الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUETefl-Waratha-Tarbia-part01imagesimage001.gif

١

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUETefl-Waratha-Tarbia-part01imagesrafed.png

٢

Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUETefl-Waratha-Tarbia-part01imagesimage002.gif

٣
٤

كلمة المترجم

بسم الله الرحمن الرحيم

الطفل هو اللبنة الأولى في المجتمع . . . إن أَحسَنَ وضعُها بشكل سليم ، كان البناء العام مستقيماً مهما ارتفع وتعاظم ...

الطفل هو نواة الجيل الصاعد ، التي تتفرع منها أغصانه وفروعه ...

الطفل هو الرافد الذي يمدّ بركة المجتمع بالرصيد الاحتياطي دائماً .

وكما أن البناء يحتاج إلى هندسة وموازنة !

وكما أن النواة تفتقر إلى التربة والظروف المناسبة !

وكما أن الرافد يعوزه إصلاح وتنظيف مجارٍ !

كذلك الطفل فإنه يحتاج إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته ، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه ، ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلقّاها ، والحضارة التي يتطبع عليها ، والتربية التي ينشأ عليها !!! .

إنه عالم قائم بنفسه . . . يحمل كل سمات الحياة بصورة مصغرة ، في صخبها وأمنها ، في سعادتها وشقائها ، في ذكائها وبلادتها ، في صفائها وحقدها ، في تفوقها وتأخرها ، في إيمانها وجحودها ، في حربها وسلمها ...

*  *  *

٥

وهذا ما أشغل العلماء والباحثين ، فراحوا يعدّون البحوث ، ويلقون المحاضرات ، ويؤلفون الكتب ، ويوردون النظريات في مسألة ( تربية الطفل ) .

ونشأ من بينهم عدّة ترى أن سلوك الطفل مرتبط بالعوامل الوراثية التي يحملها بين جوانحه وفي ( كروموسوماته ) ...

ورأى عكس ذلك آخرون ، فأرجعوا كلّ أنماط السلوك الفردي والإِجتماعي إلى البيئة والمحيط ، والتربية والتنشئة . وأنكروا كلّ أثر إلى الوراثة يُنسب . . . حتى ادعى العالم النفساني الأمريكي (واتسون) دعواه التي لم يسندها بدليل حيث قال :

 « أعطني اثني عشر طفلاً ، وهيىء لي الظروف المناسبة ، أجعل ممّن أُريد منهم طبيباً حاذقاً ، أو أستاذاً قديراً ، أو مهندساً بارعاً ، أو رساماً . . . وحتى لو شئت لصاً أو شحاذاً . . . » .

وبلغ الخصام بين هاتين المدرستين في علم النفس والتربية إلى أنك ما تكاد تفتح كتاباً يتناول موضوع التربية إلا وجدته إلى إحدى المدرستين يميل ، وعن أحد الرأيين يدافع ، مفنّداً الرأي الآخر .

ولعلّك تسأل : أي الرأيين أصح ؟ وأي العاملين في سلوك الطفل أهم : الوراثة أم التربية ؟ ! .

فبدلاً من أن أجيبك على سؤالك هذا ، أسأل بدوري أيضاً :

أيهما أهم للسيّارة : المحرك ، أم الوقود ؟ ! .

* * *

تلك مسألة التربية ...

والأصح . . . مشكلة التربية ! ! .

فما هو رأي الاسلام فيها ؟ وكم هي درجة خطورة الموقف في النظام الإِسلامي الشامل ؟ ! .

*  *  *

٦

الجواب عن ذلك تكفّل به الكتاب الذي بين يديك ، وهو معرّب عن الفارسية ، ولقد حاولت في التعريب أن أفِيَ بالمقصود أكثر من تقيدي بالتعبير ، ووجدت من الضروري أن أضيف إلى الأصل بعض التعليقات التي لا بد منها للكتاب في شكله العربي ، وربّما جاءت التعليقة ممزوجة بالأصل حيث يبدو تكثير الهوامش أمراً غير مستحسن .

وفي نهاية المطاف أرجو أن يسدّ هذا الكتاب فراغاً كانت تشكوه المكتبة الإِسلامية حول المنهج التربوي للإِسلام منذ أمد ...

كما نبتهل إلى العليّ القدير في ان يوفقنا لخدمة الأمة الإِسلامية ، ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير والصلاح . إنه سميع مجيب .

النجف الأشرف في ١ / ١٢ / ١٣٨٦

فاضل الحسيني الميلاني

٧

٨

المحاضرة الأولى

حول الذنب ـ حرية التعلم

قال الله تعالى في كتابه الكريم : ( . . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

تمهيد : وسائل القرب المعنوي من الله :

اليوم هو أول يوم من شهر رمضان المبارك . . شهر الرّحمة ، شهر الغفران ، شهر الألطاف الإِلهية الخاصة . . يجتمع المؤمنون والمُقبلون على التعاليم الإِسلامية القيّمة في المساجد بشوقٍ ورغبةٍ شديدين ، ويقفون بين يدي الله تعالى وهم يؤدّون الفرائض والسُّنن الإِسلامية ويزدانون بطاعة الله والإِنقياد إليه ، وبذلك ليتقربوا إلى الله العظيم زلفى ، ويتنعّموا في هذا الشهر برحمته الواسعة التي وسعت كلَّ شيء .

ووسائل التقرّب إلى الله عزّ وجل كثيرة . . . كلّ عمل خيري يؤتى به لوجه الله يمكن أن يقربنا منه ، وكلما كانت قيمةُ ذلك العمَل أغلى ، والإِخلاص في نفس الشخص الذي يأتي به أكثر ، كانت دائرة التقرّبِ إلى الله أوسع .

____________________

(١) سورة البقرة ؛ الآية : ١٨٣ .

٩

ربمَّا يرغب الكثير منكم أن يعرف أيَّ الأعمال أفضل في هذا الشَّهر العظيم كي يجدّ ساعياً في إتيانه والمواظبة عليه ، وبذلك ليُحرز رضى الله وليتقرّبَ منه زلفى .

إذا وجَّهنا هذا السؤال إلي الأفراد العاديّين من المسلمين ، سمعنا أجوبةً مختلفةً عليه . فأحدهم يقول : أفضل الأعمال في هذا الشهر قراءة القرآن ، والآخر يقول إنّه إفطار الصائم ، ويري آخرون : أفضل الأعمال هو صلة الرَّحم وعيادة المرض ، ويظن طائفةٌ : إنه تلاوة الأذكار والأدعية المأثورة . . . والخلاصة أن كلَّ شخص يتوسّل بنوع من الأنواع الخيّرة ويعتبره أفضل الأعمال في شهر رمضان .

ولننظر إلي ما يقولهُ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! ! .

التقوى :

في آخر جمعه من شعبان كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب في المسلمين ويبيّن لهم واجباتهم في شهر رمضان ...

 « قال علي : فقمت وقلت : يا رسولَ الله ما أفضل الأعمال في هذا الشَّهر ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الوَرَع عن محَارم الله » (١) .

لقد رأينا أن أكثر الناس يبحثون عن أفضل الأعمال في جدول الأعمال الخيّرة الإِيجابيّة بينما نجد الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُلفت أنظار المسلمين إلى الجانب السلبيّ ويعرّف أفضل الأعمال في شهر رمضان بالإِجتناب عن المعاصي ، ولا يخفى أن الملاك في التديّن هو نظرة الشرع المقدّس ، لا ما يظنُّه هذا ويراه ذاك . ولأجل أن نبيّن أهمية الإِجتناب عن المعاصي في تحقيق السعادة البشرية ويتضح مغزى كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى أفضل الأعمال في شهر رمضان نخصِّصُ محاضرتنا هذه بالذَّنب وآثاره الوضعيّة والشرعية .

إن التعاليم الإِسلاميّة القيمة بشأن السعادة الإِنسانية وبيان الخير والشرّ

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ص ١٦٤ طبعة إيران .

١٠

يطابق تماماً المنهج الطبيّ بشأن صحة النّاس وسلامتهم ، ولذا فإنَّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في تحقيق التكامل المعنوي للبشر كالطبيب الحاذِق الطّاهر القلب على رأس المريض . وفي هذا الصدد يصفه الإِمام علي عليه‌السلام بقوله :

 « طبيبٌ دوارٌ بطبِّه ، قد أحكمَ مراهمه وأحمى مواسمه ، يصنع ذلك حيث الحاجةِ إليه في قلوبٍ عُميٍ وآذانٍ صُمّ وألسنَةٍ بُكم » (١) .

فيصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه كان طبيباً سيّاراً ، يحمل مَعه في حقيبته المعاجين اللّازمة للتَّضميد والمعالجة ، فإذا وجد قلوباً عمياء ، أو أرواحاً صمّاء ، قام بمعالجتها وأنقذ الناس من الموت المعنوي والإِنهيار الخُلُقي .

معالجة الانحراف :

للأطبّاء منهجان في معالجة المرض : أحدهما إيجابي ، والآخر سلبي .

فيقولون للمريض في المنهج الإِيجابي : إحتقن بهذه الإِبرة . إستعمل هذا الكبسول ، إشرب من هذا الشراب ملعقةً واحدةً كلّ ثلاث ساعات . أما في الجانب السلبيّ فيقولون للمريض : لا تأكل العنب ، لا تشرب الخلّ . لا تستعمل الأكلات الدسمة ، وهكذا .

والمنهج الديني يشابه المنهج الطبّي تماماً ، فيقول للمسلم من جهة : أقِم الصَّلاة ، أدّ الزَّكاة . ليكن كسبُك حَلالاً ، تزوَّج . . . إلخ . ويقول له من جهة أُخرى : لا تكذبْ ، لا تفحش ، لا تَغتَبْ . . . فالجانب الإِيجابي في الدين يسمى بالواجبات . بينما يُطلق إسم المحرَّمات على الجانب السَّلبي .

وإذا ألقينا نظرةً فاحصةً على المنهج الطبّي ، لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى ، وترك القيام ببعض الأمور ( الحمْيَة ) مهمّاً إلى درجة أن المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الإِيجابيّة لا تنفعه أصلاً . إنَّ أحسن عملية جراحية يقوم بها طبيب حاذق يمكن أن تصطدم بمشكلات جمة ـ وقد

____________________

(١) نهج البلاغة شرح محمد عبده ج ١ / ٢٠٦ .

١١

تكون فاقدة للأثر ـ إذا تهاون المريض في العمل بتوصيات الطبيب ، فقام ببعض الحركات الزائدة أو لم يتحفظ على الجرح في التلوّث بالميكروبات مثلاً .

وحتى في الأمراض التي تنشأ من إنحراف المزاج ، نجد أنَّ عدم اعتناء المريض بما يجب أن يجتنب عنه ، يذهب بأثر معالجات طبيب حاذق ، وأمّا في بعض الأحيان ، حيث لا يتمكّن المريض من الوصول إلى الطبيب فإنَّه إذا احتَمى ولم يحمّل مزاجه فوق طاقته . نجد المناعة الذاتية قادرة على أنْ تنجي المريض من الانحراف وأن ترجعه إلى وضعه الإِعتيادي . وهناك حالات ينحصر العلاج فيها بالحمية فقط .

يقول الإِمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : « الحميَة رأس الدَّواء » (١) .

نستنتج مما تقدّم : أنَّ السلامة منوطةٌ بالمواظبة على توصيات الطبيب ـ الإِيجابيّة منها والسلبية ـ ولكن النظرة الثاقبة ترينا أنَّ أثر الجانب السلبي في العلاج أقوى من أثر الجانب الإِيجابي .

هدف القرآن :

وعلى هذا المنوال تنسج التعاليم الإِسلامية نسجَها في تحقيق السعادة المعنوية . فالإِنسان السَّعيد هو الذي يطبّق التعاليم الإِيجابيّة والسّلبية . . . يأتي بجميع الفرائض ويترك جميع المحرمات ، ومع ذلك فإنَّ كفّةَ الابتعاد عن الذنوب ( الجانب السلبي ) ترجحُ في ميزان السَّعادة البشرية على كفَّة الإِتيان بالواجبات ( الجانب الإِيجابي ) .

ومن هنا نجد أنَّ القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبيّ وآل بيته عليهم الصلاة والسلام ، تعرّف ( التقوى ) أعظم رَصيد للسّعادة ، وترى أنَّ الغاية العظمىٰ من القرآن وتعليمه هي تربية النّاس على التقوى ، فالتقوى بمعنىٰ إجتناب المعاصي والإِبتعاد عنها ، و ( المتّقي ) هو المجتنب عن المعاصي .

____________________

(١) سفينة البحار ص ٢٤٥ ، مادة ( حمى ) .

١٢

فليس صيام رمضان ـ وهو من أهم الفرائض الإِسلامية ـ إلا مظهراً من مظاهر الاجتناب عن المفطرات بنيّةِ التقرّب إلى الله تعالى ، ولقد أوْجَبَ الله الصِّيامَ على الأمم السَّالِفَةِ ، وعلى الأمة الإِسلامية كي يتمرَّن الناس في هذا الشهر على الحصول على ملكةِ التقوى .

( . . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) . وبهذا الصَّدد نورد بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام :

١ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « فيما ناجى الله عزَّ وجل به موسى ، ما تقرَّب إليَّ المتقربّون بمثل الورَع عن محارمي . . » (١) فلا يوجد عاملٌ يقرّب المتطهرين إلى الله مثل الاجتناب عن المعاصي .

٢ ـ وعن علي عليه‌السلام : « إجتناب السيِّئات أوْلى من إكتساب الحَسَنات »(٢) .

٣ ـ وعن الإِمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « من اجتنب ما حرَّم الله عليه ، فهو من أعبد الناس » (٢) .

٤ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لَردُّ المؤمن حراماً يعدل عند الله سبعين حجّةً مبرورة » (٣) .

٥ ـ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « غَض الطَّرف عن محَارم الله أفضل عِبادة » (٤) .

٦ ـ ولقد سبق أن نقلنا جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سؤال علي عليه‌السلام حين سأله عن أفضل الأعمال في شهر رمضان فقال : « الورع عن محارم الله » (٥) .

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ / ٨٠ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٥٧ .

(٣) مستدرك الوسائل للنوري ج ٢ / ٣٠٢ .

(٤) المصدر السابق .

(٥) المصدر السابق .

١٣

إنهيار المجتمع :

إنَّ أغلب المآسي التي تصيب الفرد أو المجتمع ناشئة من التلوّث بالذنب والمعصية . والأمم التي أنهارت إنهياراً تاماً ، ولم يبق منها في التاريخ إلا اسمها ، كان السبب في ذلك عدم مبالاتها بالنسبة إلى الذنوب وهذا ما يؤكد عليه القرآن غير مرة :

( كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ) (١) .

( أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) (٢) .

( فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ) (٣) .

إنَّ المآسي المختلفة التي تعلق بأذيالنا ـ شيوخاً وشباباً ـ وليدة التلوث بأنواع الذنوب واللامبالاة في ارتكاب المعاصي والمحرمات . كما أن المريض الذي يخالف أوامر الطبيب ويترك الحميةَ يبتلى ويجازى بأنواع المصائب والمشاكل الدنيويّة والأخرويّة .

١ ـ ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) (٤) .

٢ ـ ( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٥) .

٣ ـ ( ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٦) .

ما هو الذنب :

الذنب عبارة عن مخالفة القوانين الإِلهية ، واتباع الأهواء والرغبات التي تلح عليها النفس ، من دون رادع أو مانع ، وكقاعدة أولية وأصلٍ ثابت يجب

____________________

(١) سورة الأنفال ؛ الآية : ٥٤ .

(٢) سورة الدخان ؛ الآية : ٣٧ .

(٣) سورة النساء ؛ الآية : ٦ .

(٤) سورة الروم ؛ الآية : ٤١ .

(٥) سورة البقرة ؛ الآية : ١١٤ .

(٦) سورة المائدة ؛ الآية : ٣٣ .

١٤

أن نقول : إنه مع غض النظر عن التعاليم الدينية ، فليس بإمكاننا متاعبة الشهوة والرغبات النفسانية ، وإطلاق العنان للإِرادة النفسية بحرية كاملة . فهناك الموانع العديدة والحواجز القوية التي لا يمكننا أن نخترقها. وعلى سبيل المثال نشير إلى بعض الموانع بنماذج واضحة وأمثلة ساذجة يصادفها كل الأفراد في حياتهم اليوميّة .

جزاء التخلف عن القوانين :

١ ـ حمامةٌ جائمة على سطح عمارة ذات أربعة طوابق من شارع وأنت واقف على سطح تلك العمارة أيضاً . . . الحمامة تحاول الطيران إلى الجانب الآخر من الشارع لتنزل على سطح عمارة مقابلة ، ففي لحظةٍ واحدةٍ تحرّك الحمامة جناحيها وتطير . . . وترغب أنت في ملاحقتها والطيران مثلها ، إلا أن رغبتك هذه تصطدم بمشكلة كبيرة ، هي أنك لا تملك وسائل الطيران ، ولا القدرة على مقاومةِ جاذبيّةِ الأرض ، فالقانون الطبيعي يمنعك من هذا التصميم . فإن لم تعتنِ إلى منع الطبيعة إياك عن الطيران وأردت أن تثور على قانون الطبيعة ، فبمجرد أن ترمي بنفسك من سطح هذه العمارة إلى جهة العمارة الأخرى ـ وقبل أن تبتعد من هذه العمارة بمقدار متر واحد ـ فإن جاذبيّة الأرض تسحبك إليها بأتم الخشونة والقوة وتريك جزاء تخلفك هذا . . . وتطرحك على الأرض في الوقت الذي يتحطم فيه رأسك ويتلاشى مخك ، وتنهي بحياتك وهي تنطق بلسانٍ فصيح يعبر عن القانون الكوني العام : هذا جزاء المذنب والمتخلف عن السنن الكونية .

يتساوى جميع الناس في هذا الأمر : المؤمن والكافر ، الصائم والمفطر ، الشيوعي والرأسمالي . فالعقلاء لأجل أن لا يتخلفوا عن قوانين الطبيعة ينزلون ستين درجة من سلالم العمارة ، ثم يصعدون في سلالم العمارة المقابلة حتى يصلوا إلى سطحها ، فيثبتون ـ عملياً ـ إطاعتهم للقانون الكوني العام .

والطفل يرغب في القيام بالفعاليات والحركات الحرة بفطرته يحب أن

١٥

يقبض بيده كل شيء ، يلمس كل شيء ، يعمل كما يريد . . . لكنه سرعان ما يلتفت إلى أنه ليس حراً مطلقاً ، إنه يرغب كثيراً في ثدي أمه وهو مصدر غذائه ، لكنه عندما تتركه أمُّه أثناء ارتضاعه لتذهب وراء أعمالها يفهم الطفل أن الثدي ليس في اختياره دائماً ، يجب أن يصيح ، أن يبكي . . . حتى تحنّ الأم إليه ويسترجع الثدي الضائع .

وعندما تتفتح أصابع الطفل فإنه يرغب بولع شديد أن يأخذ التفاحة ويأخذ الخبز ، ولكنه حيث لا يدرك الفواصل فقد يخرج يده من المهد ليأخذ المصباح من السقف أو القمر من السماء وقد يمدّ يده إلى النار ليأخذ جمراتها المتوقدة فيحترق ويبكي . . هنا يدرك الطفل أنه ليس حراً مطلقاً كما يظن ، فحريته محدودة .

ويتدرج الطفل في نموه ، ويأخذ في المشي ويقترب من الحوض فيرى الأسماك تسبح في الماء ، ويحكم طبعه الطفولي الحر يرغب في أن يسبح مثل تلك الأسماك ، فيلقي بنفسه في الماء . . ينقطع نَفَسه ويشرف على الموت ، فتصل إليه الأم وتخرج طفلها المتقطع الأنفاس . . وحين يثوب إليه رشده ينظر نظرة إلى الماء ويفهم أنه ليس حراً ولا يتمكن من أن يسبح كالسمك .

وعلى أيَّة حال فإن الإِنسان يلاقي موانع الطبيعة منذ طفولته في كل خطوة يخطوها ، وفي كل يوم يحس بتقلص حريته أكثر من ذي قبل . ويدرك أن رغباته تصطم بجدران حديديةٍ لا تخترق . ولا يتمكن أن يمارس إرادته بحريةٍ كاملةٍ .

٢ ـ والحاجز الثاني الذي يقف أمام الميول والرغبات الفردية ، هو القوانين الصحية التي تظهر في الحمية . . فإن المريض يشاهد الفواكه والحلويات والأطعمة المختلف ، فيرغب في أن يأكل منها ولكنه مصاب بمرض السكر ، فإن حاول إتباع ميوله بالتناول من الفواكه والحلويات التي تكثر فيها مادة السُكَّر فسوف يبتلى بأنواع الآلام .

أو أنه مصاب بمرض في الكبد فعليه أن يحتمي عن كثير من الأطعمة

١٦

الشهية ، لأن الطبيب منعه عنها . . وقد يكون المرض شديداً إلى درجة يضطر المريض معها إلى أن يقنع بشيء قليل من الخضروات والفواكه المطبوخة فقط ، ولا مفرّ له من ذلك فأما أن يترك ميوله وشهواته فيحفظ سلامته وصحته ، أو ينقاد لها ويترك توصيات الطبيب فيلاقي جزاءه في النهاية باشتداد المرض ، أو الموت أحياناً .

٣ ـ وتعد القوانين الوضعية من الحواجز المهمة التي تقف أمام الميول البشرية ، فإذا أرادت حكومة ما أن تظل قائمة وأن يكون لها مجتمع منظم ، فعليها أن تضع القوانين التي تحدد لكل فرد حقوقه وواجباته ، فتسمح ما هو ضمن القانون وتمنع ما سواه . وتعاقب المعتدي على حقوق الآخرين . . . وليس هذا في واقعه إلا تحديداً لحرية الإِنسان ، وعدم فسح المجال لممارسة أهوائه وشهواته كيفما يريد .

قد يستاء البعض لمحدودية حريته تجاه القانون ، فيطغى عليه ويحب أن يكون حراً ليفعل ما يريد ويقول ما يشاء ويذهب أنى يرغب لكن السلطة التنفيذية للقانون تجبره على الإِنقياد له .

يقول أحد الغربيين : القانون كاللجام الذي يوضع على فم الفرس الهائج فقد يطغى عليه ، مع فارق واحد هو أن اللجام الذي يوضع للفرس يضعه الإِنسان. بينما القانون يضعه الإِنسان على نفسه ، وقد يطغى عليه أيضاً .

لنتصور مستطرقاً جائعاً يرغب أشد الرغبة في أن يأكل من الحلويات والفواكه المنضدة في الحوانيت بحرية كاملة ليشبع بطنه ، أو شاباً متميعاً في أشد الميل لإِشباع نهمه الجنسي مع امرأة تسير في الشارع ، لكن القانون يراقبه ويعاقبه بشدة على ميوله غير القانونية .

*  *  *

هذه الأشكال الثلاثة من الحواجز والموانع عن حرية الإِنسان جارية في جميع نقاط العالم ، بغض النظر عن الدين والعنصر ، فالخروج عليها يعتبر ذنباً وإجراماً . ولقد اعتنى الإِسلام بها جميعاً وأوجب على اتباعه إتباعها ومراعاتها ،

١٧

فالجري وراء الميول النفسية التي تخالف القوانين الكونية والصحية والإِجتماعية ممنوع في القانون الإِسلامي . والجانب الأكبر من الذنوب في الإِسلام عبارة عن تنفيذ هذه الرغبات اللامشروعة .

يعتبر الانتحار بجميع صوره ذنباً في الإِسلام ، سواء كان برمي الإِنسان نفسه من شاهق ، أو الإِلقاء في الماء ، أو شرب السم ، أو غير ذلك . وكذا الإِضرار بالنفس والالقاء باليد إلى التهلكة يعتبر ذنباً ، والصوم الواجب إن كان مضراً بصحة الإِنسان فلا يسقط وجوبه فقط بل يعتبر محرماً . وهكذا الذنوب الإِجتماعية والإِخلال بالأمن والنظام والتجاوز على أموال الآخرين ونفوسهم وأعراضهم . . . وبصورة موجزة فإن كل الميول المنافية لسعادة المجتمع ممنوعة ، وارتكابها يعد ذنباً وإجراماً .

إنحطاط البشرية :

وهنا لا بد من الانتباه إلى نكتة مهمة ، وهي أن الذنب ـ بغض النظر عن الأخطار التي يتضمنها في الإِخلال بالنظام العام الاضرار بالمصالح الفردية والإِجتماعية ـ هو أهم عوامل إنحطاط البشرية وتقهقرها . فالمذنبون ليسوا متمتعين بالمزايا الإِنسانية الشريفة والكمالات المعنوية ، فإن ظلمة الذنب تصير حجاباً يخفي نورانية القلب وصفاء الباطن ، والمجرم قبل أن يلحق الضرر بالمجتمع أو بنفسه ، يعمل على إنهيار شخصيته ويكبت الروح الخيرة في أعماقه . فعلى من يرغب في الفضائل الإِنسانية ويحب الكمال والتعالي الروحي أن ينزه نفسه عن ظلمة الذنب والإِجرام .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « مَن أحب المكارم إجتنب المحارم » (١) . وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : « من ترك الشهوات كان حراً » (٢) .

التفكير في الذنب :

إن الإِسلام يخطو خطوة أوسع في هذا المجال ، ويقول بأن الإِنسان

____________________

(١) الإِرشاد للشيخ المفيد ص ١٤١ .

(٢) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ١٧ / ٦٧ .

١٨

الواقعي هو الذي لا يكتفي بترك الذنوب فحسب ، بل لا يفسح مجالاً في ذهنه وفكره للتفكير في الذنب ، ولا يدع الفكرة المظلمة تمر بخاطره . . . فإن التفكير في الذنب حتى ولو لم يصل إلى مرحلة التطبيق ، يوجد ظلمة روحية في القلب ويمحو الصفاء الروحي من الإِنسان .

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « صيام القلب عن الفكر في الآثام ، أفضل من صيام البطن عن الطعام » (١) .

ويقول إمامنا الصادق عليه‌السلام راوياً عن عيسىٰ بن مريم عليه‌السلام أنه كان يقول :  « إن موسى أمركم أن لا تزنوا ، وأنا أمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا ، فإن من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوّق فأفسد التزاويقَ الدخانُ وإن لم يحترق البيت » (٢) . . أي أن فكرة الذنب توجد ظلمة في القلب ـ شاء الفرد أم أبىٰ ـ وتسلب صفاء النفس ، حتى ولو لم يرتكبه الإِنسان .

إن النكات الدقيقة التي أوردها الإِسلام في موضوع السعادة الإِنسانية في القرون السالفة وعلمها اتباعه ، تستجلب أنظار العلماء المعاصرين في العصر الحديث فنراهم يفطنون إلى تلك الحقائق في كتبهم ومؤلفاتهم :

« للأمل والإِيمان والإِرادة القوية أثر كبير على الجسم ، وهو يشبه أثر البخار على القاطرة . إن النشاطات الجسدية والروحية تتكامل بدافع الحب فتكسب الشخصية قوة ورصانة وكمالاً . وعلى العكس فإن الرذائل تحط من الشخصية وتسحقها . إن الكسل والتردد في الرأي مثلاً من أهم العوامل على جمود الفكر . وكذلك العجب بالنفس والغرور والحسد فأنها من عوامل التفرقة والتباعد بين الناس ، وهي جميعاً تمنع النفس البشرية من التكامل » (٣) .

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٢٠٣ طبعة دار الثقافة ـ النجف الأشرف .

(٢) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج ٥ / ٣٧ .

(٣) راه ورسم زندگى ص ٧٢ . وهو ترجمة لكتاب ألّفه بالفرنسية د . ألكسيس كارل . وترجمه إلى الفارسية د . پرويز دبيري.

١٩

« إن المعاصي ـ كما نعلم ـ تقلل من قيمة الحياة المعنوية . وإن تحمل العيوب والنواقص خطأ فظيع . فليس كل شخص حراً في تصرفاته ، وعلى هذا فالذي ينحرف عن الطريق المستقيم في الحياة ويبدو متكاسلاً مفترياً على الناس ولا يبالي بارتكاب مختلف الذنوب يجب أن يعتبر مجرماً عاماً . ولكل ذنب آثاره الوخيمة حيث يؤدي إلى الإِنحرافات العضوية والنفسية والإِجتماعية . فكما أن العض على أنامل الندم لا يتلافى العيوب الناشئة في جسد المدمن على الخمرة أو العيوب الوراثية في أطفالهم . . . وكذلك لا يمكن ترميم الإِنحرافات الناشئة عن الحسد والحقد والغيبة والأثرة والأنانية » (١) .

إن كل ما هو ممنوع في الشريعة المطهرة . وكل ما يعتبره الإِسلام ذنباً وإجراماً يتصل إما بضرر مباشر أو غير مباشر تجاه المصالح المادية أو المعنوية للإِنسانية حتماً . غاية الأمر أن البشر لم يطلعوا على جميع تلك الجوانب . ويرى البعض كثيراً من الذنوب كشرب الخمر والقمار والاتصالات اللامشروعة بين الجنسين رائجة في الدول الغربية فيظن أن الإِسلام قد حرمها عبثاً . . وهو في توهمه هذا غافل عن أن ذلك كله حسب حساب دقيق ، فقد يأتي يوم يفطن فيه الغرب إلى أضرارها فيمنعها أيضاً ! .

في رسالة من محمد بن سنان إلى الإِمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام يسأله فيها عن صحة ما يدعيه بعض المسلمين من عدم وجود حكمة للحلال والحرام في الإِسلام وأن المقصود من ذلك هو التعبد والإِنقياد إلى الله فقط فكتب عليه‌السلام في جوابه :

« . . . قد ضل من قال ذلك ضلالاً بعيداً » ثم يسترسل في ذكر تحريم المحرمات فيقول : « ووجدنا المحرم من الأشياء ، لا حاجة للعباد إليه ووجدناه

____________________

(١) راه ورسم زندكى ص ٨٠ .

٢٠