الوصية الممنوعة

علي صادق الزبيدي

الوصية الممنوعة

المؤلف:

علي صادق الزبيدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-364-0
الصفحات: ٧٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١
٢

٣
٤

مقدِّمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلاة والسلام على عباده الذين اصطفىٰ محمد وآله الكرام ، وبعد :

لقد اكتسبت الوصية أهمية خاصة في تاريخ الإنسانية منذ بدء الخليقة وإلى اليوم ، ذلك لأنّها تعبّر عن ديمومة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتساعد في المحافظة علىٰ سلامة الف رد والأسرة والدولة والمجتمع من الفوضىٰ والاختلاف بعد رحيل الموصي ، وتُسهم في نقل تجارب الماضين إلى التالين والسابقين إلى اللاحقين.

وقد أقرّت الشرائع الإلهية مبدأ الوصية منذ أبينا آدم إلىٰ سيّدنا النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكّدت مصادر الحديث والتاريخ علىٰ تواتر عهود الأنبياء إلى أوصيائهم الذين يخلفونهم في هداية الناس إلى الحق والعمل الصالح ، ويكونوا حجّة على العباد وأُمناء على الرسالة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكل نبي وصي ووارث ، وإن علياً وصيي ووارثي » وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام: « لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجّة ، إما ظاهراً مشهوراً ، وإما خائفاً مغموراً ».

٥

والوصية في تاريخ النبوات يرتفع فيها الوصي إلىٰ مستوى المهمّة الملقاة علىٰ عاتقه في خلافة النبوة والزعامة علىٰ جميع مَن تشمله دعوة تلك النبوة ، ومن هنا فإنّ الوصي لابدّ أن يمتلك مؤهّلات خاصّة ومزايا ليست في غيره من سائر الناس تؤهّله لتسنّم منصب الخلافة ونيل شرف الوصاية ، ولا يكون ذلك إلاّ علىٰ ضوء الاصطفاء الإلهي للوصي المقترن بالإعداد النبوي ، ليكون وريثاً للعلم النبوي وقائداً رسالياً يقوم بأعباء استكمال المسيرة النبوية في قيادة الأُمة.

وفي تراثنا الإسلامي حفلت كتب الحديث والتاريخ والأدب بمزيد من الأدلّة والشواهد التي تؤكّد وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بالخلافة في مناسبات عديدة ، استناداً إلىٰ مبدأ الاصطفاء الإلهي والمؤهلات الذاتية لعلي عليه‌السلام التي جعلته أجدر الناس للنهوض بهذه المهمّة فضلاً عن السابقة والفضل والقرابة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ وصيي ووارثي ، يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب ».

وأصبح لقب الوصي واحداً من أشهر ألقاب علي عليه‌السلام في صدر الإسلام ، ولشهرته فقد ثبت في معاجم اللغة وجاء كثيراً على لسان الرعيل الأول من شعراء الصحابة والتابعين.

وفي آخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يثبت تلك الوصية بعهدٍ معهود وكتاب مشهود ، فدعا بصحيفة ودواة ليكتب لأصحابه كتاباً لا يضلُّون بعده ، فوقع النزاع واللغط ، ومُنِعت الوصية ، فكانت « الرزيّة » التي أبكت ابن عباس حتّىٰ بلَّ دمعه الحصىٰ ، ودفعت الأمة الإسلامية ثمنها باهظاً حتّىٰ يوم الناس هذا ..

٦

قد يتساءل البعض عن سبب تأخُّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتابته للوصيَّة حتَّىٰ ظنَّ البعض أنَّه ـ حسب تعبيرهم ـ يهجر ، فلو أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجَّل في الأمر لما كان هذا الجدال والبحث .. لقد فات هؤلاء الشيء الكثير ، وأوّله : إنّه ليس شرط الوصية أن تكون مكتوبة ، بل يكفي فيها أن تكون مشهودة ، والثاني : إن ما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتبه في مرضه الأخير كان قد قاله أكثر من مرّة ، وذكّر به في مناسبات متعددة ، والثالث : إن صاحب الوصية يضطرّ إلىٰ كتابتها حين يشعر بوقوع الاختلاف من بعده ، وهذا ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن قد حال دون تحقّق هذا الفعل ، وتدوين تلك الوصية الكبرىٰ ، ما حدث من نزاع ولغط أثاره نفر من الصحابة لمّا أدرك ما كان يريد النبي تدوينه .. فالوصية إذاً أخذت موقعها في هذه الساعة ، ودوّنت في هذا الموقف الحاسم والمشهود ، فإن الخروج عليها سيكون أمراً في غاية الصعوبة !

فما هي ملابسات تلك القضية ، وبماذا أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يوصي وهو مسجّىٰ علىٰ فراش الموت ، وما هو مضمون ومنطوق رواياتها المختلفة ، ولماذا لم يوصِ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الاحتضار ، وهل من عذرٍ يلتمس لمَن قدّم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمنع وصيته ؟

ستجد الإجابة عن كل هذه التساؤلات ملخصّة وموثقة في هذا البحث ، نأمل أن يُسهم في إزالة بعض الركام والضبابية التي اكتنفت تلك الحادثة المهمّة في تاريخ الإسلام.

مركز الرسالة

٧
٨

رواية من عمق التأريخ

عن ابن عبّاس قال :

لمَّا حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطَّاب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ـ « هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ».

فقال عمر :

ـ إنَّ النبيَّ قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله.

فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبيُّ كتاباً لا تضلُّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قاله عمر ، فلمَّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي ، قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ـ « قوموا ، ».

فكان ابن عباس يقول :

ـ إنَّ الرزية كلَّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (١)

بداية غاضبة

... لكن ذلك العاصم من الضلال ... ضيّعوه ...

ذلك الكتاب الذي ودَّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمليه ، أبَوا عليه أن يخرج إلى

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٩ ـ كتاب المرض ، ومثله أيضاً ٨ : ١٦١ افست دار الفكر على طبعة استانبول.

٩

النور ...

حجبوه ...

لكأنما مزّقوه ...

فعلى من تقع تبعة هذه الخسارة التي تكبّدتها منذ تلك اللحظة أُمّة الإسلام ، وما زالت إلى اليوم تتكبدّها ، وتدفع ثمنها من دمها وعرقها ونصيبها في الحياتين ، جيلاً بعد جيل ؟ ..

من المسؤول ؟ ..

وهل عمر وحده الملوم ؟ ..

ولأيّ غاية كان هذا السلوك ؟ .. (١)

__________________

(١) السقيفة والخلافة / عبد الفتاح عبد المقصود : ٢٤٠ ، مكتبة غريب مصر ، ١٩٧٧.

١٠

من هو صاحب الوصية ؟

سنكتفي هنا بذكر الآيات القرآنية الواردة بخصوص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يتعلّق منها ببحثنا بشكل خاص.

يصف لنا القرآن الكريم شخصية الرسول من جوانب مختلفة ، إلاّ إننا سنلقي نظرة على أُمور معينة منها :

الأمر الأول ـ أنه معصوم من الخطأ ، يقول القرآن الكريم في صدد ذلك : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١).

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ ) (٢).

( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) (٣).

وهذه آيات محكمات تبيّن أن وظيفة الرسول تحتاج إلىٰ هداية ربانية تمنعه وتحرسه من الخطأ والنسيان والسهو وارتكاب حتى الصغائر ، ليصلح بذلك أن تقتدي به الناس ، وإلاّ انتفى ذلك من الأصل.

الأمر الثاني ـ أنه جاء بالهدىٰ والبينات ودين الحق ، ولنقرأ بشيء من التدقيق هذه الآيات الكريمات :

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٣ ـ ٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٧٠.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٨٠.

١١

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ ... ) (١).

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ... ) (٢).

( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ ... ) (٣).

( قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَىٰ ... ) (٤).

( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) (٥).

الأمر الثالث ـ أنه بشير بالغفران والجنة ، ونذير من العذاب والسخط ، اقرأ هذه الآية : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ... ) (٦) فوظيفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يبشر الناس إذا عملوا الصالحات ، ويحذرهم من عمل السيئات.

الأمر الرابع ـ أن طاعته واجبة ، وهذا ما دلّت عليه الآيات التالية :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) (٧).

( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ) (٨).

( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٣ ، سورة الفتح : ٤٨ / ٢٨ ، سورة الصف : ٦١ / ٩.

(٢) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٥.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٧٤ وانظر سورة الروم : ٣٠ / ٤٧.

(٤) سورة غافر : ٤٠ / ٥٠ وانظر سورة الأعراف : ٧ / ١٠١.

(٥) سورة المائدة : ٥ / ٣٢ ، وانظر سورة التوبة : ٩ / ٧٠ ، وسورة يونس : ١٠ / ١٣ ، وسورة إبراهيم : ١٤ / ٩.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ١١٩ وانظر سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٥ ، سورة الفرقان : ٢٥ / ٥٦ ، سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٥ ، سورة سبأ : ٣٤ / ٢٨ ، سورة فاطر : ٣٥ / ٢٤ ، سورة الفتح : ٤٨ / ٨ ، سورة الأنعام : ٦ / ٤٨ ، سورة الكهف : ١٨ / ٥٦.

(٧) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

(٨) سورة آل عمران : ٣ / ٣٢.

١٢

النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ) (١).

( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ... ) (٢).

( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣).

( أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٤).

( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ... ) (٥).

الأمر الخامس ـ أن طاعته طاعة لله سبحانه ، كما يقول سبحانه وتعالى : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) (٦) وقد أكد سبحانه وتعالى على ضرورة طاعة الرسول وربطها بطاعته لكي لا يبقىٰ لمتحجج حجة ، ولا ينبري شخص ويقول : إن من فضل وقوة الشخصية الفلانية أنها تراجع وتجادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الأمر السادس ـ عدم جواز عصيانه ومشاقّته ، فلنقرأ الآيات كما جاءت في القرآن الكريم :

( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) (٧).

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٩.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٥٦.

(٣) سورة الحشر : ٥٩ / ٧.

(٤) سورة الأنفال : ٨ / ٢٠.

(٥) سورة الأنفال : ٨ / ٤٦.

(٦) سورة النساء : ٤ / ١٣٩.

(٧) سورة النساء : ٤ / ١١٥.

١٣

( فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ) (١).

( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ... ) (٢).

( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا ) (٣).

وليس معصية الله والرسول تكون فقط في الكفر والشرك والنفاق ، بل إن جحود أو ردّ أي شيء على الرسول وعدم قبوله ، هو معصية بدليل قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٤) ، وقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥).

الأمر السابع ـ على المؤمن أن يُسلّم لأمر الله ولأمر رسوله ، ويستجيب له نفسياً وروحياً ، اتلُ هذه الآيات :

( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ) (٦).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (٧).

( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) (٨).

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٩.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٤.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٦.

(٤) سورة الحشر : ٥٩ / ٧.

(٥) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٦.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٨٧.

(٧) سورة الأنفال : ٨ / ٢٤.

(٨) سورة النور : ٢٤ / ٥١.

١٤

هذه جملة أمور تطلعنا علىٰ منزلة الرسول العظيمة ، وتحدّد واجباتنا نحوه ، وتمنعنا من معصيته ومجادلته ، وتأمرنا بطاعته والاستجابة لأوامره ونواهيه.

وما نرجوه أن يتفحص القارئ الكريم الآيات المذكورة ويحكّم عقله مع آيات الذكر الحكيم ليقترب من حقيقة هذه الشخصية الرائعة وعلو الدرجات التي تسنّمتها لتصل إلىٰ هذا اللطف الإلهي النادر.

١٥

لماذا يوصي الرسول ؟

حقاً لماذا يوصي الرسول وقد ترك لأُمّته القرآن ؟ ألا يكفى أن يرجع المسلمون إلى القرآن الكريم ويهتدوا بهديه ويحتكموا إلى آياته ؟ لماذا كل هذا الإصرار على الوصية وأهميتها ؟

نعرف مسبقاً أنّ القرآن الكريم نزل في ثلاث وعشرين سنة ، وكان بتعاليمه السامية ذا أثرٍ بالغ في تهذيب متّبعيه وحملهم على الجادة السوية ، فكيف أنّ وصية قد لا تتجاوز الصفحة أو الصفحات ، أو لنقل كلمات قلائل ، قادرة علىٰ صيانة وحفظ مستقبل الأُمّة ؟

ما أهمية تلك الكلمات مقابل قرآن يتلى ليلاً ونهاراً ، وقد ملأ الأرض بأتباعه وحفّاظه ؟

لا يستطيع أحد ـ أيّاً كان ـ أن ينكر أهمية القرآن ودوره الفاعل في إغناء المسلمين بالمُثُل والقيم الصالحة لحياتهم ، وأين الذي يتجرأ ويمحو الأثر الوضّاء لمسيرة أُمّة عبر قرون مديدة وهي تستضيئ بآيات الوحي وتستلهم من أنواره وإشعاعاته ؟

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من علم هذا الكلام ، وأول من أدرك أهميته وفائدته ، كيف لا وقد تلىٰ عليهم آياته وقرأ عليهم ( الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (١) وقرأ عليهم ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (٢) وقرأ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ١.

١٦

عليهم ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ) (١) وقرأ عليهم ( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... ) (٢).

الرسول يطيع القرآن

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المبادر الأول إلى العمل بأحكام القرآن وامتثال أوامره ونواهيه ، وقد بلغ الغاية القصوى في التعبّد بجميع ما فيه ، وكيف لا وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة إلى تبليغ ألفاظه وجمله وقراءته وأحكامه إلى سائر أفراد الأُمّة ؟

آية من آيات التنزيل

هناك آية في القرآن الكريم تقول : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ) (٣) فالله سبحانه وتعالىٰ يشير بكتابة الوصيَّة إن ترك الإنسان مالاً. فهل يا ترى أنَّنا مخطئون إذ قلنا إنَّ خلافة المسلمين أهمُّ وأعظم من المال وإن كثُر ؟

وانظر أيضاً إلى إبراهيم الخليل حيث يقول عنه القرآن الكريم : ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (٤).

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨٩.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٨٠.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٣٢.

١٧

فإن قلنا : إنَّ الرسول لم يكن مأموراً بالوصيَّة ، أفلا يصحَّ أن نقول إنَّه اقتدىٰ بأبيه إبراهيم ؟ وقد شهد له القرآن بذلك حيث قال : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ ... ) (١).

الوصيَّة ساعة الاحتضار

قد يتساءل البعض عن سبب تأخَّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتابته للوصيَّة حتَّىٰ ظنَّ البعض أنَّه ـ حسب تعبيرهم ـ يهجر ، فلو أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجَّل في الأمر لما كان هذا الجدال والبحث .. لقد فات هؤلاء الشيء الكثير ، وأوّله : إنّه ليس شرط الوصية أن تكون مكتوبة ، بل يكفي فيها أن تكون مشهودة ، كما سيأتي في النصّ القرآني .. والثاني : إن ما أراد النبي أن يكتبه في مرضه الأخير كان قد قاله أكثر من مرّة ، وذكّر به في مناسبات متعددة.

والثالث : إن صاحب الوصية يضطرّ إلىٰ كتابتها حين يشعر بوقوع الاختلاف من بعده ، وهذا ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي القرآن الكريم ما يؤكد أن الوصية لا يشترط فيها الكتابة ، ويؤكد أيضاً أنها قد تكون عند حضور الموت ..

قال تعالىٰ : ( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٢).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣٣.

١٨

وقال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ... ) (١).

فليس هناك غرابة في أن تكون وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الموت أو ساعة الاحتضار ، وأن تكون شفاهية غير مكتوبة .. هذا مع التذكير بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوصى بهذا الأمر مراراً كما قدّمنا.

ضياع الأتعاب

لنفرض أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يملكه من روح طاهرة ونفس كبيرة خاف أن تضيع الرسالة بعد وفاته ، إذ إنَّه سمع جبرئيل يقول عن الله سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (٢) فلنقل إنَّه خشي أن تضيع أتعابه التي قال عنها : « ما أُوذي أحدٌ مثل ما أُوذيت في الله » (٣) فأراد أن يكتب كتاباً لن يضلَّ المسلمون بعده ... فهل في ذلك ضرر علىٰ أحد ؟ أم أنَّه طلب شيئاً ليس له دخل فيه ، ولا من شؤونه ؟

إنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتألَّم في حياته من ضلال الناس حتَّىٰ أخبره الله سبحانه بقوله : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٤) ؟ ، وقال له : ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) (٥).

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ١٠٦.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

(٣) كنز العمَّال / المتقي الهندي ٣ : ١٣٠ / ٥٨١٨ ط. مؤسَّسة الرسالة ١٤٠٩ ه‍ ، حلية الأولياء / أبو نعيم ٦ : ٣٣٣.

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٥٦.

(٥) سورة فاطر : ٣٥ / ٨.

١٩

فالنبيُّ بروحه الطيِّبة والتوَّاقة إلىٰ هداية الناس وإرشادهم إلىٰ سبيل الحقِّ ، أراد أن يضمن استمرار هذه المسيرة علىٰ الصراط المستقيم. فكم يا ترىٰ كانت خسارة المسلمين بسبب إضاعة تلك الفرصة ؟ تلك الخسارة التي نشهد بعض فصولها الآن من جراء عدم كتابة تلك الوصيَّة.

فإذا قيل : لا تهوِّلوا ذلك ولا تنفخوا القضية ، فما هي إلاَّ كلمات ، وما فائدة الكلمات أمام كتاب عظيم ( لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (١) ؟ فمعنى ذلك هو أن نردَّ قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لن تضلُّوا بعدي » ونكذِّبه !!

والحيرة علىٰ أشدِّها في نفوس المسلمين المعاصرين ، فهم بين أن يردُّوا علىٰ الرسول ما قال ، وبين أن يسمعوا له ويطيعوا ، كما أمرهم ربُّهم ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... ) (٢) و ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (٣) ولا أعتقد أنَّ هناك مسلماً واحداً يرجِّح عصيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبرىَ ساحة الصحابة وينزِّههم أمام التاريخ ، وإن وُجِدَ هذا فهو ليس بمسلم ؛ لقوله تعالىٰ : ( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ) (٤).

__________________

(١) سورة فُصِّلت : ٤١ / ٤٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٩٢.

(٣) سورة الحشر : ٥٩ / ٧.

(٤) سورة الحاقَّة : ٦٩ / ١٠.

٢٠