موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ثمّ رحل المنصور إلى بغداد (١).

وممن سمع منه وروى سليمان بن مِهران الأعمش مولى بني أسد في الكوفة ، سمع من مالك في واسط ومكة نحواً من خمسين حديثاً ، ولم يسمع مالك منه إلّاحروفاً معدودة ، كما عن «الأنساب» للسمعاني (٢) ومات سليمان سنة (١٤٨ ه‍) (٣) فهنا نقف على طرف من أخباره.

سليمان الأعمش والكوفي :

أبوه مِهران كان من سبي دماوند ، وذكروا أنّه كان ممن حضر معركة كربلاء مع مواليه بني أسد ، وولد ابنه سليمان يوم عاشوراء ، فعمره عند وفاته ٨٨ عاماً قرأ القرآن على يحيى بن وثّاب فكان لا يلحن ولا في حرف واحد فكان يقرئ القرآن ، رأساً فيه ، وروي عن شعبة قوله : إن الأعمش أحبّ إليّ من عاصم! يعني عاصم بن أبي النجود الكوفي الاصفهاني في القراءة! وختم عليه القرآن أبان بن تغلب النحوي ، وأبو عبيدة من أحفاد عبد الله بن مسعود ، وطلحة بن مصرف اليامي من فقهاء الكوفة. وكان هو عالماً بالفرائص : ولم يكن في زمانه من طبقته أكثر حديثاً منه ، بل كان محدّث أهل الكوفة في عصره حتّى يقال انه ظهر له أربعة آلاف حديث ، بلا كتاب! وكان يتشيع ، وقالوا : كان يسمّى المصحف ، لصدقه ، وجرير يقول فيه : الديباج الخسرواني! ثقة به (٤).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧٢ ، ٧٤. وهذا يؤيد أن لقاءه بالإمام عليه‌السلام بالمدينة كان قبل الحج كما مر.

(٢) قاموس الرجال ٥ : ٢٩٩ برقم ٣٤١٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٨ ، والمعارف لابن قتيبة : ٤٩٠.

(٤) عن تاريخ بغداد ٩ : ٣ ـ ١٣.

٣٦١

ولعل تشيّعه من خلال بعض حديثه بلغ هشام بن عبد الملك فكتب إليه أن : اكتب إليّ بمناقب عثمان ومساوئ علي! فلمّا ناوله رسوله كتابه وقرأه قام إلى شاة له وقرّب الكتاب إلى فمها فلاكته فقال للرسول : هذا جوابه! فقال الرسول : إنّه هدّدني إن لم أرجع إليه بالجواب يقتلني! وتوسّل إليه باخوته يقولون له : إفده من القتل! فلمّا ألحّوا عليه كتب إليه : أما بعد فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك! ولو كان لعليّ مساوئ أهل الأرض ما ضرّتك! فعليك بخويصة نفسك! والسلام (١).

ومن تلك الأحاديث حديث «علي قسيم الجنة والنار» والذي كان أبو حنيفة يستبعده ، ولذا لما دخل على الأعمش في علته التي قُبض فيها بل في يومه ، مع ابن أبي ليلى قاضي الكوفة ، وعنده القاضي شريك بن عبد الله ـ وهو راوي الخبر ـ سألوه عن حاله ، فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوّف من خطيئاته ، وأدركته رقة فبكى ، فأقبل عليه أبو حنيفة وقال له : يا أبا محمّد ؛ اتقِ الله وانظر لنفسك! فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة! وقد كنت تحدّث بأحاديث في عليّ بن أبي طالب لو رجعت عنها كان خيراً لك!

فقال الأعمش : مثل ماذا يا نعمان؟! قال : مثل حديث عباية الأسدي : «أنا قسيم النار»!

فقال الأعمش : أوَ لمثلي تقول ذا يا يهودي! ثمّ قال : أقعدوني وسنّدوني! فأقعدوه وسنّدوه فقال :

كان الحجاج يشتم علياً شتماً مقذعاً ، وفي إمرته حدّثني أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخُدري قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان يوم القيامة يأمر الله عزوجل فأقعد أنا وعلي

__________________

(١) حياة الحيوان للدميري الشافعي ١ : ٥٨٥.

٣٦٢

على الصراط ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبكما! وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما آمن بالله من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتولّ علياً! وتلا : (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (١)).

وقال : والذي إليه مصيري حدّثني موسى بن طريف الأسدي خيرهم قال : سمعت إمام الحيّ عباية بن ربعي الأسدي قال : سمعت أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام يقول : أنا قسيم النار! أقول : هذا وليي فدعيه ، وهذا عدوي فخذيه.

قال شريك القاضي : فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه وقال لمن معه : قوموا بنا لا يجيئنا أبو محمّد بأطمّ من هذا! وخرجوا. فما أمسى الأعمش حتّى فارق الدنيا (٢) سنة (١٤٨ ه‍) وفيها بعده توفي محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي الحاضر هنا ، فإلى بعض أخباره :

وقضى القاضي ابن أبي ليلى :

مرّ في الخبر السابق : أنّ محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كان حاضراً الأعمش في احتضاره مع أبي حنيفة ، ولا نراه يجاري أبا حنيفة في إنكاره على الأعمش تشيّعه في بعض حديثه ، بل :

روى الصدوق بسنده عنه عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا يؤمن عبد حتّى يكون ذاتي أحبّ إليه من ذاته ، وأهلي أحبّ إليه من أهله ،

__________________

(١) سورة ق : ٢٤.

(٢) أمالي الطوسي : ٦٢٨ ـ ٦٢٩ ، الحديث ٧ ، المسألة ٣٠ وفيه حضور القاضي عبد الله بن شُبرمة ، وقد مرّ موته قبل.

٣٦٣

وعترتي أحبّ إليه من عترتي» فأُعجب به رجل فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، ما تزال تجيء بحديث يحيي الله به القلوب (١).

وأسند الإصفهاني عن أبيه عبد الرحمن أنّه كان يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : في علي بن أبي طالب ثلاث خصال ، ثمّ يروي : «لُاعطين الراية غداً رجلاً ...» وحديث الطير والغدير (٢).

ولروايته حديث الغدير روى المفيد أنّه قام إلى علي عليه‌السلام ـ ولعلّه بعد النهروان ـ فقال : يا أمير المؤمنين ، إني سائلك لآخذ عنك! فإنا قد أكثرنا الأقاويل فيك ، وأوثقهُ عندنا ما سمعناه من فيك! وقد انتظرنا أن تقول في أمرك هذا شيئاً فلم تقله : ألا تحدثنا عن أمرك هذا أكان بعهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو شيء رأيته؟! إنا كنا نقول : لو رجعت إليكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينازعكم فيها أحد! والله ما أدري إذا سئلت ما أقول؟ أزعم أن القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك! فعلامَ نصبك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد حجة الوداع فقال : «أيها الناس! من كنت مولاه فعلي مولاه»؟! وإن تك أولى منهم فعلام نتولّاهم؟!

فقال عليه‌السلام : إن الله تعالى قبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا يوم قبضه أولى الناس منّي بقميصي هذا! ولقد كان من نبيّ الله إليّ عهد : لو خزموني بأنفي لأقررت ، سمعاً وطاعة لله! وإن أوّل ما انتقصناه بعده : إبطال حقّنا في «الخمس» فلمّا رق أمرنا طمعت رعيان البهم من قريش فينا. وقد كان لي على الناس حقّ لو ردّوه إليّ عفواً قبلته وقمت به وكان إلى أجل معلوم .. وإنّما يُعرف الهدى بقلة من يأخذه من الناس! فإذا سكتّ فاعفوني ، فكفّوا عنّي ما كففت عنكم! فقال عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين ، فأنت لعمرك كما قال الأول :

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٤١٤ ، الحديث ٥٤٢ المسألة ٥٤.

(٢) عن حلية الأولياء ٤ : ٣٥٦.

٣٦٤

لعمرك قد أيقظت من كان نائماً

وأسمعت من كانت له اذنان (١)

وقد كان عبد الرحمن مع عمار بن ياسر والحسن عليه‌السلام لما أرسلهما علي عليه‌السلام إلى الكوفة قبل الجمل من ذي قار إلى القادسية ، ففيها سمع عماراً يقول :

ما تركت في نفسي حسرة أهم إليّ من أن لا نكون نبشنا عثمان من قبره ثمّ أحرقناه بالنار (٢)!

ولعلّه لروايته نحو هذا قال عبد الله بن حكيم للحجّاج : إن أردتم أن تنظروا إلى رجل سبّ أمير المؤمنين عثمان فهذا! وأشار إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى (٣)!

ولذا ، روى الأعمش قال : رأيت جلاوزة الحجّاج ضربوا عبد الرحمن بن أبي ليلى على كتفيه حتّى اسودّتا ثمّ أقاموه للناس على سبّ علي والمختار وابن الزبير ، والجلاوزة معه يقولون له : سبّ الكذّابين! فجعل يقول : ألعن الكذّابين ، عليّ والمختار وابن الزبير. فقوله : «علي» هو ابتداء الكلام ، ولذا قال أصحاب العربية : افتح سمعك تعلم ما يقول (٤)!

وأنعم أبو نعيم الاصفهاني فرواه عنه قال : رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى محلوقاً على المصطبة وهم يقولون له : العن الكذّابين! وكان رجلاً ضخماً به ربو فقال : اللهم العن الكذّابين ، آه! وتنفّس وقال : عليّ والمختار وابن الزبير (٥).

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، الحديث ٢ ، المسألة ٢٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١١.

(٣) عن العقد الفريد ٥ : ٣٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ١٠١ ، الحديث ١٦٠.

(٥) عن حلية الأولياء ٤ : ٣٥١.

٣٦٥

ولعلّه بعد هذا كان يتّقيه فإذا أراد الحديث عنه قال : حدّثنا رجل من قريش (١) أو من أصحاب رسول الله أو من البدريين ، وكان أصحابه يعرفونه فلا يسألونه عنه (٢).

ولعلّه لذلك اشترك في خروج عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث الكندي على الحجّاج وبني امية ، وكان يحثّ الناس ليلة الجماجم ثمّ فقد تلك الليلة (٣) وقيل قتل أو غرق تلك الليلة في نهر دُجيل (٤).

ولم أعثر على تاريخ تولية الأمويين لابنه محمّد على قضاء الكوفة ، وكيف رضي به بنو العباس كذلك (٥) وقد مرّ خبر مصاحبته للمنصور في الحج في خبر ذبح بعض موالي المنصور لآخر منهم بعد موته (٦).

ومن أخباره مع الصادق عليه‌السلام أنّه قال له : يابن عبد الرحمن ، أتقضي بين الناس (٧)؟ قال : نعم يابن رسول الله. قال : فبأي شيء تقضي؟ قال : بكتاب الله وإلّا فمن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما لم أجده فيهما آخذ بما اجتمع عليه الصحابة ، وإذا اختلفوا آخذ بقول من أردت واخالف الباقين. قال : فهل تخالف علياً فيما بلغك أنّه قضى به؟ قال : ربما خالفته إلى غيره منهم!

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٩١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٢٥.

(٣) تاريخ خليفة : ١٨١ سنة (٨٢ ه‍).

(٤) النجوم الزاهرة ١ : ٢٦٥ وأبوه بلال أو يسار أسلم وشهد أحداً فما بعدها.

(٥) المعارف : ٤٩٤.

(٦) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨٥.

(٧) في النص : يا عبد الرحمن ، وقد قتل سنة (٨٢ ه‍) فالصحيح ما أثبتناه.

٣٦٦

قال أبو عبد الله : فما تقول يوم القيامة إذا قال رسول الله فيك : يا ربّ إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟!

قال : وأين خالفت قوله يابن رسول الله؟! قال : بلغك أن رسول الله قال : «أقضاكم علي»؟! قال : نعم. قال : فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله؟! فسكت واصفرّ لونه (١).

ولذا لما قال له نوح بن دُرّاج : أكنت تاركاً قولاً قلته أو قضاءً قضيته لقول أحد؟ قال : لا. إلا لقول رجل واحد؟ قال : مَن هو؟ قال : جعفر بن محمّد عليه‌السلام (٢).

ومن ذلك أنّه كان قد ردّ شهادة محمّد بن مسلم الثقفي الكوفي الطحّان لأمرّما ، وكأنّ أبا كهمس الكوفي هو الذي أبلغ ذلك إلى الصادق عليه‌السلام ، فقال له الإمام عليه‌السلام : إذا صرت إلى الكوفة فأت ـ محمّد ـ بن أبي ليلى وقل له : أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتني فيها بالقياس ولا تقل قال أصحابنا ، فإذا لم يكن عنده فيها شيء فقل له : يقول لك جعفر بن محمّد : ما حملك أن رددت شهادة رجل هو أعلم منك بأحكام الله وأعرف منك بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! قال : ومن هو؟ قال : محمّد بن مسلم.

قال أبو كهمس : ففعلت كما أمرني الصادق عليه‌السلام ، فلمّا عجز قلت له قوله فقال : ومن هو؟ قلت : محمّد بن مسلم! فأرسل إليه وأجاز (أنفذ) شهادته (٣).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٤١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٧٠.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٩٠.

٣٦٧

ولعلّه لهذا لما قدم إليه رجل خصماً له وقال : إن هذا باعني هذه الجارية ، فحين كشفت عن رَكبها لم أجد عليه شعراً وقالت : لم يكن لها ذلك قط. فقال له محمّد بن أبي ليلى : إن الناس يحتالون لهذا بالحيل ليذهبوا به فما كرهت منه؟! فقال له الرجل : أيها القاضي : إن كان عيباً فاقضِ لي به. قال : فإني أجد أذى في بطني فاصبر حتّى أخرج إليك ؛ ثمّ دخل وخرج من باب آخر إلى محمّد بن مسلم الثقفي فقال له : أي شيء تروون عن أبي جعفر عليه‌السلام في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيباً؟!

قال الثقفي : أما هذا نصاً فلا أعرفه ، ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب! فقال ابن أبي ليلى : حسبك! ثمّ رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب (١).

ولأ نّه استمرّ قاضياً مع بداية العباسيّين فقد روي عنه عن داود بن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه عن جده قال : ما أنزل الله تعالى آية في القرآن فيها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلّاوعلي أفضلهم (٢).

وعن أبيه عن جدّه بلال أو يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن سُبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : مؤمن آل فرعون وصاحب يس وعلي بن أبي طالب ، فهم الصديقون وعلي أفضلهم (٣) وفي آخر : الصديقون ثلاثة : مؤمن آل فرعون وحبيب النجار وعلي بن أبي طالب ، وعلي أفضلهم (٤) وتوفي محمّد بن عبد الرحمن سنة (١٤٨ ه‍).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢١٥ ، الحديث ١٢ ، والتهذيب ٧ : ٦٥ ، الحديث ٢٨٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٠٨.

٣٦٨

وصايا الصادق ووفاته عليه‌السلام :

وفي عام (١٤٨ ه‍) مضى الإمام الصادق عليه‌السلام وهو في ٦٥ سنة (١).

قال اليعقوبي : وكان أهل العلم الذين سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا : أخبرنا العالم (بل) كان أعلمهم بدين الله وأفضل الناس (٢).

وقال المسعودي : توفي أبو عبد الله جعفر بن محمّد .. سنة (١٤٨ ه‍) ودفن بالبقيع مع أبيه وجدّه ، وله ٦٥ سنة. وقيل إنّه سُمّ (٣) ونسبه الحلبي إلى الصدوق قال : سمّه المنصور (٤) وكان ربع القامة أزهر الوجه ، جعد الشعر حانكه أنزع أشمّ الأنف ، رقيق البشرة ، على خدّه خال أسود (٥).

وفي سمّ الإمام عليه‌السلام بعد قول الصدوق ، أرسل ابن طاووس في الصلوات في كل يوم من شهر رمضان : اللهم صلّ على جعفر بن محمّد .. وضاعفِ العذاب على من شرك في دمه (٦) ورسم الكفعمي لهم جدولاً فكتب فيه : مسموماً بالعنب (٧).

__________________

(١) تاريخ أهل البيت : ٨١ ، وأُصول الكافي ١ : ٤٢٧ في شهر شوال ، وفي ٤٧٥ عن أبي بصير. وتاريخ خليفة : ٢٧٨ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٧ ، وقال : وله كلام في صنعة الكيمياء وسمي الصادق لصدقه. وفي منتهى الآمال ٢ : ٢٠٣ عن جنات الخلود : توفي في ٢٥ من شوال.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨١ ثمّ كرّس صفحتين من أقواله وكلماته.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٨٥ وفيه : محمّد بن جعفر لعشر سنين خلت من خلافة المنصور ، وهما وهمان.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٠٢.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٠٣.

(٦) الإقبال ١ : ٢١٤.

(٧) المصباح للكفعمي : ٥٢٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢.

٣٦٩

وأرسل نجل الطبرسي : أنّه عليه‌السلام في مرضه الذي توفي فيه ذبل حتّى كأ نّه لم يبقَ منه إلّارأسه ، فدخل عليه بعض أصحابه (؟) فلمّا رآه كذلك بكى ، فسأله الصادق عليه‌السلام : لأيّ شيء بكى؟ قال : كيف لا أبكي وأراك على هذه الحال؟ قال : إن المؤمن إن قطّعت أعضاؤه كان خيراً له ، وإن ملك ما بين الشرق والغرب كان خيراً له (١).

وكان له يومئذ من الولد : ام فروة ، وخمسة بنين : عبد الله وموسى ومحمّد وعلي وإسحاق (٢) وزاد المفيد أسماء : أسماء وفاطمة والعباس (٣) وزاد الواقدي : يحيى وفاطمة الصغرى (٤) وكان له من الموالي : مسلم ومصادف ومعتّب (٥) بن قشير. ولعلّهم كانوا على التوالي ليس جمعاً.

وكان من أحفاد السجاد عليه‌السلام : الحسن الأفطس بن علي بن علي بن الحسين عليه‌السلام. وكان يعادي الصادق عليه‌السلام حتّى أنّه حمل عليه مرّة بشفرة يريد قتله بها! ومع ذلك روى الطوسي بسنده عن مولاة له عليه‌السلام تسمّى سالمة : أنّه لما حضرته الوفاة اغمي عليه مرّة ثمّ أفاق فأوصى لجمع بمبالغ منهم الحسن الأفطس ، فقالت له سالمة : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد قتلك؟! فقال لها : أتريدين أن لا أكون من الذين قال الله فيهم (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٦)).

__________________

(١) مشكاة الأنوار : ٣٥.

(٢) تاريخ أهل البيت : ١٠٥.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٠٩.

(٤) تذكرة الخواص ٢ : ٤٥٧.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٠٣ ، وفي تذكرة الخواص ٢ : ٤٥٨ : أن المنصور ضرب المعتّب ألف سوط فمات!

(٦) الرعد : ٢١.

٣٧٠

يا سالمة! إن الله تعالى خَلق الجنة فطيّبها وطيّب ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة ألف عام! ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم (١)!

ولعلّه مرّة اخرى فتح عينيه وقال لهم : اجمعوا ليّ كلّ من بيني وبينه قرابة! فجمعوهم فنظر إليهم ثمّ قال لهم : إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة (٢).

ومنذ مولد ابنه موسى كان يوصي به أصحابه بالإمامة في أخبار كثيرة ، آخرها ما في مرضه الذي توفي فيه إذ دخل عليه يزيد بن أسباط ، وكان عنده موسى عليه‌السلام فأشار إليه وقال : يا يزيد ، أترى هذا الصبيّ ـ أي الولد ـ؟ أخبرك أن يوسف إنّما كان ذنبه عند إخوته الحسد له حتّى طرحوه في الجبّ ، حين أخبرهم أنّه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر وهم له ساجدون! وكذا لابدّ لهذا الغلام من أن يُحسد!

ثمّ دعا عبد الله وإسحاق ومحمّداً والعباس وأشار إلى موسى وقال لهم : هذا وصيّ الأوصياء ، وعالم علم العلماء ، وشهيد على الأموات والأحياء! ثمّ تلا قوله سبحانه : (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (٣)).

إلّا أنّه عليه‌السلام عند موته كأ نّه سجّل وصيّة سمى أوصياءه فيها : المنصور وواليه على المدينة جعفر بن سليمان ، وابنيه عبدالله وموسى ، وامّه حميدة. وفي خبر آخر : المنصور وأبناءه : عبد الله وموسى ومحمّد ومولى له (٤) وسيأتي ما يفسّره. وتعييناً

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ١٩٦ ، الحديث ١٦١.

(٢) المحاسن للبرقي (م ٢٨٠ ه‍) ١ : ١٥٩ ، الحديث ٢٢٥ وفيه قبله مثله عنه عليه‌السلام عن جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض موته بعد إفاقته عيناً! وقبله مثله مختصراً عن الباقر عليه‌السلام. والصدوق في عقاب الأعمال والأمالي.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٤٦ ، والآية من الزخرف : ١٩.

(٤) أُصول الكافي ١ : ٣١٠ ، وبعد القبض على عبد الله المحض وكبار أبنائه ، تكفّل الصادق عليه‌السلام من صغارهم : يحيى بن عبد الله المحض وربّاه ، فكان يحيى إذا حدّث عنه يقول :

٣٧١

للوصي الحق منهم قال لابنه موسى : يا بني إن أخاك [عبدالله] سيجلس مجلسي ، ويدعي الإمامة بعدي وإنه أول أهلي لحاقاً بي [بالموت] فلا تنازعه بكلمة (١).

وعملياً تصدّى الكاظم عليه‌السلام لتجهيز أبيه بلا مخاصم ، وكان الصادق عليه‌السلام يُحرم للحجّ في ثوبين من نسيج قرية بمصر تسمى شطاً ونسبتها شَطوية ، وكان أوصى أن يكفّن فيها وفي قميص من قمصانه ، وفي بُرد اشتراه بأربعين ديناراً ، وفي عِمامة ورثها من جدّه السجاد عليه‌السلام ، فعمل الكاظم عليه‌السلام بكلّ ذلك (٢).

هذا ، وقد روى الطوسي في كتابيه بسند صحيح عن معاوية بن عمار قال : أمرني أبو عبد الله أن أعصر بطنه ثمّ أوضّيه بالأُشنان ، ثمّ أغسل رأسه ولحيته بالسدر ثمّ أُفيض منه على جسده وأُدلكه به ثلاثاً ، ثمّ أغسله بالماء القراح ، ثمّ

__________________

حدّثني حبيبي جعفر بن محمد ، كما في مقاتل الطالبيين : ٣٠٩ ، وقبله أسند عنه قال : أوصى جعفر بن محمد إلى ابنه موسى وأُمي وإليّ فأينا كان الوصي؟ بل زاد قبله قال : فكان يلي أمر تركاته والأصاغر من ولده ناظراً على أيديهم! لكنه انفرد بهذا غيرمؤيد بغيره. وذكر في الخبر الأول : محمّد بن سليمان ، والمقصود به والي المنصور على المدينة يومها ، وهو بلا خلاف : جعفر بن سليمان العباسي ، وأخوه محمّد إنّما كان على البصرة ولا علاقة له ، فهو سهو أو وهم.

كما ذكر في خبر آخر فيه : ٤٧٣ : مرسلاً عن المفضّل بن عمر : أن المنصور وجّه إلى واليه على الحرمين : الحسن بن زيد : أن أحرق على جعفر بن محمّد داره! فألقى النار في داره بالباب والدهليز فخرج يتخطى النار ويقول : أنا ابن أعراق الثرى أنا ابن إبراهيم خليل الله! هكذا مبتوراً! ولا نجد فيما بأيدينا في كل ولاته على الحرمين أو أحدهما اسم الحسن بن زيد! والخبر مرسل لا مؤيد له غير موافق للتاريخ. إلّاقاضياً بالمدينة بعد الصادق عليه‌السلام في رمضان عام (١٤٩ ه‍) كما في تاريخ خليفة : ٢٨٦. ولا يشفع للخبر أنّه في أُصول الكافي فهو مرسل.

(١) فرق الشيعة : ٧٧ ، والمقالات والفرق : ٨٨ ، واختيار معرفة الرجال : ٢٥٥ ، الحديث ٤٧٢.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦ ، الحديث ٨.

٣٧٢

بالكافور ثمّ بالقراح وفيه سبع وُريقات سدر (١) وعليه فلا تصحّ أخبار «الإمام لايغسله إلّاالإمام» إلّابمعنى سواء باشر بنفسه أو أمر من يفعل أو برضاه إن غاب.

ثمّ حُمل على عواتق الرجال وكواهلهم يشيّعونه إلى البقيع وحُفر له بجنب أبيه وجدّه ، فلمّا حثّوا التراب على ضريحه اندفع شاعره أبو هريرة الأبّار العجلي البصري برثائه قال :

أقول وقد راحوا به يحملونه

على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى

ثبيراً ثوى من فوق علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه

تراباً ، وأولى كان فوق المَفارق

أيا صادق ابن الصادقين ؛ أليّةً

بآبائك الأطهار ، حلفة صادق

لحقّاً بكم ذوالعرش أقسم في الورى

فقال ، تعالى الله : «ربّ المشارق»

نجوم هي «اثنا عشرة» كنّ سُبّقاً

إلى الله في علم من الله سابق (٢)

ومنذ سنة (١٤٦ ه‍) ولّى المنصور على المدينة جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس ، وعزله سنة (١٤٩ ه‍) (٣) فكتب إليه بوفاة الصادق عليه‌السلام.

وكان من كتّاب المنصور أبو أيوب الخَوزي (٤) المورياني (٥) ، فروى الكليني بسنده عنه قال : في جوف الليل بعث عليَّ المنصور فأتيته فإذا هو على كرسيّ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٠٣ ، الحديث ٨٨٢ ، والاستبصار ١ : ٢٠٧ ، الحديث ٧٢٩.

(٢) مقتضب الأثر للجوهري ق ٤ : ٥٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٣.

(٤) لعله هو إبراهيم بن يزيد الخوزي كما في تاريخ خليفة : ٢٧٩. وفي اليعقوبي ٢ : ٣٨٩ : كان المنصور على عهد بني أُمية عاملاً لسليمان بن حبيب المهلّبي الأزدي ، فعتب على المنصور فأمر بضربه وحبسه! فتخلصه كاتب سليمان : أبو أيوب ، فحفظ المنصور له ذلك فلما استخلف استوزره! وفي سنة (١٥٤ ه‍) سخط عليه فاستصفى أمواله وقتله!

(٥) كما في تاريخ خليفة : ٢٨٧.

٣٧٣

وفي يده كتاب وبين يديه شمعة ، فلمّا سلّمت عليه رمى إليّ بالكتاب وقال لي : هذا كتاب (جعفر) بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمّد قد مات ، ثمّ استرجع ثلاث مرات ثمّ قال : وأين مثل جعفر؟!

ثمّ قال لي : اكتب إليه إن كان أوصى إلى رجل فقدِّمه واضرِب عنقه! فكتبت الكتاب وارسل.

قال : فرجع إليه الجواب : إنّه قد أوصى إلى خمسة : أبي جعفر المنصور و (جعفر) بن سليمان ، وعبد الله وموسى وحميدة. وفي آخر : ذكر أنّه أوصى إلى أبي جعفر المنصور وعبد الله وموسى ومحمّد بني جعفر ومولاة له. فقال المنصور : ليس إلى قتل هؤلاء سبيل (١)! هذا في بغداد.

وفي النجف الأشرف كان جماعة من متفقّهة الشيعة يستمعون إلى أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار ، إذ أقبل إليهم أعرابي ـ وكأنّه عرفهم من شيعة جعفر ـ فقال لهم : أنا جئت من المدينة وقد مات جعفر بن محمّد ، فشهق أبو حمزة وضرب بيديه وسأل الأعرابي : فهل سمعت بوصية له إلى من؟ قال : نعم ، أوصى إلى المنصور وإلى ابنيه عبد الله وموسى!

فقام إلى جوار مرقد علي عليه‌السلام فصلّى ، ثمّ فسّر لهم : أنّه لما أدخل الصغير مع الكبير دلّ على أن الكبير ذو عاهة وإلّا لكان يكتفي به ، وأما المنصور فإنما هو لستر الأمر عليه (٢) وقد أجاد الاجتهاد!

وكان أربعة إخوة من صلحاء موالي بني أسد هم من صلحاء موالي الصادق عليه‌السلام : شهاب ووهب وعبد الرحمن وعبد الخالق أبناء عبد ربّه (٣) كلهم خيار

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣١٠ ـ ٣١١. وفيه : أبو أيوب النحوي ، تصحيف.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٣٢٨ ، الحديث ٢٢.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤١٣ ، الحديث ٧٧٨.

٣٧٤

فاضلون كوفيون فقال الصادق يوماً لشهاب : يا شهاب ، كيف أنت إذا نعاني إليك محمّد بن سليمان! قال : فمكثت ماشاء الله ثمّ كنت يوماً بالبصرة إذ لقيني محمّد بن سليمان (العباسي والي البصرة ، وكأنّه كان يعرفه بالتشيّع لجعفر) فقال لي : يا شهاب! عظّم الله أجرك في أبي عبد الله! وفي خبر آخر : كنت عنده فألقى إليّ كتاباً وقال : أعظم الله أجرك في جعفر بن محمّد! قال : فذكرت الكلام فخنقتني العبرة (١) ونقله الحلبي وزاد عنه : وما كنت يوم قالها لي أعرف محمّد بن سليمان (٢).

ولما دخل على المنصور : إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس قال له : أما علمت ما نزل بأهلك؟! قال : وما ذاك يا أمير المؤمنين! قال : توفي سيدهم وعالمهم وبقية الأخيار منهم! قال : ومن هو؟ قال : هو جعفر بن محمّد! فقال له : أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه!

فقال : إنّ جعفر كان ممّن قال الله فيهم : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (٣)) فهو ممّن اصطفى الله ، ومن السابقين بالخيرات (٤)! صدق الله العلي العظيم ، ولكن كذب المنصور الأثيم! إذ هو بهذا كان يعني التعتيم على قتله للإمام العظيم ، ثمّ أمره بقتل وصيّه من بعده لو تعيّن.

بعض أوصافه ولباس الصوف :

روى الكليني بسنده عن هشام بن سالم الجواليقي قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام إذا ذهب شطر من الليل أخذ جراباً أعدّ فيه خبزاً ولحماً وحمله على عاتقه

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤١٤ ، الحديث ٧٨١ ـ ٧٨٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤٢٣.

(٣) فاطر : ٣٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٣.

٣٧٥

ومعه صُرر الدراهم ، وذهب بها إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فيقسمه فيهم وهم لا يعرفونه ، فلمّا مضى عليه‌السلام وفقدوا ذلك علموا أنّها كانت منه عليه‌السلام (١).

وأرسل الورّام عن الفضل بن قرة أنّ الصادق عليه‌السلام كان يصرّ صُرر الدنانير ويقول للرسول : اذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته وولد أبيه! وقل لهم : بُعثت هذه لكم من العراق! فعاد وقد قال لهم ذلك فقالوا : أما أنت فجزاك الله خيراً بصلتك قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأما جعفر! فحكم الله بيننا وبينه! فيخرّ أبو عبد الله ساجداً ويقول : اللهم أذلّ رقبتي لولد أبي (٢)!

ورسوله بها أبو جعفر الخثعمي قال : أعطاني أبو عبد الله صُرّة فيها خمسون ديناراً وقال لي : ادفعها إلى (فلان : رجل من بني هاشم) ولا تعلمه بي. فأتيته فجزّى معطيها خيراً وقال : ما يزال كل حين يبعث بها فيكون ممّا نعيش به إلى قابل! ولكن جعفر! في كثرة ماله لا يصلني بدرهم (٣)!

وهذان الخبران مشمولان للخبر الأول في أنّه لما مضى وفقدوه عرفوه أنّه الصادق عليه‌السلام.

بل روى الكليني بسنده عن الكاظم عليه‌السلام قال : كان أبي يبعث امّي و (امّه) ام فروة تقضيان حقوق أهل المدينة (٤) مما يدل على أنّه عليه‌السلام لم يكن يكتفي في ذلك بنفسه والرجال بل يرسل النساء للنساء أيضاً.

ومن وصفه في نفسه : أنّه كان يحفي شاربه (٥) ويختضب خضاباً

__________________

(١) الكافي ٤ : ٨ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٨.

(٢) تنبيه الخواطر ٢ : ٢٦٦.

(٣) أمالي الطوسي : ٦٧٧ ، المسألة ٣٧ الحديث ١٢.

(٤) الكافي ٣ : ٢١٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٩.

(٥) الكافي ٦ : ٤٨٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٧.

٣٧٦

قانياً (١) ويلبس قلنسوة بيضاء (٢) وكان يقول عن أبيه وجدّه أنّهم كانوا إذا قاموا للصلاة يلبسون أغلظ ثيابهم ، ويقول : ونحن نفعل ذلك. وكان عليه في الشتاء جبة صوف بين قميصين غليظين خشنين (٣).

وكأنّ بعضهم لم يفهم خصوص الصلاة فقال له : أصلحك الله ، ذكرتَ أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس الخشن من القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، ونرى عليك اللباس الجديد! فقال له : إنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس ذلك في زمان لا يُنكر ، ولو لبس مثل ذلك اليوم شُهّر به! فخير لباس كل زمان لباس أهله (٤)!

وأشدّ منه ما شكاه هو عليه‌السلام قال : بينا أنا في الطواف فإذا رجل يجذب ثوبي ، وإذا هو عبّاد بن كثير البصري فقال لي : يا جعفر! تلبس مثل هذه الثياب وأنت في هذا الموضع ، مع المكان الذي أنت فيه من علي؟!

فقلت : ثوب فرُقُبيّ اشتريته بدينار! وكان علي عليه‌السلام في زمان يستقيم له ما لبس فيه. ولو لبست مثل لباسك هذا في زماننا لقال الناس : هذا مُراءٍ مثل عبّاد (٥)!

ومثله سفيان بن سعيد الكوفي المعروف بالثوري ، إذ مرّ في المسجد الحرام فرأى الصادق عليه‌السلام وعليه ثياب حسان كثيرة القيمة ، فقال : والله لآتينّه ولأوبخنّه! فدنا منه وقال له : يابن رسول الله! والله ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس ، ولا عليّ ، ولا أحد من آبائك! وكان على سفيان ثوب غليظ خشن (ولعلّه كان شتاءً).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٨١ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٦.

(٢) الكافي ٦ : ٤٦٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٥.

(٣) الكافي ٦ : ٤٥٠ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٢.

(٤) الكافي ٦ : ٤٤٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٥٤.

(٥) الكافي ٦ : ٤٤٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٣٦١.

٣٧٧

فقال عليه‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمن قتر مُقتر ، وكان يأخذ (ذلك) لقتره وإقتاره. وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عَزاليها (فم القربة) فأحق أهلها بها أبرارها ، ثمّ تلا قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ (١)) فنحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه الله.

ثمّ اجتذب بيد سفيان فجرّها إليه وقال : غير أني يا ثوري ما ترى عليَّ من ثوب إنّما لبسته للنّاس ، ثمّ أخرج الثوب الذي على جلده غليظاً وقال : وهذا لبسته لنفسي! ثمّ أزاح الثوب الغليظ الخشن على سفيان وأرى تحته ثوباً ليّناً وقال : وأنت لبست هذا الأعلى للناس وهذا لنفسك تُسرها (٢)!

ورووا الخبر عنه قال : دخلت على جعفر بن محمّد وعليه جُبّة خزّ سوداء وكساء خز ، فجعلت أنظر إليه تعجباً! فقال لي : يا ثوري مالك تنظر إلينا؟ لعلّك تعجب مما ترى؟! فقلت له : يابن رسول الله ، ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك!

فقال : يا ثوري ، كان ذلك زمان إقتار وافتقار ، فكانوا يعملون على قدر اقتاره وافتقاره ، وهذا زمان قد أسبل كل شيء عزاليه (فم القربة) ثمّ حسر ردان جبّته فإذا تحتها جبّة صوف بيضاء يقصر الردان عن الردان وقال : يا ثوري لبسنا هذا لله تعالى وهذا لكم ، فما كان لله أخفيناه ، وما كان لكم أبديناه (٣) ثمّ لم يتكلم عن كشف الإمام عن لباس الثوري «صوفيّاً» مُرائياً!

وقد نقل العامة والخاصة أن أول من قيل له «الصوفي» هو أبو هاشم

__________________

(١) الأعراف : ٣٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤٤٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٣٦٠.

(٣) مطالب السؤول ٢ : ٥٦ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ١٥٥.

٣٧٨

الكوفي الذي لبس الصوف كالرهبان وتقلّد قولهم بالاتحاد والحلول (١) وذلك في أواخر القرن الهجري الأول. وبدأ سفيان الثوري طلب الحديث بالكوفة فكان يتشيع ، ولكنّه خرج لطلب الحديث إلى البصرة فالتقى بأيوب وابن عون فترك التشيع (٢) ولزم التصوّف ، وعرّفه ابن حجر بالعابد وقال : وربّما دلّس (٣) ثمّ أوصى أن تدفن كتبه لأنّه ندم على أشياء كتبها عن قوم وقال : حملني عليه طلب شهرة الحديث (٤) ومنه حديث طويل يشتمل على حديث كذب عن الباقر وأربعة أحاديث كذب عن الصادق عليهما‌السلام «حدّث بها عن الثوري رواته من البصرة ، في قدح علي عليه‌السلام ومدح من تقدّمه من الخلفاء! ختمها الصادق عليه‌السلام بقوله لهم : من كذب علينا «أهل البيت» حشره الله يوم القيامة يهودياً أعمى!» (٥) مما يكشف عن تاريخ انتشار مثل هذه الأخبار عنهم عليهم‌السلام.

وكأنّ جمعاً من «الصوفيّة» ممّن يظهرون التزهّد ويدعون الناس أن يكونوا على مثل الذي هم عليه من التقشّف ، تكشّف لهم حصر صاحبهم الثوري أمام الإمام عليه‌السلام ، فأتوه وقالوا له :

إن صاحبنا (الثوري) حُصر عن كلامك ولم تحضره حُججه! فقال لهم : فهاتوا حُججكم! فقالوا : إن حُججنا من كتاب الله! فقال لهم : فأدلوا بها فإنها أحق ما اتُّبع وعُمل به.

__________________

(١) حديقة الشيعة للأردبيلي : ٥٦٠.

(٢) ذيل المذيل للطبري : ٦٥٧.

(٣) تقريب التهذيب لابن حجر وعنه في سفينة البحار ٤ : ١٩٠.

(٤) حلية الأولياء ٧ : ٣٨.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٩٢ ـ ٣٩٧ ، الحديث ٧٤١.

٣٧٩

فقالوا : يقول الله تبارك وتعالى مخبراً عن قوم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (١)) وقال : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٢)) فنحن نكتفي بهذا.

فحاجّهم الإمام عليه‌السلام من القرآن والسنّة بحديث ضاف في أربع صفحات ختمه بهذه الآية : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٣)).

__________________

(١) الحشر : ٩.

(٢) الإنسان : ٨.

(٣) الكافي ٥ : ٦٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٣٣ ـ ٢٣٧ ، والآية من سورة يوسف : ٧٦.

٣٨٠