موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

المنصور العباسي قال : اخرج إليّ بعض ولد سليمان بن علي العبّاسي كتابا بخطّ عبد المطّلب واذا هو شبيه بخطّ الصبيان وهو : بسمك اللهم ، ذكر حقّ عبد المطلب بن هاشم من اهل مكّة على فلان بن فلان الحميري من اهل زول (١) صنعاء ، عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديد ، ومتى دعاه بها أجابه ، شهد الله والملكان (٢). وهذا يدلّ على ايمانه بالله والملائكة.

وقال اليعقوبي : انّه كان يوحّد الله عزوجل ، وقد رفض عبادة الأصنام ، وسنّ سننا سنّها رسول الله ونزل بها القرآن ، وهي : الوفاء بالنذر ، ومائة من الإبل في الديّة ، وان لا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة والمباهلة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا والحدّ عليه ، والقرعة ، وأن لا يطوف أحد بالبيت عريانا ، واضافة الضّيف ، وان لا ينفقوا اذا حجّوا الّا من طيب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحرم ، ونفي ذوات الريات فكانت قريش تقول : عبد المطلب ابراهيم الثاني (٣).

وقال الشهرستاني في (الملل والنحل) : كان يأمر ولده بترك الظلم والبغي ويحثّهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيّات الامور ، وكان يقول في وصاياه : إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتّى ينتقم منه وتصيبه عقوبة ، وهلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب في ذلك ففكّر فقال : والله إنّ وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها المسيء بإساءته (٤).

__________________

(١) ذكره ياقوت في معجم البلدان فقال : اسم مكان باليمن وجد بخط عبد المطلب بن هاشم.

(٢) الاختصاص : ١٢٣ ط غفاري وذكره ابن النديم في الفهرست. ولا نؤكد نسبة الكتاب الى الشيخ المفيد.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٠ ، ١١ ط بيروت.

(٤) الملل والنحل للشهرستاني نقلا عن البحار ١٥ : ١٢١. وللتفصيل انظر الصحيح ١ : ١٤٩ ـ ١٥٤.

٢٢١

أبناء عبد المطلب والذبيح منهم :

روى الصدوق في (الخصال) بسنده عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ولد عبد المطّلب فقال : عشرة والعباس. يعني أحد عشر رجلا.

ثمّ قال الصدوق : أسنّهم الحارث ـ وبه كان يكنّى عبد المطلب ـ وعبد العزّى وهو أبو لهب ، وأبو طالب ـ وهو عبد مناف ـ وضرار ، والزبير ، والغيداق ، والمقوم ، والحجل ، وحمزة ، والعبّاس ، وعبد الله (١).

وروى فيه بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : كان عبد المطّلب ولد له تسعة ، فنذر في العاشر : إن رزقه الله غلاما : ان يذبحه فلمّا ولد عبد الله لم يكن يقدر ان يذبحه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلبه ، فجاء بعشر من الأبل وساهم عليها وعلى عبد الله ، فخرجت السهام على عبد الله ، فزاد عشرا ، فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشرا ، فلمّا ان بلغت مائة خرجت السهام على الإبل ، فقال عبد المطّلب : ما أنصفت ربّي ، فأعاد السهام ثلاثا فخرجت على الإبل فقال : الآن علمت انّ ربّي قد رضي ، فنحرها (٢).

وروى في (عيون الأخبار) بسنده عن علي بن الحسين بن فضّال قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا ابن الذبيحين؟ قال : «يعني اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليه‌السلام وعبد الله بن عبد المطّلب» الى ان قال : «فانّ عبد المطّلب كان قد تعلّق بحلقة باب الكعبة ودعا الله ان يرزقه عشرة بنين ، ونذر لله عزوجل ان يذبح واحدا منهم متى أجاب الله دعوته.

__________________

(١) الخصال : ٤٥٢ ، ٤٥٣.

(٢) الخصال ١ : ١٥٦ ، وكتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٨٩ عن حماد بن عيسى عن حريز عمن أخبره. ففيه ارسال ، وبه وبغيره أشكل محقّقه الغفاري ، فراجعه.

٢٢٢

فلمّا بلغوا عشرة قال : قد وفى الله لي ، فلأوفين لله عزوجل : فأدخل ولده الكعبة وأسهم بينهم ، فخرج سهم عبد الله أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أحبّ ولده إليه ، ثمّ اجالها ثانية فخرج سهم عبد الله ، ثمّ اجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله! فأخذه وعزم على ذبحه! فاجتمعت قريش ومنعته من ذلك ، واجتمع نساء عبد المطّلب يبكين ويصحن ، وقالت ابنته عاتكة : يا أبتاه اعذر فيما بينك وبين الله في قتل ابنك. قال : وكيف اعذر يا بنيّه؟ قالت : اعمد الى تلك السوائم الّتي لك في الحرم فاضرب القداح على ابنك وعلى الإبل وأعط ربّك حتّى يرضى.

فبعث عبد المطّلب الى ابله فأحضرها وعزل منها عشرا وضرب بالسهام فخرج سهم عبد الله ، فما زال يزيد عشرا عشرا حتّى بلغت مائة ، فضرب فخرج السهم على الإبل ، فكبّرت قريش تكبيرة ارتجّت لها جبال تهامة! فقال عبد المطّلب : لا ، حتّى اضرب بالقداح ثلاث مرات فضرب ثلاثا كلّ ذلك يخرج السهم على الإبل! فلمّا كانت في الثالثة اجتذبه الزبير وأبو طالب واخواتهما من تحت رجليه فحملوه ـ وكان خدّه على الأرض فانسلخت جلدة خدّه ـ وأقبلوا يرفعونه ويقبّلونه ويمسحون عنه التراب. وأمر عبد المطلب أن تنحر الإبل بالحزورة (١) ولا يمنع أحد منها.

فكانت لعبد المطلب خمس من السنن اجراها الله عزوجل في الإسلام : حرّم نساء الآباء على الأبناء ، وسنّ الديّة في القتل مائة من الإبل ، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط ، ووجد كنزا (٢) فأخرج منه الخمس ، وسمّى زمزم حين حفرها :

__________________

(١) الحزورة كدحرجة : تل معروف في مكّة كان يتخذ سوقا ـ كما في الصحاح وقد نقل الخبر ابن اسحاق في سيرته يقول : فيما يزعمون. ثمّ جاء بالخبر ناسبا الى عبد المطلب أنّه ذبح للأصنام : وهو مردود بما رويناه سندا معتبرا عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

(٢) لعلّه ـ كما سبق ـ هو ما دفنته جرهم في زمزم من هدايا الكعبة.

٢٢٣

سقاية الحاج. ولو لا ان عبد المطلب كان حجة وانّ عزمه على ذبح ابنه عبد الله شبيها بعزم ابراهيم على ذبح ابنه اسماعيل لما افتخر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالانتساب إليهما لأجل انهما الذبيحان ، في قوله : أنا ابن الذبيحين. والعلّة الّتي من اجلها دفع الله عزوجل الذبح عن اسماعيل هي العلّة الّتي من اجلها دفع القبح عن عبد الله ، وهي كون النبي والأئمة المعصومين ـ صلوات الله عليهم ـ في صلبيهما ، فببركة النبي والأئمة عليهم‌السلام دفع الله الذبح عنهما (١).

قال اليعقوبي : وكان اسم عبد الله (عبد الدار) و (عبد قصي) فلمّا كان الفداء قال عبد المطلب : هذا عبد الله فسمّاه به (٢) وكان ذلك بعد حفر زمزم بعشر سنين (٣) ، ولعبد الله ٢٠ سنة.

فربّما يقال هنا : ان عبد المطلب الّذي قال عنه المؤرخون : انّه كان يقطع يد السارق ، ويمنع من طواف العراة ، وينهى عن دنيّات الامور ، تاركا للأصنام مجاب الدعوة ... كيف يسمّي أبناءه عبد مناف ، ومناف اسم صنم ، وعبد العزّى ، والعزى كذلك وثن من الأوثان ، ثمّ كيف جاز له التصرّف في شخص غيره ـ ولو ابنه ـ هذا التصرّف؟ وهل لأحد أن يرى صحة نذر كهذا تكون الضحية فيه نفسا محترمة مثل عبد الله؟!

طرح هذا السؤال السيد المرتضى في (الصحيح من السيرة) (٤) ثمّ نقل عن

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٢ ط لاجوردي.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٩.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٩ يعلم ذلك ممّا ذكره في سنّ زواج عبد الله.

(٤) الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) السيرة ١ : ٦٥ ـ ٧٠. ولا یخفى أن عبد العزّى لم يكن اسمه وإنّما هو لقب غلب عليه واسمه المغيرة ، ومناف ليس اسم صنم بل الصنم منات ، ومناف يعني الطويل.

٢٢٤

المحقق السيد محمد مهدي الروحاني القمّي انّه أشار الى : اننا نلاحظ انّ عبد المطّلب قد سار في ايمانه سيرا تكامليا ، فنجده في أوّل أمره يسمّي أبناءه عبد مناف وعبد العزّى ، ولكنّه يتقدّم في إيمانه حدّا يرهب به ابرهة الحبشي صاحب الفيل ، ويقول عنه المؤرخون ما ذكروه وذكرناه ، ولا شكّ انه بعد ميلاد حفيده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رأى وسمع الكثير من العلامات الدالة على نبوته ، وشهد وعاين الكثير من الدلالات والكرامات بامّ عينيه ، بلغ الحدّ الأعلى في إيمانه.

وعليه فلا مانع من ان يكون في أوّل أمره يرى لنفسه ان ينذر نذرا كهذا ، وقد امر الله نبيّه ابراهيم بذبح ولده اسماعيل ، ونذرت امرأة عمران ما في بطنها محرّرا لخدمة بيت المقدس. كما أشار الى هذا ابن شهرآشوب فقال وتصور عبد المطّلب انّ ذبح الولد أفضل قربة لما علم من أمر اسماعيل ، ثمّ ذكر الخبر (١).

الزواج الميمون

تزويج عبد الله بآمنة :

قال اليعقوبي : وبعد حفر زمزم بعشر سنين ، وبعد الفداء عن عبد الله بسنة واحدة كان تزويجه بآمنة بنت وهب ، وكان سنّه يوم تزويجها أربعا وعشرين سنة (٢).

وقال ابن اسحاق : خرج عبد المطّلب بابنه عبد الله حتّى أتى به الى دار وهب بن عبد مناف بن زهرة ـ وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا ـ فخطب ابنته آمنة لعبد الله ، وكانت آمنة أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا ، فزوّجه ايّاها وأملكها.

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٢٠ ط قم.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٩.

٢٢٥

وفي داره دخل عبد الله على آمنة ، فحملت برسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ (١).

وروى الطبرسي في (الإحتجاج) عن الكاظم عن علي عليهما‌السلام انه قال :

انّ آمنة بنت وهب رأت في المنام انه قيل لها : انّ ما في بطنك سيّد ، فإذا ولدته فسمّيه محمدا. ثمّ قال علي عليه‌السلام : فاشتقّ الله له اسما من أسمائه ، فإنّ الله المحمود وهذا محمد (٢). وفي هذا المعنى روى الطبرسي في (إعلام الورى) عن سفيان بن عيينه أنّه قال : أحسن بيت قالته العرب هو قول أبي طالب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٦٥ ، ورواه عنه الطبري ٢ : ٢٤٣. هذا ، وقد أورد المجلسي في (البحار) في باب بدء خلقته خبرا يتضمن تفصيلا مطوّلا في خطبة آمنة وزفافها استغرق من الطبعة الحديثة من ص ٢٦ الى ١٠٤ ، أي ثماني وسبعين صفحة من الجزء ١٥ ، قال في أوله «قال الشيخ أبو الحسن البكري استاذ الشهيد الثاني في كتابه المسمّى بكتاب الأنوار : حدثنا أشياخنا وأسلافنا الرواة لهذا الحديث عن أبى عمرو الأنصاري سألت كعب الأحبار ووهب بن منبّه وابن عباس قالوا جميعا : لمّا أراد الله ان يخلق محمدا قال لملائكته ... وقال المجلسي في آخر الخبر : «أقول : إنمّا أوردت هذا الخبر مع غرابته وارساله للاعتماد على مؤلفه واشتماله على كثير من الآيات والمعجزات الّتي لا تنافيها سائر الاخبار بل تؤيّدها» هذا ، والشهيد الثاني استشهد سنة ٩٦٦ وقد حكى محقق البحار : الشيخ الربّاني عن «رياض العلماء» عن بعض المؤرخين : انّه رأى نسخة عتيقة من كتاب «الأنوار الكبرى» تأريخ كتابتها سنة ٦٩٦ والسمهودي في كتابه «تأريخ المدينة» الّذي ألّفه سنة ٨٨٨ ذكر البكري صاحب الأنوار فقال : انّ سيرة البكري الكذب والبطلان! وعلى هذا فكيف يمكن ان يكون من مشايخ الشهيد الثاني؟!

أمّا أبو الحسن البكري من مشايخ الشهيد الثاني فهو الصديقي الشافعي المتوفى بالقاهرة سنة ٩٥٢ كما في «شذرات الذهب» وليس هو صاحب كتاب الأنوار ، ولكن التبس عند الشيخ المجلسي أحدهما بالآخر فأحسن به الظن كما قال ، وأورد أخباره الباطلة الكاذبة في بحاره. سامحه الله وغفر له ولنا.

(٢) الاحتجاج ١ : ٣٢١.

٢٢٦

وشقّ له من اسمه كي يجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمد

ثمّ قال : وقال غيره : انّ هذا البيت لحسان بن ثابت في قطعة له أوّلها :

ألم تر انّ الله أرسل عبده

ببرهانه والله أعلى وأمجد (١)

وقال ابن اسحاق : ويتحدث الناس : انّ آمنة بنت وهب كانت تحدّث : انّها حين حملت رأت أنّه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام ، وقيل لها : انّك قد حملت بسيد هذه الامة فإذا وقع الى الأرض فقولي : اعيذه بالواحد من شر كلّ حاسد ، ثمّ سمّيه محمدا (٢).

ثمّ روى بسنده عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أنّه حدّث عن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية عن آمنة بنت وهب أنّها قالت لها : رأيت حين حملت به انّه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام ، ثمّ والله ما رأيت

__________________

(١) وروى السيد زيني دحلان : أنّ امّه ذكرت ما فات لعبد المطّلب فسمّاه محمدا (ص) ولكنّها هي سمّته أحمد ، ثمّ ذكر خمسة أبيات من شعر أبي طالب (رض) يسمّي النبي فيها بأحمد (انسان العيون في سيرة الأمين المأمون ، المعروف بالسيرة الحلبية ٩٢ ـ ١٠٠).

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٦٦ ورواه عنه الطبري ٢ : ١٥٦ ورواه عنه ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٢٩. وقال في (الروض الانف) وابن فورك في (الفصول) : انّ اميحة بن جلاح وحمران بن ربيعة وسفيان بن مجاشع كانوا قد التقوا بمن له علم بالكتاب الأوّل فأخبروهم بمبعث النبي وباسمه ، فلمّا سمعوا بذكر رسول الله وقرب زمانه وأنّه من الحجاز طمعوا أن يكون ولدا لهم فسمّوا أبناءهم باسمه محمدا ، ولا يعرف من تسمّى بهذا الاسم قبله الّا هؤلاء الثلاثة في العرب. هذا ، ولكنّ السيد زيني دحلان في (السيرة الحلبية ١ : ٩٣) بلغ بعدد من تسمّى بهذا الاسم الى ستة عشر رجلا وذكر شعرا في ذلك يقول :

انّ الذين سموا باسم محمّد

من قبل خير الناس ضعف ثمان

٢٢٧

من حمل قط كان أخفّ عليّ ولا أيسر منه ، ووقع حين ولدته واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه الى السماء.

ثمّ روى بسنده عن ثور بن يزيد : أن نفرا من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ قالوا له : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ، قال : نعم ، أنا دعوة أبي ابراهيم وبشرى أخي عيسى ، وحين حملت بي أمّي رأت أنّه خرج منها نور اضاء لها قصور الشام (١). فلعلّ قوله في بداية هذا الحديث قبل هذا «ويتحدث الناس» ليس اشارة الى وهن الخبر بل الى اشتهاره بين الناس ، كما رواه الطبرسي

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٧١ ـ ١٧٥ وروى الطبري بسنده عن ثور بن يزيد الشامي عن مكحول الشامي عن شداد بن أوس ، قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله! اذ أقبل شيخ كبير من بني عامر وهو سيدهم ، يتوكأ على عصا ، فمثل بين يدي النبي قائما وقال : يا بن عبد المطلب! إنّي انبئت انّك تزعم انّك رسول الله الى الناس ، ارسلك بما أرسل به ابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ، ألا وانّك فوّهت بعظيم ، وإنمّا كانت الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني اسرائيل ، وأنت ممّن (أي من قوم) يعبد هذه الحجارة والأوثان فمالك وللنبوة؟! ولكن لكلّ قول حقيقة فأنبئني بحقيقة قولك وبدء شأنك.

فأعجب النبي بمسألته وقال له : يا أخا بني عامر! انّ لهذا الحديث الّذي تسألني عنه نبأ ومجلسا ، فاجلس ، فثنى رجليه وجلس. فقال له النبي : يا أخا بني عامر انّ حقيقة قولى وبدء شأني : انّي دعوة ابي ابراهيم وبشرى أخي عيسى بن مريم ، وانّي كنت بكر أمي .. ثمّ انّ أمي رأت في المنام انّ الّذي في بطنها نور ، وانّها قالت : فجعلت أتبع بصري النور والنور يسبق بصري حتّى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها (الطبري ٢ : ١٦١). ورواه بنفس السند (الكازروني) في (المنتقى في مولود المصطفى) وقد اخرج ابن أبي الحديد مختصره في (شرح نهج البلاغة) عن الطبري.

والظّاهر أنّ هذا الخبر هو ما رواه ابن اسحاق عن ثور بن يزيد الّا انّه نسي السند بعده فقال : «عن بعض أهل العلم ولا أحسبه الّا عن خالد بن معدان الكلاعي» وقد توفي خالد سنة ١٠٨ كما عن (تهذيب التهذيب) ولعله لهذا إنمّا نقل قطعة من الخبر بالمعنى.

٢٢٨

في (اعلام الورى) وبدأ بقوله : فمن ذلك ما استفاض في الحديث أنّ أمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا وضعته رأت نورا (١).

وروى اليعقوبي عن الصادق عليه‌السلام : انّه كان بين تزويج أبي رسول الله بامّه وبين مولده عشرة أشهر.

الميلاد الميمون

قال : وروى عن أمه انّها قالت : لمّا وضعته رأيت نورا ساطعا بدا منّي حتّى افزعني ، ولم أر شيئا ممّا يرينه النساء.

قال : وروى بعضهم : انّها قالت : سطع منّي النور حتّى رأيت قصور الشام. ولما وقع الى الارض قبض قبضة من تراب ، ثمّ رفع رأسه الى السماء (٢).

__________________

(١) اعلام الورى : ١٠.

(٢) روى مفصّل الخبر علي بن ابراهيم القميّ في تفسيره مرسلا : عن آمنة أم النبي انها قالت : لما حملت برسول الله لم اشعر بالحمل ولم يصبني ما أصاب النساء من ثقل الحمل ، ورأيت في نومي كأنّ آتيا أتاني فقال لي : قد حملت بخير الأنام.

ثمّ وضعته يتقي الأرض بيديه وركبتيه ، ورفع رأسه الى السماء وخرج منّي نور أضاء ما بين السماء الى الارض ، ورميت الشياطين بالنجوم وحجبوا من السماء ، ورأت قريش الشهب تتحرك وتزول وتسير في السماء ، ففزعوا وقالوا : هذا قيام الساعة ، واجتمعوا الى الوليد بن المغيرة ـ وكان شيخا كبيرا مجربا ـ فسألوه عن ذلك فقال : انظروا الى هذه النجوم الّتي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإن كانت قد زالت فهي الساعة ، وان كانت هذه ثابتة فهو لأمر قد حدث.

وكان بمكّة رجل يهودي يقال له : يوسف ، فلمّا رأى النجوم تتحرك وتسير في السماء خرج الى نادي قريش فقال : يا معشر قريش! هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقالوا : لا ،

٢٢٩

حملت به امّه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى. وكانت في منزل عبد الله.

__________________

فقال : أخطأتم والتوراة. قد ولد في هذه الليلة آخر الأنبياء وأفضلهم ، وهو الّذي نجده في كتبنا انّه اذا ولد ذلك النبي رجمت الشياطين وحجبوا من السماء.

فرجع كلّ واحد الى منزله يسأل أهله : فقالوا : قد ولد لعبد الله بن عبد المطّلب ابن.

فقال اليهودي : اعرضوه عليّ. فمشوا معه الى باب آمنة فقالوا لها : أخرجي ابنك ينظر إليه هذا اليهودي. فأخرجته في قماطه ، فنظر في عينيه وكشف عن كتفه فرأى شامة سوداء عليه شعرات. فسقط الى الأرض مغشيا عليه ، فضحكوا منه. فقال : أتضحكون؟ يا معشر قريش! هذا نبيّ السيف ليبيدنّكم ، وذهبت النبوة من بني اسرائيل الى آخر الأبد. وتفرّق الناس يتحدثون بخبر اليهودي.

قال علي بن ابراهيم : فلمّا رميت الشياطين بالنجوم وأنكروا ذلك اجتمعوا الى ابليس فقالوا : قد منعنا من السماء وقد رمينا بالشهب. فقال : اطلبوا فانّ أمرا قد حدث في الدنيا. فرجعوا وقالوا : لم نر شيئا. فقال ابليس : أنا له بنفسي. فجال ما بين المشرق والمغرب حتّى انتهى الى الحرم فرآه محفوفا بالملائكة وجبريل على باب الحرم بيده حربة. فأراد ابليس أن يدخل فصاح به جبرئيل : اخسأ يا ملعون : فجاء من قبل حراء فصار مثل الصدّ (الجبل المرتفع) ثمّ قال : يا جبرئيل حرف اسألك عنه؟ قال : وما هو؟ قال : ما هذا؟ وما اجتماعكم في الدنيا؟ فقال : هذا نبي هذه الامة قد ولد وهو آخر الأنبياء وأفضلهم. قال : هل لي فيه نصيب؟ قال : لا. قال : ففي امته؟ قال : بلى. قال : قد رضيت (تفسير القمّي ١ : ٣٧٣ ، ٣٧٤ ط النجف) ...

ولنحتفظ في الذاكرة بقوله : «قال : هل لي فيه نصيب؟ قال : لا» لنقارنه بما سنقرأه في قصّة شق صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله من انّ جبرئيل خاصّة أخرج من صدره نصيب الشيطان!

ومع قول يوسف اليهودي في مكّة في آخر الخبر السابق عن آمنة : «ذهبت النبوة من بني اسرائيل الى آخر الأبد» لا يمكن أن نرمي الخبر بانه يهودي من الاسرائيليات.

نعم في الخبر من الاستبعاد انّ الوليد بن المغيرة معروف بما وصف به في الخبر ولكن عند ظهور الاسلام ، فهل كان كذلك قبل ذلك بأكثر من أربعين عاما ، اي من قبل الأربعين من عمره حتّى بعد الثمانين؟!

٢٣٠

وولدته في شعب أبي طالب في دار محمّد بن يوسف (١) في الزاوية القصوى عن يسار الداخل للدار ، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيّرته مسجدا يصلي فيه الناس (٢).

ونقل المجلسي عن كتاب (حدائق الرياض) و (التواريخ الشرعية) للشيخ المفيد انّه قال : السابع عشر من ربيع الأوّل مولد سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند طلوع الفجر من يوم الجمعة عام الفيل (٣).

وقال الطبرسي : ولد يوم الجمعة عند طلوع الشمس ، السابع عشر من شهر ربيع الأوّل عام الفيل ، وذلك لأربع وثلاثين سنة مضت من ملك كسرى أنوشيروان (٤).

__________________

(١) قال المجلسي في هامش البحار : قال المؤرخون : كانت هذه الدار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوهبها لعقيل بن أبي طالب ، فباعها أولاده لمحمد بن يوسف أخ الحجاج الثقفي فاشتهرت بدار محمد بن يوسف فأدخلها في قصره الّذي كانوا يسمونه البيضاء وبعد انقضاء دولة بني أميّة حجت خيزران أم الهادي والرشيد فأفرزتها من القصر وجعلتها مسجدا ، وهو الآن يصلى ويزار فيه (البحار ١٥ : ٢٥٠ ، ٢٥٢) وقال السيد الأمين في (أعيان الشيعة) : وبقي المسجد في حالته تلك حتّى استولى الوهابيون على مكّة فهدموه ومنعوا من زيارته ، على عادتهم في المنع عن التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، بل جعلوه مربضا للدواب (أعيان الشيعة ٣ : ٧).

(٢) اصول الكافي ١ : ٤٣٩ ، وذكره المسعودي ٢ : ١٧٤.

(٣) بحار الانوار ١٥ : ٢٥١.

(٤) اعلام الورى : ٥. ووصف كسرى فقال : «وهو قاتل مزدك والزنادقة ومبيرهم ، وهو الّذي زعموا انّ رسول الله عناه فقال : ولدت في زمن الملك العادل الصالح» وهذا أوّل كتاب نراه ينقل هذا مرسلا بل موهنا له بأنه من زعم من زعمه من بعض الناس! ولم اجده قبل نقل الشيخ الطبرسي في أيّ كتاب من العامة والخاصة ، بل مرّ خبر يخالفه انّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذا أوّل يوم انتصف فيه العرب من العجم ، وبي نصروا» وقد انتصروا على كسرى انوشيروان فكيف يصفه بأنّه العادل الصالح؟!

٢٣١

وقال السيد ابن طاوس في (الإقبال) : إنّ الّذين أدركناهم من العلماء كان علمهم على أنّ ولادته المقدسة صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الأول في عام الفيل عند طلوع فجره (١).

ولذلك قال الشيخ المجلسي قدس سرّه : اعلم انّه اتفقت الإمامية ـ الّا من شذّ منهم ـ على أنّ ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل ، وذهب أكثر المخالفين إلى أنّها كانت في الثاني عشر منه ، واختاره الكليني رحمه‌الله (٢).

__________________

وقال ابن شهرآشوب : ولد بمكّة عند طلوع الفجر من يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأوّل بعد خمسة وخمسين يوما من هلاك أصحاب الفيل. وقالت العامة : يوم الاثنين الثامن أو العاشر منه. وروى رواية الطبرسي في انوشيروان ١ : ١٧٢.

(١) بحار الانوار ١٥ : ٢٥١.

(٢) بحار الأنوار ١٥ : ٢٤٨.

وأشار الشيخ الإربلي الى الاختلاف في تأريخ ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال : أقول : انّ اختلافهم في يوم ولادته سهل ، اذ لم يكونوا عارفين به وبما يكون منه ، وكانوا أميّين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم ، فأمّا اختلافهم في موته فعجيب! ولا عجب من هذا أيضا مع اختلافهم في الأذان والإقامة ، بل اختلافهم في موته أعجب ، فانّ الاذان ربما ادّعى كلّ قوم أنّهم رووا فيه رواية ، فأمّا يوم موته فيجب أن يكون معيّنا معلوما (كشف الغمة ١ : ١٥).

ونقل السيد المرتضى في (الصحيح) هذا الكلام للاربلي ثمّ علق عليه يقول : وأعجب من ذلك اختلافهم في الكثير الكثير من الامور الّتي كانوا يمارسونها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عدة مرات يوميا طيلة أعوام عديدة ، حتّى انّك لتجدهم يروون التناقضات عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أفعال الوضوء والصلاة ، وهم كانوا يؤدونها معه خمس مرات يوميا ، بل قد تجد بعضهم يقول : إنّهم كانوا يعرفون أنّه يقرأ في صلاة الظهر والعصر من اضطراب لحيته (الصحيح ١ : ٨٠ نقلا عن الصحيح للبخاري ٦ : ٩٠ و ٩٣ ط ١٣٠٩ ومسند أحمد ٥ : ١٠ و ١٢ والسنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٣٧ و ٥٤ عن الصحيحين).

٢٣٢

الوليد لدى جدّه وعمّه :

قال ابن اسحاق : فلمّا وضعته امّه ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ أرسلت الى جدّه عبد المطلب : انّه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه. فأتاه فنظر إليه. فحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما امرت به ان تسمّيه. فأخذه عبد المطلب فدخل به الكعبة وقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه (١).

روى ابن الشيخ في أماليه بسنده عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر الكوفي مولى بني بجلة من أصحاب الصادق عليه‌السلام عنه قال : اتي به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت امّه ، فأخذه فوضعه في حجره ثمّ عوّذه بأركان الكعبة وقال فيه شعرا :

الحمد لله الّذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردان

 قد ساد في المهد على الغلمان (٢)

وروى ابن شهرآشوب عن (كتاب الإبانة) لابن بسطة قال : ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مقطوع السرة مختونا ، فحكي ذلك لجدّه عبد المطلب فقال : ليكوننّ لابني هذا شأن (٣).

وروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا جاء آمنة بنت وهب داء المخاض حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل معها حتّى طلقت ووضعت ، فقالت احداهما للاخرى : هل ترين ما أرى؟ فقالت : وما ترين؟ قالت : هذا النور الّذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب. وجاء أبو طالب

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ١٦٨ ، ١٦٩ ورواه الطبري عنه ٢ : ١٥٧ بزيادة.

(٢) تفسیر القمی : ٣٤٩ ط. قديم ، واكمال الدين ١ : ١٩٦ ط. طهران ، وأمالي الطوسي : ١٧١ ط. قديم ، والخرائج والجرائح ١ : ٦١ ـ ٧١ ، ح ١٢٩ ط. قم المقدسة ، ومناقب الحلبي ١ : ٣٠.

(٣) المناقب ١ : ٣٢.

٢٣٣

فأخبرته فاطمة بالنور الّذي قد رأت ، فقال أبو طالب : أمّا انّك ستلدين غلاما يكون وصي هذا المولود (١).

وفاة عبد الله :

روى اليعقوبي عن الصادق عليه‌السلام أنّه توفي بعد شهرين من مولد محمد ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ ثمّ قال : وقال بعضهم : انّه توفّي قبل أن يولد ، وهذا غير صحيح ، لان الاجماع على انّه توفّي بعد مولده! وقال آخرون : بعد سنة من مولده. وكانت وفاته بالمدينة في دار تعرف بدار النابغة بين أخواله بني النجار (٢).

والمعروف ممّن قال انّ عبد الله توفّي قبل ان يولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله محمّد ابن اسحاق فقد ذكر ـ كما في ابن اسحاق في السيرةوالطبري والطبرسي ـ : انّ عبد الله لم يلبث ان هلك وأمّ رسول الله حامل به (٣).

ثمّ الواقدي ، فقد روى الطبري عنه عن الزهري : انّ عبد المطلب كان قد بعث عبد الله الى المدينة كي يحمل لهم تمرا فمات بالمدينة ، فحين أبطأ عبد الله على عبد المطّلب بعث ابنه الحارث في طلبه فوجده قد مات. ثمّ قال الواقدي : والثبت عندنا انّ عبد الله بن عبد المطّلب أقبل من الشام في عير لقريش ، فنزل بالمدينة وهو مريض ، فأقام بها حتّى توفّي ، ودفن في الدار الصغرى للنابغة على اليسار اذا دخلت الدار ، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف (٤).

__________________

(١) روضة الكافي ٣٠٢. وروى مثله بسند آخر ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٢٣.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٠.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٦٧. والطبري ٢ : ١٦٥ واعلام الورى : ٩.

(٤) الطبري ٢ : ١٦٥ و ٢٤٦. وقال في ١٦٥ : أمّا هشام الكلبي فإنّه قال : توفّي عبد الله بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون شهرا.

٢٣٤

ولعلّ اليعقوبي يقابل بالإجماع هذه الدعوى بعدم الخلاف في ذلك ، سيّما وهو يروي خبره بوفاته بعد ميلاد الرسول بشهرين عن الصادق جعفر ابن محمد عليه‌السلام فيرى على نفسه ان يدافع عنه ولو بمقابلة دعوى عدم الخلاف بدعوى الإجماع.

ويوافق اليعقوبي الكليني من دون نسبة الى الصادق عليه‌السلام فيقول : وتوفي أبوه عبد الله بالمدينة عند أخواله ، وهو ابن شهرين (١) فلعلّه لم يعتد برواية اليعقوبي لإرسالها ، أو لم يطّلع عليها.

أمّا المسعودي فقد ذهب الى ما ذهب إليه ابن اسحاق والواقدي اذ قال : وكان أبوه عبد الله غائبا بأرض الشام فانصرف مريضا فمات بالمدينة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حمل. ثمّ قال : ومنهم من قال : انّه مات بعد مولد النبي بشهر ، ومنهم من قال : انّه مات في السنة الثانية من مولده (٢).

وروى المجلسي عن (المنتقى في مولد المصطفى) للكازروني من العامة : انّ عبد الله خرج الى الشام في عير من قريش يحملون تجارات ، ففرغوا من تجاراتهم ثمّ انصرفوا فمرّوا بالمدينة ، وعبد الله يومئذ مريض فقال اتخلف عند أخوالي بني عديّ بن النجار فأقام عندهم مريضا شهرا ، ومضى أصحابه فقدموا مكّة فسألهم عبد المطّلب عن عبد الله فقالوا : خلّفناه عند أخواله بني عدي وهو مريض. فبعث إليه عبد المطّلب أكبر ولده الحارث ، فوجده قد توفّي ، فأخبره أخواله بمرضه وبقيامهم عليه. وما ولوا من أمره حتّى قبروه ، فرجع الحارث الى أبيه فأخبره فحزن عليه وإخوته وأخواته حزنا ووجدا شديدا. ورسول الله يومئذ حمل.

__________________

وأمّا الدار الّتي دفن فيها أبو النبي فقد كانت قائمة حتّى بعد عام ١٣٩٠ ه‍ ثمّ هدمت في توسيع فلكة مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبق لها أي أثر.

(١) اصول الكافي ١ : ٤٣٩.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٧٤.

٢٣٥

ولعبد الله يوم توفّي خمس وعشرون سنة. ثمّ قال : وروي : انّه توفّي بعد ما أتى على رسول الله سبعة أشهر ، ويقال : ثمانية وعشرون شهرا.

ثمّ روى الكازروني عن الواقدي : انّ عبد الله ترك من الارث قطيع غنم وخمسة جمال ومولاته بركة وهي أمّ أيمن حاضنة رسول الله (١) وقال الطبرسي : عاش صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أبيه سنتين وأربعة أشهر. ثمّ قال : وقيل : إنّ أباه صلى‌الله‌عليه‌وآله مات والنبي ابن سبعة أشهر (٢).

وقال الأربلي : عاش مع أبيه سنتين وأربعة أشهر. ثمّ قال : وقيل : مات أبوه وعمره سبعة أشهر (٣).

والاربلي في كلامه هذا يحاكي كلام الطبرسي ، والقول الأوّل هو قول هشام الكلبي كما قال الطبري : وأمّا هشام الكلبي فإنّه قال : توفّي عبد الله أبو رسول الله بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون شهرا (٤). وممّا يؤيد رواية ابن اسحاق بوفاة عبد الله قبل ميلاد الرسول انّا لا نعثر على أي خبر أو أثر عن عبد الله حين ميلاد الرسول ، وإنمّا نجد جدّه عبد المطلب يلتمس له المرضع.

رضاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) عن برّة الخزاعية : ان أوّل من أرضع رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ ثويبة ـ مولاة أبي لهب عمّ النبي ـ

__________________

(١) البحار ١٥ : ١٢٤ ، ١٢٥ عن المنتقى في مولد المصطفى لمحمد بن مسعود الكازروني وفي ص ١١٦ نقل عن كتاب العدد : انه ورث ذلك عن أمه.

(٢) إعلام الورى : ٩ ط النجف.

(٣) كشف الغمة ١ : ١٦ ط تبريز.

(٤) الطبري ٢ : ١٦٥ ط المعارف.

٢٣٦

بلبن ابن لها يقال له مسروح ، قبل أن تقدم حليمة ، أياما. وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطّلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي.

وكانت رسول الله ـ ثويبة ـ تدخل على رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فيكرمها ، وكان يبعث إليها رسول الله بعد الهجرة بكسوة وصلة ، وكانت قد اسلمت ، فماتت بعد فتح خيبر (١).

وروى عن الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : انّ عليا ذكر لرسول الله ابنة حمزة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما علمت انّها ابنة أخي من الرضاعة. ثمّ قال الصادق عليه‌السلام : وكان رسول الله وعمّه حمزة قد رضعا من امرأة (٢).

وقال اليعقوبي : كان أوّل لبن شربه بعد امّه لبن «ثويبة» مولاة أبي لهب. وقد أرضعت ثويبة هذه حمزة بن عبد المطّلب ، وجعفر بن أبي طالب ، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي (٣).

والطبري روى الخبر نفسه الّذي رواه الكازروني ، بسنده الى برّة ابنة أبي تجزأة عن طريق الواقدي (٤).

وقال الطبرسي في (اعلام الورى) : وكانت ثويبة مولاة أبي لهب بن عبد المطّلب أرضعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلبن ابنها مسروح ، قبل أن تقدم حليمة ، وتوفيت ثويبة مسلمة سنة سبع من الهجرة ، ومات ابنها قبلها. وكانت ثويبة قد أرضعت قبله

__________________

(١) البحار ١٥ : ٣٨٤ عن المنتقى في مولد المصطفى لمحمّد بن مسعود الكازروني.

(٢) البحار ١٥ : ٣٤٠ عن فروع الكافي ٢ : ٤١ و ٤٢ ورواه الصدوق في الفقيه ٣ : ٢٦٠ والطوسي في التهذيب ٧ : ٢٩٢. وراجع مفتاح الكتب الأربعة ١٤ : ٣٤٠ و ٣٤٣.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٩.

(٤) الطبري ٢ : ١٥٨.

٢٣٧

حمزة بن عبد المطّلب عمّه ، فلذلك قال رسول الله لابنة حمزة : انّها ابنة أخي من الرضاعة. وكان حمزة أسنّ من رسول الله بأربع سنين (١).

وروى ابن شهرآشوب رواية الطبري (٢).

وقال الاربلي في (كشف الغمة) : أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب ، قبل قدوم حليمة أياما بلبن ابنها مسروح ، وتوفيت ثويبة مسلمة سنة سبع من الهجرة ، ومات ابنها قبلها. وكانت ثويبة قد أرضعت قبله عمّه حمزة رضى الله عنه ، فلهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حودث في التزويج بابنة حمزة : انّها ابنة أخي من الرضاعة. وكان حمزة أسنّ منه بأربع سنين (٣).

__________________

(١) اعلام الورى : ٦ ط النجف. ويقال : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما افتتح مكّة سأل عنها وعن ابنها فاخبر انهما ماتا ، كما عن الاستيعاب والروض الانف وشرح المواهب.

(٢) المناقب ١ : ١٧٣ ط قم.

(٣) كشف الغمة ١ : ١٥ ، والعبارة هي عبارة الطبرسي في إعلام الورى بدون اسناد. وقد ثقل على بعض غلاة ولاة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ان يقرّوا لمولاة ابي لهب ان تكون أوّل من أرضعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يسلّموا لها بذلك ، ثمّ حاولوا ان يسدّوا هذا الفراغ الزمني بعد ميلاده وقبل دفعه الى حليمة السعدية بما رواه الكليني قدس سرّه بسنده الى عليّ بن أبي حمزة البطائني عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : لمّا ولد النبي مكث أياما ليس له لبن ، فألقاه أبو طالب على ثدي نفسه فأنزل الله فيه لبنا فرضع منه أياما! حتّى وقع أبو طالب على حليمة السعدية فدفعه إليها (اصول الكافي ١ : ٤٤٨) هذا ، وقد روى الكشي في رجاله في ذم علي بن أبي حمزة البطائني أخبارا كثيرة تتهمه بالكذب وتلعنه ، فلعنة الله عليه. غفر الله للكليني وابن شهرآشوب والمجلسي اذ رووا هذا الكذب ، ورحم الله الشيخ الرباني الشيرازي محقق البحار (١٥) اذ علّق على هذا الكذب بقوله : الحديث لا يخلو عن غرابة ، وفي اسناده جماعة لا يحتج بحديثهم (البحار ١٥ : ٣٤٠). وروى الراوندي خبر الرضا عليه السلام عن حليمة السعدية في صفحة من الخرائج والجرائح ١ : ٨١ الحديث ١٣٤ وعنه بحارالانوار ١٥ : ٣٣١ وآثرنا نقله المسند عنها هنا.

٢٣٨

الرضاع الميمون

رضاعه من حليمة السعدية :

روى ابن اسحاق بسنده الى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن حليمة بنت ابي ذؤيب السعدية انها كانت تقول : انّها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزّى من بني هوازن ومعها رضيعها عبد الله بن الحارث ، ومعها نسوة من بني سعد كلّ واحدة منهن تلتمس رضيعا ترضعه ترجو المعروف من أبيه. وذلك في سنة مجدبة لم تبق لهم شيئا ، وما أرض أجدب من بلاد بني سعد. فما كان في ثدييها ما يغني صبيّها الرضيع حتّى كانوا ما ينامون ليلهم من بكائه من الجوع ، ومعها ناقة لها مسنّة ما ترشح بشيء يغذيهم ، وكانت هي على أتان يتخلف عن الركب ضعفا وهزالا.

حتّى قدموا الى مكّة ، فما بقيت امرأة ممّن مع حليمة الّا أخذت رضيعا لها سوى حليمة وكلّما كان يعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على امرأة منهن يقال لها انّه يتيم ، كانت تأباه ليتمه. وبقيت حليمة لم تأخذ رضيعا ، ولم يبق رضيع سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالت حليمة : فقلت لزوجي : والله انّي لأكره ان ارجع وانا بين صواحبي لم آخذ رضيعا ، والله لاذهبنّ الى ذلك اليتيم فلآخذنّه ، قال صاحبي : لا عليك ان تفعلي عسى الله ان يجعل لنا فيه بركة. قالت : فذهبت إليه فأخذته ـ وما حملني على أخذه الّا انّي لم أجد غيره ـ ورجعت به الى رحلي ووضعته في حجري وأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتّى روي ، وشرب معه أخوه فروي. وقام زوجي الى ناقتنا فإذا ضرعها ملئ باللبن فحلب ما شرب وشربت معه حتّى روينا ، فقال لي صاحبي : يا حليمة لقد اخذت نسمة مباركة ، فقلت والله اني لأرجو ذلك.

٢٣٩

ثمّ قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد ، فلم نزل نتعرّف من الله الزيادة والخير ، وكانت غنمي ترجع إلينا بعد العصر شباعا قد امتلأ ضرعها من اللبن ، وترجع غنم القوم جياعا لا تشرح بقطرة لبن. وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ يشبّ ما لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه من الرضاعة حتّى غلظ واشتدّ جسمه ، حتّى اذا مضت سنتاه وفصلته ، فقدمنا به على امّه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرجو من بركته ، فكلمنا امّه فلم نزل بها حتّى ردته معنا فرجعنا به.

قالت حليمة : وبعد مقدمنا به بأشهر احتملناه فقدمنا به على امّه.

فقالت آمنة : ما أقدمك به وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟

فقلت : قد بلغ الله بابني وقضيت الّذي عليّ ، وتخوفت الأحداث عليه ، فأديته إليك كما كنت تحبّين.

فقالت : أفتخوفت عليه الشيطان؟ قالت : قلت : نعم. قالت : كلّا والله ما للشيطان عليه من سبيل. ثمّ أخبرتها بما رأته منه حين حمله ووضعه.

قال ابن اسحاق : حدثني بعض أهل العلم : انّ ممّا هاج امّه السعدية على رده الى امّه : ان نفرا من نصارى الحبشة رأوه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثمّ قالوا لها : انه يكون لهذا الغلام شأن نحن نعرف أمره ، وأرادوا ان يأخذوه الى بلدهم ، حتّى كادت ان لا تنفلت به منهم.

قال ابن اسحاق : يتحدث الناس : انّها لمّا قدمت به الى مكّة نحو اهله افتقدته في الناس ، وكلّما التمسته لم تجده ، فأتت عبد المطلب فقالت له : انّي قد قدمت بمحمد البارحة ، فلمّا كنت بأعلى مكّة افتقدته فو الله ما أدري أين هو؟

فقام عبد المطّلب عند الكعبة يدعو الله ان يردّه عليه ، فوجده رجلان من قريش أحدهما ورقة بن نوفل بن أسد ـ ابن عمّ خديجة ـ فأتيا به عبد المطّلب

٢٤٠