الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

قالوا : فكان زياد يقاتلهم النهار إلى الليل ، فلما كان يوم من تلك الأيام ، ضاربهم كذلك حتى أمسى ، ولم يكن فيما مضى يوم أشد منه ، كانت بينهم فيه قتلى وجراح. قال أبو هند : برز منهم يومئذ رجل يدعو إلى البراز ، فبرزت إليه ، فتشاولنا بالرمحين نهارا طويلا ، فلم يظفر واحد منا بصاحبه ، ثم صرنا إلى السيفين ، فما قدر واحد منا على صاحبه ، ونحن فارسان إلى أن عثر فرسه ، فاقتحم وصار راجلا ، ويدرك فرسى فيضرب عرقوبيه ، فوقعت إلى الأرض ، وأفضى أحدنا إلى صاحبه ، فبدرته ، فأضربه ، فأقطع يده من المنكب ، فوقع السيف من يده ، وولى منهزما ، وألحقه ، فأجهزت عليه ، فما خرج أحد يدعو إلى البراز حتى صلح أمرهم.

قالوا : فلما أمسوا من ذلك اليوم ، وتفرقوا ، وزياد فى بيته قد بعث العيون ، إذ جاءه عين له بعد أن ذهب عامة الليل فدله على عورة من عدوه ، وقال : هل لك فى الظفر؟ فقال : ما هو؟ قال : ملوكهم الأربعة فى محجرهم قد ثملوا من الشراب ، فسار من ساعته فى مائة رجل من أصحابه حتى انتهوا إلى المحجر ، فتقدم العين فاستمع الصوت فإذا القوم قد هدوا وناموا ، فأغار عليهم ، فقتل الملوك الأربعة ، مخرس ومشرح وحمد وأبضعة ، وأختهم العمرة ذبحهم ذبحا ، وكانوا ملوك كندة وأشرافهم.

ويقال : كانت الملوك سبعة : الأشعث بن قيس ، ومخرس ، وحمد ، ووديعة ، وأبضعة ، ومشرح ، ووليعة. فقتل منهم أربعة ، ثم رجع زياد إلى أهله ، فأصبح القوم قد انكسر حدهم وذلوا.

وقالوا : إن العمردة لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ضربت بغربال ، فقطع زياد لذلك يدها ، وصلبها ، فهى كانت أول امرأة قتلت فى الردة.

وبعث زياد أبا هند إلى أبى بكر وكتب معه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، لأبى بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من زياد بن لبيد ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الناس قبلنا منعوا الصدقة ، أو عامتهم وأبوا أن يسلموها ، وقاتلوا دونها أشد القتال ، وأظهروا الردة عن الإسلام ، فبعثت عيونا فى طلب غرتهم ، فأتانى آت منهم يخبرنى بغرة منهم ، فزحفت إليهم ليلا ، فقتلتهم فى محجرهم ، وكانوا أربعة : مخرس ومشرح وحمد وأبضعة ، وأختهم العمردة ، فأصبحوا وقد ذلوا وانكسروا ، وإنى كتبت إليك والسيف على عاتقى ، وبعثت إليك أبا هند بالكتاب ، وأمرته أن يجد السير ، وأن يخبرك بما رأى وشهد ، وإن الكتاب موجز ، وعنده علم ما كنا فيه ، والسلام.

١٦١

فيروى أن أبا هند قال : خرجت من عند زياد بعد أن صليت الغداة على راحلتى ، ومعى رجل من بنى قتيرة على راحلة خفير لى ، فبلغ بى صنعاء ، ثم انصرف ، فسرت من حضرموت إلى المدينة تسع عشرة ، فأرخفت (١) راحلتى ، وما مسيت عنها أكثر مما ركبت ، وانتهيت إلى أبى بكر ، فأجده حين خرج إلى الصلاة ، فلما رآنى قال : أبا هند ، ما ورائك؟ قلت : خير ، والذي يسرك. قتل الملوك الأربعة وأختهم العمردة ، قال : قد كنت كتبت إلى زياد أنهى أن يقتل الملوك من كندة ، وبعثت بذلك المغيرة بن شعبة ، أما لقيته؟ قلت : ما لقيته.

وقدم المغيرة خلافى ، وذلك أنه أخطأ الطريق ، فذلك الذي أبطأ به ، وجعل أبو بكر يسألنى ، فأخبره عن كل ما يسره ، ثم قال : ما فعل الأشعث بن قيس؟ قلت : يا خليفة رسول الله ، هو أول من نقض ، وهو رأس من بقى ، وقد ضوى إليه ناس كثير ، وقد تحصن فى النجير بمن معه ممن هو على رأيه ، والله مخزيهم ، وقد تركت زياد بن لبيد يريد محاصرتهم ، فقال أبو بكر : قد كتبت إلى المهاجر بن أبى أمية أن يمد زيادا ويكون أمرهما واحدا.

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قتل الأسود العنسى (٢) بعث المهاجر واليا على صنعاء ، فتوفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمهاجر وال عليها ، فانحاز إلى زياد بحضرموت ، كما أمره أبو بكر.

وكانت قتيرة من كندة قد ثبتت على الإسلام ، لم يرجع منها رجل واحد ، فلما قدم المهاجر على زياد اشتد أمرهما ، وكانا يحاصران أهل النجير ، وكان أهل النجير قد غلقوه ، فلما قتل الملوك الأربعة دخلوا مع الأشعث بن قيس ، وجثم زياد ومهاجر على النجير ، فحاصروا أهله بالمسلمين ، لا يفارقونه ليلا ولا نهارا ، وقذف الله الرعب فى أفئدتهم ، فلما اشتد به الحصار ، بعثوا إلى زياد بن لبيد : أن تنح عنا حتى نكون نخرج ونخليك والحصن ، فقال : لا أبرح شبرا واحدا حتى نموت من آخرنا أو تنزلوا على حكما ورأينا ، وجعل يكايدهم لما يرى من جزعهم. فكتب كتابا ، ثم بعث به فى السر مع رجل من بنى قتيرة ليلا ، مسيرة يوم أو بعض يوم ، ثم يأتيه بكتابه الذي كتبه فيقرؤه على الناس :

من أبى بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى زياد بن لبيد ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك

__________________

(١) أرخف : بالكسر أى تعب. انظر اللسان (١٦١٦).

(٢) انظر خبر قتل الأسود العنسى فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٢٣٦).

١٦٢

الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فقد بلغنى ردة من ارتد قبلك بعد المعرفة بالدين ، غرة بالله ، والله مخزيهم إن شاء الله ، فاحصرهم ولا تقبل منهم إلا ما خرجوا منه أو السيف. فقد بعثت إليك عشرة آلاف رجل عليهم فلان بن فلان ، وخمسة آلاف عليهم فلان بن فلان ، وقد أمرتهم أن يسمعوا لك ويطيعوا ، فإذا جاءك كتابى هذا فإن أظفرك الله بهم فإياك والبقيا فى أهل النجير ، حرق حصنهم بالنار ، واقطع معايشهم ، واقتل المقاتلة ، واسب الذرية ، وابعث بهم إن شاء الله.

وإنما هذا كتاب كتبه زياد بيده مكايدة لعدوه ، فكانوا إذا قرئ عليهم هذا الكتاب أيقنوا بالهلكة ، واشتد عليهم الحصار ، وندموا على ما صنعوا ، فبينا هم على ذلك الحصار قد جهدهم ، قال الأشعث : إلى متى هذا الحصر قد غرثنا وغرث عيالنا ، وهذه البعوث تقدم علينا بما لا قبل لنا به ، وقد ضعفنا عمن معنا ، فكيف بمن يأتينا من هذه الأمداد والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع ، أو يؤخذ برقبة الرجل كما يصنع بالذرية. قالوا : وهل لنا قوة بالقوم؟ فما ترى لنا؟ فأنت سيدنا ، قال : أنزل فآخذ لكم الأمان قبل أن تدخل هذه الأمداد ، بما لا قبل لنا به ، فجعل أهل الحصن يقولون للأشعث : افعل وخذ لنا أمانا ، فإنه ليس أحد أجرأ على ما قبل زياد منك ، قال : فأنا أنزل.

فأرسل إلى زياد : أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال : نعم ، فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد ، فقال : يا ابن عم ، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه ، وإن لى قرابة ورحما ، وإن أوصلتنى إلى صاحبك قتلنى ، يعنى المهاجر بن أمية (١) ، وأن أبا بكر يكره قتل مثلى ، وقد جاءك كتابه ينهاك عن قتل الملوك من كندة ، فأنا أحدهم ، وأنا أطلب منك الأمان على أهلى ومالى ، فقال زياد : لا أؤمنك أبدا على دمك وأنت كنت رأس الردة والذي نقض علىّ كندة ، فقال : أيها الرجل ، دع ما مضى واستقبل الأمور إذا أقبلت ، قال زياد : وما ذا؟ قال : وأفتح لك النجير ، فأمنه زياد على أهله وماله ، على أن يقدم به على أبى بكر ، فيرى فيه رأيه ، وفتح له النجير.

وقد كان المهاجر لما نزل الأشعث من الحصن ليكلمهم ، قال لزياد : رده إلى الحصن حتى ينزل على حكمنا فنضرب عنقه ، فنكون قد استأصلنا شأفة الردة ، فأبى زياد إلا أن يؤمنه ، وقال : أخشى أن يلومنى أبو بكر فى قتله وقد جاءنى كتابه ينهانى عن قتل الملوك الأربعة ، فأخاف مثل ذلك ، مع أن أبا بكر إن أراد قتله فله ذلك ، إنما جعل له الأمان على

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٣١) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٢٧١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥١٣٤) ، مؤتلف الدارقطنى (ص ١٦٣).

١٦٣

نفسه وماله إلى أن يبلغ أبا بكر ، لا أدع من عين ماله شيئا يخف حمله معه إلا سار به ، وأحول بينه وبين ما هاهنا مما لا يطيق حمله ، حتى يأتى رأى أبى بكر فيه ، فأمنه زياد على أن يبعث به وبأهله وبماله إلى أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، فيحكم فيه بما يرى.

وفتحوا له النجير ، فأخرجوا المقاتلة ، فعمد زياد إلى أشرافهم وهم سبعمائة فضرب أعناقهم على دم واحد ، ولام القوم الأشعث ، فقالوا لزياد : غدر بنا فأخذ الأمان لنفسه وأهله ، ولم يأخذ لنا ، وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا ، فنزلنا ونحن آمنون ، فقتلنا. فقال زياد : ما أمنتكم ، فقالوا : صدقت ، خدعنا الأشعث.

قال الواقدى : وقد ذكروا فى فتح النجير وجها آخر عن أبى مغيث ، قال : كنت فيمن حضر أهل النجير ، فصالح الأشعث زيادا على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلا ، ففعل ، فنزل سبعون رجلا ونزل معهم الأشعث ، فكانوا أحدا وسبعين ، فقال زياد : أقتلك ، لم يكن لك أمان ، فقال الأشعث : تؤمننى على أن أقدم على أبى بكر فيرى فىّ رأيه ، فآمنه على ذلك ، والقول الأول أثبت.

وبعث أبو بكر نهيك بن أوس بن [حزمة] (١) إلى زياد بن لبيد يقول : إن ظفرت بأهل النجير فاستبقهم ، فقدم عليه ليلا وقد قتل منهم فى أول النهار سبعمائة فى صعيد واحد ، قال نهيك : فما هو إلا أن رأيتهم فشبهت بهم قتلى بنى قريظة يوم قتلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى زياد أن يوارى جثثهم ، وتركهم للسباع ، فكان هذا أشد على من بقى من القتل ، وهرب أهل الردة فى كل وجه ، وكان لا يؤخذ منهم إنسان إلا قتل.

ثم بعث زياد بالسبى مع نهيك ، وبعث معه ثمانين رجلا من قتيرة ، وبعث بالأشعث معهم فى وثاق.

قال عبد الرحمن بن الحويرث : رأيته يوم قدم به المدينة فى حديد ، مجموعة يداه إلى عنقه.

ونزل نهيك بالسبى فى دار رملة بنت الحارث ، ومعهم الأشعث بن قيس ، ولما كلمه أبو بكر جعل يقول : يا خليفة رسول الله ، والله ما كفرت بعد إسلامى ، ولكنى شححت على مالى ، فقال أبو بكر : ألست الذي يقول : قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد ، وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب دارا؟ فرد عليك من هو

__________________

(١) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل ، وفى الاستيعاب الترجمة رقم (٢٦٦٧) : «نهيك بن أوس بن خزمة». وانظر ترجمته فى : الإصابة (٨٨٣٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٣١٠).

١٦٤

خير منك ، فقال : لا يدعك عامله ترجع إلى الكفر ، فقلت : من ، قال : زياد بن لبيد ، فتضاحكت ، فكيف وجدت زيادا ، أذكرت به أمه؟ قال الأشعث : نعم كل الأذكار ، ثم قال فى آخر قوله : أيها الرجل ، أطلق إسارى ، واستبقنى لحربك ، وزوجنى أختك أم فروة بنت أبى قحافة ، فإنى قد تبت مما صنعت ، ورجعت إلى ما خرجت منه من منع الصدقة ، فأسعفه أبو بكر فزوجه ، فكان الأشعث مقيما بالمدينة حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب ، وثاب الناس إلى فتح العراق ، فخرج الأشعث مع سعد بن أبى وقاص.

قالوا : وقدم على أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، أربعة عشر رجلا من كندة يطلبون أن يفادوا بينهم ، وقالوا : يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما رجعنا عن الإسلام ولكن شححنا على أموالنا ، وقد رجع من وراءنا إلى ما خرجوا منه وبايعوك راضين ، فقال أبو بكر : بعد ما ذا؟ بعد أن وطئكم السيف؟ فقالوا : يا خليفة رسول الله ، إن الأشعث غدر بنا ، كنا جميعا فى الحصن ، فكان أجزعنا ، وكان أول من نقض ، وأبى أن يدفع الصدقة ، وأمرنا بذلك ، ورأسنا ، فلم يبارك لنا فى رئاسته. فقال : أنزل وآخذ لكم الأمان جميعا ، فإن لم يكن رجعت إليكم فيصيبني ما يصيبكم ، فنزل ، فأخذ الأمان لنفسه وأهله ومواليه ، وقتلنا صبرا بالسيف.

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : قد كنت كتبت إلى زياد بن مهاجر كتابا مع نهيك بن أوس إن ظفرتما بأهل النجير فلا تقتلاهم وأنزلاهم على حكمى.

فقال المتكلم : قد والله قتل منا سبعمائة على دم واحد ، وقد رجوناك يا خليفة رسول الله.

ولما كلمه الوفد فى أن يرد عليهم السبى ويقبل منهم الفداء أجاب إلى ذلك ، وخطب الناس على المنبر ، فقال : أيها الناس ، ردوا على هؤلاء نساءهم وذراريهم ، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيب عنهم أحدا ، قد جعلنا الفداء على كل رأس منهم أربعمائة درهم.

وأمر أبو بكر زيد بن ثابت بقبض الفداء ، وأمره أيضا بإخراج الخمس.

قال الواقدى : سألت معاذ بن محمد فقلت : أرأيت الأربعة الأخماس ، حيث أمر أبو بكر أن يفدوا بأربعمائة أربعمائة ، ما فعل بها؟ قال : جمع أبو بكر ذلك كله فجعله سهمانا لأهل النجير مع ما استخرج زياد بن لبيد والمهاجر مما وجدوا فى الحصن النجير من الرثة والسلاح ، ومما أصابوا من غير ذلك ، فجعلوه مغنما.

١٦٥

وكان أبو بكر قد أمد زيادا والمهاجر بعكرمة بن أبى جهل وهو يومئذ بدبا ، فسار إليهم فى سبعمائة فارس ، وقدم بعد فتح النجير بأربعة أيام ، فأمر أبو بكر بأن يسهم لهم فى ذلك ، فأسهم لهم.

ونظرت عجوز من سبى النجير إلى الأشعث بن قيس ، فقالت : قبحت من وافد قوم ورسولهم ، أخذت الأمان لأهلك ومواليك وعرضتنا للسباء ، وقتلت رجالنا بغدرك ، ولم تواسهم بنفسك ، وأنت شأمتهم ، رأسوك فلم يبارك لهم فى رئاستك ، والله ما رجعوا عن الإسلام ولكن شحوا على أموالهم ، فقتلوا ، ورجعت أنت عن الإسلام فنجوت ، ما كان أحد قط ، أشأم على قومه منك.

ومما يحفظ من شعر الأشعث ، يذكر الجماعة الذين ضرب زياد أعناقهم من أهل النجير وهم سبعمائة كما تقدم :

فلا رزء إلا يوم أقرع بينهم

وما الدهر عندى بعدهم بأمين

فليت جنوب الناس تحت جنوبهم

ولم تمش أنثى بعدهم بجنين

فكنت كذات البو ضغت فأقبلت

إلى بوها أو طربت بحنين

لغمرى وما عمرى على بهين

لقد كنت بالقتلى أحق ضنين

ويروى أن الأشعث إنما قال هذا فى الملوك الأربعة الذين قتلوا ، ومن روى هذا أنشد الشعر هكذا :

لعمرى وما عمرىّ على بهين

لقد كنت بالأملاك حق ضنين

فإن يك هذا الدهر فرق بينهم

فما الدهر عندى بعدهم بأمين

فليت جنوب الناس تحت جنوبهم

ولم يبشرونى بعدهم بجنين

وكنت كذات البو ريعت فأقبلت

على بوها أو طربت بحنين

ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر

الصديق رضي‌الله‌عنه ، من ذلك وما قوى عزمه عليه (١)

حدث سهل بن سعد الساعدى رضي‌الله‌عنه ، قال : لما فرغ أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، من أهل الردة ، واستقامت له العرب ، حدث نفسه بغزو الروم ، ولم يطلع عليه أحدا ، فبينما هو كذلك إذ جاءه شرحبيل بن حسنة فجلس إليه ، فقال : يا خليفة رسول الله

__________________

(١) راجع المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٥) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧).

١٦٦

أحدثت نفسك أن تبعث إلى الشام جندا؟ قال : نعم ، قد حدثت نفسى بذلك ولم أطلع عليه أحدا ، وما سألتنى إلا لشىء. قال : أجل ، إنى رأيت فيما يرى النائم كأنك تمشى فى ناس من المسلمين فوق حرشفة من الجبل ، فأقبلت تمشى معهم حتى صعدت قلة فى أعاليه ، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك أولئك ، ثم هبطت من تلك القلة إلى أرض سهلة دمثة ، فيها الزروع والعيون والقرى والحصون ، فقلت : يا للمسلمين! شنوا الغار على المشركين ، فأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة!.

فشد المسلمون وأنا فيهم ومعى راية ، فتوجهت بها إلى قرية فسألونى الأمان فأمنتهم ، ثم جئت فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم ، ففتح لك ، وألقوا إليك السلم ، ووضع لك عريش فجلست عليه ، ثم قال لك قائل : يفتح عليك وتنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته ، ثم قرأ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ١ ، ٤].

ثم انتهيت ، فقال له أبو بكر رضي‌الله‌عنه : نامت عينك ، ثم دمعت عينا أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، فقال : أما الحرشفة التي كنا نمشى عليها حتى صعدنا منها إلى القلة لعالية فأشرفنا منها على الناس فإنا نكابد من أمر هذا الجند مشقة ويكابدونها ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا ، وأما نزولنا من القلة إلى الأرض السهلة الدمثة وما فيها من الزروع والعيون والقرى والحصون فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه ، فيه الخصب والمعاش ، وأما قولى للمسلمين : شنوا عليهم الغارة ، فإنى ضامن لكم بالفتح والغنيمة ، فإن ذلك توجيهى للمسلمين إلى بلاد المشركين واحتثاثى إياهم على الجهاد ، وأما الراية التي كانت معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم فدخلتها فاستأمنوك فأمنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك ، وأما الحصن الذي فتح لنا فهو ذلك الوجه ، يفتحه الله علىّ ، وأما العريش الذي رأيتنى عليه جالسا ، فإن الله يرفعنى ويضع المشركين ، وأما الذي أمرنى بالعمل وبالطاعة وقرأ علىّ السورة فإنه نعى إلىّ نفسى ، إن هذه السورة حين أنزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علم أن نفسه قد نعيت إليه ، ثم سألت عينا أبى بكر ، فقال : لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر ولأجاهدن من ترك أمر الله ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله فى مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا : الله أحد ، الله أحد ، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، أمر الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا توفانى الله لم يجدنى وانيا ، ولا فى ثواب المجاهدين فيه زاهدا ، ثم إنه عند ذلك أمر الأمراء ، وبعث إلى الشام البعوث.

وعن عبد الله بن أبى أوفى الخزاعى ، وكانت له صحبة ، قال : لما أراد أبو بكر أن

١٦٧

يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم ، فدخلوا عليه وأنا فيهم ، فقال : إن الله تبارك وتعالى ، لا تحصى نعمه ، ولا تبلغ جزاءها ، الأعمال ، فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم ، قد جمع كلمتكم ، وأصلح ذات بينكم ، وهداكم إلى الإسلام ، ونفى عنكم الشيطان ، فليس يطمع أن تشركوا بالله ولا أن تتخذوا إلها غيره ، فالعرب اليوم بنو أم وأب ، وقد رأيت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام ، فمن هلك منهم هلك شهيدا ، وما عند الله خير للأبرار ، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين ، مستوجبا على الله ثواب المجاهدين ، هذا رأيى الذي رأيت ، فليشر على كل امرئ بمبلغ رأيه(١).

فقام عمر رضي‌الله‌عنه ، فقال : الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه ، والله ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقتنا إليه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأى الذي ذكرت غير مرة ، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن ، فقد أصبت ، أصاب الله بك سبيل الرشاد ، سرب إليهم الخيل فى أثر الخيل ، وابعث الرجال بعد الرجال ، والجنود يتبعها الجنود ، فإن الله تعالى ناصر دينه ، ومعز الإسلام وأهله ، ومنجز ما وعده رسوله.

ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه قام ، فقال : يا خليفة رسول الله ، إنما الروم بنو الأصفر حد حديد ، وركن شديد ، والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما ، ولكن تبعث الخيل فتغير فى أدنى أرضهم ، وترجع إليك ، فإذا فعلوا ذلك مرارا أضروا بهم ، وغنموا من أدانى أرضهم ، فقووا بذلك على قتالهم ، ثم تبعث إلى أقاصى أهل اليمن ، وأقاصى ربيعة ومضر ، فتجمعهم إليك جميعا ، فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك ، وإن شئت أغزيتهم غيرك.

ثم جلس وسكت ، وسكت الناس ، فقال لهم أبو بكر : ما ذا ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله ، ثم قال:نرى أنك ناصح لأهل هذا الدين ، شفيق عليهم ، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم رشدا وصلاحا فاعزم على إمضائه ، فإنك غير ضنين عليهم ولا متهم.

فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (١ وما بعدها).

١٦٨

من المهاجرين والأنصار : صدق عثمان ، ما رأيت من الرأى فامضه ، فإنا سامعون لك ، مطيعون ، لا نخالف أمرك ، ولا نتهم رأيك ، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك.

فذكروا هذا وأشباهه ، وعلى رضي‌الله‌عنه ، فى القوم لا يتكلم ، فقال له أبو بكر رضي‌الله‌عنهما : ما ذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال : أرى أنك مبارك الأمر ، ميمون النقيبة ، وإنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله تعالى. قال : بشرك الله بخير ، ومن أين علمت هذا؟.

قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «لا يزال هذا الدين ظاهرا على كل من ناوأه حتى تقوم الساعة وأهله ظاهرون» (١).

فقال أبو بكر : سبحانه الله! ما أحسن هذا الحديث ، لقد سررتنى به ، سرك الله فى الدنيا والآخرة.

ثم إنه قام فى الناس فذكر الله بما هو أهله ، وصلى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أيها الناس ، إن الله تعالى ، قد أنعم عليكم بالإسلام ، وأعزكم بالجهاد ، وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين ، فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام ، فإنى مؤمر عليكم أمراء ، وعاقد لهم عليكم ، فأطيعوا ربكم ، ولا تخالفوا أمراءكم ، ولتحسن نيتكم وسريرتكم وطعمتكم ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

فسكت القوم ، فو الله ما أجابه أحد هيبة لغزو الروم ، لما يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم ، فقام عمر رحمه‌الله ، فقال : يا معشر المسلمين ، ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم؟ أما لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لابتدرتموه! فقام إليه عمرو بن سعيد فقال : يا ابن الخطاب ، ألنا تضرب أمثال المنافقين؟ فما يمنعك مما عتبت علينا فيه؟. فقال : الاتكال ، على أنه يعلم أنى أجيبه لو يدعونى ، وأغزو لو يغزينى.

فقال عمرو : ولكن نحن لا نغزو لكم إن غزونا ، فإنما نغزو لله ، فقال أبو بكر لعمرو: اجلس رحمك الله ، فإن عمر لم يرد بما سمعت أذى مسلم ولا تأنيبه ، إنما أراد أن يبعث بما سمعت المتثاقلين إلى الأرض عن الجهاد ، فقام خالد بن سعيد (٢) فقال : صدق خليفة

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٥ / ٨٧) ، المستدرك للحاكم (٤ / ٤٤٩) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٤١٧٢ ، ٣٤٥٥٨) ، الدر المنثور للسيوطى (٣ / ١٨).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٦١٧) ، الإصابة الترجمة رقم (٢١٧٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٣٦٥) ، نسب قريش (١٧٤) ، طبقات ابن خليفة (١١ / ٢٩٨) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (١٧٢) ، تاريخ الإسلام (١ / ٣٧٨) ، العقد الثمين (٤ / ٢٦٧).

١٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجلس يا أخى ، فجلس أخوه ، فقال خالد : الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، الذي بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، فالله منجز وعده ، ومعز دينه ، ومهلك عدوه.

ثم أقبل على أبى بكر فقال : ونحن أولا غير مخالفين لك ، ولا متخلفين عنك ، وأنت الوالى الناصح الشفيق ، ننفر إذا استنفرتنا ، ونطيعك إذا أمرتنا ، ونجيبك إذا دعوتنا ، ففرح بمقالته أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وقال له : جزاك الله خيرا من أخ وخليل ، فقد أسلمت مرتغبا ، وهاجرت محتسبا ، وهربت بدينك من الكفار لكى يطاع الله ورسوله وتعلو كلمته ، فأنت أمير الناس ، فتيسر رحمك الله.

ثم إنه نزل ، ورجع خالد بن سعيد فتجهز ، وأمر أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، بلالا فأذن فى الناس : انفروا أيها الناس إلى جهاد عدوكم : الروم بالشام ، وأمير الناس خالد بن سعيد ، فكان الناس لا يشكون أن خالدا أميرهم ، وكان خالد بن سعيد من عمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جاء المدينة وقد استخلف الناس أبا بكر ، فاحتبس عن أبى بكر ببيعته أياما ، وأتى بنى هاشم وقال : أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار ، فإذا رضيتم رضينا ، وإذا سخطتم سخطنا ، حدثونى : أبايعتم هذا الرجل؟ قالوا : نعم ، قال : على بر ورضى من جماعتكم؟ قالوا : نعم ، قال : فإنى أرضى إذا رضيتم ، وأبايع إذا بايعتم ، أما أنكم والله يا بنى هاشم فينا لطوال الشجر ، طيبو الثمر ، ثم بايع أبا بكر بعد ذلك.

وبلغت مقالته أبا بكر فلم يبال ، واضطغن ذلك عليه عمر ، فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام ، أتى عمر ، أبا بكر فقال : أتولى خالد بن سعيد وقد حبس عنك بيعته ، وقال لبنى هاشم ما بلغك ، وقد جاء بورق اليمن وعبيد له حبشان وبدروع ورماح؟ ما أرى أن توليه وما آمن خلافه ، وكان أبو بكر لا يخالف عمر ولا يعصيه ، فدعا يزيد بن أبى سفيان ، وأبا عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل بن حسنة ، فقال لهم : إنى باعثكم فى هذا الوجه ، ومؤمركم على هذا الجند ، وأنا باعث على كل رجل من الرجال ما قدرت عليه ، فإذا قدمتم البلد ولقيتم العدو فاجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة. وإن أبو عبيدة لم يلقكما وجمعتكما حرب فيزيد بن أبى سفيان الأمير ، انطلقوا فتجهزوا.

فخرج القوم يتجهزون ، وبلغ ذلك خالد بن سعيد ، فتيسر وتهيأ بأحسن هيئة ، ثم أقبل نحو أبى بكر وعنده المهاجرون والأنصار أجمع ما كانوا ، وقد تيسر الناس ، وأمروا بالعسكرة مع هؤلاء النفر الثلاثة ، فسلم على أبى بكر وعلى المسلمين ، ثم جلس ، فقال

١٧٠

لأبى بكر : أما إنك كنت وليتنى أمر الناس ، وأنت لى غير متهم ، ورأيك فىّ حسن حتى خوفت منى أمرا ، والله لأن أخر من رأس حالق أو تخطفنى الطير فى الهواء بين الأرض والسماء أحب إلىّ من أن يكون ما ظن ، والله ما أنا فى الإمارة براغب ، ولا على البقاء فى الدنيا بحريص ، وإنى أشهدكم أنى وإخوتي وفتيانى ومن أطاعنى من أهلى جيش فى سبيل الله نقاتل المشركين أبدا حتى يهلكهم الله أو نموت ، لا نريد به حمد الناس ولا جزاءهم ، فقال له الناس خيرا ، ودعوا له به ، وقال أبو بكر رحمه‌الله : أوتيت فى نفسى وولدى ما أحب لك ولإخوتك ، والله إنى لأرجو أن تكون من نصحاء الله فى عباده ، وإقامة كتابه ، واتباع سنة رسوله (١).

فخرج هو وإخوته وغلمته ومن معه ، فكان أول خلق الله عسكر ، ثم خرج الناس إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومائة فى كل يوم حتى اجتمع الناس وكثروا ، فخرج أبو بكر ذات يوم ، ومعه من الصحابة كثير حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة ، فلم يرض كثرتها للروم ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون فى هؤلاء؟ أترون أن نشخصهم إلى الشام فى هذه العدة؟ فقال له عمر : ما أرضى بهذه العدة لجموع بنى الأصفر ، فأقبل على أصحابه فقال : ما ذا ترون؟ فقالوا : ونحن أيضا ، نرى ما رأى عمر ، فقال أبو بكر : أفلا نكتب كتابا إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم فى ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه ، فقالوا : نعم ما رأيت ، فافعل.

فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى من قرئ عليه كتابى هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن ، سلام عليكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإن الله تبارك وتعالى ، كتب على المسلمين الجهاد ، وأمرهم أن ينفروا فيه خفافا وثقالا ، فقال جل ثناؤه : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الصف : ٩] ، فالجهاد فريضة مفروضة ، وثوابه عند الله عظيم ، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ، وقد سارعوا إلى ذلك ، وعسكروا وخرجوا ، وحسنت نيتهم وعظمت حسبتهم ، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم وسنة نبيكم ، وإلى إحدى الحسنيين : إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة ، إن الله جل ذكره ، لم يرض من عباده بالقول دون العمل ، ولا بترك الجهاد فيه أهل عداوته حتى يدينوا بالحق ويقروا بحكم الكتاب ، حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم ، وزكى أعمالكم ، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين ، والسلام عليكم.

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧ ، ٣٨٨).

١٧١

وبعث بالكتاب مع أنس بن مالك. قال أنس : أتيت اليمن فبدأت بهم حيا حيا (١) ، وقبيلة قبيلة ، أقرأ عليهم كتاب أبى بكر الصديق ، فإذا فرغت من قراءته قلت : الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما بعد ، فإنى رسول خليفة رسول الله إليكم ، ورسول المسلمين ، ألا وإنى قد تركتهم معسكرين ، ليس يمنعهم عن الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم ، فعجلوا إلى إخوانكم بالنفر ، رحمكم الله أيها المسلمون.

قال : فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع منى هذا القول يحسن الرد ويقول: نحن سائرون ، وكأن قد فعلنا حتى انتهيت إلى ذى الكلاع (٢) ، فلما قرأت عليه الكتاب ، وقلت له هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض فى قومه ، وأمر بالعسكرة ، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن ، وسارعوا ، فلما اجتمعوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ، ثم قال :

أيها الناس ، إن من رحمة الله إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم نبيا أنزل عليه الكتاب فأحسن عنه البلاغ ، فعلمكم ما يرشدكم ، ونهاكم عما يفسدكم ، حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، ورغبكم من الخير فما لم تكونوا فيه ترغبون ، وقد دعاكم إخوتكم الصالحون إلى جهاد المشركين ، واكتساب الأجر العظيم ، فلينفر من أراد النفر معى الساعة.

قال : فنفر بعدد من الناس كثير ، وأقبل بهم إلى أبى بكر رحمه‌الله ، فرجعنا نحن فسبقناه بأيام فوجدنا أبا بكر بالمدينة ووجدنا ذلك العسكر على حاله ، وأبو عبيدة يصلى بأهل ذلك العسكر.

فلما قدمت حمير معها أولادها ونساؤها ، فرح بهم أبو بكر وقام فقال : عباد الله ، ألم نكن نتحدث فنقول إذا مرت حمير معها نساؤها تحمل أولادها : نصر الله المسلمين وخذل المشركين؟ فأبشروا أيها المسلمون ، قد جاءكم النصر.

قال : وجاء قيس بن هبيرة بن مكشوح المرادى معه جمع كثير حتى أتى أبا بكر فسلم

__________________

(١) فى تاريخ فتوح الشام : «.... أتيت أهل اليمن جناحا جناحا ، وقبيلة قبيلة ، أقرأ عليهم ..».

(٢) ذى الكلاع : هو : «أيفع بن يزيد بن النعمان» ، وسمى بذلك لأن حمير تلكعوا ، أى اتحدوا وتحالفوا على يديه وهو الذي خطب الناس وحرضهم على القتال. انظر ترجمته فى : شذرات الذهب (١ / ٢١٤).

١٧٢

عليه ثم جلس ، فقال له : ما تنتظر ببعثة هذه الجنود؟ قال : ما كنا ننتظر إلا قدومكم ، قال : فقد قدمنا ، فابعث الناس الأول فالأول ، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع(١).

قال : فعند ذلك خرج أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، يمشى ، فدعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له ، ودعا ربيعة بن عامر من بنى عامر بن لؤيّ فعقد له ، ثم قال له : أنت مع يزيد بن أبى سفيان لا تعصه ولا تخالفه ، ثم قال ليزيد : إن رأيت أن توليه مقدمتك فافعل ، فإنه من فرسان العرب وصالحاء قومك ، وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين ، فقال يزيد : لقد زاده إلىّ حبا حسن ظنك به ورجاؤك فيه ، ثم إنه خرج معه يمشى ، فقال له يزيد : يا خليفة رسول الله ، إما أن تركب ، وإما أن تأذن لى فأمشى معك ، فإنى أكره أن أركب وأنت تمشى ، فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : ما أنا براكب ، وما أنت بنازل ، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله ، ثم أوصاه فقال :

يا يزيد ، إنى أوصيك بتقوى الله وطاعته ، والإيثار له ، والخوف منه ، وإذا لقيتم العدو فأظفركم الله به فلا تغلل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن ، ولا تقتلن وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكل ، وستمرون بقوم فى هذه الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له ، وستجدون آخرين فحص الشيطان أوساط رءوسهم كأن أوساطها أفاحيص (٢) القطا ، فأضربوا بالسيف ما فحصوا عنه من رءوسهم حتى ينيبوا إلى الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب. وأقرأ عليك السلام ، وأستودعك الله.

ثم أخذ بيده فودعه ، ثم قال : إنك أول امرئ وليته على رجال من المسلمين أشراف غير أوضاع فى الناس ، ولا ضعفاء ولا أدنياء ولا جفاة فى الدين ، فأحسن صحبتهم ، وألن لهم كتفك ، واخفض لهم جناحك ، وشاورهم فى الأمر ، أحسن أحسن الله لك الصحابة ، وعلينا الخلافة.

فخرج يزيد فى جيشه قبل الشام ، وكان أبو بكر رحمه‌الله ، كل غدوة وعشية يدعو فى دبر صلاة الغداة ، ويدعو بعد صلاة العصر ، فيقول : اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئا ،

__________________

(١) الخف : الإبل. والكراع : الخيل.

(٢) أفاحيص : جمع أفحوص ، وهو التراب ، تتخذ فيه طيور القطا مساكن لها.

١٧٣

ثم بعثت إلينا رسولا رحمة منك وفضلا علينا ، فهديتنا وكنا ضلالا ، وحببت إلينا الايمان وكنا كفارا ، وكثرتنا وكنا قليلا ، وجمعتنا وكنا أشتاتا ، وقويتنا وكنا ضعفاء ، ثم فرضت علينا الجهاد وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، اللهم إنا أصبحنا نطلب رضاك ، بجهاد من عاداك ، ثم عدل بك وعبد معك آلهة غيرك ، لا إله إلا أنت تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين ، اللهم افتح لهم فتحا يسيرا ، وانصرهم نصرا عزيزا ، وشجع جبنهم ، وثبت أقدامهم وزلزل بعدوهم ، وأدخل الرعب قلوبهم ، واستأصل شأفتهم ، واقطع دابرهم ، وأبد خضراءهم ، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم وآثارهم ، وكن لنا وليا ، وبنا حفيا ، وأصلح لنا شأننا ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ، إنه بالمؤمنين رءوف رحيم.

وعن أنس قال : لما بعث أبو بكر رحمه‌الله ، يزيد بن أبى سفيان إلى الشام لم يسر من المدينة حتى جاء شرحبيل بن حسنة إلى أبى بكر ، فقال : يا خليفة رسول الله ، إنى قد رأيت فيما يرى النائم كأنك فى جماعة من المسلمين كثيرة ، وكأنك بالشام ونحن معك ، إذ استقبلك النصارى بصلبها ، والبطارقة بكتبها ، وانحطوا عليك من كل شرف وحدب ، وكأنهم السيل ، فاعتصمنا بلا إله إلا الله ، وقلنا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، ثم نظرنا فإذا نحن بالقرى والحصون من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم ، فإذا نحن بآت قد أتى ، فنزل بأعلى شاهقة فى الجبل حتى استوى بالحضيض ، ثم أخرج كفه وأصابعه فإذا هى نار ، ثم إنه أهوى بها إلى ما قابله من القرى والحصون ، فصارت نارا تأجج ، ثم إنها خبت فصارت رمادا ، ثم نظرنا إلى ما استقبلنا من نصاراهم وبطارقتهم وجموعهم فإذا الأرض قد ساخت بهم ، فرفع الناس رءوسهم وأيديهم إلى ربهم يحمدونه ويمجدونه ويشكرونه ، فهذا ما رأيت ، ثم انتبهت.

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : نامت عينك ، هذه بشرى ، وهو الفتح إن شاء الله لا شك فيه ، وأنت أحد أمرائى ، فإذا سار يزيد بن أبى سفيان فأقم ثلاثا ثم تيسر للسير ، ففعل ، فلما مضى اليوم الثالث أتاه من الغد يودعه ، فقال له : يا شرحبيل ، ألم تسمع وصيتي يزيد بن أبى سفيان؟ قال : بلى ، قال : فإنى أوصيك بمثلها ، وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن لابن أبى سفيان ، أوصيك بالصلاة لوقتها ، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل ، وبعيادة المرضى وحضور الجنائز ، وبذكر الله كثيرا على كل حال ، فقال له أبو

١٧٤

سفيان : إن هذه الخصال كان يزيد بهن مستوصيا ، وعليهن مواظبا قبل أن يسير إلى الشام ، فهو الآن لهن ألزم إن شاء الله تعالى. فقال شرحبيل : الله المستعان ، وما شاء الله أن يكون كان ، ثم ودع أبا بكر وخرج فى جيشه قبل الشام ، وبقى عظم الناس مع أبى عبيدة فى العسكر يصلى بهم ، وأبو عبيدة ينتظر كل يوم أن يدعوه أبو بكر ، فيسرحه ، وأبو بكر ينتظر به قدوم العرب عليه من كل مكان ، يريد أن يشحن أرض الشام من المسلمين ، ويريد إن زحفت إليهم الروم أن يكونوا مجتمعين ، فقدمت عليه حمير فيها ذو الكلاع ، واسمه أيقع ، وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادى معه جمع عظيم من قومه ، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث الزبيدى ، وجاء حابس بن سعد الطائى فى عدد كثير من طيئ ، وجاءت الأزد فيهم جندب بن عمرو بن حممة الدوسى ، وفيهم أبو هريرة ، وجاءت جماعة من قبائل قيس ، فعقد أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، لميسرة بن مسروق العبسى عليهم ، وجاء قباث بن أشيم فى بنى كنانة ، فأما ربيعة وأسد وتميم فإنهم كانوا بالعراق.

وعن سهل بن سعد أن أبا بكر ، رحمه‌الله ، لما أراد أن يبعث أبا عبيدة دعاه ، فأتاه فسلم عليه ، ثم جلس ، فمكث أبو بكر مليا لا يكلمه ، فظن أبو عبيدة أنه هم بعزله كما عزل خالد بن سعيد وهو يستحى أن يستقبله به ، فقال : يا خليفة رسول الله ، إن كنا لا نصلح لكم ولا نحبكم ولا ننصحكم إلا بأن تولونا فلسنا بإخوان فى الله ، وإن كنا لا نجاهد فى سبيل الله ولا نقاتل أعداء الله إلا أن نكون أمراء رؤساء فلسنا الله نريد بجهادنا ، وإنما ننوى به إذا الفخر فى الدنيا ، إنى أطلب إليك أن تعزلنى عن هذا الجند وتولى عليه من أحببت وأنا أخرج معه ، فأشير عليه برأيى وأنصحه جهدى ، وأواسى المسلمين بنفسى. فقال أبو بكر : سبحان الله ، يا أبا عبيدة أظننت أنك ممن نتهمه أو ممن نبتغى به بدلا أو ممن نتخوف أن يأتى المسلمين من قبله وهن أو خلاف أو فساد؟ معاذ الله أن نكون من أولئك ، ثم قال له :

اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم يعمل بما أمر به ، إنك تخرج فى أشراف العرب وبيوتات الناس وصالحاء المسلمين وفرسان الجاهلية ، كانوا إذ ذاك يقاتلون حمية ، وهم اليوم يقاتلون على النية الحسنة والحسبة ، أحسن صحبة من صحبك ، وليكونوا عندك فى الحق سواء ، فاستعن بالله ، وكفى به معينا ، وتوكل عليه وكفى بالله وكيلا. اخرج من غد إن شاء الله ، فخرج من عنده ، فلما ولى قال : يا أبا عبيدة ، فانصرف إليه ، فقال له : إنى أحب أن تعلم كرامتك علىّ ، ومنزلتك منى ، والذي نفسى بيده ، ما على

١٧٥

الأرض من المهاجرين ولا غيرهم من أعدله بك ، ولا بهذا ، يعنى عمر ، رحمه‌الله ، ولا له عندى فى المنزلة إلا دون ما لك. فقال أبو عبيدة : رحمك ربك يا خليفة رسول الله ، هذا كان ظنى بك.

قال : فانصرف ، فلما كان من الغد خرج أبو بكر فى رجال من المسلمين على رواحلهم ، حتى أتى أبا عبيدة ، فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع ، ثم قال حين أراد أن يفارقه : يا أبا عبيدة ، اعمل صالحا ، وعش مجاهدا ، ولتتوف شهيدا ، وليعطك الله كتابك بيمينك ، ويقر عينك فى دنياك وآخرتك ، فو الله إنى لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين الزاهدين فى الدنيا الراغبين فى الآخرة ، إن الله تبارك وتعالى قد صنع بك خيرا وساقه إليك إذ جعلك تسير فى جيش من المسلمين تقاتل به من كفر بالله وعبد غيره.

فقال أبو عبيدة : رحمك الله يا خليفة رسول الله ، فنشهد بفضلك فى إسلامك ، ومناصحتك الله ، ومجاهدتك بعد رسول الله من تولى عن دين الله حتى ردهم الله بك إلى الدين وهم صاغرون ، ونشهد أنك رحيم بالمؤمنين ، ذو غلظة على الكافرين ، فبورك لك فيما عملت ، وسددت فيما حملت ، إن أكن صالحا فلربى المنة علىّ بصلاحى ، وإن أكن فاسدا فهو ولى إصلاحى ، وأما أنت فنرى أن نجيبك إذا دعوت ، وأن نطيعك إذا أمرت.

ثم إنه تأخر ، وتقدم إليه معاذ بن جبل فقال : يا خليفة رسول الله ، إنى أردت أن يكون ما أكلمك به الآن بالمدينة قبل شخوصنا عنها ، ثم بدا لى أن أؤخر ما أردت من ذلك حتى يكون عند وداعى ، فيكون ذلك آخر ما أفارقك عليه ، قال : هات يا معاذ ، فو الله إنك ما علمت لسديد القول ، موفق الرأى ، رشيد الأمر ، فأدنى راحلته ، ومقود فرسه فى يده ، وهو متنكب القوس ومتقلد السيف ، فقال : إن الله تعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، برسالته إلى خلقه ، فبلغ ما أحب أن يبلغ ، وكان كما أحب ربه أن يكون ، فقبضه الله إليه وهو محمود مبرور صلوات الله عليه وبركاته ، إنه حميد مجيد ، جزاه الله عن أمته كأحسن ما يجزى النبيين ، ثم إن الله تعالى استخلفك أيها الصديق عن ملأ من المسلمين ، ورضى منهم بك ، فارتد مرتدون ، وأرجف مرجفون ، ورجعت راجعة عن هذا الدين ، فأدهن بعضنا ، وحار جلنا ، وأحب المهادنة والموادعة طائفة منا ، واجتمع رأى الملأ الأكابر منا أن يتمسكوا بدينهم ويعبدوا الله حتى يأتيهم اليقين ، ويدعوا الناس وما ذهبوا إليه ، فلم ترض منهم بشيء كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يرده عليهم ، فنهضت بالمسلمين ، وشمرت للمجرمين ، وشددت بالمطيع المقبل على العاصى المدبر ، حتى أجاب إلى الحق من كان عند عنه ،

١٧٦

وزجل عن الباطل من كان مرتكسا فيه ، فلما تمت نعمة الله عليك وعلى المسلمين فى ذلك قدت المسلمين إلى هذا الوجه الذي يضاعف الله لهم فيه الأجر ، ويعظم لهم الفتح والمغنم ، فأمرك مبارك ، ورأيك محمود ورشيد ، ونحن وصالحو المؤمنين نسأل الله لك المغفرة والرحمة الواسعة والقوة فى العمل بطاعة الله فى عافية ، وإن هذا الذي تسمع من دعائى وثنائى ومقالتى لتزداد فى فعل الخير رغبة ، وتحمد الله تعالى على النعمة ، وأنا معيد هذا على المؤمنين ليحمدوا الله على ما أبلاهم واصطنع عندهم بولايتك عليهم.

ثم أخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فودعه ، ودعا له ، ثم تفرقا ، وانصرف أبو بكر رحمه‌الله ، ومضى ذلك الجيش ، وقال رجل من المسلمين لخالد بن سعيد وقد تهيأ للخروج مع أبى عبيدة : لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبى سفيان كان أمثل من خروجك مع غيره. فقال : ابن عمى أحب إلىّ من هذا فى قرابته ، وهذا أحب إلىّ من ابن عمى فى دينه ، هذا كان أخى فى دينى على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وولىّ وناصرى على ابن عمى قبل اليوم ، فأنا به أشد استئناسا وإليه أشد طمأنينة.

فلما أراد أن يغدو سائرا إلى الشام لبس سلاحه ، وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم : عمرا ، وأبانا ، والحكم ، وعلقمة ومواليه ، ثم أقبل إلى أبى بكر ، رحمه‌الله ، عند صلاة الغداة فصلبى معه ، فلما انصرفوا قام إليه هو وإخوته ، فجلسوا إليه ، فحمد الله خالد وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : يا أبا بكر ، إن الله تبارك وتعالى ، قد أكرمنا وإياك والمسلمين عامة بهذا الدين ، فأحق من أقام السنة وأمات البدعة وعدل فى السيرة الوالى على الرعية ، وكل امرئ من أهل هذا الدين محفوف بالإحسان ، ومعدلة الوالى أعم نفعا ، فاتق الله يا أبا بكر فيمن ولاك أمره ، وارحم الأرملة واليتيم ، وأعن الضعيف والمظلوم ، ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر عندك فى الحق منه إذا سخطت عليه ، ولا تغضب ما قدرت على ذلك ، فإن الغضب يجر الجور ، ولا تحقد على مسلم وأنت تستطيع ، فإن حقدك على المسلم يجعلك له عدوا ، وإن اطلع على ذلك منك عاداك ، وإذا عادى الوالى الرعية وعادت الرعية الوالى كان ذلك قمنا أن يكون إلى هلاكهم داعيا ، ولن للمحسن واشتد على المريب ، ولا تأخذك فى الله لومة لائم.

ثم قال : هات يدك يا أبا بكر ، فإنى لا أدرى أنلتقى فى الدنيا أم لا ، فإن قضى الله لنا فى الدنيا البقاء ، فنسأل الله عفوه وغفرانه ، وإن كانت هى الفرقة التي ليس بعدها لقاء ، فعرفنا الله وإياك وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى جنات النعيم.

١٧٧

فأخذ أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، بيده فبكى ، وبكى خالد ، وبكى المسلمون وظنوا أنه يريد الشهادة ، وطال بكاؤهم ، ثم إن أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، قال : انتظر نمشى معك ، قال : ما أريد أن تفعل ، قال : لكنى أريد ذلك ، ومن أراده من المسلمين ، فقام ، وقام الناس معه حتى خرج من بيوت المدينة ، فما رأيت مشيعا من المسلمين شيعه أكثر ممن شيع خالد بن سعيد يومئذ وإخوته ، فلما خرج من المدينة قال أبو بكر : إنك قد أوصيتنى برشدى وقد وعيت ، وأنا موصيك فاسمع وصاتى وعها ، إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة فى الإسلام وفضيلة عظيمة ، والناس ناظرون إليك ومستمعون منك ، وقد خرجت فى هذا الوجه العظيم الأجر وأنا أرجو أن يكون خروجك فيه بحسبة ونية صادقة إن شاء الله تعالى ، فثبت العالم ، وعلم الجاهل ، وعاتب السفيه المسرف ، وانصح لعامة المسلمين ، واخصص الوالى على الجهد من نصيحتك ومشورتك بما يحق لله وللمسلمين عليك ، واعمل لله كأنك تراه ، واعدد نفسك فى الموتى وأعلم أنا عما قليل ميتون ثم مبعثون ثم مسئولون ومحاسبون ، جعلنا الله وإياك لأنعمه من الشاكرين ، ولنقمه من الخائفين.

ثم أخذ بيده فودعه ، وأخذ بأيدى إخوته بعد ذلك فودعهم واحدا واحدا ، ثم ودعهم المسلمون ، ثم إنهم دعوا بإبلهم فركبوها ، وكانوا قبل ذلك يمشون مع أبى بكر رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، ثم قيدت معهم خيلهم ، فخرجوا بهيئة حسنة ، فلما أدبروا قال أبو بكر : اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، واحطط أوزارهم وأعظم أجورهم. ثم انصرف أبو بكر ومن معه من المسلمين.

وقد قيل : إن أبا بكر رحمه‌الله ، جعل خالدا ردءا بتيماء لما عزله عن الجند وأطاع عمر رحمه‌الله (١) ، فى بعض أمره وعصاه فى بعض ، وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله.

وعن محمد بن خليفة أن ملحان بن زياد الطائى ، أخا عدى بن حاتم لأمه أتى أبا بكر رحمه‌الله ، فى جماعة من قومه من طيئ نحو ستمائة ، فقال له : إنا أتيناك رغبة فى الجهاد وحرصا على الخير ، ونحن القوم الذين تعرف الذين قاتلنا معكم من ارتد منا حتى أقر بمعرفة ما كان ينكر ، وقاتلنا معكم من ارتد منكم حتى أسلموا طوعا وكرها ، فسرحنا فى أثر الناس ، واختر لنا وليا صالحا نكن معه.

__________________

(١) انظر خبر عزل خالد بن سعيد فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧ ، ٣٨٨).

١٧٨

وكان قدومهم على أبى بكر بعد مسير الأمراء كلهم إلى الشام ، فقال أبو بكر : قد اخترت لك أفضل أمرائنا أميرا ، وأقدم المهاجرين هجرة ، الحق بأبى عبيدة بن الجراح ، فقد رضيت لك صحبته ، وحمدت لك أدبه ، فنعم الرفيق فى السفر ، ونعم الصاحب فى الحضر.

قال : فقلت لأبى بكر : فقد رضيت لخيرتك التي اخترت لى. فاتبعته حتى لحقته بالشام فشهدت معه مواطنه كلها ، لم أغب عن يوم منها.

وعن أبى سعيد المقبرى قال : قدم ابن ذى السهم الخثعمى على أبى بكر وجماعة من خثعم فوق تسعمائة ودون ألف ، فقال لأبى بكر : إنا تركنا الديار والأصول ، والعشائر والأموال ، وأقبلنا بنسائنا وأبنائنا ، ونحن نريد جهاد المشركين ، فما ذا ترى لنا فى أولادنا ونسائنا؟ أنخلفهم عندك ونمضى؟ فإذا جاء الله بالفتح بعثنا إليهم فأقدمناهم علينا؟ أم ترى لنا أن نخرجهم معنا ونتوكل على الله ربنا؟.

فقال أبو بكر : سبحان الله ، يا معشر المسلمين ، هل سمعتم أحدا ممن سار من المسلمين إلى أرض الروم وأرض الشام ذكر من الأولاد والنساء مثل ما ذكر أخو خثعم؟ أما إنى أقسم لك يا أخا خثعم ، لو سمعت هذا القول منك والناس مجتمعون عندى قبل أن يشخصوا لأحببت أن أحبس عيالاتهم عندى وأسرحهم ليس معهم من النساء والأبناء ما يشغلهم ويهمهم حتى يفتح الله عليهم ومعهم ذراريهم ، ولك بجماعة المسلمين أسوة ، وأنا أرجو أن يدفع الله بعزته عن حرمة الإسلام وأهله ، فسر فى حفظ الله وكنفه ، فإن بالشام أمراء قد وجهناهم إليها ، فأيهم أحببت أن تصحبه ، فسار حتى لقى يزيد بن أبى سفيان فصحبه.

وعن يحيى بن هانئ بن عروة أن أبا بكر كان أوصى أبا عبيدة بقيس بن مكشوح وقال له : إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف ، فارس من فرسان العرب ، لا أظن له عظيم حسبة ولا كبير نية فى الجهاد ، وليس بالمسلمين غنى عن مشورته ورأيه وبأسه فى الحرب ، فأدنه والطفه وأره أنك غير مستغن عنه ولا مستهين بأمره ، فإنك تستخرج منه بذلك نصيحة لك ، وجهده وجده على عدوك ، ودعا أبو بكر قيسا فقال له : إنى قد بعثتك مع أبى عبيدة الأمين ، الذي إذا ظلم كظم ، وإذا أسىء إليه غفر ، وإذا قطع وصل ، رحيم بالمؤمنين ، شديد على الكافرين ، فلا تعصين له أمرا ، ولا تخالفن له رأيا ، فإنه لن يأمرك إلا بخير ، وقد أمرته أن يسمع منك ، فلا تأمره إلا بتقوى الله ، فقد كنا نسمع أنك

١٧٩

شريف بئيس مجرب ، وذلك فى زمان الشرك والجاهلية الجهلاء ، فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك اليوم فى الإسلام على من كفر بالله وعبد غيره ، فقد جعل الله فيه الأجر العظيم ، والعز للمسلمين. فقال : إن بقيت فسيبلغك من حيطتى على المسلم ، وجهدى على الكافر ما يسرك ويرضيك ، فقال أبو بكر رحمه‌الله : فافعل ذلك ، فلما بلغته مبارزته البطريقين بالجابية وقتله إياهما ، قال : صدق قيس ووفى وبر.

وعن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص قال (١) : لما مضت جنود أبى بكر إلى الشام بلغ ذلك هرقل ملك الروم ، وهو بفلسطين ، وقيل له : قد أتتك العرب وجمعت لك جموعا عظيمة ، وهم يزعمون أن نبيهم الذي بعث إليهم أخبرهم أنهم يظهرون على أهل هذه البلاد ، وقد جاءوك وهم لا يشكون أن هذا يكون ، وجاءوك بأبنائهم ونسائهم تصديقا لمقالة نبيهم ، يقولون : لو دخلناها وافتتحناها نزلناها بأولادنا ونسائنا. فقال هرقل : ذلك أشد لشوكتهم ، إذا قاتل القوم على تصديق ويقين فما أشد على من كابدهم أن يزيلهم أو يصدهم.

قال : فجمع إليه أهل البلاد وأشراف الروم ، ومن كان على دينه من العرب ، فقال : يا أهل هذا الدين ، إن الله قد كان إليكم محسنا ، وكان لدينكم هذا معزا ، وله ناصرا على الأمم الخالية ، وعلى كسرى والمجوس ، وعلى الترك الذين لا يعلمون ، وعلى من سواهم من الأمم كلها ، وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم وسنة نبيكم الذي كان أمره رشدا وفعله هدى ، فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قوما ، والله ما كنا نعبأ بهم ولا نخاف أن نبتلى بهم ، وقد ساروا إليكم حفاة عراة جياعا ، اضطرهم إلى بلادكم قحط المطر وجدوبة الأرض وسوء الحال ، فسيروا إليهم ، فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن أبنائكم ونسائكم ، وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال ، وقد أمرت عليكم أمراء ، فاسمعوا لهم وأطيعوا ، ثم خرج حتى أتى دمشق فقام مثل هذا المقام ، وقال فيها مثل هذا المقال ، ثم خرج حتى أتى حمص ، ففعل مثل ذلك ، ثم أتى أنطاكية ، فأقام بها وبعث إلى الروم ، فحشدهم إليه ، فجاءه منهم ما لا يحصى عدده ، ونفر إليه مقاتلتهم وشبابهم وأتباعهم ، وأعظموا دخول العرب عليهم ، وخافوا أن يسلبوا ملكهم.

وأقبل أبو عبيدة حتى مروا بوادى القرى (٢) ، ثم أخذ على الحجر أرض صالح النبيّ

__________________

(١) راجع : ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم فى هذا الخبر (٤ / ١١٧) ، والطبرى فى تاريخه ٣ / ٣٩٢).

(٢) وادى القرى : من أعمال المدينة. انظر : الروض المعطار (٦٠٢) ، المغانم المطابة (٤٢٣) ، رحلة الناصرى (٣١٠) ، صبح الأعشى (٤ / ٢٩٢).

١٨٠