محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]
المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-3-1
الصفحات: ٨٧٨
[١١]
باب
معنى الكتاب والكلام
والفرق بينهما وتفاصيل كتب الله جلّ وعزّ
(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) [٤٢ / ٥٢]
فصل [١]
[وحدة الكتابة والتكلّم واختلافهما باعتبارين]
قال بعض المحقّقين ما حاصله (١) :
إنّ صور الألفاظ إن نسبت إلى اللافظ سمّيت «كلاما» ، واللافظ «متكلّما» ، وإن نسبت إلى ما ينتقش فيه ـ كاللوح الهوائي بالإضافة إلى الإنسان ـ سمّيت «كتابة» واللافظ «كاتبا».
فاللوح الهوائي بالنسبة إلى النفس الناطقة الإنسانيّة كلام وكتاب باعتبارين.
__________________
(١) ـ ملخص مما جاء في مفاتيح الغيب : المفتاح الأول ، الفاتحة الخامسة والسادسة : ٢٤ ـ ٣٠.
والأسفار الأربعة : ٧ / ١٠ ـ ١٩.
وكذا النفس الناطقة المرتسمة فيها الصور العقليّة والعلوم النفسانيّة لوح كتابي بأحد الاعتبارين ، وبهذا الاعتبار لها وجه إلى مصوّر عقليّ وقلم علويّ يصوّرها بتلك العلوم والصور ؛ وبالاعتبار الآخر جوهر متكلّم ناطق ، ولها وجه إلى قابل يقبل منها الصور ويسمع عنها الكلام.
وكذا وجود الموجودات كلّها الصادر بأمر «كن» ـ بلا لفظ ولا صوت ـ كلام الله وكتابه باعتبارين ، وكذلك القرآن الذي بين أظهرنا والكتب التي انزلت من قبل كلّها كلام الله وكتابه جميعا باعتبارين.
فكلّ منها بما هو كلام الله نور من أنواره المعنويّة نازل من لدنه ، ومنزله الأوّل قلب من يشاء من عباده المحبوبين ، كما قال : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [٤٢ / ٥٢] ، وقال : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [١٧ / ١٠٥].
وبما هو كتاب نقوش وأرقام فيها آيات وأحكام نازلة من السماء نجوما على صحائف قلوب المحبّين وألواح نفوس السالكين وغيرهم ، يكتبونها في صحائفهم وألواحهم بحيث يقرؤها كلّ قار ، ويعمل بأحكامها كلّ عامل موفّق ، وبه يهتدون.
ويتساوى في هداها الأنبياء والامم ، كما قال : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ [وَالْإِنْجِيلَ] * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) [٣ / ٣ ـ ٤]. وقال : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) [٥ / ٤٣].
وكما أنّ الكلام يشتمل على الآيات ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [٢ / ٢٥٢] ـ فكذا الكتاب يشتمل عليها أيضا : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [١٢ / ١].
والكلام إذا تشخّص وتنزّل صار كتابا ، كما أنّ الأمر إذا تنزّل صار فعلا ، كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) [٣٦ / ٨٢].
ومن هنا قيل : الكلام بسيط أمريّ دفعيّ ، والكتاب مركّب خلقيّ تدريجيّ ؛ وعالم الأمر خال عن التضادّ والتكثّر والتجدّد والتغيّر ، كما قال ـ عزوجل ـ : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [٥٤ / ٥٠]. وقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) [١٦ / ٤٠].
وأمّا عالم الخلق فمشتمل على التضادّ والتكثّر : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [٦ / ٥٩].
فصل [٢]
[أقسام الكلام باعتبار الغاية]
قال بعض أهل التحقيق (٢) :
الكلام على ثلاثة أقسام :
أعلاها ما يكون عين الكلام مقصودا أوّليّا ولا يكون بعده مقصود آخر لشرف وجوده وتماميّة كونه ولكونه غاية لما دونه وهذا مثل إبداعه عزوجل عالم الأمر بأمر (كُنْ) ـ لا غير ـ وهي كلمات الله التامّات التي لا تنفد ولا تبيد ، إذ ليس
__________________
(١) ـ في النسخة : (انما أمرنا ...) والتصحيح من القرآن الكريم.
(٢) ـ مفاتيح الغيب : المفتاح الأول ، الفاتحة الثالثة : ١٨.
الأسفار الأربعة : ٧ / ٥. المبدأ والمعاد : ١٢٧ ملخصا.
الغرض من إنشائها منه ـ تعالى ـ بأمر (كُنْ) سوى أمر الله.
وأوسطها ما يكون لعين الكلام مقصود آخر إلّا أنّه مرتّب عليه ترتّبا لزوميّا من غير تخلّف وانفكاك ، كأمره ـ تعالى ـ للملائكة المدبّرين في طبقات الأفلاك بما عليهم أن يفعلوا ، فلا جرم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [٦٦ / ٦] ؛ وكذلك الملائكة الأرضيّة الموكّلة على الجبال والبحار ـ وغيرهما ـ.
وأدناها ما يكون لعين الكلام مقصود آخر ـ قد يتخلّف عنه وقد لا يتخلّف ـ وفيما لا يتخلّف أيضا إمكان التخلّف والعصيان إن لم يكن حافظ عاصم من الخطأ ، وهذا كأوامر الله وخطاباته للمكلّفين من الجنّ والإنس بواسطة إنزال الكتب وإرسال الرسل ، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى.
فصل [٣]
[أمّ الكتاب والكتاب المبين]
قد دريت أنّ صور جميع ما أوجده الله من ابتداء العالم إلى انتهائه منتقشة في العالم العقليّ ، نقشا لا يشاهد بهذه العين ، وكذا في عالم النفوس السماويّة وقواها الجزئيّة.
فهذه العوالم كلّها ـ كلّيها وجزئيّها ـ كتب إلهيّة ودفاتر سبحانيّة لإحاطتها بكلمات الله التامّات.
فعالم العقول المقدّسة والنفوس الكلّيّة كلاهما كتابان إلهيّان ، ويقال للعقل الأوّل «أمّ الكتاب» لإحاطته بالأشياء إجمالا ، وللنفس الكلّيّة السماويّة «الكتاب المبين» لظهورها فيها تفصيلا ، وللنفس المنطبعة في الجسم السماويّ «كتاب المحو والإثبات» لوقوعها فيها ، وأعيان الموجودات هي آيات تلك الكتب :
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [١٠ / ٦] ؛ وهي كلمات الله التي لا تنفد ولا تبيد ، مع أعراضها اللازمة والمفارقة التي هي بمنزلة الحركات البنائيّة والإعرابيّة :
(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [١٨ / ١٠٩].
فصل [٤]
[من الكتب الإلهية صحائف النفوس] (١)
ومن جملة كتب الله ـ عزوجل ـ المكتوبة بيد قدرته صحائف النفوس الناطقة الإنسانيّة ، المكتوبة فيها اعتقاداتهم الحقّة أو الباطلة وأعمالهم الحسنة أو القبيحة.
كما قال عزوجل : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [٥٨ / ٢٢]. وقال عزوجل : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
__________________
(١) ـ راجع المفاتيح الغيبية : المشهد الثاني عشر من المفتاح التاسع عشر ، ٦٤٦.
الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [١٧ / ١٣]. وقال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٤٥ / ٢٩] (١)
وهذه الكتب تسمّى ب «صحائف الأعمال» ، وكتّابها هم «الكرام الكاتبون» ـ وقد مضى شرح كيفيّة كتابتهم (٢) ـ
فمنها : (صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ) [٨٠ / ١٣ ـ ١٦] ، ومنها غير ذلك ـ
وسيأتى بيان ذلك مفصّلا في مباحث العلم باليوم الآخر إن شاء الله.
فصل [٥]
[الكتب السماويّة]
وأمّا الكتب السماويّة المنزلة على الأنبياء والرسل عليهمالسلام ، المكتوبة بالقلم العقليّ على ألواح نفوسهم المشرقة ، وصحائف قلوبهم المنوّرة :
فمن ذلك : كتاب التوراة ، النازل باللغة العبرانيّة على قلب موسى ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ أوّلا ، ثمّ على الألواح الزبر جديّة ؛ (وَفِي
__________________
(١) ـ كتب هنا ما يلي ثم شطب عليه :
«وعن مولانا الصادق عليهالسلام : إن الكتاب لم ينطق ولن ينطق ، ولكن رسول الله هو الناطق بالكتاب ... ـ ثم قال : ـ هكذا والله أنزل جبريل على محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم».
والرواية رواه القمي في تفسيره : ٢ / ٣٠١ ، قوله تعالى (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ). عنه البحار : ٩٢ / ٤٩. الكافي : ٨ / ٥٠ ، ح ١١. عنه البحار : ٩٢ / ٥٦ ، ح ٣٠.
(٢) ـ راجع الصفحة : ٢٣٩ ـ ٢٥٢.
نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [٧ / ١٥٤](فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [٥ / ٤٤]. ثمّ جعلوها (قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [٦ / ٩١].
ومنها : الإنجيل النازل باللغة السريانيّة على قلب عيسى ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [٥ / ٤٦].
ومنها : الزبور النازل على قلب داود ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ كتب الله فيه (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ) لله (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [٢١ / ١٠٥].
ومنها : الفرقان النازل على قلب نبيّنا خاتم الأنبياء وسيّدهم صلىاللهعليهوآلهوسلم (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [٢٦ / ١٩٥](مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [٥ / ٤٨]. وفيه عظائم العلوم الربوبيّة كان يتعلّم بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما قال عزوجل : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [٤ / ١١٣]. وفيه كرائم أخلاق الله ـ عزوجل ـ وكان يتخلّق بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما مرّت الإشارة إليه.
وقد ذكرنا بعض ما تضمّنه الكتب الأربعة في مباحث المعجزات ، وسنذكر فضائل القرآن في باب على حدة إن شاء الله.
ومنها : غير ذلك ، كصحف إبراهيم ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ وكانت عشرين صحيفة وصحف إدريس ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ وكانت ثلاثين. وصحف شيث بن آدم ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ و
كانت خمسين ـ كما روي كلّه عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام (١).
وعن أبي ذرّ (٢) ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما كانت صحف إبراهيم»؟
قال : «اقرأ يا أبا ذر : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى * إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [٨٧ / ١٤ ـ ١٩](٣).
[ما عند الأئمة من الكتب والعلوم]
روي في الكافي (٤) عن أبي بصير ، أنّه قال لمولانا الصادق عليهالسلام :
«إن شيعتك يتحدّثون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علّم عليّا بابا يفتح له منه ألف باب».
ـ قال : ـ فقال : «يا أبا محمّد ـ علّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا عليهالسلام ألف باب ، يفتح من كلّ باب ألف باب».
__________________
(١) ـ ورد في معاني الأخبار (باب معنى تحيّة المسجد و... ، ٣٣٤ ، ح ١) والخصال (أبواب العشرين وما فوقه ، ح ١٣ ، ٢ / ٥٢٥) عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. عنهما البحار : ١٢ / ٧١ ، ح ١٤. ولم أعثر عليه عن أمير المؤمنين عليهالسلام.
(٢) ـ في معاني الأخبار والخصال ، الحديث السابق : «... قلت : يا رسول الله ، هل في أيدينا مما أنزل الله تعالى عليك مما كان في صحف إبراهيم وموسى»؟ قال : «يا أبا ذر اقرأ ...»
(٣) ـ كتب المؤلف ـ قدسسره ـ هنا ما يلي ثم شطب عليه : «وكصحف فاطمة وكتاب الجفر وكتاب الجامعة وغير ذلك».
(٤) ـ الكافي : باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ... : ١ / ٢٣٨ ، ح ١.
بصائر الدرجات : الجزء الثالث ، باب (١٤) ، ح ٣ ، ١٥١ مع فروق يسيرة.
عنه البحار : ٢٦ / ٣٩ ، ح ٧٠.
ـ قال : ـ قلت : «هذا ـ والله ـ العلم».
ـ قال : ـ فنكت ساعة في الأرض ثمّ قال : «إنّه لعلم وما هو بذاك».
ـ قال : ـ ثمّ قال : «يا أبا محمّد ـ فإنّ عندنا الجامعة ، وما يدريهم ما الجامعة؟!».
ـ قال : ـ قلت : «جعلت فداك ـ وما الجامعة؟».
قال : «صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإملائه من فلق فيه (١) ، وخطّ عليّ بيمينه ، فيها كلّ حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج إليه الناس حتّى الأرش في الخدش».
ـ وضرب بيده إليّ فقال : ـ «تأذن لي ـ يا أبا محمّد؟».
ـ قال : ـ قلت : «جعلت فداك ، إنّما أنا لك ، فاصنع ما شئت».
ـ قال : ـ فغمزني بيده وقال : «حتّى أرش هذا» ـ كأنّه مغضب ـ
ـ قال : ـ قلت : «هذا والله العلم».
قال : «إنّه لعلم ، وليس بذاك».
ثمّ سكت ساعة ثمّ قال : «وإنّ عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر؟»
ـ قال : ـ قلت : «وما الجفر؟».
قال : «وعاء من أدم (٢) ، فيه علم النبيّين والوصيّين ، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل».
قلت : «إنّ هذا هو العلم».
قال : «إنّه لعلم وليس بذاك». ـ ثمّ سكت ساعة ، ثمّ قال : ـ «وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليهاالسلام ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟».
__________________
(١) ـ من فلق فيه : أي من شقّ فمه (الوافي : ٣ / ٥٨٠).
(٢) ـ الأدم : الجلد.
ـ قال : ـ قلت : «وما مصحف فاطمة؟».
قال : «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد».
ـ قال : ـ قلت : «هذا والله العلم».
قال : «إنّه لعلم ، وما هو بذاك» ـ ثمّ سكت ساعة ، ثمّ قال : ـ «إنّ عندنا علم ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة».
ـ قال : ـ قلت : «جعلت فداك ـ هذا والله هو العلم».
قال : «إنّه لعلم ، وما هو بذاك».
ـ قال : ـ قلت : «جعلت فداك ـ فأيّ شيء العلم؟».
قال : «ما يحدث بالليل والنهار ، الأمر بعد الأمر ، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة».
وفي رواية اخرى (١) : «ما يحدث بالليل والنهار ـ يوما بيوم وساعة بساعة ـ».
ولعلّ مراده عليهالسلام (٢) ـ والعلم عند الله ـ أنّ العلم ليس ما يحصل من السماع وقراءة الكتب وحفظها ـ فإنّ ذلك تقليد ـ وإنّما العلم ما يفيض من الله ـ سبحانه ـ على قلب المؤمن يوما فيوما ، وساعة بعد ساعة ، فينكشف به من الحقائق ما تطمئنّ به النفس ، وينشرح له الصدر ، ويتقوّم به (٣) العالم كأنّه ينظر إليه ويشاهده.
__________________
(١) ـ الكافي : باب أنّ الأئمة ورثوا علم النبيّ وجميع الأنبياء : ١ / ٢٢٥ و ٢٢٤ ، ح ٣ ـ ٤.
بصائر الدرجات : ١٣٥ ، ح ١ ـ ٢.
(٢) ـ أورد ـ قدسسره ـ هذا التوضيح في الوافي أيضا : ٣ / ٥٥٤.
(٣) ـ كذا يمكن القراءة في النسخة. وفي الوافي (٣ / ٥٥٤) : «ويتنور به القلب ويتحقق».
قال الفاضل البحراني في شرح قول أمير المؤمنين عليهالسلام (١) : «إنّما هو تعلّم من ذي علم» :
«إنّ ذلك إشارة إلى وساطة تعليم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم له ، وهو إعداد نفسه على طول الصحبة بتعليمه وإرشاده إلى كيفيّة السلوك وأسباب التطويع والرياضة حتّى استعدّ للانتقاش بالامور الغيبيّة والإخبار عنها.
وليس التعليم هو إيجاد العلم ، وإن كان أمرا قد يلزم إيجاد العلم ؛
فتبيّن إذن أنّ تعليم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم له لم يكن مجرّد توقيفه على الصور الجزئيّة ، بل إعداد نفسه بالقوانين الكليّة ، ولو كانت الامور التي تلقّتها عن رسول الله صورا جزئيّة لم يحتج إلى مثل دعائه في فهمه لها ، فإنّ فهم الصور الجزئيّة أمر ممكن سهل في حقّ من له أدنى فهم ، وإنّ ما يحتاج إلى الدعاء وإعداد الأذهان له بأنواع الإعدادات ، هو الامور الكلّيّة العامّة للجزئيّات وكيفيّة انشعابها عنها وتفريعها وتفصيلها ، وأسباب تلك الامور المعدّة لإدراكها.
وممّا يؤيّد ذلك قوله عليهالسلام (٢) : «علّمني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ألف باب من العلم ، فانفتح لي من كل باب ألف باب». وقول
__________________
(١) ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٢٨.
والنص المنقول عن البحراني من مقدمة شرح نهج البلاغة له : ١ / ٨٤.
(٢) ـ راجع الخصال : ابواب ما بعد الألف ، ٢ / ٦٤٣ ـ ٦٥٢.
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (١) : «اعطيت جوامع الكلم ، واعطي عليّ جوامع العلم».
والمراد ب «الانفتاح» ليس إلّا التفريع وانشعاب القوانين الكلّية عمّا هو أعمّ منها ، وب «جوامع العلم» ليس إلّا ضوابطه وقوانينه.
وفي قوله : «اعطي» ـ بالبناء للمفعول ـ دليل ظاهر على أنّ المعطي لعليّ عليهالسلام جوامع العلم ليس هو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل الذي أعطاه ذلك هو الذي أعطى النبيّ جوامع الكلم ، وهو الحقّ سبحانه». ـ انتهى كلامه.
وإن شئت زيادة انكشاف لهذا المعنى فاسمع لما يتلى عليك وعه :
فصل [٦]
[طرق كسب العلم]
قال بعض المحقّقين (٢) ما ملخّصه :
إنّ العلم بالشيء إمّا يستفاد من الحسّ برؤية أو تجربة أو سماع خبر أو شهادة واجتهاد أو نحو ذلك ؛ ومثل هذا العلم
__________________
(١) ـ أمالي الطوسي (المجلس الرابع ، ح ١٥ ، ١٠٥) بلفظ : «أعطاني جوامع الكلم وأعطى عليا جوامع العلم». ومثله فيه : المجلس السابع ، ١٩ ، ١٨٨. عنه البحار : ١٦ / ٣١٧ ، ح ٧. و ٣٢٢ ، ح ١٢.
(٢) ـ مقتبس من شرح أصول الكافي لصدر المتألهين : كتاب العقل والجهل ، الحديث العاشر من باب الرد إلى الكتاب والسنة ، ٢٠٦.
لا يكون إلّا متغيّرا فاسدا محصورا متناهيا غير محيط ، لأنّه إنّما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده علم ، وقبل وجوده علم آخر ، وبعد وجوده علم ثالث ـ وهذا كعلوم أكثر الناس ـ.
وإمّا يستفاد من مباديه وأسبابه وغاياته ، علما واحدا كلّيّا بسيطا محيطا على وجه عقليّ غير متغيّر ، فإنّه ما من شيء إلّا وله سبب ، ولسببه سبب ـ وهكذا إلى أن ينتهي إلى مسبّب الأسباب ـ وكلّ ما عرف سببه من حيث يقتضيه ويوجبه ، فلا بدّ وأن يعرف ذلك الشيء علما ضروريّا دائما.
فمن عرف الله ـ سبحانه ـ بأوصافه الكماليّة ونعوته الجلاليّة ، وعرف أنّه مبدأ كلّ وجود وفاعل كلّ فيض وجود ، وعرف ملائكته المقرّبين ثمّ ملائكته المدبّرين المسخّرين للأغراض الكلّيّة العقليّة بالعبادات الدائمة والنسك المستمرّة من غير فتور ولغوب ، الموجبة لأن تترشّح عنها صور الكائنات ـ كلّ ذلك على الترتيب السببي والمسبّبي ـ فيحيط علمه بكلّ الامور وأحوالها ولواحقها ، علما بريئا من التغيّر والشكّ والغلط.
فيعلم من الأوائل الثواني ، ومن الكليّات الجزئيّات المترتّبة عليها ، ومن البسائط المركّبات ، ويعلم حقيقة الإنسان وأحواله وما يكمّلها ويزكّيها ويسعدها ويصعدها إلى عالم القدس ، وما يدسّيها ويرديها ويشقيها ويهويها إلى أسفل السافلين ـ علما ثابتا غير قابل للتغيير ولا محتمل لتطرّق الريب ـ
فيعلم الامور الجزئيّة من حيث هي دائمة كلّيّة ، ومن حيث لا كثرة فيه ولا تغيّر ـ وإن كانت هي كثيرة متغيّرة في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض ـ وهذا كعلم الله سبحانه بالأشياء وعلم ملائكته المقرّبين عليهمالسلام.
فعلوم الأنبياء والأوصياء عليهمالسلام بأحوال الموجودات الماضية والمستقبلة وعلم ما كان وعلم ما سيكون إلى يوم القيامة من هذا القبيل ، فإنّه علم كلّي ثابت غير متجدّد بتجدّد المعلومات ، ولا متكثّر بتكثّرها.
ومن عرف كيفيّة هذا العلم عرف معنى قوله ـ عزوجل ـ : «وفيه تبيان كلّ شيء» (١) ويصدّق بأنّ جميع العلوم والمعاني في القرآن الكريم ، عرفانا حقيقيّا وتصديقا يقينيّا على بصيرة ، لا على وجه التقليد والسماع ، إذ ما من أمر من الامور إلّا وهو مذكور في القرآن ، إمّا بنفسه أو بمقوّماته وأسبابه ومباديه وغاياته.
ولا يتمكّن من فهم آيات القرآن وعجائب أسراره وما يلزمه من الأحكام الغير المتناهية ، إلّا من كان علمه من هذا القبيل.
__________________
(١) ـ اقتباس من قوله عزوجل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [١٦ / ٨٩].
فصل [٧]
[ما أفصح عنه الروايات من الكتب التي عند الأئمة عليهماالسلام]
وروي في الكافي (١) ـ بإسناده ـ عن حمّاد بن عثمان (٢) قال : سمعت أبا عبد اللهعليهالسلام يقول : «تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة ، وذلك أنّي نظرت في مصحف فاطمة عليهاالسلام».
ـ قال : ـ قلت : «وما مصحف فاطمة عليهاالسلام»؟
قال : «إنّ الله لمّا قبض نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم دخل على فاطمة عليهاالسلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلّا الله ، فأرسل إليها ملكا يسلّي غمّها ويحدّثها ، فشكت (٣) ذلك إلى أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ فقال لها : «إذا أحسست بذلك
__________________
(١) ـ الكافي : باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ... : ١ / ٢٤٠.
بصائر الدرجات : الباب (١٤) من الجزء الثالث ، ١٥٧ ، ح ١٨.
عنه البحار : ٢٦ / ٤٤ ، ح ٧٧. ٤٣ / ٨٠ ، ح ٦٨.
(٢) ـ ذكروا بهذا الاسم راويين : حماد بن عثمان بن عمرو بن خالد الفزاري. وحماد بن عثمان الناب.
غير أن المحققين استظهروا اتحادهما ؛ روى عن الصادق والكاظم والرضا عليهمالسلام ، ثقة جليل القدر. راجع تنقيح المقال : ١ / ٣٦٥. معجم الرجال : ٦ / ٢١٢. قاموس الرجال : ٣ / ٦٤٨ ـ ٦٥٥.
(٣) ـ كذا في النسخة والمصدرين ، وكتب في الهامش : «إنما شكت لرعبها عليهاالسلام من الملك حال وحدتها به وانفرادها بصحبته ـ منه». وهذا ما ذكره المؤلف في توجيه الكلمة في الوافي أيضا : ٣ / ٥٨١.
وقال المجلسي : (مرآة العقول : ٣ / ٥٧) : «والمراد بالشكاية مطلق الإخبار ، أو كانت الشكاية لعدم حفظها عليهاالسلام جميع كلام الملك. وقيل : لرعبها عليهاالسلام من الملك حال وحدتها به وانفرادها بصحبته. ولا يخفى بعد ذلك عن جلالتها».
والأظهر أن الكلمة «حكت» ، وقد صحفت الحاء بالشين في الخط.
وسمعت الصوت قولي لي» (١). فأعلمته بذلك ؛ فجعل أمير المؤمنين عليهالسلام يكتب كلّ ما سمع حتّى أثبت من ذلك مصحفا».
ـ قال : ـ ثمّ قال : «أمّا إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ، ولكن فيه علم ما يكون».
وبإسناده (٢) عن الحسين بن أبي العلاء (٣) عن مولانا الصادق عليهالسلام : «إنّ في الجفر الأبيض ـ الذي عنده ـ زبور داود ، وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى ، وصحف إبراهيم ، والحلال والحرام ، ومصحف فاطمة ؛ وفي الجفر الأحمر السلاح ، وإنّما يفتحه صاحب السيف للقتل».
وروي في بصائر الدرجات (٤) بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه قال : «لقد خلّف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عندنا جلدا ما هو جلد حمار ولا جلد ثور ولا جلد بقرة ، إلّا إهاب شاة ؛ فيها كلّ ما يحتاج إليه ـ حتّى أرش الخدش والظفر ـ وخلّفت فاطمة عليهاالسلام مصحفا ، ما هو قرآن ، ولكنّه كلام من كلام الله أنزله عليها ، إملاء رسول الله وخطّ عليّعليهماالسلام».
وبإسناده (٥) عنه عليهالسلام قال : «عندنا الصحف التي قال الله : (صُحُفِ
__________________
(١) ـ يظهر من ذلك الكلام أن الملك اتصل بسرها عليهاالسلام أو تمثل لنفسها ، ولم يتمثّل في الخارج.
(٢) ـ الكافي : الصفحة السابقة ملخصا. بصائر الدرجات : الباب السابق : ١٥٠. عنه البحار : ٢٦ / ٣٧ ، ح ٦٨.
(٣) ـ الحسين بن أبي العلاء الخفاف ، عده الشيخ من أصحاب الباقر والصادق عليهالسلام.
واختلف في وثاقته راجع معجم الرجال : ٥ / ١٨٢.
(٤) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ١٥٦ ، ح ١٦. عنه البحار : ٢٦ / ٤١ ـ ٤٢ ، ح ٧٣.
(٥) ـ بصائر الدرجات : الجزء الثالث ، باب (١٠) ما عند الأئمة من كتب الأولين ... : ١٣٦ و ١٣٧ ، ح ٥ و ٨.
إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [٨٧ / ١٩]». قلت (١) : «الصحف هي الألواح»؟
قال : «نعم».
وبإسناده (٢) عن حبّة بن جوير العرني (٣) قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يروي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه يقول : «إنّ يوشع بن نون وصيّ موسى بن عمران ، وكانت ألواح موسى من زمرّد أخضر ، فلمّا غضب موسى ألقى الألواح من يده ، فمنها ما تكسّر ومنها ما بقى ومنها ما ارتفع.
فلمّا ذهب عن موسى الغضب قال يوشع بن نون : «عندك تبيان ما في الألواح»؟ قال : «نعم».
فلم يزل يتوارثها رهطا بعد رهط حتّى وقعت في أيدي أربعة رهط من اليمن ؛ وبعث الله محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم بتهامة ، وبلغهم الخبر ، فقالوا : «وما يقول هذا النبيّ»؟ قالوا : «ينهي عن الخمر والزنا ، ويأمر بحسن الأخلاق وكرم الجوار».
__________________
(١) ـ حكاية قول الراوي ، وهو أبو بصير.
(٢) ـ بصائر الدرجات : الجزء الثالث : باب (١١) ما يبين فيه كيفية وصول الألواح إلى آل محمّد عليهمالسلام ، ١٤١ ، ح ٦. عنه البحار : ١٨ / ١٠٦ ، ح ٣. و ٢٦ / ١٨٨ ، ح ٢٦.
(٣) ـ في المصدر : «حبة بن جوين» وكلا الاسمين يوجدان في نسخ رجال الشيخ أيضا ، إذ عده (الرجال : ٣٨ ، رقم ٩) من أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام قائلا : «حبة بن جوين ـ ن جوير ـ العرني ، وكنية حبة : أبو قدامة. وقيل : ابن جوية العرني». وفي أصحاب راجع معجم الرجال : ٤ / ٢١٤.
وفي تقريب التهذيب (١ / ١٤٨) : «حبّة ـ بفتح أوله ثم موحّدة ثقيلة ـ ابن جوين ـ بجيم مصغّرا ـ العرني ـ بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون ، أبو قدامة الكوفي ، صدوق له أغلاط ، وكان غاليا في التشيّع ... مات سنة ستّ ، وقيل تسع وسبعين».