نظرة عابرة الى الصحاح الستة

عبد الصمد شاكر

نظرة عابرة الى الصحاح الستة

المؤلف:

عبد الصمد شاكر


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٧

عمّن تأخذون دينكم ، لقد أدركت سبعين ممّن يقولون قال رسول الله عند هذه الاساطين ( عمد المسجد النبوي ) ، فما أخذت عنهم شيئاً ... (١) ٥ ـ النظام الاَموي كان بحاجة شديدة إلى استخدام الدين لضرب منافسيهم ومخالفيهم من بني هاشم الذين هم أكثر منهم ديناً وعلماً وكرماً وأقرب رحماً إلى الرسول الاَعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصرفوا الملايين في اجارة الدجالين والوضّاعين لابطال الحقّ وإحقاق الباطل (٢).

٦ ـ دس الزنادقة لافساد أمر الشريعة وعقائد الاَُمة.

اخرج ابن عساكر ـ على ما نقل ـ عن الرشيد انّه جيء إليه بزنديق فأمر بقتله ، فقال : يا أمير المؤمنين أين أنت عن أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم أُحرّم فيها الحلال وأُحلّ فيها الحرام.

وحكي انّه لما أخذ عبد الكريم بن أبي العوجاء يضرب عنقه قال : لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أُحرّم فيها الحلال وأُحللّ الحرام.

وعن حماد بن زيد وضعت الزنادقة على رسول الله اثني عشر ألف حديث.

وعن اسحاق بن راهويه : انّه يحفظ أربعة آلاف حديث مزوّرة.

تأكيد ثانوي

وممّا يؤكد انّ هذه الكثرة المكثرة من الاَحاديث نشأت من الجعل والكذب لاغراض مادية أو سياسية أو غير ذلك ، وانّه لا يصح الاعتماد على

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية : ٢٩٥.

(٢) ملوك بني أُميّة لم يطلبوا وضع الحديث في حقّهم فقط ، فانّ فسقهم وسوء حالهم من صدر الاسلام كان معلوماً مشهوراً عند المسلمين ، بل في تقليل شأن علي وآله ، وفي تعظيم مخالفيهم ، وفي حوادث تتعلّق بهما ، وقد نجحوا في تغيير الرأي العام إلى ما أرادوا.

٤١

جميع ما في الصحاح الموجودة ـ فضلاً عن غيرها كمسند أحمد بن حنبل وغيره ـ انّ كبار الصحابة الذي عاشوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته المباركة وكانت لهم شهرة ومكانة اجتماعية ، بل جملة منهم ـ كالخلفاء ـ يديرون الدولة الاسلامية وبيدهم أمر العباد والبلاد أقلّوا من الحديث والتحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعن ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث : وكان كثير من أَجلّة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلّون الرواية عنه ، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة كما يروون (١).

وعن ابن بطال وغيره : كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد والنقصان (٢).

وقيل : لا يوجد حديث واحد عن أبي عبيدة الجراح وعتبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكثير من غيرهم في كتابي البخاري ومسلم (٣).

وقيل للزبير ـ كما في البخاري ـ : انّي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يحدث فلان وفلان.

قال : أمّا أنّي لم افارقه ، ولكنّي سمعته يقول : « ن كذّب عليَّ فليتبّوأ مقعده من النار ».

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث : ٥٦.

(٢) فتح الباري ٦ : ٢٨.

(٣) أضواء على السنة المحمدية : ٥٧.

٤٢

وعن ابن عباس : انّا كنّا نحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا لم يكن يكذب عليه ، فلمّا ركب الناس الصعبة والذلول تركنا الحديث عنه (١).

وقال أيضاً في جواب بشير بن كعب العدوي حيث قال له : ما لي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدّثك عن رسول الله ولا تسمع!

قال ابن عباس : انّا كنّا مدة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله ، ابتدرته ابصارنا واصغينا بآذاننا ، فلمّا ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف (٢).

فانظر ـ أيدك الله ـ انّ ابن عباس لا يعتني بحديث الصحابي ، ولا يخطر في ذهنه اصالة العدالة ، وانّ الكذب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فشا وذاع في زمان ابن عباس حتّى سلب اعتماده.

واليك قائمة محدودة من روايات بعض الصحابة المشهورين مع دوام صحبتهم :

١ ـ أبو بكر ، فقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على قول النووي في تهذيبه ١٤٢ حديثاً ، أورد السيوطي ١٠٤ منها في كتابه تأريخ الخلفاء ، والبخاري في كتابه ٢٢ حديثاً.

٢ ـ عمر ، لم يصح منه إلاّ مقدار خمسين حديثاً ، كما عن ابن حزم.

٣ ـ علي ، قد أسندوا له ـ كما عن السيوطي ٥٨ حديثاً ، وعن ابن حزم انّه لم يصح منها إلاّ خمسون حديثاً. لم يرو البخاري ومسلم منها إلاّ نحواً من عشرين حديثاً.

٤ ـ عثمان ، له في البخاري ٩ أحاديث ، وفي مسلم ٥.

__________________

(١) نفس المصدر : ٦٦.

(٢) نفس المصدر : ٦٦.

٤٣

٥ ـ الزبير ، له في البخاري ٩ أحاديث ، وفي مسلم ١.

٦ ـ طلحة ، له في البخاري ٤ أحاديث.

٧ ـ ابن عوف ، له في البخاري ٩ أحاديث.

٨ ـ أُبي بن كعب ، له في الكتب الستة ستون حديثاً ونيف.

٩ ـ زيد بن ثابت ، له في البخاري ٨ أحاديث ، واتفق الشيخان على خمسة.

١٠ ـ سلمان الفارسي ، له في البخاري ٤ أحاديث ، وفي مسلم ٣ (١).

هذا ومن جملة المكثرين المشهورين أبو هريرة الذي لم يصاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ عاماً وتسعة أشهر ، فقد نقل أبو محمّد ابن حزم : انّ مسند بقي ابن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على ٥٣٧٤ ، روى البخاري منها ٤٤٦ (٢)!!!

أقول : ومجرد هذا ـ مع الغض عمّا قيل في حقّ أبي هريرة الذي اختلفوا في تعيين اسمه على ثلاثين قولاً!!! ـ يدلّ على انّ جملة كثيرة من أحاديثه مجعولة قطعاً ، إمّا منه ، وإمّا من غيره ، وهذا العلم الاجمالي يسقط حجية جميع رواياته ، كما إذا علمنا بوجود أموال محرّمة في ضمن أموال كثيرة في بيت مثلاً ، فان مقتضى القاعدة الاجتناب عن الجميع.

وأيضاً قد نقل عن كل واحد من انس والسيدة عائشة ( رض ) أكثر من ٢٣٠٠ حديث ، ولا شكّ في كذب عدّة منها.

الوضع والوضّاعون

وعن النووي ـ في شرح مسلم ـ نقلاً عن القاضي عياض :

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية : ٢٢٤ و٢٢٥.

(٢) نفس المصدر : ٢٠٠.

٤٤

الكاذبون ضربان : أحدهما : ضرب عرفوا بالكذب في الحديث وهم أنواع ، منهم : من يضع ما لم يقله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلاً كالزنادقة واشباههم ، إمّا حسبة بزعمهم كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الاَحاديث في الفضائل والرغائب ، وإمّا إغراباً وسمعة كفسقة المحدّثين ، وإمّا تعصباً واحتجاجاً كدعاة المبتدعة ومتعصّبي المذاهب (١) ، وإمّا اشباعاً لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه ، وطلب الفوز لهم فيما اتوه. ومنهم من : لا يضع متن الحديث ، ولكن ربّما وضع للمتن الضعيف اسناداً صحيحاً مشهوراً ...

ومنهم : من يكذب فيدّعي سماع ما لم يسمع ...

ومنهم : من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. انتهى ملخّصاً.

وعن القرطبي في شرح كتاب مسلم : أجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس الجلي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسبة قولية.

وعن أبي شامة في كتابه مختصر المؤمل : ممّا يفعله شيوخ الفقه في الاَحاديث النبوية ... كثرة استدلالهم بالاَحاديث الضعيفة ... نصرة لقولهم ، وينقصون في ألفاظ الحديث ، وتارة يزيدون ، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد.

وقيل : ان كتب أئمّة الحديث كالاحياء للغزالي لا تخلو من الموضوعات الكثيرة.

__________________

(١) قال بعض الباحثين : وليس الوضع لنصرة المذاهب محصوراً في المبتدعة واهل المذاهب في الاَُصول ، بل ان من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم امامه واليك حديثاً واحداً وهو : يكون في امتي رجل يقال له محمّد بن ادريس اضر على امتي من ابليس ويكون في امتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج امتي ... ص١٢١ أضواء على السنة المحمدية.

٤٥

وعدّ بعضهم من أسباب الوضع التحديث عن الحفظ ولم يتقن الحفظ ، واختلاط العقل في أواخر العمر ، والظهور على الخصم في المناظرة لا سيّما إذا كانت في الملاَ ، وارضاء الناس واستمالتهم لحضور مجالسهم ( كما نشاهد اليوم أيضاً ) ، وقد ألصق المحدّثون هذا السبب بالقصاص ، ويقال : أنه ما أمات العلم إلاّ القصاص ، وانّهم اكذب الناس.

وأخرج الزبير بن بكار ـ في أخبار المدينة ـ عن نافع وغيره من أهل العلم قالوا : لم يقص في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا في زمان أبي بكر وعمر ، وانّما القصص محدث أحدثه معاوية حين كانت الفتنة (١).

أقول : وللوضع أسباب أخر كحسبان هداية الناس بوضع ما يدلّ على شدة الترهيب وزيادة الترغيب.

وعن خالد بن يزيد : سمعت محمّد بن سعيد الدمشقي يقول : إذا كان كلام حسن ، لم أرَ بأساً من أن اجعل له اسناداً (٢)!!!

وعن الحلية عن شيخ خارجي بعد أن تاب : فانظروا عمّن تأخذون دينكم ، فانّا كنّا إذا هوينا أمراً صيّرنا له حديثاً!

وعن الطحاوي ـ في المشكل ـ عن أبي هريرة مرفوعاً عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا حدّثتم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أم لم اقله ، فانّي أقول ما يعرف ولا ينكر ، وإذا حدّثتم عني حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به ، فانّي لا اقول ما ينكر ولا يعرف!!! (٣)

وعن مسلم ، عن يحيى بن سعيد القطان : لم نر الصالحين في شيء

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية : ١٢٣.

(٢) النووي على مسلم ١ : ٣٢.

(٣) انظر إلى أبي هريرة كيف يظهر بعض أسباب تكثّره حديثه.

٤٦

أكذب منهم في الحديث.

وعنه أيضاً ، عن أبي الزناد : أدركت بالمدينة مائة كلّهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم الحديث (١).

وعلى كلٌّ قد جمع من الموضوعات ابن الجوزي والسيوطي وغيرهما مجلدات كثيرة. ولاحظ ما مرّ عن قريب في الاَمر الخامس حول أسباب التكثّر المجعول.

موطأ مالك ومسند أحمد

هدفنا في هذا الكتاب هو نظرة عابرة إلى الاَحاديث المروية في الكتب التي تسمّى بالصحاح الستة على نحو الاجمال دون غيرها من كتب الحديث ، ولكنّه يناسب ان نذكر ما قيل حول موطأ مالك ومسند أحمد رحمهما الله توضيحاً لحالهما إجمالاً من دون تعرض لحال احاديثهما بالتفصيل.

عن الدهلوي في حجة الله البالغة : انّ الطبقة الاَُولى من كتب الحديث منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب : الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم.

والثانية لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين ، ولكنها تتلوها وهي : سنن أبي داود والترمذي والنسائي.

والثالثة مسانيد مصنفات صنّفت قبل البخاري ومسلم وفي زمانهما وبعدهما ، جمعت بين الصحيح والحسن ، والضعيف والمعروف ، والغريب والشاذ والمنكر ، والخطأ والصواب ، والثابت والمقلوب. وعلى الطبقة الثانية اعتماد المحدثين.

__________________

(١) اضواء على السنة المحمدية ١٣٧ و١٣٨.

٤٧

ألّف مالك موطأ في أواخر عهد المنصور ، وكان ذلك في سنة ١٤٨ ، وسببه ـ كما عن الشافعي ـ انّ أبا جعفر المنصور بعث إلى مالك لما قدم إلى المدينة وقال له : انّ الناس قد اختلفوا في العراق فضع للناس كتاباً نجمعهم عليه ، فوضع الموطأ.

وفي نقل آخر : فقال المنصور انّي عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعت ( يعني الموطأ ) فتنسخ نسخاً ثم أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمر أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها ... قال : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فانّ الناس قد سبقت اليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات ، وأخذ كلّ قوم بما سبق اليهم وعملوا به ودانوا من اختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم...

وعن السيوطي ـ في تنوير الحوالك ـ عن القاضي أبي بكر بن العربي : انّ الموطأ هو الاَصل الاول والبخاري هو الاصل الثاني ، وانّ مالكاً روى مائة الف حديث ، اختار منها في الموطأ عشرة آلاف حديث ، لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة حتّى رجعت الى ٥٠٠ حديث.

وفي رواية ابن الهباب : ثم لم يزل يعرضه على الكتاب والسنة ويختبرها بالآثار والاَخبار حتّى رجعت إلى ٥٠٠ حديث.

أقول : فانظر إلى شدة ابتذال الحديث بالجعل والوضع وسلب الاعتماد عن الرواة بأن تصل مائة ألف حديث إلى خمسمائة حديث!!! ، ويظهر من العبارة المذكورة انّ ٩٥٠٠ حديث من ١٠٠٠٠ حديث مختارة من ١٠٠٠٠٠ حديث مخالفة للكتاب والسنة أو الآثار والاخبار فحذفها ثانياً من كتابه.

بل عن الديباج المذهّب في معرفة أعيان المذهب ( أي المذهب

٤٨

المالكي ) : قال عتيق الزبيدي : وضع مالك الموطأ على نحو عشرة آلاف حديث ، فلم يزل ينظر فيه كلّ سنة ويسقط منه حتّى بقي هذا ، ولو بقي قليلاً لاَسقطه كلّه!!!

وعلى كلّ عن الشافعي انّه أصح الكتب بعد كتاب الله ، وقد نقل عن جمع ما يقرب من هذا المدح ، لكن قيل انّ مالكاً لم يقتصر في كتابه على الصحيح ، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات ، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف ، كما عن ابن عبد البر.

وقيل أيضاً : انّ الروايات عنه مختلفة حتّى بلغت هذه الروايات عشرين نسخة ، وقيل : انّها ثلاثون ، فلاحظ كلام الزرقاني في شرحه على الموطأ!

وعن بستان المحدثين لعبد العزيز الدهلوي : انّ نسخ الموطأ التي توجد في بلاد العرب في هذه الاَيام متعدّدة عدّ منها ١٦ نسخة ، وقيل : بين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة ونقص.

وعن ابن معين : انّ مالكاً لم يكن صاحب حديث ، بل كان صاحب رأي.

وعن الليث بن سعد : احصيت على مالك سبعين مسألة وكلّها مخالفة لسنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والدار قطني ألّف جزءاً فيما خولف فيه مالك من الاَحاديث في الموطأ وغيره ، وفيه أكثر من عشرين حديثاً.

أقول : هذا حال مالك وكتابه الموطأ.

وقال أحمد عن مسنده ـ كما نقل ـ : انّ هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من ٧٥٠ ألف حديث ، فما اختلف فيه المسلمون من

٤٩

حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارجعوا إليه ، فانّ وجدتموه وإلاّ فليس بحجة!

وقال أيضاً : عملت هذا الكتاب ، أمّا ما إذا اختلف الناس في سنّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع إليه.

وعن مقدمة ابن خلدون : انّ مسند أحمد (١) فيه خمسون ألف حديث!!! سبحانك يا الله.

وعن ابن تيمية الحنبلي (٢) نقلاً عن أبي نعيم : انّه روى كثيراً من الاَحاديث التي هي ضعيفة ، بل موضوعة باتفاق العلماء...

وقال : وليس كلّ ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجّة عنده ، بل يروي ما رواه أهل العلم ، وشرطه أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده ، وان كان في ذلك ما هو ضعيف ... وأمّا كتب الفضائل فيروي ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً ... ثم زاد ابن أحمد زيادات ، وزاد أبو بكر القطيعي ( الذي رواه عن ابنه ) زيادات ، وفي زيادات القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة ( باتفاق أهل المعرفة ) ، وهذه شهادة حنبلي على إمامه.

وقال ابن تيمية في كتابه الآخر : وممّا قاله أحمد بن حنبل ، ووافقه عليه عبد الرحمن بن مهدي وعبدالله بن المبارك : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا.

وعن ابن كثير : ... فانّ فيه ( أي المسند ) أحاديث ضعيفة ، بل موضوعة كاحاديث ...

__________________

(١) المسند : ما أُفرد فيه حديث كلّ صحابي ، من غير نظر إلى موضوع الحديث وترتيبه ، وصحته وعدمها.

(٢) انظر الجزء الرابع من منهاج السنة.

٥٠

وعن العراقي : وأمّا وجود الضعيف في المسند فهو محقق ، بل فيه أحاديث موضوعة ، وقد جمعتها في جزء ، ولعبدالله ابنه فيه زيادات فيها الضعيف والموضوع.

وعن أبي شامة نقلاً عن أبي الخطاب : أصحاب الاِمام أحمد يحتجّون بالاَحاديث التي رواها في مسنده ، وأكثرها لا يحل الاحتجاج بها...

ويقال : انّ أحمد شرع في جمع المسند في أوراق مفردة على نحو ما تكون المسودة ثم مات ، فقام ابنه عبدالله بتدوينه وألحق به ما يشاكله ، وضم إليه من مسموعاته ما يشابهه ويماثله ، فسمع القطيعي من كتبه من تلك النسخة على ما يظفر به منها فوقع الاختلاط من المسانيد والتكرار.

وقيل أيضاً : انّه قدر الله تعالى انّ الاِمام أحمد قطع الرواية قبل تهذيب المسند وقبل وفاته بثلاث عشرة سنة ، فتجد في الكتاب أشياء مكرّرة ، ودخول مسند في مسند ، وسند في سند (١).

وعن ابن قتيبة : قطع أحمد بن حنبل رواية الحديث قبل وفاته بسنين كثيرة من سنة ٢٢٨ هـ على ما يذكره أبو طالب المكي وغيره ، فدخل في الروايات عنه ما دخل من الاَقوال البعيدة عن العلم ، إمّا من سوء الضبط أو من سوء الفهم أو تعمد الكذب (٢).

وعند الفراغ عن المقدّمات نشتغل ببيان مقاصد الكتاب.

__________________

(١) انظر مقدمة مسند أحمد للشيخ أحمد محمّد شاكر.

(١) كتاب الاختلاف في اللفظ : ٥٣.

٥١

المقصد الاَول

حول أحاديث صحيح البخاري

٥٢
٥٣

مقدمة :

انّ محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مغيرة الفارسي ولد ببخارى سنة ١٩٤ هـ ، وارتحل في طلب الحديث ، ولبث في تصنيفه ست عشرة سنة بالبصرة وغيرها حتى اتمّه ببخارى ، ومات بخرتنگ قرب سمرقند سنة ٢٥٦ هـ ، فكان عمره أكثر من ستين سنة. وكان مغيرة مجوسياً ثم أُسلم.

وعن مقدمة فتح الباري لابن حجر : انّ أبا علي الغساني روى عنه أنّه قال : خرّجت الصحيح من ٦٠٠ ألف حديث.

وعنه أيضاً : لم اخرّج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً ، وما تركت من الصحيح أكثر ... وعنه : كنّا عند اسحاق بن راهويه ـ وهو استاذه ـ فقال : لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة الله ، فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح ، وخرّجت الصحيح من ٦٠٠ ألف حديث.

فهو أوّل من ميّز الصحيح من غير الصحيح في نظره واجتهاده ثم تبعه غيره في ذلك ، وكتاب البخاري اشهر الصحاح حتى قيل في حقه : انّه أصح كتاب بعد كتاب الله.

وعن الحاكم في تاريخه : قدم البخاري نيسابور في سنة ٢٥٠ هـ ، فأقبل عليه الناس ليسمعوا منه ، وفي أحد الاَيام سأله رجل عن ( اللفظ بالقرآن ) ، فقال : افعالنا مخلوقة ، وألفاظنا من افعالنا ، فوقع بذلك خلاف ، ولم يلبث ان حرّض الناس عليه محمّد بن يحيى الذهلي وقال : من قال ذلك فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم! فانقطع الناس عن البخاري إلاّ مسلم ـ صاحب الصحيح الآخر ـ وأحمد بن سلمة ، وقد خشي البخاري على

٥٤

نفسه فسافر من نيسابور (١).

أقول : لا شكّ أنّ قول البخاري هو الصحيح المعقول.

ثم انّ جملة من المحقّقين لم تمنعهم شهرة البخاري من أن ينتقدوه وينتقدوا كتابه ، ولا شكّ انّ كلّ انسان له أخطاؤه ونواقصه ، ويقبح كلّ القبح من العلماء أن يغلوا في حقّ أي واحد وإن كان مشهوراً أو ينقصوا من حق أي أحد وإن كان مهجوراً ، وهذا هو الفارق بين العالم والجاهل.

فمن جملة ما اخذوا عليه ، انه ينقل الحديث بالمعنى ، يعني لا يهتم بالفاظ الحديث مع انّها مهمة جداً ، فقد نقل أحيد بن أبي جعفر والي بخارى قال : قال لي محمّد بن إسماعيل يوماً : ربّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، وربّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقلت له : يا أبا عبدالله بتمامه؟ فسكت (٢).

وبمثله نقل الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٣).

وعن محمّد بن الاَزهر السجستاني قال : كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب ، فقيل لبعضهم : ما له لا يكتب؟ فقال : يرجع الى بخارى ويكتب من حفظه ( المصدر ).

وعن العسقلاني : من نوادر ما وقع في البخاري انّه يخرّج الحديث تاماً باسناد واحد بلفظين (٤).

ومن جملة ما اخذوا على كتابه ما ذكره ابن حجر في مقدمة الفتح : انّ

__________________

(١) انظر هدى الساري ٢ : ٢٠٣.

(٢) هدى الساري ٢ : ٢٠١.

(٣) تاريخ بغداد ٢ : ١١.

(٤) فتح الباري ١ : ١٨٦.

٥٥

أبا اسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال : انتسخت كتاب البخاري من اصله الذي كان عند صاحبه محمّد بن يوسف الفربري ، فرأيت فيه اشياء لم تتم ، واشياء مبيضة ، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً ، ومنها احاديث لم يترجم لها ، فاضفنا بعض ذلك الى بعض.

قال أبو الوليد الباجي : وممّا يدل على صحّة هذا القول انّ رواية أبي اسحاق المستملي ، ورواية أبي محمّد السرخسي ، ورواية أبي الهيثم الكشميهي ، ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير ، مع أنّهم انتسخوا من اصل واحد ، وانّما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم في ما كان في طرة أو رقعة مضافة انّه من موضع ما ، فاضافه اليه ، ويبين ذلك أنّك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها احاديث.

وذكر في الجزء السابع من فتح الباري شواهد أُخر منها : انّ البخاري ترك الكتاب مسودة وتوفي ، وقال : اظن ان ذلك ـ أي الناقصة ـ من تصرف الناقلين لكتاب البخاري.

أقول : وهذا ممّا يقل الاعتماد على الكتاب المذكور.

ومن جملة هذه المؤاخذات ماانتقده الحفاظ في عشرة ومائة حديث ، منها ٣٢ حديثاً وافقه مسلم على تخريجه ، و٧٨ حديثاً انفرد هو بتخريجه (١).

والذين انفرد البخاري بالاخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلاً ، المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلاً ، والذين انفرد مسلم بالاخراج لهم دون البخاري ٦٢٠ رجلاً ، المتكلم فيه بالضعف منهم

__________________

(١) فتح الباري ٢ : ٨١.

٥٦

١٦٠ رجلاً ، والاَحاديث التي انتقدت عليهما بلغت مائتي حديث وعشرة ، اختص البخاري منها بأقل من ثمانين ، وباقي ذلك يختص بمسلم.

واما الذين طعن فيهم من رجال البخاري فنحو أربعمائة نفر ، فلاحظ تفصيله في المصدر السابق.

وعند السيد محمّد رشيد رضا ان المشكلة لا تخص بصناعة الفن ـ أي السند ـ بل في المتون أيضاً ، فقال : إذا قرأت الشرح ( فتح الباري ) رأيت له في احاديث كثيرة اشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها ...

ويقول الدكتور أحمد امين : ان بعض الرجال الذين روى البخاري لهم غير ثقات ، وقد ضعف الحفّاظ من رجال البخاري نحو الثمانين ، وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل فالوقوف على اسرار الرجال محال ... ان احكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف ... ولعل من اوضح المثل في ذلك عكرمة مولى ابن عباس ، وقد ملاَ الدنيا حديثاً تفسيراً ، فقد رماه بعضهم بالكذب ، وبأنّه يرى رأي الخوارج ، وبانّه كان يقبل جوائز الامراء ، ورووا عن كذبه شيئاً كثيراً ، فرووا انّ سعيد بن المسيب قال لمولاه ـ برد ـ : لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس ، واكذبه سعيد بن المسيب في احاديث كثيرة.

وقال القاسم : انّ عكرمة كذّاب يحدّث غدوة بحديث يخالفه عشية.

وقال ابن سعد : كان عكرمة بحراً من البحور وتكلّم الناس فيه ، وليس يحتج بحديثه.

هذا على حين ان آخرين يوثقونه ... فالبخارى ترجح عنده صدقه ، فهو يروى له في صحيحه كثيراً ، ومسلم ترجح عنده كذبه ، فلم يرو له إلاّ حديثاً واحداً في الحج ، ولم يعتمد فيه عليه وحده ، وانّما ذكره تقوية

٥٧

لحديث سعيد بن جبير في الموضوع نفسه (١).

لا يجب الاخذ بكل ما في البخاري

ويقول صاحب المنار في كلام له في هذا المجال : بل ما من مذهب من مذاهب المقلدة إلاّ واهله يتركون العمل ببعض ما صح عند البخاري وعند مسلم أيضاً من احاديث التشريع المروية عن كبار ائمة الرواة ، لعلل اجتهادية أو لمحض التقليد ، وقد اورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة شاهد على ذلك في كتابه اعلام الموقعين ...

وعن الانتصار لابن الجوزي ، جملة احاديث لم تأخذ بها الشافعية من احاديث الصحيحين ، لما ترجح عندهم مما يخالفها ، وكذا في بقية المذاهب.

اقول : من وقف على المباحث الماضية لا يبقى له شك في عدم وجوب العمل بكل ما في الصحاح ومنها البخاري ، بل يطمئن بكذب جملة منها فلا يبقى للمحقّق سوى الاحتياط التام ، واما المقلد والعامي ومدعي العلم فله ما تخيل ، بل صحة الرواية عند مؤلف شيء وصحة المتن عن النبي الاَكرم صلى الله عليه سلم شيء آخر وبينهما بون بعيد ، فلا تكن من المغرورين.

روايات البخاري

وعن العراقي كما عن شروط الائمة الخمسة ص٨٥ انّ عدد احاديث البخاري يزيد في رواية الفربري على عدده في رواية ابراهيم بن معقل

__________________

(١) ضحى الاسلام ٢ : ١١٧ ـ ١١٨.

٥٨

بمائتين ، ويزيد عدد النسفي على عدد حماد بن شاكر النسفي بمائة.

وعن ابن حجر في مقدمة الفتح : ان عدد ما في البخاري من المتون الموصولة بلا تكرار ٢٦٠٢ ، والمتون المعلّقة المرفوعة ١٥٩ ، فمجموع ذلك ٢٧٦١.

وقال في شرح البخاري : انّ عدته على التحرير ٢٥١٣ حديث (١).

نواقص كتاب البخاري

الذي ظهر لي بالتعمّق في روايات البخاري واحاديثه ان فيه نواقص تضر باعتباره وبالاعتماد عليه أو بحسن تأليفه ، منها :

١ ـ لا مناسبة في بعض المواضع بين عناوين الاَبواب ورواياتها كما في غالب كتاب العلم ، وكتاب مواقيت الصلاة ، وباب إذا لم يجد ماء ولا تراباً وامثالها.

٢ ـ الاحاديث المكررة ـ سواء بلا مناسبة أو بمناسبة جزئية ـ في كتابه قد بلغت الى حد تشمئز منه النفس ويتنفر منه الطبع ، ولعلها من خصائص هذا الكتاب وحده ، فانّه ربمّا كرّر فيه بعض الاحاديث ثلاث عشرة مرة ، وست عشرة مرة ، وتسع عشرة ، بل الى اثنتين وعشرين مرة!!!!

ويحتمل ان هذا التكرار الممل المخالف للذوق السليم ليس من صنع المؤلف ، فانّه مات قبل تدوين كتابه فتركه مسوداً ، فتصرف فيه المتصرفون بلا روّية ، وعليه فيقل الاعتماد على الكتاب المذكور ، فان امانة البخاري ووثاقته لا توجدان أو لم تثبتا لهؤلاء المتصرفين.

__________________

(١) فتح الباري ١ : ٧٠.

٥٩

٣ ـ لا يوجد في كتاب التوحيد ـ مثلاً ـ حديث مفيد ، بل كثيراً ما لا يستفاد من روايات البخاري معنى مفيداً ، وهذا شيء عجيب ، وكيف يعقل ان تكون جملة كثيرة من احاديث النبي الحكيم الفصيح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أُمور تافهة غير مناسبة لمقام النبوة ، وهو افضل البشر عقلاً وعلماً وحكمة؟!!!

٤ ـ لا معنى لبعض كتب البخاري ، فلاحظ كتاب التمني تجد صدق ما قلنا.

٥ ـ ينبغي ان نسمي مجمع الصحاح ـ ومنها البخاري ـ بكتب سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لا توجد في أكثر احاديثها مطالب في العقائد والمعارف والضوابط الكلية في الفقه ، ولذا ترى فقهاء المذاهب والمجتهدين في الفقه يلجأون الى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، بل ذهب بعض المحققين ـ كما تقدم ذكره عند البحث عن كتابة الحديث ـ الى ان الصحابة ( رض ) لم يفهموا جعل الاحاديث كلّها ديناً عاماً دائماً كالقرآن ، والى ان حكمة النهي عن كتابة الحديث هي لكي لاتكثر اوامر التشريع ولا تتسع ادلة الاحكام ، وهو ما كان يتحاشاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نعم خلو كتب الحديث عمّا قلنا واجمال جملة أُخرى من روايات هذه الكتب يقويان استنباط هؤلاء المحقّقين من حكمة النهي المذكور ، لكن معنى ذلك سقوط السنّة القولية عن مقامها السامي في التشريع الاسلامي المقربه عند المذاهب الاسلامية أو جمهور المسلمين ، حيث يعدون السنّة بعد كتاب الله تعالى مصدراً أصلياً ، اللهم إلاّ ان يقال ان المراد بها هي السنّة العملية دون اخبار الآحاد التي عرفت حالها فيما مر من هذا الكتاب ، وان الغلو في اعتبار روايات الصحاح شأن مدّعي العلم والمغرورين دون العلماء الكاملين.

٦٠