موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وهو الّذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه فقال : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١).

أرياط أو أبرهة :

روى ابن هشام (٢) والطبري (٣) عن ابن اسحاق ، وعن غيره بخمسة طرق (٤) واليعقوبي (٥) والمسعودي (٦) : أنّ الذي بعثه النجاشي على الأحباش الى اليمن هو أرياط بن أصحمة. وأنّه أقام باليمن في سلطانه سنين ، ثمّ نازعه في أمر الحبشة باليمن ابرهة الحبشي ، وكان في جنده ، حتّى تفرّقت الحبشة عليهما ، فانحاز الى كلّ واحد منهما طائفة منهم ، واستعدوا للحرب بينهم (٧).

وروى الطبري بالطرق الخمسة : انّ أرياط لمّا غلب على اليمن أعطى الملوك ـ ويعني بهم شيوخ العشائر والقبائل اليمنية ـ واستذل الفقراء. فقام رجل من الحبشة

__________________

(١) البروج ٤ : ٩. وورد خبره في ابن اسحاق في السيرةعن ابن اسحاق ١ : ٣٧. وفي الطبري عنه أيضا ٢ : ١٢٣ ، وعن هشام الكلبي ٢ : ١٩. واليعقوبي ١ : ٢٠٠. والمسعودي ٢ : ٥١. وكان هذا بدء نفوذ الأحباش النصارى في اليمن وتهامة وما جاورها سنة ٥٢٥ م.

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ٤١.

(٣) الطبري ٢ : ١٢٥.

(٤) الطبري ٢ : ١٣٧.

(٥) اليعقوبي ١ : ١٧٣.

(٦) مروج الذهب ٢ : ٧٨.

(٧) الطبري ٢ : ١٢٨.

١٨١

يقال له : ابرهة أبو يكسوم ، فدعا الى طاعته فأجابوه ، فقاتل أرياط (١).

وروى عن هشام الكلبي : أنّ النجاشي لمّا بلغه ما كان من ذي نؤاس جهّز إليه سبعين ألفا عليهم قائدان : أحدهما أبرهة ـ ولم يذكر الآخر ـ فلمّا صاروا الى صنعاء ورأى ذو نؤاس ان لا طاقة له بهم ركب فرسه واقتحم البحر فكان آخر العهد به ذلك. وأقام ابرهة ملكا على اليمن ، ولكنّه لم يبعث الى النجاشي بشيء فقيل للنجاشي : إنّه قد خلع طاعتك ورأى أنّه استغنى بنفسه عنك. فوجه إليه جيشا عليه رجل من أصحابه يقال له : أرياط فلمّا حلّ بساحته بعث إليه ابرهة : أنه يجمعني واياك البلاد والدين ، والواجب عليّ وعليك ان ننظر لأهل بلادنا وديننا ممّن معي ومعك ، فإن شئت فبارزني ، فأيّنا ظفر بصاحبه كان الملك له ، ولم تقتل الحبشة فيما بيننا؟! فرضي أرياط بذلك ، فاتّعدوا موضعا يلتقيان فيه.

وعزم ابرهة على المكر بأرياط فأكمن له عبدا له يقال له : ارنجدة ، في وهدة قريبة من الموضع الّذي التقيا فيه ، فلمّا التقيا سبق أرياط فطعنه بحربته يريد رأسه ، وزالت الحربة عن رأس ابرهة ولكنها شرمت أنفه ، فلقّب بالأشرم من ذلك. ونهض ارنجدة من الحفرة فزرق بحربته المزراق رأس أرياط فأنفذها فيه فقتله بها. وكتب الى النجاشي بما رضي به عنه وأقرّه على عمله (٢).

أصحاب الفيل :

روى الطبري بالطرق الخمسة عن ابن عباس وعطاء بن يسار وغيرهما : أنّ ابرهة الأشرم أبا يكسوم لمّا غلب على اليمن رأى الناس أيّام الموسم يتجهزون للحج الى البيت الحرام ، فسأل : أين يذهب هؤلاء الناس؟ قالوا : يحجّون الى بيت الله بمكّة ،

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٣٧.

(٢) الطبري ٢ : ١٢٨ وعن ابن اسحاق ٢ : ١٢٩.

١٨٢

قال : ممّ هو؟ قالوا : من حجارة ، قال : فما كسوته؟ قالوا : ما يذهب به إليه من هاهنا من الوسائل ، فقال : قسما بالمسيح لأبنينّ لكم خيرا منه!

فبنى لهم كنيسة عملها بالرخام الأسود والأصفر والأبيض والأحمر ، وحلّاه بالذهب والفضة ، وحفّها بالجواهر ، وجعل لها أبوابا عليها صفائح الذهب ، وجعل لها حجابا ، كانوا يلطّخون جدرها بالمسك ويوقدون فيها بالمندل (او الصندل ، وهو عود هندي طيّب الرائحة لا سيّما عند الاحتراق) وأمر الناس أن يحجّوا إليها فحجّ إليها كثير من قبائل العرب سنين ، ومكث فيه رجال يتعبّدون ويتألّهون ويتنسّكون له (١) وروي عن ابن اسحاق : انّه سمّاها «القلّيس» (٢) أي البناء المرتفع كالقبلة (٣).

وروى الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان) عن محمد بن اسحاق قال : إنّ ابرهة أبا يكسوم بنى بيتا باليمن وجعل لها قبابا من ذهب وأمر أهل مملكته بالحج إليها يضاهي بها البيت الحرام.

فخرج رجل من بني كنانة حتّى قدم اليمن فقعد فيها ـ يعني لحاجة الانسان ـ فدخلها ابرهة فوجد العذرة بها فقال : من اجترأ عليّ بهذا؟ فقيل له في ذلك فقال : ونصرانيتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاجّ أبدا! وآذن قومه ومن اتبعه من أهل اليمن بالخروج ، فتتبّعه ناس أكثرهم من عك والأشعريين وخثعم ، فخرج يحثّ السير حتّى أتى الطائف فطلب منهم دليلا ، فبعثوا معه دليلا من هذيل يقال له : نفيل فخرج بهم يهديهم ، حتّى اذا كانوا بالمغمّس ـ وهو على ستة أميال من مكّة ـ نزلوا وبعثوا مقدّمتهم الى مكّة.

__________________

(١) الطبريّ ٢ : ١٣٧.

(٢) الطبري ٢ : ١٣٠.

(٣) قاله السهيلي في : الروض الانف في شرح السيرة. وقيل : انّ ابرهة كان قد جشم أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة أن ينقلوا إليها الحجارة والرخام من قصر بلقيس على فراسخ.

١٨٣

فقالت قريش : لا طاقة لنا اليوم بقتال هؤلاء القوم ، وخرجوا الى رءوس الجبال ، ولم يبق بمكّة غير عبد المطّلب بن هاشم ، وأخذ بعضادتي الباب يقول :

لا همّ انّ المرء يمنع رحله فامنع حلالك (١)

لا يغلبوا بصليبهم ومحالهم عدوا محالك (٢)

 أن يدخلوا البيت الحرام إذا فأمر ما بدا لك (٣)

وروى الشيخ المفيد في (الأمالي) بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه قال : لمّا قصد ابرهة بن الصباح ملك الحبشة مكّة لهدم البيت تسرعت الحبشة فأغاروا عليها وأخذوا سرحا لعبد المطلب بن هاشم ، فجاء عبد المطلب الى الملك فاستأذن عليه فأذن له ، وهو في قبة ديباج على سرير له ، فسلم عليه فردّ أبرهة السلام وجعل ينظر في وجهه فراقه حسنه وجماله وهيئته ، فقال له : هل كان في آبائك هذا النور والجمال الّذي أراه لك؟ قال : نعم أيّها الملك كلّ آبائي كان لهم هذا النور والجمال والبهاء! فقال له ابرهة : لقد فقتم الملوك فخرا وشرفا ويحق أن تكون سيد قومك! ثمّ أجلسه معه على سريره ...

ثمّ قال لعبد المطلب : فيم جئت؟ فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك ، ورأيت من هيئتك وجمالك وجلالك ما يقتضي ان انظر في حاجتك ، فسلني ما شئت.

__________________

(١) الحلال بالكسر جمع الحلة : القوم النزول فيهم كثرة.

(٢) المحال بالكسر : القوة والشدة.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٥٤٠ ـ ٥٤٢ باختصار وفي ابن اسحاق في السيرة: إن كنت تاركهم وقبلتنا فامر ما بدا لك. وقد روى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : يبعث عبد المطلب امة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء ، وذلك أنّه أوّل من قال بالبداء ، وذلك .. انّه أخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول : يا ربّ إنّ نهلك فامر ما بدا لك. (اصول الكافي ١ : ٤٤٧).

١٨٤

فقال له عبد المطلب : إنّ اصحابك عدوا على سرح لي فذهبوا به فمرهم بردّه!

فتغيظ الحبشي من ذلك وقال لعبد المطلب : لقد سقطت من عيني! جئتني تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك وشرف قومك ، ومكرمتكم الّتي تتميّزون بها من كلّ جيل ، وهو البيت الّذي يحجّ إليه من كلّ صقع في الأرض ، فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك!

فقال له عبد المطّلب : لست بربّ البيت الّذي قصدت لهدمه ، وأنا ربّ سرحي الّذي أخذه أصحابك ، فجئت أسألك فيما أنا ربّه ، وللبيت ربّ هو أمنع له من الخلق كلّهم وأولى به منهم!

فقال الملك : ردّوا عليه سرحه. وانصرف عبد المطّلب الى مكّة.

ودخل الملك بالفيل الأعظم وكان فيلا أبيض عظيم الخلقة له نابان مرصّعان بأنواع الدرر والجوهر وقد زيّن بكلّ زينة حسنة وكان الملك يباهي به ملوك الأرض فدخل ومعه الجيش لهدم البيت ، فكانوا اذا حملوه على دخول الحرم أناخ واذا تركوه رجع مهرولا!

فقال عبد المطّلب لغلمانه : ادعوا إليّ ابني ... فلمّا جاءوا بعبد الله أقبل إليه وقال : اذهب يا بني حتّى تصعد أبا قبيس ، ثمّ اضرب ببصرك ناحية البحر فانظر أيّ شيء يجيء من هناك وخبّرني به.

فصعد عبد الله أبا قبيس فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السّيل والليل ، فجاء عبد الله الى أبيه فأخبره الخبر. فقال : انظر يا بنيّ ما يكون من أمرها بعده ، فاخبرني به. فنظرها فاذا هي قد أخذت نحو عسكر الحبشة ، فأخبر عبد المطلب بذلك ، فخرج عبد المطلب وهو يقول : يا أهل مكة اخرجوا الى المعسكر فخذوا غنائمكم!

١٨٥

فخرجوا ينظرون الى الطير فاذا ليس من الطير الّا ومعه ثلاثة أحجار : في منقاره ورجليه يقتل بكل حصاة واحدا من القوم. فلمّا أتوا على جميعهم انصرف الطير ، ولم ير قبل ذلك الوقت ولا بعده. وأتوا العسكر فإذا هم أمثال الخشب النخرة (١).

وروى الكليني في (روضة الكافي) والصدوق في (علل الشرائع) بسندهما عن الباقر عليه‌السلام قال : أرسل الله عليهم طيرا جاءتهم من قبل البحر ... مع كلّ طير ثلاثة أحجار : حجران في مخالبه وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها حتّى جدّرت أجسادهم ، فقتلهم الله عزوجل بها. وما كانوا قبل ذلك رأوا شيئا من ذلك الطير ولا شيئا من الجدري (٢).

وقال القميّ في تفسيره : كانت الطيور ترفرف على رءوسهم وترمي أدمغتهم ، فيدخل الحجر في دماغهم ويخرج من أدبارهم فتنتقض أبدانهم ، فكانوا كما قال الله تعالى كالعصف المأكول وهو التبن الذي أكل بعضه وبقي بعضه. ثمّ روى عن الصادق عليه‌السلام : أن أصل الجدري من ذلك الذي أصابهم في زمانهم (٣).

وروى الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان) عن العياشي باسناده الى هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام قال : أرسل الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطّاف أو نحوه ، في منقاره حجر مثل العدسة ، فكان يحاذي برأس الرجل فيرميه بالحجر فيخرج من دبره ، فلم تزل بهم حتّى أتت عليهم (٤).

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٨٤ ط النجف ، و ٣١٢ ط غفاري. والبحار ١٥ : ١٣٠ نقلا عنه وعن مجالس ابن الشيخ الطوسي : ٥٠.

(٢) روضة الكافي : ٨٤ ط طهران ، وعلل الشرائع : ١٧٦ ط طهران.

(٣) تفسير القميّ ٢ : ٤٤٢.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٥٤٠ ـ ٥٤٢.

١٨٦

وفي خبر الصدوق في (علل الشرائع) بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ومن أفلت منهم انطلقوا حتّى بلغوا حضرموت ـ واد باليمن ـ فأرسل الله عليهم سيلا فغرقهم ، فلذلك سمّي حضرموت حين ماتوا فيه (١).

وروى الطبري بخمسة طرق : أنّ الطّير أقبلت من البحر أبابيل ، مع كلّ طير منها ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر في منقاره ، فقذفت الحجارة عليهم ، لا تصيب شيئا الّا هشّمته ، والّا نفط ذلك الموضع ، فكان ذلك أوّل ما كان الجدريّ والحصبة والأشجار المرّة ، فأهمدتهم الحجارة ، وبعث الله سيلا فذهب بهم فألقاهم في البحر (٢).

قال المسعوديّ : وكان قدومه مكّة يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم (٣) ، وكان ملك ابرهة على اليمن الى أن هلك ثلاثا وأربعين سنة ، لأربعين سنة من ملك كسرى ، قبل مولد رسول الله بخمسين يوما (٤).

قال ابن اسحاق : ولمّا ردّ الله الحبشة عن مكّة وأصابهم بما أصابهم به من النقمة قالت العرب بشأن قريش : انّهم أهل الله ، فقد قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم ، وكان شعراء قريش يفخرون بذلك في شعرهم كثيرا.

فلمّا بعث الله تعالى محمدا ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ جعل قصّة اصحاب الفيل ممّا يعدّه على قريش من نعمته وفضله عليهم (٥) فقال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

__________________

(١) علل الشرائع : ١٧٦.

(٢) الطبري ٢ : ١٣٨ وعن ابن اسحاق. ورواه ابن هشام في السيرة عنه أيضا ١ : ٥٦.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٥٤.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٥٣ و ٢٧٤ ط بيروت.

(٥) ابن اسحاق في السيرة١ : ٥٩.

١٨٧

قال ابن هشام : الأبابيل : الجماعات ، وأمّا السجّيل ، فقد ذكر بعض المفسّرين : أنّهما كلمتان بالفارسية : سنج يعني الحجر ، وجلّ يعني الطين ، جعلتهما العرب كلمة واحدة تعني الحجارة من هذين الجنسين : الحجر والطين ، وهي حجارة شديدة صلبة. والعصف المأكول هو ورق الزرع الّذي لم يقصّب (١) أي أصابته آكلة الديدان فأكلت بعضه وبقي بعضه الآخر.

بينما رجّح الشيخ محمد عبده في تفسيره : أنّ الطير الّذي ورد في الآية الكريمة من الجائز ان يكون من نوع البعوض أو الذباب الّذي يحمل جراثيم بعض الأمراض الفتّاكة ، وأن تكون تلك الحجارة من الطين المسموم الّذي تحمله الرياح يتعلق بأرجل تلك الطيور ، فإذا أصاب انسانا انتقل المكروب الى جسده ، فأحدث فيه بعض الجروح ، وبالتالي ينتهي الى فساد الجسم (٢)!

ولا نجد نحن وجها لهذا التفسير بل التأويل ما دام القرآن ينصّ على أنّها طيور مرسلة بالحجارة. نعم أصيبوا بها بالجدريّ فماتوا به كما مرّ في الخبر عن الصادق عليه‌السلام.

وما احبّ أن أعرض لتأويل هذه الطير الأبابيل التي رمت الحبشة بحجارة من سجّيل فجعلتهم كعصف مأكول لأنّي أوثر دائما أن أقبل النصّ وأفهمه كما قبله وفهمه المسلمون الأوّلون حين تلاه النبي ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم (٣) ـ.

وقال سيد قطب : وأنا فيما سبق من مؤلفاتي وحتى في الاجزاء الاُولى

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٥٥ ، ورواه الطوسي في التبيان ١٠ : ٤١١ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٢٨١ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٢) مما جاء في ظلال القرآن ٣٠ : ٢٥١ ، وحياة محمد لهيكل : ١٠٢.

(٣) مرآة الإسلام لطه حسين : ٢٩.

١٨٨

من هذه (الظلال) قد انسقت إلى شيء من هذا ، وأرجوا أن اتدراكه في الطبعة التالية إذا وفّق الله (١).

وكانت هذه القصّة في الفترة بين عيسى ونبينا ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ وقبل بعثته بأربعين عاما ، في عام ميلاده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالفترة كانت فترة شريعة عيسى عليه‌السلام وهؤلاء كانوا نصارى ، ولكنّهم كانوا منحرفين فيها عن الحق ، وعملهم هذا لم يكن حربا مع المشركين لردعهم عن شركهم ودعوتهم الى شريعة عيسى عليه‌السلام ، بل كان هدما لبيت ابراهيم عليه‌السلام بل بيت الله ، ولم يكن هذا من شريعة عيسى عليه‌السلام بل خروجا عنه وبغيا وعدوانا وطغيانا وعتوا فلذلك اهلكوا.

دخول الفرس المجوس الى اليمن :

وكان من ظلم ابرهة ان بعث الى أبي مرة يوسف بن ذي يزن وكان من أشراف اليمن فنزع منه امرأته ريحانة بنت ذي جدن ، وكانت ذات جمال وقد ولدت لأبي مرّة معد يكرب ، فولدت لأبرهة : مسروق بن ابرهة. وهرب أبو مرة سيف بن ذي يزن (٢).

فروى الطبري عن الكلبي : انّ أبا مرّة سيف بن ذي يزن خرج من اليمن فلحق بعمرو بن المنذر من ملوك بني المنذر بالحيرة ، فسأله أن يكتب له الى كسرى كتابا يعلمه فيه بقدره وشرفه وما فزع إليه فيه. فقال عمرو : لا تعجل ، فإنّ لي عليه في كلّ سنة وفادة ، وهذا وقتها.

فأقام قبله حتّى وفد عليه معه ، فدخل عمرو بن المنذر على كسرى فذكر له شرف ذي يزن وحاله ، واستأذن له. فأذن له كسرى. فدخل ، فأوسع عمرو له

__________________

(١) فی ظلال القرآن ٢٩ : ١٥١ ـ ١٥٣.

(٢) الطبري ٢ : ١٣٠ عن ابن اسحاق و ١٤٢ عن هشام الكلبي وعنه سائر الحديث.

١٨٩

فلمّا رأى كسرى ذلك عرف شرفه وقد كان ابن ذي يزن قال قصيدة بالحميرية في مدح كسرى ، فلمّا ترجمت له اعجب بها ، فأقبل عليه ولطف به وسأله : ما الأمر الّذي نزع بك؟ قال : أيّها الملك! إنّ السودان قد غلبونا على بلادنا وركبوا منّا امورا شنيعة اجلّ الملك عن ذكرها ، فلو أنّ الملك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره لكان بذلك حقيقا لفضله وكرمه وتقدّمه على سائر الملوك ، فكيف وقد نزعنا إليه مؤمّلين له ، راجين أن يقصم الله عدوّنا وينصرنا عليهم وينتقم لنا به منهم! فان رأى الملك أن يصدّق ظنّنا ويحقّق رجاءنا ، ويوجه معي جيشا ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها الى ملكه فعل ، فانّها من أخصب البلدان وأكثرها خيرا ، وليست كما يلي الملك من بلاد العرب.

فقال انوشيروان : قد علمت أنّ بلادكم كما وصفت ، فأيّ السّودان غلبوا عليها : الحبشة أم السند؟ قال ابن ذي يزن : بل الحبشة.

قال أنوشيروان : انّي لاحبّ ان اصدّق ظنّك وان تنصرف بحاجتك ، ولكنّ مسلك الجيش الى بلادك مسلك صعب أكره أن اغرر جندي به ، وسأنظر فيما سألت.

فلم يزل مقيما عنده حتى هلك.

ونشأ معد يكرب بن ذي يزن مع امّه ريحانة في حجر ابرهة ، وأخبرته امّه ان أباه هو سيف بن ذي يزن ، واقتصّت عليه خبره ، فلبث حتّى مات الأشرم ومات ابنه يكسوم ، وتملّك اخوه مسروق ، فخرج ابن ذي يزن الى ملك الروم ، ولم يذهب الى كسرى لابطائه عن أبيه ، ولكنّه وجد قيصر أو هرقل لموافقته للحبشة في دينهم يحامي عنهم ، فانكفأ راجعا الى كسرى ، فاعترضه يوما ـ وقد ركب ـ فصاح به : أيّها الملك انّ لي عندك ميراثا! فدعا به كسرى وقال : من أنت؟ وما ميراثك؟ قال : أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن الّذي وعدته أن تنصره فمات بحضرتك ، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فقال له : أقم حتّى أنظر في أمرك.

١٩٠

ثم انّ كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه ، فقال المؤبدان (١) إنّ لهذا الغلام حقا بوعدك لأبيه وموته ببابك وفزع هذا إليك. وفي سجون الملك رجال ذووا نجدة وبأس ، فلو أنّ الملك وجّههم معه ، فإن أصابوا ظفرا كان له ، وان هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم ، ولم يكن ذلك ببعيد عن الصواب.

قال كسرى : هذا الرأي. وأمر بمن كان في السجون من هذا الضرب أن يحصوهم ، فأحصوا فبلغوا ثمانمائة نفر ، فقوّد عليهم قائدا من أساورته (٢) يقال له : وهرز ـ أو بهروز ـ كانوا يعدلونه بألف استوار ، وقوّاهم وجهّزهم وأمر بحملهم في ثماني سفن في كلّ سفينة مائة رجل.

فركبوا البحر فغرقت من السفن الثمانية سفينتان ، وسلمت ست سفن ، وخرجوا بساحل حضرموت ، فنزل وهرز على سيف البحر فجعل البحر وراء ظهره. ولحق بمعديكرب بن سيف بشر كثير.

وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب فلمّا نظر مسروق الى قلة من مع وهرز أرسل إليه : ما جاء بك وليس معك الّا من ارى ، ومعي من ترى؟ قد غرّرت بنفسك وأصحابك ، فإن أحببت اذنت لك فرجعت الى بلادك ، وان أحببت أجّلتك حتّى تشاور أصحابك وتنظر في أمرك ، وان أحببت ناجزتك الساعة.

ورأى وهرز انّه لا طاقة له بهم ، فأرسل الى مسروق : بل تضرب بيني وبينك اجلا ، وتعطيني موثقا وعهدا الّا يقاتل بعضنا بعضا حتى ينقضي الأجل ونرى رأينا. ففعل مسروق ذلك.

__________________

(١) لقب عالم المجوس ، ومن هنا يظهر انّ الاستشارة كانت استفتاء شرعيا : هل يجب عليه شيء أو لا؟

(٢) جمع الاسوار ، وهو كما يقال اليوم في الفارسية : الاستوار ، رتبة من الرتب العسكرية.

١٩١

وأقام كلّ واحد منهما في عسكره حتّى مضت عشرة أيام ، وكان مع وهرز ابنه ، فخرج ذات يوم على فرس له حمله الى عسكرهم فقتلوه. فلمّا لم يبق من الأجل الّا يوم واحد أمر بالسفن الّتي كانوا فيها فأحرقت ، وأمر بما كان معهم من فضل كسوة فاحرق ولم يدع منه الّا ما كان على أجسادهم ، ثم أمر بفضل الزاد فألقي في البحر ، ثمّ قام فيهم خطيبا فقال : أمّا ما حرقت من سفنكم فأني أردت ان تعلموا أنّه لا سبيل الى بلادكم أبدا ، وأمّا ما حرّقت من ثيابكم فانّه كان يغيظني ان ظفرت بكم الحبش ان يصير ذلك إليهم ، وأمّا ما ألقيت من زادكم في البحر فإنّي كرهت ان يطمع احد منكم ان يكون معه زاد يعيش به يوما واحدا بعد اليوم ، فإن كنتم قوما تقاتلون معي وتصبرون فاعلموني ذلك. فقالوا : نقاتل معك حتّى نموت عن آخرنا أو نظفر!

فلمّا كان صبح اليوم الّذي انقضى فيه الأجل عبأ أصحابه وأقبل عليهم يحضّهم على الصبر. وأمرهم أن يوتروا ويعدّوا قسيّهم ، ولم يكن لليمنيين نشّاب (١) قبل ذلك اليوم ، فقال لأصحابه : اذا امرتكم ان ترموا فارموهم رشقا بالپنجكان (٢).

وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه طويلا يمينا ويسارا ، وهو على فيل وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة. ثمّ نزل من الفيل فركب فرسا ، فأخرج وهرز نشّابة فوضعها في كبد قوسه وقال لهم : ارموا ، فرموا ، ورمى مسروقا في جبهته فسقط عن دابته ، وقتل من ذلك الرشق الواحد جماعة كثيرة من جيش الأحباش ، ولمّا رأوا صاحبهم مسروقا صريعا انفضوا ، حتّى كان الاستوار يأخذ من الحبشة ومن حمير والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتّفين

__________________

(١) کلمة فارسية أصلها : نوش آب : مصّاص ماء البدن : الدم.

(٢) كلمة فارسية من پنج بمعنى الخمسة ، تعني : النشاب ذو شعب خمسة من النصال الحديدية.

١٩٢

لا يمتنعون منه ، ولكنّ وهرز قال لهم : اقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحدا أمّا حمير والأعراب فكفوا عنهم ، فقتل أكثر الحبشة ، وغنم الفرس من عسكرهم ما لا يعدّ ولا يحصى كثرة.

وأقبل وهرز حتّى دخل صنعاء وفرّق عماله في مخاليف اليمن فغلب على البلاد (١) وكان ذلك سنة ٥٧٥ م (٢).

قال المسعودي : فتوّج وهرز : معديكرب بن سيف بتاج كان معه والبسه بدنة (٣) وقفّازات من الفضة ورتّبه في ملكه على اليمن وكتب بالفتح الى انوشيروان.

وأتت معديكرب الوفود تهنئه بعود الملك إليه ، من أشراف العرب وزعمائها ، وفيهم : عبد المطلب بن هاشم ، وأميّة بن عبد شمس ، وخويلد بن أسد ، وأبو الصلت الثقفي ، فدخلوا إليه وهو في أعلى قصره بمدينة صنعاء ، المعروف بغمدان (٤) وعلى يمينه ويساره أبناء المقاول والملوك.

فتقدم عبد المطلب بن هشام فتمدّحه ، فرحّب بهم معديكرب بن سيف.

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٤٢ ـ ١٤٧.

(٢) سيرة المصطفى : ٢٣.

(٣) البدنة هنا : شيء الدرع الّا أنّها تصير قدر البدن فقط.

(٤) غمدان كعثمان ، قصر باليمن بناه يشرخ بن يحصب على أربعة وجوه : أحمر وأبيض وأصفر وأخضر ، وبنى في داخله قصرا بسبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعا ، وجعل في أعلاه مجلسا بناه بالرخام الملوّن وجعل سقفه رخامة واحدة ، وجعل على كلّ ركن من أركانه تمثال أسد من شبه كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه فيسمع له صوت كالزئير ، وخربه عثمان بن عفّان قاله المسعودي وقال : ورأيته قد انهدم بنيانه وصار تلا عظيما من تراب ، كأن لم يكن. مروج الذهب ٢ : ٢٢٩.

١٩٣

وأقام معديكرب ملكا على اليمن ، واصطنع عبيدا من الحبشة يمشون بين يديه بالحراب ، فركب في بعض الأيام من باب قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء ، فلمّا صار الى رحبتها عطفت عليه الحراب من الحبشة فقتلوه بحرابهم. وكان ملكه أربع سنين ، وهو آخر ملوك اليمن من قحطان ، فعدد ملوكهم سبعة وثلاثون ملكا.

ولما قتلت الحبشة معديكرب في الرحبة بحرابهم ، كان بصنعاء خليفة لوهرز في جماعة من العجم ، ممّن كان ضمهم وهرز الى معديكرب ، فركب وأتى على من كان هنالك من الحبشة وضبط البلد. وكتب بذلك الى وهرز وهو بباب أنوشيروان الملك (١) وذلك بمدائن طيسفون من أرض العراق ، فاعلم وهرز الملك بذلك ، فسيّره في البر في أربعة آلاف من الأساورة وأمره ان لا يبقي على أحد من بقايا الحبشة ولا على جعد قطط الشعر (٢) شرك السودان في نسبه. فأتى وهرز اليمن حتّى نزل في صنعاء فلم يترك بها أحدا من السودان الّا قتلهم. وملّك انوشيروان وهرز على اليمن الى ان هلك بصنعاء (٣).

وعن الكلبي : انّه لمّا بلغ انوشيروان موت وهرز بعث الى اليمن استوارا يدعى «وين» وكان جبّارا مسرفا ، وكان ذلك في آخر ملك انوشيروان ، فلمّا مات انوشيروان وخلفه ابنه هرمز عزل «وين» واستعمل مكانه المروزان (٤) ، فلمّا ملك

__________________

(١) مات ابرهة لأربعين من ملك كسرى وملك يكسوم عشرين سنة ثم ملك مسروق ثلاث سنين ثم ملك معديكرب أربع سنين ، ومجموع ملك كسرى : ثمان وأربعون سنة ، فلا يتم التوفيق بين هذا كله.

(٢) الجعد والقطط : قصر الشعر وفتله.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٥٧ ـ ٦٢ ط بيروت.

(٤) الطبري ٢ : ١٧١ وأظنّ ان اسمه : المهروزان وكان ملك كسرى انوشيروان ثمانيا وأربعين سنة كما في الطبري : ٢ : ١٧٢.

١٩٤

ابن هرمز : خسرو پرويز كتب الى المروزان : أن استخلف من شئت واقبل الي ، فاستخلف المروزان ابنه خور خسرو على اليمن وسار فمات في الطريق وحمل الى خسرو پرويز ، ثمّ بلغ خسرو پرويز انّ خور خسرو يتأدب بآداب العرب ويروي أشعارهم فعزله وولّى بمكانه بادان ، وهو آخر من قدم من ولاة العجم (١).

وذكر المسعودي مساحة اليمن وحدوده فقال : وبلد اليمن طويل عريض ، حدّه ممّا يلي مكّة الى الموضع المعروف بطلحة الملك سبع مراحل ـ والمرحلة من خمسة فراسخ الى ستة ـ ومن صنعاء الى عدن تسع مراحل ، ومن وادي وحا الى ما بين مفاوز حضرموت وعمان عشرون مرحلة ، والوجه الآخر هو بحر اليمن وهو بحر الهند والصين والقلزم ، وجميع ذلك يكون : عشرين مرحلة في ست عشرة مرحلة (٢).

وذكر اليعقوبيّ سواحل اليمن وهي : عدن ساحل صنعاء ، والمندب ، وغلافقة ، والحردة ، والشرجة ، وعثر ، والحمضة ، والسرين ، وحدّة (أو الحديدة) وقال : وتسمّى كور اليمن : المخاليف ، وهي : أربعة وثمانون مخلافا. ثمّ أتى باسمائها وقال : هذه بلدان مملكة اليمن وبلادها. وكان ملوك اليمن في صدر عهدهم يدينون بعبادة

__________________

(١) الطبري ٢ : ٢١٥ وجاء اسمه في الطبري ٣ : ٢٢٧ : بادام ، وهو الراجح حسب المعنى في الفارسية ، وهو الّذي بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عهده ، وفي آخر السنة السادسة للهجرة بعث رسول الله الى خسرو پرويز كتابا يدعوه فيه الى الاسلام ، فغضب خسرو پرويز وبعث الى بادام هذا بأن يرسل إليه رسول الله مقيّدا ، وبعث بادام رجالا الى المدينة فأخبرهم رسول الله بهلاك خسرو پرويز فقيّدوا ذلك ولمّا رجعوا الى اليمن ووصل الرسول بهلاك خسرو پرويز أسلم بادام ومن معه من أبناء الفرس في اليمن وبعثوا باسلامهم الى رسول الله ، فأقرّه رسول الله على عمله فكان عليه حتّى توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. راجع ابن اسحاق في السيرة٢ : ٧١.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٦٤ ط بيروت.

١٩٥

الأصنام ، ثمّ إنّ احبارا من اليهود صاروا إليهم (مع تبّع تبان أسعد) فعلّموهم دين اليهودية فدانوا بدين اليهود وتلوا التوراة. ولم يكونوا يتجاوزون اليمن إلّا أنّهم ربّما أغاروا على بعض البلدان فيرجعون الى بلادهم ودار ملكهم (١).

أسواق العرب :

وكانت للعرب في اليمن وغيره أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ، ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم بخفارة خاصّة : فمنها سوق «عدن» كان يقوم في أوّل يوم من شهر رمضان وكان بخفارة الأبناء ـ أي أبناء الفرس حكام اليمن ـ وهم كانوا يعشّرونهم بها لقاء خفارتهم لهم ، ومنها كان يحمل الطيب الى سائر الآفاق.

ثمّ سوق «صنعاء» كان يقوم في النصف من شهر رمضان بخفارة الأبناء أيضا.

ثمّ سوق «الرابية» بحضرموت ، ولم يكن يوصل إليها الّا بخفارة خاصّة ، لأنها لم تكن أرض مملكة ، فكان من عزّ بها بزّ ، وكانت الخفارة فيها لكندة.

ثمّ سوق «عكاظ» بأعلى نجد ، كان يقوم في شهر ذي القعدة ، وكان أكثر من يحضرها من مضر وسائر قريش وقليل من سائر العرب ، وبها كانت مفاخرات العرب ومهادناتهم بعد حمالاتهم ـ أي دياتهم.

ثمّ سوق «ذي المجاز» يرتحلون منها الى مكّة للحج.

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢٠٠ ، ٢٠١. وقد علّقنا على هذا سابقا بمعارضته لنقل القرآن الكريم بأنّ الهدهد أخبر سليمان بن داود عنهم بقوله (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) ... وانّي (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) وان بلقيس قالت اني (أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ونقل المؤرخون انّ سليمان بن داود حكم اليمن عشرين عاما ثمّ ملّكها ابنه أرحبعم بن سليمان ، وان بلقيس كانت قبل تبّع تبان الأسعد بعشرة ملوك في سبعمائة سنة قريبا. فأظن الخبر هذا من الاسرائيليات.

١٩٦

ومنها «دومة الجندل» كان يقوم في شهر ربيع الأول ، وكانت بين بني كلاب والغساسنة أيّهم غلب قام بها.

ثمّ سوق «المشقر» في مدينة هجر ، كانت في جمادى الأولى ، يقوم بها بنو تميم.

ثمّ سوق «صحار» كان يقوم في أوّل يوم من رجب ، ولم تكن بحاجة الى الخفارة لأنّها في الشهر الحرام.

ثمّ سوق «ريّا» بخفارة آل الجلندي وهو كان يعشّرهم بها لذلك.

ثمّ سوق «الشحر» شحر مهره ، في ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي عليه‌السلام ، وكان يقوم بها بنو مهرة بلا خفارة خاصّة.

وكان في العرب قوم يحضرون هذه الأسواق فيستحلّون بها المظالم ، ولذلك كانوا يسمّون (المحلّون) (١) كانوا من قبائل أسد وطيء وبني بكر وبني عامر. وكان من العرب من ينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر يسمّون (الذّادة المحرّمون) كانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة ، ومن هذيل ، وبني شيبان ، وبني كلب ، فكان هؤلاء يلبسون السلاح للدفاع عن الناس (٢).

وكانت العرب تقيم الشعر مقام الحكمة والعلم ، فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر المميّز الكلام المصيب المعاني احضروه في أسواقهم هذه الّتي كانت تقوم لهم في السنة حتّى تجتمع العشائر والقبائل فتسمع شعره ، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم وشرفا من شرفهم ، وكانوا به يتفاضلون ويتناضلون ويمدحون ويعابون ، ويتمثلون ويختصمون. وقد عدّ اليعقوبي عددا كثيرا من شعرائهم (٣).

__________________

(١) وبعد الإسلام انتقل هذا الاسم الى الخوارج.

(٢) اليعقوبي ١ : ٢٧٠ ، ٢٧١ ط بيروت.

(٣) اليعقوبي ١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٩.

١٩٧

وكان للعرب حكّام يتحاكمون إليهم في منافراتهم ومواريثهم ومياههم ودمائهم ، فكانوا يحكّمون اهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسّن والمجد والتجربة ، اذ لم يكن لهم دين يرجعون الى شرعه. وقد عدّ اليعقوبي عددا غير قليل من هؤلاء الحكّام القضاة : قضاة التحكيم (١).

وكانت اديان العرب مختلفة باختلاف المجاورات لأهل الملل : فدخل قوم من العرب في دين اليهود ، ودخل آخرون في النصرانية ، وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية : فأمّا من تهوّد منهم فان قوما من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير تهوّدوا ، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من بني غسّان ، وقوم من جذام ، وانّ تبّع اليمني حمل حبرين من أحبار اليهود فأبطل الأوثان وتهوّد من باليمن (٢).

وأمّا من تنصّر من احياء العرب : فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزّى منهم ورقة بن نوفل ، ومن بني تميم ، وبني تغلب ، ومن اليمن طيء ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسّان ولخم وتزندق جمع منهم حجر بن عمرو الكندي وغيره (٣).

وروى الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : كان في أيديهم أشياء كثيرة من الحنيفية من تحريم الأمهات والبنات وما حرّم الله في النكاح ، الّا انّهم كانوا يستحلون امرأة الأب وابنة الأخت والجمع بين الأختين ، وكان في أيديهم الحج والتلبية والغسل من الجنابة الّا ما أحدثوا في تلبيتهم وفي حجّهم من الشرك (٤).

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢٥٨.

(٢) مرّ مفصّل هذا الخبر وعلّقنا عليه بأنّه مناف لما في القرآن الكريم من سبق اليهودية الى اليمن على عهد بلقيس وسليمان أي قبل تبّع هذا بسبعة قرون.

(٣) اليعقوبي ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٧.

(٤) فروع الكافي ١ : ٢٢٣.

١٩٨

وروى أيضا بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : انّ العرب لم يزالوا على شيء من الحنيفية : يصلون الرحم ، ويقرون الضيف ، ويحجّون البيت ، ويتّقون مال اليتيم ، ويكفّون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة ، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه في أعناق الأبل فلا يجترئ أحد ان يأخذ من تلك الأبل حيثما ذهبت (١).

أولاد معد بن عدنان :

نرجع هنا الى ذكر بقية أخبار مكّة وولاة البيت من أولاد عدنان ، فنقول : قال اليعقوبي : كان عدنان أوّل من كسا الكعبة (٢) ونصب أنصاب الحرم بمكّة. وكان أشرف أولاده معدّ ابن عدنان ، ولمّا ضاقت مكّة بهم وخرج كثير من ولد اسماعيل لم يخرج هو منها ، وكان له عشرة أولاد ، منهم قضاعة وبه كان يكنّى ، وانتقل قضاعة بأهله وأولاده الى اليمن وأصبح لهم عدد كثير ، فانتسب جميع من كان باليمن من ولد معد الى قضاعة ، وانتمت قضاعة الى حمير فحسبوا معهم.

وساد من ولد معدّ نزار بن معدّ فأقام بمكّة فكان سيد بني أبيه وعظيمهم. وأصبح له من الولد أربعة : مضر وإياد وربيعة وأنمار ، ولمّا حضرت نزار الوفاة قسّم ميراثه على ولده هؤلاء الأربعة : فأعطى مضر ناقته الحمراء فسمّي مضر الحمراء ، وأعطى ربيعة فرسه فسمّي ربيعة الفرس ، وأعطى إياد غنمه وكانت برقاء (٣) فسمّي إياد البرقاء ، وأعطى أنمارا جارية له تسمّى بجيلة فسمّي بها ، وارتحل أنمار بن نزار الى اليمن فتزوج في بجيلة وخثعم ، فانتسب ولده الى أخوالهم فمنهم في بجيلة ومنهم في خثعم ، فحسبوا معهم.

__________________

(١) فروع الكافي ١ : ٢٢٣.

(٢) هذا ، وقد سبق أن أول من كساه تبّع تبّان أسعد اليمني ، وقبله هاجر أم اسماعيل.

(٣) البرقاء من الشياة التي في خلال صوفها الأبيض طاقات سود ـ مجمع البحرين.

١٩٩

وصار ربيعة بن نزار الى بطن عرق (١) ثمّ كثر ولده وولد ولده فانتشروا حتّى امتلأت بطون وديان الفرات في العراق من جماهير قبائل ربيعة : من عنزة بن أسد ، والنّمر بن قاسط وبكر بن وائل بن قاسط ، وعجل ابن لجيم ، وحنيفة بن لجيم ، وتيم بن ثعلبة وقيس بن ثعلبة ، وعبد القيس بن أفصى.

ووقع حرب بين بني النمر بن قاسط وعبد القيس فسارت عبد القيس حتّى نزلت اليمامة من أرض اليمن ، فكان فيها وفي تهامة جمع من أولاد معد ابن عدنان ، فأقبلت إليهم مذحج تريد غزوهم فالتقوا في موضع سلان ، فكان الظفر لبني ربيعة بن معد بن عدنان وهزمت مذحج ، فسمّي «يوم السلان».

وأقبل بنو كندة من اليمنيين لحرب ربيعة أيضا ، وعلى كندة سلمة بن الحارث الكندي ، وقد استمد من بعض الملوك لذلك ، فالتقوا بموضع خزاز ، ففضّت جموع كندة ، فصالحهم سلمة ، فسمّي «يوم خزاز».

ثمّ تحارب سلمة مع أخيه شرحبيل بن الحارث الكندي ، فاقتسمت ربيعة فكان بنو عبد القيس مع شرحبيل وسائر ربيعة مع سلمة ، فكان لهم العلو على قيس وقتل شرحبيل الكندي ، فسمّي «يوم الكلاب».

ومن عشائر ربيعة : بنو شيبان وبنو تغلب ، وقتل جسّاس بن مرة الشيباني : كليب بن ربيعة التغلبي ، فاشتبكت الحروب بينهم ودامت أربعين سنة سمّيت «حروب البسوس».

وتشارك بنو شيبان وبنو عجل من بني بكر بن وائل من عشائر ربيعة في الدفاع عن هانئ بن مسعود الشيباني أمام جيوش كسرى من العجم ومن معهم من العرب من بني معد بن عدنان وقحطان مع إياس بن قبيصة الطائي ، فالتقوا بذي قار

__________________

(١) من مواقيت الاحرام ومنازل طريق الحجاز الى العراق ، آخر العقيق وأول تهامة عن مكّة على نحو مرحلتين ـ مجمع البحرين.

٢٠٠