمع القلة كأفلس ، وبجمع الكثرة كفلوس ، على خلاف طريقة النحويين.

إذا تقرر ذلك فيتخرج عليه مسائل كثيرة في باب الأقارير والوصايا والعتق والنذور وغيرها.

قاعدة « ٥٣ »

النكرة في سياق النفي تعمّ ، سواء باشرها النفي ، نحو : ما أحد قائما ، أم باشر عاملها ، نحو : ما قام أحد.

وسواء كان النافي « ما » أم « لم » أم « لن » أم « ليس » أم غيرها.

ثم إن كانت النكرة صادقة على القليل والكثير كـ « شي‌ء » ، أو ملازمه للنفي نحو « أحد » ، وكذا صيغة « بدّ » نحو : ما لي عنه بدّ ، كما نقله « القرافي » في شرح التنقيح (٣) أو داخلا عليها « من » نحو : ما جاء من رجل أو واقعة بعد « لا » العاملة عمل « إن » وهي « لا » التي لنفي الجنس ، فواضح كونها للعموم ، وقد صرّح به مع وضوحه النحاة والأصوليون.

وما عدا ذلك ، نحو : ما في الدار رجل ولا رجل قائما ، بنصب الخبر ففيه مذهبان للنحاة ، أصحهما ـ وهو مقتضى إطلاق الأصوليين ـ أنها للعموم

__________________

(١) الإحكام ٢ : ٢٤٢.

(٢) منتهى الوصول : ٧٧.

(٣) شرح تنقيح الفصول : ١٨٣.

١٦٠