الشيخ عبد الله الحسن
المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
فقال : لماذا؟
قلت : إن أبا هريرة أحد أفراد رجال الصفة ، وهم عدّة قليلون يسعون طول النهار لتحصيل قوت يومهم ، ولذلك لا ترى لأحدهم سوى خمسة أحاديث أو ثلاثة وهكذا ، وإن أبا هريرة كان واحداً منهم ، فكيف استطاع رواية آلاف الأحاديث بعد النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم؟!
فقام الأستاذ شاكر ، وتناول كتاباً من مكتبته بحجم متوسِّط ، ودفعه إليَّ وقال : انظر صفحات هذا الكتاب ، وعلى كم صفحة يحتوي.
قلت : ٢٣٠ صفحة.
فقال : الصفحة فيها كم سطر؟
قلت : ٢٣ سطراً.
فقال : اضرب أسطر الكتاب بالصفحات فكم يكون الحاصل؟
قلت ـ بعد أن قمت بعملية الضرب ـ : ٥٢٩٠ سطراً.
فأخذ الكتاب بيده وقال : أنت تستكثر حفظ هذا الكتاب على أبي هريرة.
فقلت له : يا أستاذ! كيف اختصَّ أبو هريرة بسماع هذه الأحاديث وحفظها من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم يختصَّ بها غيره من هو أخصُّ الناس بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم؟!
فأجابني قائلا : أبو هريرة كان ملازماً للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فأجبته : إن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يحضر أوقات الصلوات في المسجد ، وكان عنده تسعة أزواج ، وكان يحضر ويجيب دعوة من يدعوه من الصحابة ، وإن أبا
__________________
روايته حتى قالت عائشة : رحم الله أبا هريرة ، لقد كان رجلا مهذاراً ، وفي لسان العرب مادة هذر : الهذر هو الكلام الذي لا يعبأ به ، وهذر في كلامه كفرح : أكثر من الخطأ والباطل ، والهذر : الكثير الردي.
هريرة لم يحضر عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سوى سنة وتسعة أشهر ; لأنه أسلم في السنة السابعة من الهجرة ، وأقصاه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى البحرين مع العلاء بن الحضرمي في سنة ثمان من الهجرة ، فكيف استطاع حفظ هذه الأحاديث وسماعها من النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بشكل مباشر ، مع أن سماعها يستلزم زمناً طويلا يحتاج إليه الحفظ عن ظهر القلب؟
فلم يحر جواباً ، وبعد فترة استأذنّاه وانصرفنا (١).
__________________
١ ـ مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : ٢ / ٦٧ ـ ٧١.
المناظرة الرابعة والخمسون
مناظرة
السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد الله يحيى العلوي
في النصوص والأحاديث الدالة على إمامة أميرالمؤمنين عليهالسلام
والمذاهب الأربعة
قال السيِّد مرتضى الرضوي : تعرَّفت على هذا الأستاذ الكبير (١) في القاهرة ، في عصر الخميس ٢٣ ذي القعدة الحرام عام ١٣٧٥ هـ ، الموافق ٢٧ / ١١ / ١٩٧٥ ، بواسطة الأخ الأستاذ أحمد ربيع المصري ، سكرتير عام لجنة نشر المؤلَّفات التيمورية بالقاهرة ، وكنت أتردَّد عليه في اللجنة ، وفي أحد الأيام كنت في اللجنة إذ قدَّم لي الأستاذ أحمد ربيع كتاب : المجاج ، ففتحته فرأيت قد كتب عليه الإهداء باسمي بعبارة رقيقة ، فيها صفات لا تنطبق عليَّ ولا أستحقُّها ،
__________________
١ ـ قال السيِّد مرتضى الرضوي : الأستاذ عبد الله يحيى العلوي ، من مشاهير الكتَّاب في العالم الإسلاميّ ، ولادته : ولد في ستعاموزه عام ١٩٠٣ م ، حصل على الشهادة العالميّة عام ١٩٢٠ م في الأزهر الشريف ، لجأ إلى أندنوسيا عام ١٩٤٧ م ، انتخب عضواً في إدارة المجلس التشريعي بسنغافورة ، ونائباً لرئيس جمعية الشبان المسلمين بها ، ورئيساً لجمعية الدعوة الإسلامية وللرابطة الإسلامية ، هاجر إلى القاهرة عام ١٩٥١ م ، عيِّن مستشاراً لأعمال سفارة اليمن أكثر من مرَّة ، وممثِّلا لحكومتها في أربعين مؤتمراً دولياً وشعبياً ، وفي جامعة الدول العربية بالقاهرة.
فحمدت الله تعالى على حسن ظنِّ أستاذنا الكبير ، فذهبت لزيارته بداره العامرة بالزمالك ، بمعيَّة الأستاذ أحمد ربيع المصري ، وتفضَّل مشكوراً بإهدائه لي آثاره ، وكانت جلسة ممتعة ، ودارت بيننا أحاديث متنوِّعة ، وفي صباح الأربعاء ٧ / ٤ / ١٩٧٦ م اتصل بي الأستاذ أحمد ربيع ، وقال : اتصلت بالأستاذ العلوي ، وعرَّفته بوصولك القاهرة ، ويمكننا مقابلته في منزله بالزمالك في غد ، الخميس ٨ / ٤ / ١٩٧٦ م في الساعة السادسة بعد الظهر.
وحين قرب وقت الصلاة صلاة المغرب قال الأستاذ العلوي : ما حكم الصلاة في السفر عندكم؟ الجمع أو التقصير؟
قلت : المسافر إن نوى الإقامة في بلد يمكث فيه عشرة أيام تجب عليه الصلاة تامّة ، ولا فرق بينه وبين المقيم فيها ، ولو أن المسافر دخل بلداً لأجل عمل له فيه ، ولا يدري متى يفرغ منه ; يومين أو أسبوعاً أو أقل أو أكثر ، وحيث إنه لا يمكنه تحديده عليه أن يأتي بالصلاة قصراً ( إلى نهاية الثلاثين ) يوماً (١) ، وبعد هذه المدّة يتمُّ الصلاة ولو بقي يوماً واحداً ، هذا ما عندنا نحن الشيعة الإماميّة (٢).
ثمَّ قال الأستاذ : الأسف أن الشعب هنا يجهل حقيقة الشيعة ، ولا يعرف عنها سوى ما صوَّره له أعداؤه! وقال : يا حبذا لو أنكم تفكِّروا بإصدار مجلّة أو نشرة ، وتباع بسعر رخيص ، تعرضوا فيها آراء الشيعة الإماميّة ومفاهيمها ، حيث
__________________
١ ـ يعني مع التردد ومع عدم العلم أنه سوف يبقى هذه المدة.
٢ ـ جاء في كتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي عليه الرحمة : ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، من قواطع السفر : الثالث ، أن يقيم في مكان واحد ( ثلاثين يوماً ) من دون عزم على الإقامة عشرة أيام ، سواء عزم على إقامة تسعة أو أقل أم بقي متردداً فإنه يجب عليه القصر إلى نهاية الثلاثين ، وبعدها يجب عليه التمام إلى أن يسافر سفراً جديداً.
إن المصريين يجهلون حقيقتها ، ولا يعرفون عنها سوى ما صوَّرها الأعداء.
وقلت : هل نصَّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على الخليفة من بعده؟
قال : نعم ، لقد نصَّ عليها ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ـ بأحاديث صريحة صحيحة لا غبار عليها ، ويفهمها من تجرَّد عن التعصُّب وبغض الآل ، كما نصَّ عليها أيضاً العقل السليم.
أمَّا الأحاديث فمنها : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي (١) ، أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي (٢) ، القرآن مع عليٍّ ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (٣) ، من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (٤).
__________________
١ ـ تقدَّمت تخريجاته.
٢ ـ جاء في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : ١٥ : عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كل مؤمن من بعدي.
وجاء في المستدرك للحاكم النيسابوري : ٣ / ١٣٤ : قال ابن عباس : وقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنت وليُّ كل مؤمن بعدي ومؤمنة.
وراجع المصادر الآتية : مناقب أميرالمؤمنين عليهالسلام ، محمّد بن سليمان الكوفي : ١ / ٤٤٩ ح ٣٤٨ ، مسند أبي داود الطيالسي : ١١١ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٥٠٤ ح ٥٨ ، الآحاد والمثاني ، الضحاك ٤ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ح ٢٢٩٨ ، كتاب السنة ، عمرو بن أبي عاصم : ٥٥٠ ح ١١٨٧ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ٤٥ ح ٨١٤٦ ، صحيح ابن حبان : ١٥ / ٣٧٤ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١٢ / ٧٨ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ١٠٠ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ٤ / ٢٧ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ٨ / ١٩٩ ، الإصابة ، ابن حجر : ٤ / ٤٦٧ ، المناقب ، الموفّق الخوارزمي : ١٢٧ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ٧٩.
وجاء في أسد الغابة لابن الأثير : ٤ / ٢٨ عن البراء بن عازب وزاد : فقال عمر بن الخطاب : يا ابن أبي طالب! أصبحت اليوم وليَّ كل مؤمن.
٣ ـ تقدَّمت تخريجاته.
٤ ـ تقدَّمت تخريجاته.
إن هذه الأحاديث فقط وفقط لمن أمعن في ألفاظها ، وعمق معانيها لأكبر دليل على استخلاف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً عليهالسلام في قومه حين خرج إلى غزوة تبوك ، كما استخلف موسى عليهالسلام هارون على قومه واستوزره ، وإن تشبيه النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً بهارون من موسى فيه كل الاستدلال على أن يخلفه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وقصة الغدير المعروفة المتواترة وحدها ـ وحدها فقط ـ صريحة في أن النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أثبت الولاية لعليٍّ ليكون خليفته ، وقد همَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكتب في مرض وفاته حين رأى الصحابة في هرج ومرج ـ كتاباً يحول بينهم وبين الضلال والتفرقة ، لو لا أن عمر بن الخطاب حال بينه وبين كتابة الكتاب.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، صريح في أن عليّاً عليهالسلام أصبح مولى كل مؤمن ومؤمنة.
أمَّا الدليل العقلي على أحّقيّة الإمام عليٍّ بالخلافة ـ كرَّم الله وجهه ـ فهو أن الخلافة وتولّي أمور المسلمين بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يجدر أن يتولاَّها إلاَّ من كان نسيج وحده ، وقريع دهره في الشمائل والفضائل ، وقد فاق أقرانه ، وأربى على الأكفاء ، وتميَّز عن النظراء ، وترفَّع عن الأشكال ، وانفرد عن مواقف الأشباه ، لا تفتح العين على مثله ، ولا يلقى نظيره ، ولا يدرك قرينه ، كاملا في دينه ، وفي عمله ، وفي تقواه ، لإعلاء كلمة لا إله إلاَّ الله محمّد رسول الله ، ونصرة سيِّد الأنام صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان أسبق الخلق إلى الإسلام غير مدافع ، وأفضلهم وأشجعهم ، وأتقاهم غير معارض.
وكل هذه الصفات مستجمعة في الإمام علي الذي ولد مسلماً ، وأسلم بأمر من الله تبارك وتعالى ، وتخرَّج من مدرسة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وترعرع وشبَّ
منذ نعومة أظفاره في رحاب سيِّد الوجود وإمام المتقين صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان جهاده في سبيل الإسلام فوق كل جهاد ، وتقواه فوق كل تقوى ، وبطولاته فوق كل بطولات ، وإيمانه وزهده فوق كل زهد وإيمان ، يصغي إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يناجي ربَّه وخالقه فيرتوي من أقواله وعظاته ، ويعرف الفضيلة من مصدرها ، والعرفان من ينبوعه ، والإيمان من معقله ، عرف كل ذاك وهو وليد في رحاب إمام المتقين صلىاللهعليهوآلهوسلم وحيث عني بتربيته ، يضعه النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجره ، ويضمُّه إلى صدره ، ويكنفه في فراشه ، ويمسُّه جسده الشريف صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويشمُّه عرفه ، ويريه نور الوحي.
إن شريط التاريخ حين يمرُّ على العقل السليم ، وهو يستعرض كبار الصحابة وأعمالهم فرداً فرداً ، ويقارن بينه وبين أعمال الإمام علي كرَّم الله وجهه ، وجهوده ، وجهاده ، ونشأته ، ومكانته من الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم .. إلخ ، ليحكم دون تردُّد بأنّه الأجدر بالخلافة ، والأحقُّ بها دون ريب.
أيُّ عقل ياترى لا يقرُّ أنّ عليّاً كرَّم الله وجهه أحقُّ بالخلافة ، وقد أعطاه النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الولاية؟ وهو الذي ولد مسلماً ، وأخلص بالشهادة لله ، وسبق إلى الإسلام بدعوة من الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
أيُّ عقل ياترى لا يقول : إن عليّاً كرَّم الله وجهه ليس أحقَّ بالخلافة ، وهو الذي ولد بالكعبة ، ولم يسجد لصنم قط ، وشارك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في أول صلاة صلاَّها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي كان في حروب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من أوَّلها إلى آخرها ، ما عدا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على المدينة؟
أيُّ عقل لا يقول : إن علياً أحقُّ بالخلافة وهو الذي قال فيه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه (١)؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي لم يدع بيتاً في العرب إلاّ ترك فيه ناعياً أو ناعية من أجل : لا إله إلاَّ الله محمّد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قتل وحده من جيش المشركين في يوم بدر النصف ، بينما قتل المسلمون بأجمعهم وأكتعهم وأبصعهم وأكملهم النصف الآخر؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها (٢)؟
أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو ظهيره ، وأخوه في الدنيا والآخرة ، وعيبة علمه ، ووارث حكمته ، وسابق الأمَّة ، وصاحب النجوى ، وباذل الأموال سرّاً وعلانية ، ووارث الكتاب ، وذو الأذن الواعية؟
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو أميرالمؤمنين ، ويعسوب الدين ، وزوج البتول ، وقاتل الفجرة ، وصاحب الراية ، وسيِّد العرب؟
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر (٣)؟
__________________
١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٦١ ، ٢٨٥ و ١٩ / ٦١ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ٢٨١ ح ٢.
٢ ـ تقدَّمت تخريجاته.
٣ ـ تأويل مختلف الحديث ، ابن قتيبة : ١٥٢ ، المناقب ، الخوارزمي : ٨١ ح ٦٥ ، وقد تقدَّم المزيد من تخريجاته فيما سبق.
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام عليٍّ في الخلافة ، وقد تقدَّم الشيخان : أبو بكر وعمر إليه يوم غدير خمٍّ ، وكلٌّ منهما يقول : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلِّ مؤمن ومؤمنة (١)؟
أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام في الخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث طويل : إن الحقَّ معه حيث دار (٢)؟
إن عليّاً ـ كرَّم الله وجهه ـ هو الأحقُّ بالخلافة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ; لتلكم الصفات المجتمعة فيه ، ولا ريب :
ولم تك تصلح إلاَّ له |
|
ولم يك يصلح إلاَّ لها |
وتولّي أبي بكر الخلافة من بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع وجود الإمام الفاضل ليس دليلا على أفضليَّة أبي بكر على عليٍّ عليهالسلام ، إنّها السياسة في كل زمان ومكان ، إنّها حصيلة يوم السقيفة ، إنّها نتاج اختلاف الآراء يوم طلب سيِّد الوجود صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الحاضرين من أصحابه أن يؤتوه دواة وصحيفة ، ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده (٣).
ثمَّ قلت : هل تنعقد الخلافة بالنصِّ أم بالإجماع؟
أجاب : لا ريب أنّه إذا جاء النصُّ بطل ما دونه ، وهو قاعدة أصوليّة.
وقلت : ما رأيكم في فتح باب الاجتهاد؟ وما هو السبب في غلقه؟
__________________
١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٢٨١ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٧ / ٥٠٣ ، ح ٥٥ ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ٨ / ٢٨٤ ، رقم : ٤٣٩٢ ، المناقب ، الخوارزمي : ١٥٦ ح ١٨٤ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٢٣٣ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٥ / ٢٢٩ و ٧ / ٣٨٦ ، ينابيع المودّة ، القندوزي : ٢ / ٢٤٩ ح ٦٩٩ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ٦٧.
٢ ـ تقدّمت تخريجاته.
٣ ـ تقدّمت تخريجاته.
قال : لقد ظلَّ الاجتهاد مفتوحاً منذ الفتح ، وما زال عند الإماميّة والزيديّة ورثة أهل البيت عليهمالسلام إلى الآن ، ولم يسدَّ بابه إلاَّ في عصر المنتصر العبَّاسي ، وبأمر من عنده ، ولأمر يجيش في نفسه ، ويخشى من تفاعله وأثره على دولته وحكمه ، خصوصاً عندما اشتدَّ الصراع بين رجالات المذاهب الفقهيّة في ذلك العصر ، وبين فقهاء الرأي وفقهاء الأثر بالأخصِّ.
ومن الأسباب التي حالت دون استمرار الاجتهاد عند أهل السنّة انقراض العلم وجمود الفكر ، وخمول الذهن ، وشلل الرأي ، وقد يكون خوف السلطة الحاكمة من استمرار الاجتهاد ، وتصدّي المجتهد لأوضاعهم ، والفتوى ضدَّهم ، عاملا من عوامل غلق باب الاجتهاد وتفشّي الجمود الفقهيِّ.
ثمَّ قلت : هل أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم باتّباع أحد المذاهب الأربعة؟ وما رأيكم فيها؟
قال : كيف يأمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم باتّباع مذهب معين في زمن لم تكن فيه تلكم المذاهب؟ لقد كان الصحابة يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنّة ، وإلى ما يتمخَّض لديهم من النظر عند فقد الدليل ، وكذلك تابعوهم ، فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة ، فإن لم يجدوا اجتهدوا ، واختار البعض قول صحابيٍّ أو تابعيٍّ أو إمام حين يطمئنُّ إلى الدليل ويأنس به ، ولا يتعيَّن على المسلم أن يتقيَّد بتقليد مذهب معيَّن ، ولم ينقل عن السلف الحجز في ذلك ، وتقليد أئمّة المذاهب الأربعة ، وعدم التقيُّد بتقليد مذهب أو قول معيَّن أمر جائز ، والتلفيق بين أقوال المذاهب لا محذور فيه ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (١).
__________________
١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٨٥.
والالتزام بتقليد إمام أو مذهب معيَّن لم يحدث إلاَّ في القرن الثالث من الهجرة ، وبعد فناء القرون التي أثنى عليهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن المؤسف أن الحكَّام في ذلكم العصر والسياسة لعبت دورها في تقييد الشعب المحكوم عليه بتقيُّد مذهب معيَّن ، تمشّياً على مذهب : الناس على دين ملوكهم.
على أنّه قد تواترت الروايات عن الإمام مالك أنه حين قال له الرشيد : إنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه ، نهاه عن ذلك ، وكذلك الإمام الشافعي القائل : إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي ، وقال أبو حنيفة : لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ، وقال أحمد : لا تقلِّدني ولا تقلِّدن مالكاً ولا غيره.
لقد شوِّهت الحقائق ، واتهم كل فريق الآخر بشتَّى التهم ، ورماه بما ليس فيه ، وكانت النتيجة الحتميَّة هي القطيعة بين مئات الملايين من المسلمين مع الأسف الشديد.
إن هناك ـ ولا ريب ـ خلافات في المذاهب ، ولكن لم تمسَّ ـ والحمد لله ـ أركان الإسلام ، على أنها بفضل انتشار الشيعة ، وتعارف بعضهم بعضاً ، وأخذ الحقائق الفقهيّة والعلميّة من مصادرها ، قد وهنت خيوطها وضعفت أسبابها ، وكادت تتلاشى في المجتمعين الشيعيِّ والسنّيِّ ، وعرف كل منهم أن ما بين تلكم المذاهب من خلافات لم تمسَّ الجوهر من كل مذهب ، ولا تستوجب القطيعة والتكفير برغم تعصُّب الكثيرين من أهل السنّة الذين يجهلون مذهب الإماميّة ، ويروون الموبقات ـ مع الأسف ـ عنهم.
إنّها الآراء الجامحة ، والأقلام الطائشة ، والحكومات الحاكمة ، والجهل المتفشّي ، والتعصُّب الأعمى ، كل ذلك مجتمعة أو بعضها قد فعل فعله في الماضي ، وما زال عالقاً بالأذهان ، وضخّمه وبالغ فيه ، لا عن قصد ولكن عن
جهل وعصبيّة.
وعلى علماء المسلمين ـ وهم المسؤولون أولا ـ أن يعطوا بكل ما أوتوا من قوّة وسلطان للتقريب بين المذاهب ، وتبادل الزيارات ، وتعرُّف بعضهم إلى بعض ، ويزيلوا تلكم الحوائط الثلجيّة ، ولا ريب مع الإخلاص في العمل ، وإزالة الأتربة عن العقول المتحجِّرة ، وعن التزمُّت ، سوف تذوب تدريجيّاً ، ويتمُّ اللقاء بين الطوائف الإسلاميّة على وجهه الأكمل إن شاء الله.
وسألت الأستاذ عن أبي هريرة ، وقلت : ما رأيكم في أبي هريرة؟ وفي أحاديثه؟
أجاب : رأيي فيه رأي عمر بن الخطاب حين ضربه بالدرّة ، فلقد قال فيه : أكثرت ـ يا أبا هريرة ـ من الرواية ، وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (١) ، ثمَّ هدَّده وأوعده أن يترك الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه ينفيه إلى بلاده.
وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد : لتتركنَّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنَّك بأرض دوس .. (٢) ، وجاء مثل هذا في البداية والنهاية (٣).
وقلت : هل زرتم مراقد أهل البيت عليهمالسلام في العراق؟ وما هي انطباعاتكم عنها؟
قال : لقد كان لي شرف زيارة تلك البقاع الطاهرة ، حيث يرقد أهل
__________________
١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٤ / ٦٨.
٢ ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٥٠ / ١٧٢ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ٢ / ٦٠٠ ـ ٦٠١ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٨ / ١١٥ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٠ / ٢٩١ ح ٢٩٤٧٢.
٣ ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : ٨ / ١١٥.
البيت عليهمالسلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، ولا أقول إلاَّ :
تلك أرض قدِّست تربتها |
|
واستقرَّ المجد في أبوابها |
كيف لا تصبح أسمى مشهد |
|
وبنو خير النبيين بها |
ثمَّ قلت للأستاذ : هل اجتمعتم بعلماء الشيعة الإماميّة المتمسِّكة بمذهب أهل البيت عليهمالسلام؟ وما هي انطباعاتكم عنها؟
قال سيادته : لا شك أن علماء الشيعة المتمسِّكين بمذهب أهل البيت عليهمالسلام الذين حملوا مشعل شريعة جدِّهم الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم على هدى ونور من الله ، وأأسف جدَّ الأسف إذ لم يكن لي حظُّ التعرُّف بأولئك الأعلام ، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتيح لي زيارتهم في مدائنهم.
وسألت الأستاذ عن رأيه في الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق ، وفي فتواه بجواز التعبُّد بمذهب الشيعة الإماميَّة التي أصدرها عام ١٩٥٩ م؟
أجاب : التعبُّد بمذهب الإماميّة لا يحتاج إلى استئذان من شيخ الأزهر ، أو عالم أزهر ، حسب أن مذهب الإمام جعفر الصادق عليهالسلام ، ( الذي هو ) أعلم الناس باختلاف الفقهاء (١) ، وأكمل أهل زمانه ، وأورعهم ، وأنصحهم لله ، ملأت آثاره دنيا العرب والإسلام (٢) ، مذهب اعتصره صاحبه من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن أحاديث جدِّه الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
١ ـ راجع شهادة أبي حنيفة في حقِّ الإمام الصادق عليهالسلام : تهذيب الكمال ، المزي : ٥ / ٧٩ ـ ٨٠ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ٦ / ٢٥٨. إذ قال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد عليهالسلام.
٢ ـ قال الجاحظ : جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه. رسائل الجاحظ ، السندوبي : ١٠٦ ، وراجع أيضاً قول بعضهم مثل هذه الكلمة في حقِّ الإمام عليهالسلام في : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٥ / ٢٧٤.
ثمَّ قلت : ما رأيكم حول التقريب بين المذاهب الإسلاميّة؟
قال : الدعوة إلى التقريب بين المذاهب مطلوب من كل مسلم ; لكون المسلم أيّاً كان مذهبه أخوه ، يحرم عليه عرضه ودمه وماله ، والمسلم أخو المسلم ، لا يخذله ولا يهجره ، ولا يبغضه ، والحبُّ في الله والبغض في الله من الدين.
ومن الأسف الشديد أن أكثر علماء السنّة يجهلون حقيقة المذهب الإماميّ ، ويتناقلون دائماً عمّا سمعوه من تقوُّلات حول الشيعة ، وورثوه جهلا عن آبائهم وأجدادهم ، من تفشّي زواج المتعة بينهم ، وتأليههم للإمام عليٍّ عليهالسلام ، الأمر الذي ليس له وجود بينهم اليوم ، رغم أن زواج المتعة لو طبِّق اليوم لما وصل التفسُّخ بشباب المسلمين إلى ما وصل إليه الآن.
إن علماء السنة كثيراً ما ينسبون إلى الشيعة كافة ـ بما فيهم الإماميّة ـ قولا لغلاة الشيعة ، أو لفقيه من الإماميّة خالف علماءهم جميعاً ، أو قولا لجاهل لا يفهم عن التشيُّع شيئاً ، والشيعة الإماميَّة أنفسهم لا يقرُّون به ; لأنه قول فرد أو أفراد خالفهم فيه أكثر فقهاء المذهب نفسه ، وقول مجتهد أو جماعة من المجتهدين لا يكون حجّة على الآخرين.
ومن الخطأ أن ينسب إلى مذهب الإماميّة قول وجد في كتاب عالم منهم ، ومن عرف طريقتهم ، وتتبَّع كلمات علمائهم تجلَّت له هذه الحقيقة بأوضح معانيها ، وما أحوج علماء الشيعة والسنّة اليوم إلى التزاور والتآلف ليعرف بعضهم بعضاً على حقيقته ، وليقطعوا دابر الساسة الذين فرَّقوا المسلمين إلى مذاهب.
ثمَّ قمت بعد أن انتهت الجلسة ، فاستأذنته وانصرفت (١).
__________________
١ ـ مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : ٢ / ١٩٩ ـ ٢١٤.
المناظرة الخامسة والخمسون
مناظرة
الشيخ محمّد الشيعي والأستاذ عادل فيصل السوري
في إسلام آباد في عدالة الصحابة
قال الشيخ محمّد الشيعي في كتيِّبه ( مناظرة لطيفة ) : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، وأفضل بريَّته محمَّد وعلى آله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.
الساعة تشير إلى الرابعة والنصف بتوقيت الإمارات العربيّة المتّحدة ، وأنا في مطار دبي الدولي ، وفجأة أذيع من مكبِّرات الصوت : على المسافرين إلى إسلام آباد على متن الخطوط الجوّيّة البريطانيّة التوجُّه إلى البوابة رقم : ٤ ، وذهبت أنا وبقيَّة المسافرين ، وبعد أن عبرنا العوائق الإداريّة دخلنا الطائرة ، وجلست على المقعد المقرَّر سلفاً ، وجلس إلى جنبي شابٌّ مهذَّب وسيم متديِّن ، عرَّف فيما بعد نفسه باسم : عادل عبد العزيز فيصل ، من أهل حلب ـ الجمهوريّة العربيّة السوريّة (١) ، وأقلعت الطائرة من أرض المطار ، وبدأ الحديث والتعارف ،
__________________
١ ـ خريج جامعة دمشق ـ كلّيّة الشريعة.
فعرَّفت نفسي بأني محمّد ، فصلَّى على الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلا : اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
فهاجسني حسُّ الفضول ، وقلت : إن هذه الصلاة بتراء.
قال : وما معنى ما تقول؟
قلت له : وقد جاء في الحديث المرويِّ عن النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن من صلَّى عليه ولم يذكر آله فإن صلاته بتراء (١) ، فنظر إليَّ بنظرات تنطوي على كلمات وكلمات ، وبعد هنيئة فتح فاه ، وقال : إنّك شيعيٌّ؟
قلت : نعم ، فاستوى جالساً كأنّه استنكر ، وأراد أن يقول شيئاً لكنّة نكل ،
____________
١ ـ أخرج الشعراني حديث الصلاة البتراء عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تصلُّوا عليَّ الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء؟ قال : تقولون اللهم صلِّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد ، فقيل : من أهلك يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : علي وفاطمة والحسن والحسين.
كشف الغمّة ، الشعراني : ١ / ٢١٩ فصل في الأمر بالصلاة على النبي ، ط. مصر ١٣٢٧ ، المطبعة الميمنية ، فضل آل البيت ، المقريزي : ٤٣ ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ٢٢٥ في الآيات النازلة في أهل البيت عليهمالسلام ، الآية الثانية ، ينابيع المودّة ، القندوزي : ١ / ٣٧ ح ١٤ و ١٢ / ٤٣٤.
قال ابن حجر في الصواعق : ٣٤٩ ، في مشروعية الصلاة عليهم عليهمالسلام : أخرج الدار قطني والبيهقي حديث : من صلَّى صلاة ولم يصلِّ فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه.
وروى الطبراني في المعجم : ١٧ / ٢٥١ ـ ٢٥٢ عن عقبة بن عمرو قال : أتى رجل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى جلس بين يديه ، فقال : يا رسول الله! أمَّا السلام عليك فقد عرفناه ، وأمَّا الصلاة عليك فأخبرنا بها كيف نصلّي عليك؟ فقال : إذا صلَّيتم عليَّ فقولوا : اللهم صلِّ على محمّد النبيِّ الأمّيِّ وعلى آل محمّد كما صلَّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
وقال الشافعي في وصفهم ، ومنبِّهاً على هذا المعنى في فضلهم :
يا أهل بيت رسول
الله حبُّكم |
|
فرض من الله في
القرآن أنزله |
كفاكم من عظيم
القدر أنكم |
|
من لم يصلِّ عليكم
لا صلاة له |
الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ٢٢٨ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ١٨.
وأراد أن يبطش لكنّه امتنع ، وتمالك أعصابه ، ثمَّ قال : أنتم تُكفرون وتَلعنون وتسبُّون أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنصاره ، وهم أمان أهل الأرض ، ومن شهد لهم بالجنة ، فهم النجوم ، ومن سبَّهم فهو زنديق.
وأراد أن يضيف لكنَّه أمسك ، وكأنّه ندم من سرعة انفعاله ، وحدّة مواجهته ، فسكت ، وأضاف قائلا : معذرة.
قلت وفي نفسي حزازة : لا عليك يا حبيبي ، ربما قرأت أو سمعت أو نُقل إليك ممّا حدا بك أن تنفعل ، رغم أنّك مؤمن مهذَّب مثقَّف ، وتتقوَّل علينا ما ليس فينا ، وقبل الخوض في البحث حول هذا الموضوع أذكر لك حادثة لطيفة ، أهدِّئ روعك وأسكِّن غضبك؟
فابتسم وضحكت أنا ..
كنت أدرس عند أستاذ بليغ ـ وساق قصة ترتبط بأستاذه إلى أن قال : فيا أخي عادل! دع عنك كلمات الانتهازيّين الذين بينهم وبين الحقّ هوَّات وفواصل ، ولكنّهم تستَّروا بالحقِّ والدين لأجل مناصبهم ومصالحهم وراحتهم ووجاهتهم على حساب الدين والمتديِّنين ، كما أوضحت لك ، والعاقل تكفيه الإشارة ، ولله درُّ أميرالمؤمنين عليهالسلام حيث قال : الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله (١).
فشاهدت صديقي يومي إليَّ بالتصديق ، وكأنه يقول : هذا قطرة من بحر.
وقال عادل : أودُّ أن أذكر أفضح من هذا ، وأنا أدرس في جامعة دمشق كلّيّة الشريعة ...
__________________
١ ـ روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : ٣١ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٤٠ / ١٢٦.
وفجأة قاطعته المضيِّفة معلنة شدَّ الأحزمة للهبوط في مطار إسلام آباد.
فقال : يا أخي! ولو لم نصل إلى جواب ، ولكن كانت فرصة سعيدة ووقتاً طيّباً ، أثَّرت في نفسي ، وأودُّ زيارتك ، أو أن تزورني.
قلت : نعم ، وهذا يسعدني ، وإني سأنزل في فندق كلف.
وقدَّمت له العنوان ، ووعدني بالزيارة ، وهبطت الطائرة ، وتابع كل واحد منّا سفره ، وفي الساعة ٥٣ / ١١ مساء وصلت الفندق المذكور ، وحللت في الغرفة المخصَّصة مسبقاً ، وقضيت ليلة هادئة ، وفي الصباح الباكر بعد أداء الفريضة عاودت النوم ، فما استيقظت إلاَّ أثر جرس الهاتف ، فرفعت السماعة فإذا هو صديقي قد اتصل بي ، وطلب زيارتي ، فحدَّدت له الساعة الخامسة مساء وقتاً للقاء ..
في الوقت المقرَّر ذهبت إلى الصالة منتظراً صديقي ، فإذا هو جالس أمامي ، وبمجرَّد أن رآني قام وأخذ يدي بقوَّة ، وحيَّاني بحرارة ، وضمَّني إليه ، وبعد المجاملة وكلام قصير حول السفر دخلنا في صلب الموضوع الذي شرعناه في الطائرة.
فقلت له : سيِّدي! ذكرت حول الصحابة من كلام الحبيب المختار وسيِّد الأبرار صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وحان الآن الوقت والمجال لنبحث عن حقيقة هذا المقام بالشكل الموضوعيِّ المناسب ، بما لا يوجب الإسهاب والتضجُّر ، وبالاختصار ، مدعَّماً بالأدلة المقنعة إن شاء الله تعالى.
فأجابني بما فيه الرضا والقبول ، وتوجَّه إليَّ بشره عجيب ، ودقّة متناهية مما دعاني إلى الحيطة والحذر في الكلام.
فقلت : الصحابة من الصحبة ، والصحبة في اللغة : المعاشرة أو الملازمة ،
يقال : صحبته أصحبه صحبة ، فأنا صاحب ، والجمع صحب وأصحاب وصحابة.
وفي الاصطلاح : قال ابن حجر العسقلاني : وأصلح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيه من لقيه ، طالت مجالسته أو قصرت ، أو من روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض. انتهى كلامه (١).
نظريَّات حول الصحابة
وهناك نظريّات مختلفة حول الصحابة.
١ ـ الكامليّة :
وهذه الفرقة كفَّرت جميع الصحابة.
فغضب عادل.
قلت : مهلا يا حبيبي! فإن هذا القول بدرجة من السخافة بحيث لا ييستحقُّ البحث ; لعدم الجدوى.
٢ ـ جمهور العامة :
قائلين : بأن الصحابة عدول ثقات ، لا ينالهم الجرح ولا التعديل ، ولا يجوز توجيه الكذب إلى رواياتهم ، والردُّ على أقوالهم.
قال ابن حزم : الصحابة كلُّهم من أهل الجنة قطعاً (٢).
والحاصل : أنّهم معصومون من الخطأ.
__________________
١ ـ الإصابة ، ابن حجر : ١ / ١٥٨ ، معرفة الثقات ، العجلي : ١ / ٩٥.
٢ ـ الإصابة ، ابن حجر : ١ / ١٦٣.
٣ ـ الحدّ الوسط
لا هذا ولا ذاك ، بأن الصحابة غير معصومين ، ولو كان أكثرهم عدولا ثقاتاً ، ولكن فيهم من ليس كذلك.
وهذا يظهر من كلام ابن العماد الحنبلي والشوكاني والمارزي والرافعي وغيرهم (١) ، وجميع علماء الشيعة.
وخلاصة قولهم : أن في الصحابة منافقين ، وهم الذين جرَّعوا النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم غصصاً ومآسي ، كما يشهد عليهم القرآن المجيد ـ سورة المنافقين.
أدلة الطرفين :
١ ـ قول جمهور العامة :
واستدلَّ جمهور العامة بالحديث النبويِّ الشريف : لا تؤذوني في أصحابي (٢) ، وحديث : لا يدخل النار مسلم رآني ، ولا رأى من رآني .. (٣).
فقاطعني عادل : صحيح هذا ، ومنقول بالتواتر.
قلت : طيِّب ، ولكن الحديث الشريف يشمل أبا جهل وأبا لهب والحكم بن العاص وعبيد الله قاتل هرمزان المسلم المؤمن ، وقد قال تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ) (٤).
والسؤال الذي يطرح نفسه : هل أن الحديث يشمل هؤلاء أيضاً أم لا؟ أمَّا
__________________
١ ـ راجع : النصائح الكافية ، ابن عقيل : ١٦٢ ، الإصابة ، ابن حجر : ١ / ١٦٣.
٢ ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٢١ / ٨٣ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، القاضي عياض : ٢ / ٣٠٨.
٣ ـ كتاب السنة ، ابن أبي عاصم : ٦١٦ ح ١٤٨٥ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١٧ / ٣٥٧ ، الإصابة ، ابن حجر : ٤ / ٤٣٦ ح ٥٦٣٥.
٤ ـ سورة النساء ، الآية : ٩٣.