موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وأمر المهدي بجباية أسواق بغداد وجعل لذلك سعيد الجُرشي ، وكان أول من جبى الأسواق (١).

وفي آخر سنة (١٦٨ ه‍) أصاب الناس ظلمة وتراب أحمر على وجوههم وفي فرشهم ، وأصابهم وباء وموت كثير (٢).

المضايقة على الزنادقة :

قال السيوطي : في سنة مئة وست وستين جدّ المهديّ في تتبّع الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وإبادتهم ، وحتّى القتل على التهمة (٣).

ونقل المسعودي عن العبدي الخراساني : أنّ القاهر بالله العباسي طلب منه أخبار خلفاء بني العباس ، فقال في المنصور : هو أول خليفة ترجمت له كتب أرسطاطاليس من المنطقيات وغيرها ، وتُرجم له كتاب المجسطي لبطلميوس ، وكتاب الارتماطيفي وكتاب الاقليدس ، وسائر الكتب القديمة من اليونانية والرومية والفهلوية والفارسية والسُريانية ، واخرجت للناس فنظروا فيها وتعلقوا بتعلمها (٤). وانتشرت كتب ماني وابن ديصان ومرقيون مما نقله عبد الله بن المقفّع وغيره ، وتُرجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية ، وما صنّفه في ذلك : ابن أبي العوجاء ، وحمّاد عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانوية والديصانية والمرقونية.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٧ ـ ٣٩٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠١.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٠.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٢٢٣.

٤٤١

فكثر بذلك الزنادقة وانتشرت آراؤهم في الناس. فكان المهدي أوّل من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب على الملحدين من الجاحدين وغيرهم ، وأقاموا البراهين على المعاندين ، وأزالوا شبَه الملحدين وأوضحوا الحق للشاكّين. وأمعن في قتل الملحدين والمداهنين ، والذاهبين عن الدين لظهورهم في أيامه وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته (١).

ويظهر من خبر الكشي عن العياشي عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم مولى كندة : أنّه على عهد المهدي كتب له ابن المفضّل أو ابن المقعد الفِرق صنفاً صنفاً ، ثمّ أمر فقرئ الكتاب على الناس ، فسمع يونس الكتاب يُقرأ على باب الذهب ببغداد ، ومرة اخرى ببلدة الوضّاح البربري مولى بني امية ، حتّى قال في كتابه : وفرقة منهم يقال لهم الزُرارية نسبة إلى زُرارة بن أعين ، وفرقة يقال لهم العَمّارية نسبة إلى عمّار الساباطي ، وفرقة يقال لهم اليعفورية نسبة إلى عبد الله بن يعفور ، وفرقة يقال لهم الجواليقية نسبة إلى هشام بن سالم الجواليقي ، وفرقة أصحاب سليمان الأقطع ، فجعل لرؤوس أصحاب الصادق عليه‌السلام لكل واحد فرقة! فزعم هشام بن الحكم : أن أبا الحسن الكاظم عليه‌السلام بعث إليه قال : كفّ هذه الأيام عن «الكلام» فإن الأمر شديد! ولذا لم يُذكر يومئذ هشام بن الحكم وأصحابه. قال هشام : فانتهيت إلى قوله وكففت عن الكلام حتّى مات المهدي وسكن الأمر (٢) وعليه فالمهدي ضلّل الناس بعطف أصحاب الصادق عليه‌السلام على فِرق الزنادقة!

__________________

(١) المصدر ٤ : ٢٢٤.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٥ ، الحديث ٤٧٩ وهذه الفرق مختلفة تهويلاً وهي التي تسرّبت إلى كتب الفِرق وتكرر المضمون في ٢٦٩ ، الحديث ٤٨٥ وفي ٢٧٠ ، الحديث ٤٨٨ اتّهمه إسماعيل بن زياد الواسطي بأ نّه ما سكت وقال : مثلي لا يُنهى عن الكلام! وفي ٤٨٦ عن الرضا عليه‌السلام : أنّه كان حسداً منهم له ، وهو عبد ناصح.

٤٤٢

المهدي استقدم الكاظم عليه‌السلام :

أسند الكليني عن محمّد بن سنان : أنّه دخل على الكاظم عليه‌السلام قبل أن يُستقدم إلى العراق بسنة وعليّ ابنه جالس بين يديه ، قال : فقال لي : يا محمّد ، أما إنّه ستكون في هذه السنة حركة (من الحكومة) قلت : وما يكون جعلت فداك؟ قال : أصير إلى هذا الطاغية (المهدي) أما إنّه لا يبدأني بسوء منه ولا من الذي يكون بعده (١) وبهذا عُرف أنّه عليه‌السلام يعني المهدي ثمّ ابنه موسى الهادي ، فإنّه بقي سليماً معهما.

وحيث ذكر في الخبر : أن ابنه علياً كان جالساً بين يديه ، يستظهر أنّ الرضا عليه‌السلام يومئذٍ كان خُماسياً تقريباً ، وحيث اخترنا مولده في (١٥٢ ه‍) يبدو أن استقدام المهدي للكاظم عليه‌السلام إلى بغداد كان في أواخر عصره.

وروى الحميري بإسناده عن أبي قتادة القمي عن أبي خالد الزُبالي منسوباً إلى منزل زُبالة من منازل المدينة إلى الكوفة قال : قدم أبو الحسن موسى عليه‌السلام زُبالة ومعه جماعة من أصحاب المهدي ، بعثهم المهدي لإشخاصه إليه ، وأمرني بشراء حوائج له ، ونظر إليّ وأنا مغموم فقال لي : يا أبا خالد ، مالي أراك مغموماً؟ قلت : جعلت فداك ، هو ذا تصير إلى هذا الطاغية ولا آمنه عليك!

فقال : يا أبا خالد ، ليس عليَّ منه بأس ، وإذا كان شهر كذا ويوم كذا فانتظرني في أوّل الميل (علامة المسافة) فإني أُوافيك إن شاء الله! قال : فما كانت لي همّة إلّاإحصاء الشهور والأيام ، ثمّ غدوت إلى أوّل الميل في اليوم الذي وعدني ، فلم أزل انتظره إلى أن كادت الشمس أن تغيب ولم أرَ أحداً! فشككت ووقع في قلبي أمر عظيم! ثمّ نظرت قرب الميل فإذا سواد قد رُفع لي فانتظرته

__________________

(١) أُصول الكافي ٢ : ٣١٩ ، الحديث ١٦ باب النصّ على الرضا عليه‌السلام.

٤٤٣

فإذا به أبو الحسن عليه‌السلام على بغلة أمام القِطار فقال لي : إيه يا أبا خالد! قلت : لبّيك جعلت فداك! قال : لا تشكنّ ، ودّ ـ والله ـ الشيطان أنّك شككت! قلت : قد كان والله ذلك جعلت فداك! ثمّ قلت : الحمد لله الذي خلّصك من الطاغية! فقال : يا أبا خالد ، إن لهم (وليس له) إليّ عودة لا أتخلّص منهم (وليس منه) (١) ورواه الكليني (٢) والراوندي (٣) كذلك.

وحين نصل إلى الحلبي نراه يفصّل عن الزُبالي ما يلي : قال : نزل أبو الحسن الكاظم عليه‌السلام منزلنا زُبالة في سنة مُجدبة في يوم شديد البرد لا نقدر على عود نستوقد به ـ وكان الزُبالي زيدياً ـ فقال له : يا أبا خالد ، ائتنا بحطب نستوقد به. قال : قلت : والله ما أعرف في هذا الموضع عوداً واحداً! فقال : كلّا يا أبا خالد ؛ ترى هذا الفجّ (بين الجبلين) خُذ فيه فإنّك تلقى أعرابياً معه حملان حطباً فاشترهما منه ولا تماكِسه.

قال أبو خالد : فركبت حماري وانطلقت حتّى لقيت الأعرابي ومعه الحملان حطباً فاشتريتهما منه وأتيتهُ بهما ، وأتيته بما عندنا نطعَم منه ، ثمّ قال الكاظم عليه‌السلام : نقدم عليك في شهر كذا في يوم كذا عند الميل. وفي اليوم الموعود ركبت حماري وجئت حتّى نزلت عند الميل ولزقت به ، فإذا أنا براكب أمام القِطار ، فقصدت إليه فإذا به يهتف بي : يا أبا خالد ، قلت : لبّيك جُعلت فداك. قال : أتراك وفَيناك بما وعدناك؟ وانطلقت معه حتّى نزل في القبّتين اللتين كان نزل فيهما ، ثمّ قال لي : يا أبا خالد ، سلني حاجتك.

__________________

(١) قرب الاسناد للحميري : ٢٥٧ ، الحديث ١٢٤٨.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ ، الحديث ٣ باب مولد الكاظم عليه‌السلام ، وعن دلائل الإمامة للحميري أيضاً في كشف الغمة ٣ : ٣٩٨.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٣١٥ ، الحديث ٨.

٤٤٤

فقلت : جُعلت فداك اخبرك بما كنت فيه : كنت زيديّ المذهب حتّى قدمتَ عليَّ وسألتني الحطب وذكرتَ مجيئك في هذا اليوم ، فعلمت أنّك الإمام الذي فرض الله طاعته!

فقال : يا أبا خالد «من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل» (١).

فالخبر كما ترى إنّما يقتصر على ذكر منزل زُبالة ذهاباً وإياباً ثمّ لا يذكر إلى أين ولماذا؟ إلّابقرينة المقارنة مع الأخبار الأُخرى. ولم يذكر فيها التواريخ ولا الفترة بين الذهاب والإياب ، إلّاأنّ ذكر الشهر يشير إلى احتمال ذلك نحو شهر ، ولم يذكر فيها عدم إصابة المهديّ للإمام بسوء ، ولم يذكر فيها شيء عن حبس الإمام عليه‌السلام.

وجاء في «عمدة الطالب» لنسّابة آل أبي طالب : أنّه حبسه ، فرأى أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام في منامه يقول له : يا موسى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (٢)) فانتبه من نومه وعرف أنّ المراد موسى الكاظم عليه‌السلام فأمر بإطلاقه (٣).

وفصّله الذهبي عن الصّولي عن الموصليَ عن الفضل بن الربيع عن أبيه الربيع بن يونس : أنّ المهدي حبس الكاظم عليه‌السلام ثمّ أرسل عليَّ في الليل ، وكان المهدي من أحسن الناس صوتاً بالقرآن فلمّا جئته سمعته يقرأ هذه الآية .. ولما رآني قال لي : عليَّ الآن بموسى بن جعفر! فجئته به ، فقام إليه وعانقه وأجلسه إليه

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣١٩ في المغيّبات.

(٢) سورة محمّد : ٢٢.

(٣) عمدة الطالب لابن عَنبة : ١٨٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٨ : ٢٤٨.

٤٤٥

وقال له : يا أبا الحسن ، رأيت في نومي أمير المؤمنين علياً يقرأ عليَّ الآية ، أفتؤمّنني أن لا تخرج عليَّ؟! فقال : والله ما فعلت ولا هو من شأني! فصدّقه! ثمّ قال لي : يا ربيع ؛ أعطه ثلاثة آلاف دينار ، ورُدّه إلى أهله.

قال الربيع : فأحكمت أمره بالليل خوف العوائق ، فما أصبح إلّاوهو بالطريق (١).

وعليه ، فعدم إصابته بسوء في الخبر الأسبق بمعنى عدم القتل وطول الحبس ، وهذا إنّما كان في جلب المهديّ للإمام عليه‌السلام هذه المرة التي استظهرنا أنّها في أواخر خلافته ، دون تعدّد ذلك.

هذا ، إلّاأن الحلبي أرسل قائلاً : لما بويع المهدي دعا ـ ابنَ ـ حميد بن قحطبة الطائي نصف الليل وقال له : إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهرُ من الشمس! ولكنّي متوقف في حالك عندي! فقال له : أفديك بالمال والنفس! فقال : هذا لسائر الناس! قال : فأفديك بالمال والأهل والولد والروح! فلم يكتفِ وسكت! فقال : أفديك بالمال والأهل والولد والنفس والدين! فعاهده على ذلك ، ثمّ أمره بقتل الكاظم عليه‌السلام غيلة! وذهب ليرتكب ذلك.

ونام المهدي ، ثمّ انتبه مذعوراً! فأرسل إلى ـ ابن ـ حميد الطائي فنهاه عمّا أمره ، بل أكرم الإمام عليه‌السلام ووصله. لأنّه رأى في منامه علياً عليه‌السلام يقرأ عليه الآية (٢).

__________________

(١) سِيرَ أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٢ برقم ١١٨ ، وأقدم منه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٣ : ١٣٠ ـ ١٣١ برقم ٦٩٨٧ ، وعنه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ٢ : ٤٦٤ وبهامشه مصادر عديدة ، وكشف الغمة ٣ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ وبهامشه مصادر اخرى.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٢٥. وفي الكتاب : حميد بن قحطبة ، وأثبتنا الصحيح ، بدلالة السياق.

٤٤٦

وأكثر الظن أنّ هذا الخبر المرسل المصحّف ، محرّف عن الخبر المسند السابق ، وهو أولى.

ومات المهدي وخلفه موسى :

كان المهدي دون الخمسين من عمره وله ثمانية بنون : موسى وهارون ، وعلي وعُبيد الله ، وإسحاق ويعقوب وإبراهيم ، وسمّى الأخير بلقب أبيه المنصور (١).

وكان قد عهد لابنه البكر الأكبر موسى وهو يومئذ في جُرجان ، ورأى من هارون ما عزم به على خلع موسى الهادي عن ولاية العهد والبيعة للرشيد ، وبعث بذلك إلى موسى أن يعود إليه فأبى وامتنع حتّى من القدوم إليه! فسار المهدي يريده (٢) في (١١) محرم سنة (١٦٩ ه‍) إلى الجبال ، فنزل قرية من أرض ماسبيدان يقال لها رُدين ، وخرج يتصيد ، واتبعت كلابه ضبياً فاقتحم الظبي باب خربة وتبعت الكلاب الظبي وتبعها الفرس وهو عليه فصدم به بباب الخربة ، وحُمل إلى مضاربه فتوفى في (٢٢) من محرم سنة (١٦٩ ه‍) (٣) وكان ابنه الرشيد معه فصلّى عليه ، ودفن هناك تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٢.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٣. وكانوا قد بنوا له قبة ارتفاعها ثمانية أمتار أُزيلت في سنة (٣٥٢ ه‍. ش) ومكانها اليوم حديقة «پارك كودك» كما في كتاب تاريخ واليان پشتكوه (ايلام) : ٦٧ لابراهيم يعقوبي.

٤٤٧

المهدي والفاطميون :

بعد قيام الأخوين الحسنيّين محمّد وإبراهيم بالمدينة والبصرة واعتزازهم كثيراً بجدّتهم فاطمة عليها‌السلام ، كأ نّه استتبع من العباسيّين اتهام الموالين لهم بالفاطمية! فيظهر من خبر رواه الأندلسي أنّ الربيع الوزير كان أحياناً يذكر فاطمة عليها‌السلام في مجالس الرجال بسوء المقال! ووشى لدى المهدي على قاضي الكوفة شريك بن عبد الله النخعي الهمْداني بالفاطمية ، فاستحضره المهدي وقال له : بلغني أنّك فاطميّ! قال : اعيذك بالله أن تكون أنت غير فاطمي! إلّاأن تعني فاطمة بنت كسرى! قال : بل أعني فاطمة بنت محمّد! قال : فأنت تلعنها؟! قال : معاذ الله! قال : فما على من يلعنها؟ قال : لعنه الله! قال : فالعن هذا وأشار إلى الربيع!

قال : يا أمير المؤمنين ، لا والله ما ألعنها! فالتفت شريك إليه وقال له : يا ماجن! فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيّد المرسلين في مجالس الرجال (١)؟!

الكاظم عليه‌السلام والمهدي والخمر :

مرّ الخبر عن منادمة المهدي لندمائه وقوله : إنّما اللذة في المشاهدة! وكأنّه سوّلت له نفسه أن يناقش الإمام عليه‌السلام في نصّ القرآن بتصريح تحريم الخمرة. فقال له : إنّ الناس إنّما يعرفون النهي عن الخمرة في كتاب الله عزوجل ولا يعرفون التحريم لها! فقال عليه‌السلام : بل هي محرمة في كتاب الله عزوجل يا أمير المؤمنين! فقال : في أي موضع يا أبا الحسن؟!

فقال : قول الله عزوجل : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (٢)).

__________________

(١) العقد الفريد ٢ : ١٧٨ ، وعنه في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٨٣.

(٢) الأعراف : ٣٣.

٤٤٨

فما ظهر منها يعني الزنا المعلن والرايات التي كانت تُرفع للفواجر الفواحش في الجاهلية. وأما ما بطن فهو يعني ما نكح الآباء ، فإنّه قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوّجها ابنه إن لم تكن امّه ، فحرّم الله ذلك.

وأما «الإثم» فقد قال الله في موضع آخر : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (١)) فالإثم في كتاب الله هو الخمر والميسر واثمهما كبير كما قال الله عزوجل.

وكان مولاه علي بن يقطين حاضراً ، وكان المهدي يتّهمه «بالرفض» فالتفت إليه وناداه : يا علي بن يقطين ، هذه والله فتوى هاشمية! فقال علي : الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم «أهل البيت»! فردّ عليه المهدي : صدقت يا «رافضي» (٢).

دعوة الزيدية ببغداد :

بلغ المهدي : أنّ عليّ بن العباس بن الحسن المثنّى وامّه من نسل أبي بكر ، قدم إلى بغداد يدعو إلى نفسه سرّاً! واستجاب له جماعة من الزيدية ، فأمر المهدي بطلبه حتّى أخذه فحبسه ، حتّى قدم إليه الحسين بن علي بن الحسن المثلث فتشفّع فيه فشفّعه ظاهراً ، ولكنّه أمر أن يدس إليه شربة سمّ عملت فيه ثمّ أطلقه له ، فأخذه الحسين الحسني إلى المدينة فمات بها بعد ثلاثة أيام (٣).

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

(٢) الكاص ٦ : ٤٠٦ ، وعنه ص تمهيد ار الأنوار ٤٧ : ١٤٩ ، ويكشف عن أوائل انتشار نف «الرافضة».

(٣) مقاتل الطالبيغ : ٤٠٣ ، ط. صقر.

٤٤٩

نقل ذلك الأموي الزيدي وزاد : أنّ الحسين الحسني لما وصل إلى قصر المهدي على الجمل واستأذن ، قال المهدي للآذن : ويلك أدخله على جمله! فأدخله حتّى أناخه في وسط الدار ، فوثب المهدي إليه فسلّم عليه وعانقه وأجلسه إلى جنبه وأخذ يسائله عن أهله حتّى قال له : يابن عم ما جاء بك؟ قال : ما جئت وورائي أحد يعطيني درهماً! قال : أفلا كتبت إلينا! قال : أحببت أن احدث بك عهداً!

فدعا له المهدي بعشرة بُدر دنانير وعشرة بُدر دراهم وعشرة تخوت ثياب فدفعها إليه ، وخرج بها.

حتّى طرحها بداره ببغداد ، وجاء غرماؤه ، فلم يزل يعطيهم حتّى لم يبقَ من ذلك المال إلّاشيء يسير. ثمّ انحدر إلى الكوفة فنزل في «خان» بقصر ابن هبيرة ، وعرفه صاحب «الخان» فشوى له سمكاً وحمله إليه مع خبز «رقاق» فأعطاه بقية ما معه (١) وكانت أربعين ألف دينار ففرقها بين بغداد والكوفة! وخرج منها بفروة ليس تحتها قميص عليه (٢).

أيام موسى الهادي العباسي :

خلّف محمّد المهدي العباسي من الولد الذكور ثمانية : موسى وهارون ، وعلياً وعُبيد الله ، وإسحاق ويعقوب وإبراهيم ومنصوراً (٣) وكان قد أخذ البيعة بولاية عهده لابنه موسى ولقّبه بالهادي ، ثمّ لهارون ولقّبه بالرشيد. وكان المهدي قد أرسل موسى في عسكر جرجان ، وكان هارون معه حين هلاكه ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، ط. صقر.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٢.

٤٥٠

فأخذ هارون البيعة لأخيه موسى وأرسل بها إليه مع وصيفهم نصير ، فبلغه ذلك بعد وفاة أبيه بثمانية أيام.

وكان المهدي قد بنى قرب بغداد بقرية يقال لها : عيسى آباد (معمورة عيسى) فارتحل موسى من جرجان بعد ثلاثة أيام إلى العراق حتّى نزل في عيسى آباد واتّخذها منزلاً واستتم بناءها.

ثمّ قطع ما كان يجريه المهدي للطالبيين من الاعطية والأرزاق ، بل كتب إلى الآفاق بطلبهم وحملهم إليه ، بل ألحّ في طلبهم حتّى أخافهم خوفاً شديداً .. فلمّا كثر من يطلبهم واشتدّ خوفهم تحرك جمع منهم إلى ملوك النواحي فقبلوهم ووعدوهم النصر والمعونة.

وكانت خراسان ساكنة هادئة الامور والملوك في الطاعة ، ولكن الهادي ولّى عليهم خاله الغطريف بن عطاء فظهرت منه امور قبيحة وضعف شديد فاضطربت البلاد (١).

واضطربت اليمن عليه .. ولم تزل مضطربة على عهد موسى الهادي كلّه.

وكان أهل الجوف من مصر قتلوا عاملهم موسى بن مصعب ، فولّى عليهم الفضل بن صالح ، فكفّ عن طلبهم ولم يُهج أحداً فسكّنهم. ثمّ خرج عليه بناحية أهناس من قرى صعيد مصر دحية بن الأصبغ في خلق كثير فقطع الطرق وأخاف السبل وتغلّب على الخراج ، فوجّه الفضل إليه عبد الله بن علي المرادي وسفيان فلقيا دحية في صحراء بُويط وناوشاه الحرب فانهزم دحية وأخذه أسيراً إلى الفضل ، فقتله وصلبه وأرسل برأسه إلى موسى (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٥.

٤٥١

وجاء في أخبار خطيب بغداد : أن موسى لما كان صغيراً كانت شفته العليا تتقلّص ، فوكّل أبوه به خادماً كلما رآه مفتوح الفم قال له : موسى أطبق فمك ، فيفيق على نفسه ويضم شفتيه ، فشهر بلقب : موسى أطبق! نقله السيوطي وزاد عنه : أن أباه كان قد أوصاه بتعقيب الزنادقة ، فجدّ في أمرهم حتّى قتل منهم خلقاً كثيراً.

وأردف عن الذهبي : أنّ الهادي كان يركب حماراً فارهاً ولا يقيم ابّهة للخلافة ، وكان يلعب ويتناول المسكر! وقال غيره : بل هو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة والأعمدة والقِسيّ الموترة ، فاتبعه عمّاله في ذلك (١).

وقال المسعودي : بويع وهو دون خمس وعشرين سنة .. وكان قاسي القلب ، شرس الأخلاق ، صعب المرام (٢) ، طوالاً جسيماً أبيض أشدّ الناس بدناً وأجرأهم مقدماً في تسرّع وجبرية يُنسب بهما إلى الهَوْج! واستوزر مولاه الربيع بن يونس واستقضى أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الأوسي صاحب أبي حنيفة (٣) ويجالس عيسى بن دأب من الحجاز ، وكان أكثر أهل عصره أدباً وعلماً ومعرفة بأخبار الناس وأيامهم (٤) ثمّ هلك الربيع بن يونس ، فقيل : إنّه كانت له جارية أهداها المهدي لابنه الهادي ، فلأجلها سقى الهادي الربيع شربة مسمومة قتله بها (٥).

وحضره أبو الخطّاب السعدي ينشده قصيدة في مدحه إلى أن قال :

يا خير من عقدت كفّاه حُجزته

وخير من قلّدته أمرها مُضر!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٢٥.

(٣) التنبيه والإءاف : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٢٥.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٣٢٦.

٤٥٢

ولم يستثن في شعره! فقال له الهادي : ويلك ، إلّامَن؟ ففكّر الشاعر وقال :

إلّاالنبيّ رسولَ الله ، إنّ له

فضلاً ، وأنت بذاك الفخر تفتخر

فقال له : الآن أصبت وأحسنت! وأمر له بخمسين ألف درهم.

ونقل الصولي بسنده عن المطلّب المُرّي : أنّهم قدموا على الهادي شهوداً على رجل شتم قريشاً وتجاوزهم إلى ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأحضر الفقهاء وأحضر الرجل وشهدوا عليه ، فتغيّر وجهه ثمّ روى عن أبيه عن جدّه عن ابن عباس قال : من أراد هَوان قريش أهانه الله! ثمّ قال للشاتم : وأنت تخطّيت إلى ذكر النبيّ عليه الصلاة والسلام! ثمّ حكم بقتله (١) ولم ينتظر فتاوى وأحكام الفقهاء ولا أبا يوسف!

خروج الحسين الحسني :

روى الأموي الزيدي باسناده قال : كان سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنّى بن الحسن المجتبى عليه‌السلام : أنّ موسى الهادي ولّى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي العباسي ، فاستخلف عليها عبد العزيز العُمري من ولد عمر بن الخطاب ، فأفرط في التحامل على الطالبيّين حتّى أخذ كل واحد منهم بكفالة قريبه ونسيبه! فجعل الحسن بن محمّد بن عبد الله المحض في ضمان عمّه يحيى بن عبد الله المحض والحسين بن علي الحسني ، وطالبهم بالعرض كل يوم في المقصورة ، وولّى عليهم للعرض أبا بكر بن عيسى الحائك من موالي الأنصار! فكان عليهم أن يجتمعوا في مقصورة المسجد النبوي حتّى يأتي هذا المولى فيستعرضهم.

ففي يوم جمعة حبسهم في المقصورة إلى العصر ثمّ عرضهم فكان الحسن بن محمّد الحسني غائباً منذ ثلاثة أيام ، فقال ليحيى والحسين : لتأتيانّي به أو لأحبسنّكما!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ والصلاة بَتراء!

٤٥٣

ثمّ مضى ابن الحائك فأخبر العُمريّ فدعا بهما فوبّخهما وتهدّدهما! أنّه إن لم يجئ به الحسين ليضربّنه ألف سوط ، وإن وقعت عينه على الحسن بن محمّد ليقتلنّه من ساعته! وخرجا من عنده وهما مغضبان.

ثمّ وجّه الحسين إلى الحسن بن محمّد قال : يابن عمي ، قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق ، فامض حيث أجبت! وقال الحسن : لا والله بل أجيء الساعة إليك حتّى أضع يدي في يده!

ثمّ وجّه إلى بني الحسن وفتيانهم ومواليهم فاجتمعوا ستة وعشرين رجلاً من ولد علي عليه‌السلام ونفر من مواليهم وعشرة من الحجّاج ، وكان بينهم وبين مسيرهم إلى مكة للحجّ عشرة أيام. ولم يتخلّف عنه من الطالبيّين إلّاالكاظم عليه‌السلام (١).

ثمّ يسند الإصفهاني الأُموي الزيدي عن ابن القطّان : أنّه سمع من يحيى بن عبد الله المحض (الذي فرّ من المعركة) ومن الحسين الحسني قولهما : ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا ، وحتّى موسى بن جعفر عليه‌السلام فأمرنا بالخروج (٢)! وهنا يسند عن عنيزة القصباني : أنّه رأى أن موسى بن جعفر عليه‌السلام جاء إلى الحسين صاحب الفخّ وركع عليه وقال له : أحبّ أن تجعلني في حلّ من تخلّفي عنك! فقال له : أنت في سعة (٣).

بل أسند الكليني عن عبد الله بن المفضل مولى ابن جعفر : أنّ الحسين دعا الكاظم إلى بيعته بعد أن احتوى على المدينة! ولكنّه لم يُكرهه عليها ، كما يأتي.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٩٤ ـ ٢٩٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٠٤.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٤٥٤

قيام الحسين الحسني بالمدينة :

وتواعدوا أذان المؤذّن للصبح ، وأن يتنادوا : أحَد أحَد! وهنا يذكر الخبر : أن لمّا أذّن المؤذن للصبح دخلوا المسجد يتنادون أحد أحد ، وبعده يعود لينصّ على وجود منارة مُقامة عند رأس النبيّ في موضع الجنائز ، وأنّ المؤذّن كان قد صعدها ليؤذن فصعد إليه عبد الله بن الحسن الأفطس بسيفه وأمره أن يترك التثويب ب «الصلاة خير من النوم» إلى «حيّ على خير العمل» فلمّا رأى المؤذّن السيف في يده أذّن بها. فلعلّه كان الأذان الثاني للصلاة ، والأول كان للإعلام بدخول الوقت.

قال : فلمّا سمع عبد العزيز العُمري ذلك أحسّ بالشر ودُهش ، وأراد أن يقول : أغلقوا الباب وأسرجوا لي البغلة وأتوني بجبّتي واسقوني ماءً! قال : أغلقوا البغلة الباب وأطعموني جبّتي الماء! ثمّ اقتحم إلى دار جدّه عمر بن الخطاب وخرج منه إلى زقاق عاصم بن عمر ومضى هارباً على وجهه يسعى ويضرط حتّى نجا!

فصلّى الحسين بالناس الصبح ، ثمّ دعا بالحسن بن محمّد الحسني ودعا بالشهود وقال لهم : هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العُمري فقد خرجت مما عليَّ ومن يميني. ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :

أنا ابن رسول الله على منبر رسول الله وفي حرم رسول الله ، أدعوكم إلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. أيّها الناس ، أتطلبون آثار رسول الله في العود والحجر وتتمسّحون بهما وتضيّعون بَضعة منه (١)!

فأنا ابايعكم على كتاب الله وسنّة رسول الله ، وعلى أن يطاع الله ولا يُعصى. وأدعوكم إلى الرضا من آل محمّد ، وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٩٧.

٤٥٥

والعدل في الرعية ، والقَسمْ بالسوية. وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدوّنا. فإن نحن وفَينا لكم وفَيتم لنا ، وإن نحن لم نفِ لكم فلا بيعة لنا عليكم (١) فبايَعوه على ذلك.

وكان على مسلحة السلطان بالمدينة خالد البربري فأقبل في سلاحه ومعه أصحابه حتّى وقفوا على باب جبرئيل ، فقصده يحيى بن عبد الله بسيفه ، وأراد خالد النزول إليه ، فبدره يحيى بضربة على جبينه فقطع البيضة والمغفر والقُلنسوة وأطار قحف رأسه وسقط ، ثمّ حمل على من معه فانهزموا وتفرقوا (٢)!

وكان الهادي قد أرسل عمّه سليمان بن المنصور أميراً للحج (٣) وحجّ معه موسى بن عيسى والعباس بن محمّد العباسيين ولكنّهم بدؤوا بمكة. وكان الهادي قد أرسل عسكراً إلى الموسم مع مولاه مبارك التركي وهذا بدأ بالمدينة للزيارة ، فلمّا عسكر خارج المدينة بلغه خبر الحسين الحسني ، فأرسل إليه ليلاً : إني والله ما احبّ أن تبتلي بي ولا أبتلي بك ، فابعث الليلة إليّ عشرة من أصحابك يبيّتون عسكري ، حتّى انهزم وأعتلّ بالبيات. وطلب دليلاً يدلّه على غير الطريق العام ، فوجد الدليل. ووجّه الحسين عشرة من أصحابه فصيّحوا في نواحي عسكره ، ومضى به دليله حتّى انتهى به إلى مكة ، فصار مبارك مع اولئك القادة من العباسيّين واعتلّ لهم بالبيات (٤)!

وبعد أن احتوى على المدينة دعا الكاظم عليه‌السلام إلى بيعته فأتاه ، ولكنّه قال له : يابن عمّ! إنّ ابن عمّك ، يعني محمّد بن عبد الله المحض ، كلّف عمّك أبا عبد الله

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٩٧ ، ٢٩٨.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٤ ، واليعقوبي ٢ : ٤٠٦.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.

٤٥٦

الصادق عليه‌السلام البيعة ، فخرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد (من إخباره بقتله) فلا تكلّفني ما كلّفه فيخرج مني ما لا اريد!

فقال له الحسين : إنّما عرضت عليك أمراً ، فإن أردته دخلت فيه ، وإن كرهته لم أحملك عليه ـ! والله المستعان! ثمّ ودّعه ، فقال له أبو الحسن موسى حين ودّعه : يابن عمّ ، إنك مقتول! فأجدّ الضّراب ، فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويسرّون شركا! وإنا لله وإنّا إليه راجعون ، عند الله أحتسبكم من عصبة! ثمّ خرج (١).

خروجه إلى مكة وقتاله ومقتله :

واستعدّ الحسين للخروج إلى مكة ، بمن تبعه من أهله ومواليه وأصحابه زهاء ثلاثمئة ، واستخلف على المدينة دينار الخزاعي ، وخرج بهم (٢) وكان أمير مكة عُبيد الله بن قُثم العباسي (٣) فكأ نّه توافق مع أمير الحاج سليمان بن المنصور ، فقدّموا العباس بن محمّد العباسي لمواجهة الحسين ، فلمّا قرب ركب الحسين إلى مكة وصاروا بالبُلْدح وفخّ تلقاهم العباس بعسكره ، فعرض عليه العفو والأمان والصلة! فأبى شديداً ، ثمّ أقعد رجلاً على جمل وأملى عليه فناداهم : يا معشر المسوِّدة ، هذا الحسين ابن رسول الله وابن ابن عمّه ، يدعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٦٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٤.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.

٤٥٧

أمّا موسى بن عيسى العباسّي فإنّه دعا أبا العرجا الجمّال أن يُحضره جِماله. قال : فجئته بمئة جمل ذكر ، فختم على أعناقها لكي لا تفتقد ، ثمّ تهيّأ للمسير إلى الحسين صاحب فخّ ، فسار حتّى بلغنا بستان بني عامر فنزل ، ثمّ قال لي : اذهب إلى عسكر الحسين حتّى تراه وتخبرني بكل ما رأيت! فمضيت ودرت فما رأيت خللاً ولا فللاً! وما رأيت إلّامصليّاً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف ، أو مُعدّاً للسلاح! قال : فجئته فأخبرته ، فضرب يداً على يد وبكى حتّى ظننت أنّه سينصرف ثمّ قال : هم والله أكرم عند الله وأحقّ منّا بما في أيدينا! ولكن الملك عقيم! ولو أنّ صاحب القبر (يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله) نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف! ثمّ نادى لغلامه : يا غلام ، اضرب بطبلك. ثمّ سار إليهم.

والتحق به مبارك التركي بعسكره ، فغضب عليه موسى العباسي لانهزامه عن الحسين بالمدينة حتّى حلف ليجعلنّه سائساً للاصطبل (١).

وقاد عسكر العباسيّين : العباس بن محمّد ، وموسى بن عيسى ، وجعفر ومحمّد ابنا سليمان ، ومبارك التركي ، والحسن الحاجب ، والحسين بن يقطين (أخو علي بن يقطين) ومنارة. والتقوا يوم التروية صباحاً.

وأمر موسى بالتعبئة ، فصار محمّد بن سليمان في الميمنة ، وموسى في الميسرة ، وسليمان بن المنصور والعباس بن محمّد في القلب. وبدؤوا بموسى فحملوا عليه فاستطرد لهم شيئاً إلى بطن الوادي ، فحمل عليهم محمّد بن سليمان من خلفهم فطحنهم طحنة واحدة حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين الحسني ، وجعلوا ينادونه : يا حسين لك الأمان! فيقول : ما أُريد الأمان ، واستمرّ يحمل عليهم حتّى قُتل. رماه حمّاد التركي بسهم فقتله ، فوهب له محمّد بن سليمان مئة خلعة ومئة ألف درهم!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٠١.

٤٥٨

أما الحسن بن محمّد الحسني (مسبّب الحرب) فأصابته نُشّابة في عينه فاستمرّ يقاتلهم ، فناداه محمّد بن سليمان : يابن خال اتقِ الله في نفسك فلك الأمان! فقال : والله مالكم أمان ولكنّي أقبل منكم! ثمّ كسر سيفه وأقبل إليهم ، فحمل عليه عُبيد الله بن العباس بن محمّد فطعنه ، وقتله أبوه صبراً (١).

ويظهر من خبر أنّ الكاظم عليه‌السلام كان في الموسم في الحج ، ومعه جماعة من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام فأحضرهم موسى العباسي ، ثمّ جاء جنده برؤوس القتلى وفيها رأس الحسين الحسني ، فقال موسى العباسي لموسى بن جعفر عليه‌السلام : هذا رأس الحسين؟ فلم يتكلّم أحد منهم بشيء إلّاالكاظم عليه‌السلام قال : نعم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون! مضى والله مسلماً صالحاً ، قوّاماً صوّاماً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله! فلم يجيبوه بشيء!

ولما بلغ العُمريّ بالمدينة مقتل هؤلاء عمد إلى دورهم فأغار على أموالهم فجعلها في الصوافي المقبوضة ، وأحرق الدور!

وأنهى موسى العباسي موسم الحج ورجع إلى المدينة فجلس للناس وأمرهم بالوقيعة في آل أبي طالب ، فجعل الناس يوقعون عليهم ، حتّى لم يبقَ أحد.

ويظهر من خبر آخر أنّ موسى بن عبد الله المحض الذي فرّ إلى السند ثمّ عاد فاستأمن المهدي العباسي ، لم يخرج مع سائر بني الحسن ، وأقبل اليوم إلى موسى العباسي وعليه مِدرعة وإزار غليظ ، وفي رجليه نعلان من جلود الإبل وهو أشعث أغبر ، لم يسلّم على موسى العباسي وجلس مع الناس. وعرفه السريّ بن عبد الله العباسي فاستأذن من موسى العباسي ليعرّف موسى الحسني بنفسه ويكسف باله ، فأذن له ، فناداه : يا موسى ، قال قد أسمعت فقل.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٠٠ ، ٣٠١.

٤٥٩

فقال له : كيف رأيت مصارع البغي الذي لا تدَعونه لبني عمكم المنعِمين عليكم! والله ما يزيدكم البغي إلّاذلة! ولو كنتم مثل بني عمّكم ـ الحسين عليه‌السلام يعني الكاظم عليه‌السلام ـ سلمتم وكنتم مثله! فقد عرف حق بني عمّه وفضلهم عليه ، فهو لا يطلب ما ليس له! فأنشد موسى الحسني يقول :

فإنّ الأُولى تُثنى عليهم ، تُعيبني

(اولاك بنو عمّي ، وعمُّهُم أُبي)

وإنك إن تمدحهمُ بمديحة

(تُصدّق ، وإن تمدح أباك تكذَّب!)

وأسروا منهم رجالاً وحملوهم إلى موسى الهادي ببغداد ، وفيهم رجل من بني زُرارة بن أعيَن ، والعذافر الصيرفي ، وسابق القلانسي (من حُجّاج شيعة الكوفة) فأمر بقتلهم ، وكان فيهم رجل من موالي العباسيين وأقرّ بذلك فقال له الهادي : والله لأقطّعنك مِفصلاً مِفصلاً بهذا السكّين! ومعه سكين أشار به. وكان عليلاً فغلبته علّته حتّى مات بها ، وسلم المولى من القتل بالتقطيع بالسكّين بيد الخليفة (١)!

وانهزم منهم يحيى بن عبد الله المحض ربيب الصادق عليه‌السلام فاستتر مدّة يجول في البلدان يطلب موضعاً يلجأ إليه (٢) وكان يصلّي قصراً (٣)! وصحبه جماعة من أهل الكوفة ومنهم من يذهب مذهب الزيدية «البترية» في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان في ست سنين من خلافته ويكفّره في باقي عمره! ويمسح على الخفّين

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٠٩.

(٣) المصدر السابق : ٣١٠.

٤٦٠