الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

١

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المصنف

قال الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الثبت الشهيد أبو الربيع ، سليمان بن موسى بن سالم ، الكلاعى ، البلنسى ، كرم الله مثواه ، وجعل الجنة مستقره ومأواه :

الحمد لله الذي منّ علينا بالإسلام ، وأكرمنا بنبيه محمد عليه أفضل الصلوات والسلام ، وجعل آثاره الكريمة ضالتنا المنشودة ، والاقتداء بهديه الأهدى ، ونوره الأوضح الأبدى غايتنا المقصودة وأمنيتنا المودودة ، وأنعم على قلوبنا بالارتياح والاهتزاز عند سماع مصدره أو إليه منتماه.

وإنه لأثر رجاء فى هذه القلوب البطالة وأثاره خير يرجى ، أن يذودها عن مشارع الجهالة ومنازع الضلالة ، فإن الارتياح للذكر شهادة الحب وأمارة المحب.

وقد روى عنه صلوات الله عليه نقلة السنة أن من أحبه كان معه فى الجنة. فنسأل الله أن يكتبنا فى محبيه حقيقة ، ويسلك بنا من الوقوف عند مقتضيات أوامره ونواهيه طريقة بالسعادة خليفة.

فما نزال طالبين ذلك من أكرم مطلوب لديه ، راغبين فيه إلى خير مرغوب إليه. وإن لم نكن أهلا للإسعاف بتقصيرنا فى الأعمال ، فإنه جل جلاله أهل الجود والإفضال.

ونصلى قبل وبعد على هذا النبيّ المبارك الكريم ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتخبين ، خير صحب وخير آل.

وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع ، وإمتاع النفوس والأسماع ، باتساق الخبر عن سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر نسبه ومولده وصفته ومبعثه ، وكثير من خصائصه ، وأعلام نبوته ومغازيه ، وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر به وقبض روحه الطيبة إليه ، صلوات الله وبركاته عليه.

مقدما لذلك ما يجب تقديمه ، ومتمما من ذكر أوليته المباركة بلدا ومحتدا ، بما يحسن علمه وتعليمه ، ملخصا جميعه من كتب أئمة هذا الشأن الذين صرفوا إليه اعتناءهم ،

٣

واستنفذوا فى آنائهم ، ككتاب محمد بن إسحاق ، الذي تولى عبد الملك بن هشام تهذيبه واختصاره ، وكتاب موسى بن عقبة ، الذي استحسن الأئمة اقتصاده واقتصاره ، وغيرهما من المجموعات التي لا يديم الإنصاف قصد جماعها ولا يذم الاختبار اختياره.

ولكنه عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق ، إياه أردت وتجريده من اللغات وكثير من الأنساب والأشعار قصدت ، وعلى ترتيبه غالبا جريت ، ومنزعه فى أكثر ما يخص المغازى تحريت.

فإنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع ، ووقع كتابه من نفوس الخاص والعام أجل موقع.

إلا أنه يتخلله ، كما أشرنا إليه قبل ، أشياء من غير المغازى تقدح عند الجمهور فى إمتاعه ، وتقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه.

وإن كانت تلك القواطع عريقة فى نسب العلم ، وحقيقة بالتقييد والنظم. فسعى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص ، إذ لكل مقام لا يحسن فى غيره الإيراد له والنص.

ولذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب التي ليس احتياج كل الناس إليها بالضرورى الحثيث ، ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث ، حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة ، وخلاصة المغازى التي هى فى هذا المجموع المقصودة المعتمدة.

ظنا منى أنه إذا أذن الله فى تمامه ، وتكفل تعالى بتيسير محاولته وفق المأمول وتقريب مرامه ، استأنفت النفوس له قبولا وعليه إقبالا ، ولم يزده هذا النقص لدى جمهورهم إلا كمالا.

ثم بدا لى أن أزيد على هذا المقدار ما يحسن فى هذا المضمار ، وأعوض مما حذفت منه من اللغات والأنساب والأشعار ، بما يكون له إن شاء الله مزية الاختيار ، ويروق عليه رونق الإيثار ، منتقيا ذلك من الدواوين التي طار بها فى الناس طائر الاشتهار ، ومتخيرا له من الأماكن التي لا يستقل بحصر فوائدها وانتقاء فرائدها كل مختار.

ككتاب ابن عقبة ، وقد سميته ، فإنه وإن اختصره جدا فقد أحسن العبارة ، وأتى مواضع من المغازى حذاها بسطه وحماها اختصاره.

وسأضع على كثير منها ميسمه وأرسمها فى هذا المختصر على نحو ما رسمه.

٤

وقد وقفت على كتاب محمد بن عمر الواقدى فى المغازى ، ولم يحضرنى الآن ، لكنى رأيته كثيرا ما يجرى مع ابن إسحاق ، فاستغنيت عنه به لفضل فصاحة ابن إسحاق فى الإيراد ، وحسن بيانه الذي لا يفقد معه استحسان الحديث المعاد.

وللواقدى أيضا كتاب المبعث ، وهو مشبع فى بابه ، ممتع باستيفائه واستيعابه ، قد نقلت هنا منه جملا ، تناسب الغرض المسطور ، وتصد المعترض أن يجور.

وكذلك كتاب الزبير بن أبى بكر القاضى رحمه‌الله فى أنساب قريش ، وهو كما سمعت شيخنا الخطيب أبا القاسم ابن حبيش رحمه‌الله يحكى عن شيخه أبى الحسن ابن مغيث أنه كان يقول فيه : هو كتاب عجب لا كتاب نسب.

التقطت أيضا من درره نفائس معجبة ، وتخيرت من فوائده نخبا لمتخيرها موجبة.

ومثله التاريخ الكبير لأبى بكر ابن أبى خيثمة ، وناهيك به من بحر لا تكدره الدلاء ، وغمر لا ينفذه الأخذ الدراك ولا يستنزفه الورد الولاء.

وكم شيء أستحسنه من غير هذه الكتب المسماة فأنظمه فى هذا النظام ، وأضطر إلى الإفادة به مساق الكلام. إما متمما لحديث سابق ، وإما مفيدا بغرض لما تقدمه مطابق.

فإن لم يكن بينهم فى الأحاديث اختلاف يشعر بنقض ، فكثيرا ما أدخل حديث بعضهم فى حديث بعض ، ليكون المساق أبين والاتساق أحسن.

وإن عرض عارض خلاف فالفصل حينئذ أرفع للإشكال وأدفع للمقال.

وربما فصلت بين بعض أحاديثهم وإن اشتبهت معانيها ، بحسب ما تدعو إليه ضرورة الموضع ، أو تحمل على إعادته حلاوة الموقع.

وكل ذلك يشهد الله أن المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم ، وإحسانه العميم ، ورحمته التي منها شق لنفسه أنه الرحمن الرحيم.

ثم القصد الثانى متوفر على إيثار الرغبة فى إيناس الناس بأخبار نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمارة خواطرهم بما يكون لهم فى العاجل والآجل أنفع وأسلم.

وقد عم عليه الصلاة والسلام ببركة دعائه سامع حديثه ومبلغه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أفاد المسلم أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه».

ولا أحسن بعد كتاب الله الذي هو أحسن القصص وأصدق القصص ، وأفضل

٥

الحصص ، وأجلى الأشياء للغصص من أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي بالوقوف عليها توجد حلاوة الإسلام ، ويعرف كيف تمهدت السبل إلى دار السلام.

فإنه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله فى أعداء تنزيله ، فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله ، أو يستمعوا ما امتحنه الله به من المحن التي لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله ، فيعتبروا بعظيم ما لقيه من شدائد الخطوب ، ويصطبروا لعوارض الكروب ، تأدبا بآدابه ، وجريا فى الصبر على ما يصيبهم والاحتساب لما ينوبهم على طريقة صبره واحتسابه.

وتلك غايات لن نبلغ عفوها بجهدنا ، ولن نصل أدانيها بنهاية ركضنا وشدنا ، وإنما علينا بذل الجهد فى قصد الاهتداء ، وعلى الله سبحانه المعونة فى الغاية والابتداء.

وإذا استوفيت بفضل الله طلق هذا المعنى كما نويت ، وبلغت حاجة نفسى منه وقضيت ، فلى نية ، إن ساعدت المشيئة عليها ، فى أن أصل هذا الغرض المتقدم ، من ذكر مغازى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بذكر مغازى الخلفاء الثلاثة الأول ، رضى الله عنهم ، منتحلا على رجاء معونة الله أسبابها ، ومنتخلا من كتاب شيخنا الخطيب أبى القاسم ، رحمه‌الله ، ومن غيره مما هو فى نحو معناه ، صفوها ولبابها ، لتنتظم الفائدتان معا ، ويكون الخبر عن مغازى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومغازى خلفائه ، الذين بهديهم الائتمام ، فى مكان واحد مجتمعا.

وأرجو بحول الله الذي له الطول وبيده القوة والحول ، أن يكون هذا المجموع كافيا فى البابين ، وافيا بالغرضين المنتابين ، ولذلك ترجمته بكتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومغازى الخلفاء.

وفضله جل جلاله نعم الكفيل أن يجزى به خير الجزاء ، ويجعله من عددنا النافعة يوم اللقاء ، فهو عز وجهه الملجأ والمعول ، وبه أستعين وعليه أتوكل ، لا إله إلا هو سبحانه ، هو حسبى وإليه أنيب.

٦

ذكر نسب رسول الله

صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما

وكيف طهره الله نفسا وخيما وشرفه حديثا وقديما وألقى

إلى آبائه الأقدمين من الدلائل على اصطفائه إياه فى الآخرين

وابتعاثه له رحمة للعالمين ما صيره لديهم قبل وجوده

بطوائل السنين معلوما

فى الصحيح من حديث واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفانى من بنى هاشم» (١).

وفى حديث عن عبد الله بن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يزل الله عزوجل ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة ، صفيا مهذبا ، لا تتشعب شعبتان إلا كنت فى خيرهما» (٢).

وخرج أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذى ، من حديث المطلب بن أبى وداعة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام على المنبر فقال : «من أنا»؟ فقالوا : «أنت رسول الله عليك السلام» قال : «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خيرهم فرقة ، ثم جعلهم فرقتين ، فجعلنى فى خيرهم فرقة ، ثم جعلهم قبائل ، فجعلنى فى خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتا ، فجعلنى فى خيرهم بيتا ، وخيرهم نفسا». وفى رواية : «فأنا خيرهم نفسا ، من خيرهم بيتا» (٣).

__________________

(١) أخرجه الترمذى (٣٦٠٥) ، الإمام أحمد فى المسند (٤ / ١٠٧) ، الألبانى فى السلسلة الضعيفة (١٦٣) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (٩ / ٨٩) ، السيوطى فى الدر المنثور (٣ / ٢٩٤ ، ٤ / ٢٧٤) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (١١ / ٤٧٨).

(٢) أخرجه السيوطى فى الدر المنثور (٣ / ٢٩٤ ، ٥ / ٩٨).

(٣) أخرجه الترمذى (١ / ٧٦) باب ما جاء فى فضل النبيّ ، البيهقي فى السنن الكبرى (٧ / ٣٨٧ ، ٣٨٨ ، ١٠ / ٥٧) ، الحاكم فى المستدرك (٢ / ٦٤ ، ٣ / ٢٥٨) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (١١ / ٢٠) ، الطبرانى فى الكبير (٧ / ٣٨٣ ، ١٧ / ١٣٦) ، الهيثمى فى المجمع (١ / ٢٢ ، ـ

٧

وصدق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصدق شيمته ، وفوق العالمين طرا قدره الرفيع وقيمته ، هو أشرفهم حسبا وأفضلهم نسبا وأكرمهم أما وأبا.

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (١) بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قصى ـ واسمه زيد ـ بن كلاب بن مرة بن كعب ، ابن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

هذا الصحيح المجتمع عليه فى نسبه ، وما فوق ذلك مختلف فيه.

ولا خلاف فى أن عدنان من ولد إسماعيل نبى الله ، ابن إبراهيم خليل الله ، عليهما‌السلام، وإنما الاختلاف فى عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء. فمقلل ومكثر.

وكذلك من إبراهيم إلى آدم عليهما‌السلام ، لا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله.

روى عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا انتهى إلى عدنان أمسك ثم يقول : «ذب النسابون» ، قال الله تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨].

ومن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل.

فولد عدنان رجلين : معد بن عدنان ، وعك بن عدنان.

فصارت عك فى دار اليمن ، لأن عكا تزوج فى الأشعريين منهم وأقام فيهم ، فصارت الدار واللغة واحدة.

والأشعريون هم بنو أشعر بن نبت بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب ابن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (٢).

وقحطان هو عند جمهور العلماء بالنسب أبو اليمن كلها ، وإليه يجتمع نسبها ، والعرب كلها عندهم من ولد إسماعيل وقحطان. وبعض اليمن يقول : قحطان من ولد إسماعيل ، وإسماعيل أبو العرب كلها. والله أعلم.

__________________

٤ / ٢٣٨ ، ٢٤٤ ، ١٠ / ٣٧٥) ، شرح السنة للبغوى (٣ / ٢٣٩ ، ٩ / ٢٤٦) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (٢ / ٢٠٦ ، ٧ / ١٩٤) ، المتقى الهندى فى الكنز (٢٩٦٨٧).

(١) قال ابن إسحاق فى السيرة : اسم عبد المطلب شيبة بن هاشم. وانظر ذكر نسب النبيّ فى : السيرة (١ / ٢٣ ، ٢٤) ، والبداية والنهاية كتاب سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسبه (٢ / ٢٥٧).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٧) ذكر نسب ولد إسماعيل.

٨

وأما معد ، فذكر الزبير بن أبى بكر رحمه‌الله ، أن بختنصر لما أمر بغزو بلاد العرب وإدخال الجنود عليهم فيها ، وقتل مقاتلهم لانتهاكهم معاصى الله ، واستحلالهم محارمه وقتلهم أنبياءه ، وردهم رسالاته ، أمر أرميا بن حلقيا ، وكان فيما ذكر نبى بنى إسرائيل فى ذلك الزمان : أن ائت معد بن عدنان الذي من ولده محمد خاتم النبيين ، فأخرجه عن بلاده واحمله معك إلى الشام ، وتول أمره قبلك.

ويقال : بل المحمول عدنان ، والأول أكثر.

وفى حديث عن ابن عباس ، أن الله بعث ملكين ، فاحتملا معدا ، فلما أدبر الأمر رده فرجع إلى موضعه من تهامة ، بعد ما دفع الله بأسه عن العرب ، فكان بمكة وناحيتها مع أخواله من جرهم ، وبها منهم بقية هم ولاة البيت يومئذ ، فاختلط بهم وناكحهم.

فولد معد بن عدنان نفرا ، منهم قضاعة ، وكان بكره الذي به يكنى فيما يزعمون ، وقنص ، ونزار ، وإياد.

فأما قضاعة فتيامنت إلى حمير بن سبأ وانتمت إلى ابنه مالك بن حمير ، حتى قال قائل منهم يفخر بذلك :

نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر

قضاعة بن مالك بن حمير

النسب المعروف غير المنكر

فى الحجر المنقوش تحت المنبر (١)

وأنكر كثير من الناس منتماهم هذا ، وجرت بينهم وبين من قال به من القضاعيين فى ذلك أقاويل معروفة وأشعار محفوظة.

قال الزبير : ولم يجتمع رأى قضاعة على الانتساب فى اليمن ، بل أهل العلم منهم والدين مقيمون على نسبهم فى معد.

وأما قنص بن معد ، فهلكت بقيتهم فيما زعموا ، وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة (٢).

واحتج من قال ذلك بأن عمر ـ رضى الله عنه ـ حين أتى بسيف النعمان بن

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٢٨).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٨).

٩

المنذر ، دعا جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف بن قصى (١) ، فسلحه إياه ، ثم قال : ممن كان يا جبير النعمان بن المنذر؟.

فقال : كان من أشلاء ، قنص بن معد.

وكان جبير أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة ، وكان يقول : إنما أخذت النسب من أبى بكر الصديق.

وكان أبو بكر رضى الله عنه ، أنسب العرب (٢).

وقد قيل فى نسب النعمان غير ذلك ، مما سيأتى ذكره عند تأدية الحديث إليه ، إن شاء الله تعالى.

وقد ذكر أيضا فى بنى معد الضحاك بن معد.

ذكر الزبير بإسناد له إلى مكحول قال : أغار الضحاك بن معد على بنى إسرائيل فى أربعين رجلا من بنى معد ، عليهم دراريع الصوف خاطمى خيلهم بحبال الليف ، وسبوا وظفروا ، فقالت بنو إسرائيل : يا موسى ، إن بنى معد أغاروا علينا ، وهم قليل ، فكيف لو كانوا كثيرا وأغاروا علينا وأنت نبينا؟ فادع الله عليهم.

فتوضأ موسى وصلى ، وكان إذا أراد حاجة من الله صلى ، ثم قال : يا رب إن بنى معد أغاروا على بنى إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا ، وسألونى أن أدعوك عليهم.

فقال الله تعالى : يا موسى لا تدع عليهم ، فإنهم عبادى ، وإنهم ينتهون عند أول أمرى ، وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته.

قال : يا رب ، ما بلغ من محبتك له؟.

قال : أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال : يا رب ما بلغ من محبتك لأمته؟.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب (١ / ٣٠٣) ، الإصابة ترجمة رقم (١٠٩٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٦٩٨) ، نسب قريش (٢٠١) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (٤٣) ، التاريخ الكبير (٢ / ٢٢٣) ، المعارف (٤٨٥) ، الجرح والتعديل (٢ / ٥١٢) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٣٥) ، جمهرة أنساب العرب (١١٦) ، العقد الثمين (٣ / ٤٠٨).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٢٨).

١٠

قال : يستغفرنى مستغفرهم فأغفر له ، ويدعونى داعيهم فأستجيب له.

قال : يا رب فاجعلهم من أمتى.

قال : نبيهم منهم.

قال : يا رب فاجعلنى منهم.

قال : تقدمت واستأخروا.

قال الزبير : وحدثني على بن المغيرة قال : لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه‌السلام ، فدعا عليهم فلم يجب فيهم ، ثم أغاروا ، فدعا عليهم فلم يجب فيهم ، ثلاث مرات.

فقال : يا رب ، دعوتك على قوم فلم تجبنى فيهم بشيء.

فقال : يا موسى ، دعوتنى على قوم منهم خيرتى فى آخر الزمان.

وأما نزار بن معد ، واسمه مشتق من النزر وهو القليل ، فيقال : إن أباه معدا لما ولد له نظر إلى نور بين عينيه ، ففرح لذلك فرحا شديدا ، ونحر وأطعم ، وقال : إن هذا كله لنزر فى حق هذا المولود.

وما كان الذي رآه إلا نور النبوة ، الذي لم يزل ينتقل فى الأصلاب ، حتى انتهى إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطبق الأرض نورا ، وهدى الله به من أراد سعادته من عباده ، صراطا مستقيما.

وكل هذه الأنوار والآثار شاهدة له ـ عليه‌السلام ـ بعظيم عناية الله ، وكريم المكانة عنده ، فلم تزل بركته صلى‌الله‌عليه‌وسلم متعرفة فى آبائه الماضين ، وظاهرة على أسلافه الأكرمين ، تشير المخايل اللائحة فيهم إليه ، وتدل الدلائل الواضحة فى أوليتهم عليه ، صلوات الله وبركاته عليه.

فولد نزار بن معد : مضر وربيعة وأنمارا وإيادا ، وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة فيما ذكر الزبير. وأمه سودة بنت عك بن عدنان.

وقيل هى أم مضر خاصة ، وأم إخوته الثلاثة أختها شقيقة ابنة عك بن عدنان.

وقد قيل : إن إيادا شقيق لمضر ، أمهما معا سودة.

١١

فأنمار هو أبو بجيلة وخثعم ، وقد تيامنت بجيلة إلا من كان منهم بالشام والمغرب ، فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار.

وجرير بن عبد الله (١) صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سادات بجيلة وله يقول القائل :

لو لا جرير هلكت بجيلة

نعم الفتى وبئست القبيلة

وكذلك تيامنت الدار أيضا بخثعم ، وهم بنو أقيل بن أنمار ، وإنما خثعم جبل تحالفوا عنده فسموا به ، وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار.

وإذا كان بين مضر واليمن فيما هنالك حرب ، كانت خثعم مع اليمن على مضر(٢).

ويروى أن نزارا لما حضرته الوفاة ، قسم ماله بين بنيه الأربع : مضر وربيعة وإياد وأنمار.

فقال : هذه القبة لقبة كانت له حمراء من أدم ، وما أشبهها من المال لمضر ، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة ، وهذه الخادم ، وكانت شمطاء ، وما أشبهها لإياد. وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه.

وقال لهم : إن أشكل عليكم الأمر فى ذلك واختلفتم فى القسمة ، فعليكم بالأفعى الجرهمى. وكان بنجران.

فاختلفوا بعده وأشكل أمر القسمة عليهم ، فتوجهوا إلى الأفعى. فبينا هم فى مسيرهم إليه إذ رأى مضر كلأ قد رعى ، فقال : إن البعير الذي رعى هذا لأعور.

فقال ربيعة : وهو أزور. وقال إياد : وهو أبتر. وقال أنمار : وهو شرود.

فلم يسيروا إلا قليلا ، حتى لقيهم رجل توضع به راحلته ، فسألهم عن البعير ، فقال له مضر : أهو أعور؟ قال : نعم. قال ربيعة : أهو أزور؟ قال : نعم. قال إياد : أهو أبتر؟ قال نعم. قال أنمار : وهو شرود؟ قال : نعم ، هذه والله صفة بعيرى دلونى عليه. فحلفوا له ما

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣٢٦) ، الإصابة الترجمة رقم (١١٣٩) ، أسد الغابة الترجمة (٧٣٠) ، طبقات ابن سعد (٦ / ٢٢) ، طبقات خليفة (١١٦ ، ١٣٨) ، تاريخ خليفة (٢١٨) ، التاريخ الكبير (٢ / ٢١١) ، الجرح والتعديل (٢ / ٥٠٢) ، تهذيب الكمال (١٩١) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٧٤) ، العبر (١ / ٥٧) ، تهذيب التهذيب (٢ / ٧٣) ، خلاصة تذهيب الكمال (٦١) ، شذرات الذهب (١ / ٥٧ ، ٥٨).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٧٨).

١٢

رأوه ، فلزمهم وقال : كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيرى بصفته!! فساروا حتى قدموا نجران ، فنزلوا بالأفعى الجرهمى ، فنادى صاحب البعير : بعيرى ، وصفوا لى صفته ، ثم قالوا : لم نره!

فقال لهم الأفعى : كيف وصفتموه ، ولم تروه؟

فقال له مضر : رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور.

وقال ربيعة : رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر ، فعلمت أنه أفسدها لشدة وطئه لازوراره.

وقال إياد : عرفت بتره باجتماع بعره ، ولو كان ذيالا لمصع به.

وقال أنمار : عرفت أنه شرود ، أنه كان يرعى فى المكان المتلف نبته ، ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث.

قال الشيخ : ليسوا بأصحاب بعيرك ، فاطلبه.

ثم سألهم من هم؟

فأخبروه ، فرحب بهم وقال : تحتاجون إلى وأنتم كما أرى!

فدعا لهم بطعام ، فأكل وأكلوا وشرب وشربوا.

فقال مضر : لم أر كاليوم خمرا أجود لو لا أنها نبتت على قبر.

وقال ربيعة : لم أر كاليوم لحما أطيب لو لا أنه ربى بلبن كلبة.

وقال إياد : لم أر كاليوم رجلا سرنى لو لا أنه ليس لأبيه الذي يدعى له.

وقال أنمار : لم أر كاليوم كلاما أنفع فى حاجتنا.

وسمع صاحبهم كلامهم ، فقال : ما هؤلاء؟! إنهم لشياطين.

ثم أتى أمه ، فسألها ، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له ، فكرهت أن يذهب الملك ، فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها ، فوطئها ، فجاءت به.

وقال للقهرمان : الخمر التي شربناها ما أمرها؟

قال : من حبلة غرستها على قبر أبيك.

١٣

وسأل الراعى عن اللحم ، فقال : شاة أرضعناها من لبن كلبة ، ولم يكن ولد فى الغنم غيرها. فأتاهم ، فقال : قصوا على قصتكم ، فقصوا عليه ما أوصى به أبوهم ، وما كان من اختلافهم.

فقال : ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر. فصارت إليه الدنانير والإبل ، وهى حمر ، فسميت مضر الحمراء.

قال : وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال فهو لربيعة. فصارت له الخيل ، وهى دهم ، فسمى ربيعة الفرس.

قال : وما أشبه الخادم ، وكانت شمطاء ، من مال فيه بلق ، فهو لإياد. فصارت له الماشية البلق. وقضى لأنمار بالدراهم والأرض. فساروا من عنده على ذلك.

وكان يقال : مضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل.

وروى ميمون بن مهران ، عن عبد الله بن العباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روى عنه : «إذا اختلف الناس فالحق مع مضر» (٢).

وسمع عليه‌السلام قائلا يقول :

إنى امرؤ حميرى حين تنسبنى

لا من ربيعة آبائى ولا مضرا

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك أبعد لك من الله ومن رسوله» (٣).

ومما يؤثر من حكم مضر بن نزار ووصاياه : من يزرع شرا يحصد ندامة ، وخير الخير أعجله ، فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم ، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها ، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق.

فولد مضر بن نزار رجلين : إلياس بن مضر ، وعيلان بن مضر.

قال الزبير : وأمهما الحنفاء بنت إياد بن معد.

__________________

(١) أخرجه ابن حجر فى الفتح (٧ / ١٤٦) ، المتقى الهندى فى الكنز (٢٣٩٨٧).

(٢) أخرجه المتقى الهندى فى الكنز (٣٣٩٨٩) ، ابن حجر فى المطالب العالية (٤١٨٨) ، ابن عدى فى الكامل فى الضعفاء (١٤٥٦) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (١٢ / ١٩٨).

(٣) أخرجه أبو داود فى السنن كتاب البيوع باب (٨٨) ، البيهقي فى السنن الكبرى (٦ / ١٧٤) ، الزيلعى فى نصب الراية (٤ / ١٢٨).

١٤

وقال ابن هشام : أمهما جرهمة. ولما أدرك إلياس بن مضر ، أنكر على بنى إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم ، وبان فضله عليهم ولان جانبه لهم ، حتى جمعهم على رأيه ، ورضوا به رضا لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد.

فردهم إلى سنن آبائهم ، حتى رجعت سنتهم تامة على أولها.

وهو أول من أهدى البدن إلى البيت ، أو فى زمانه.

وأول من وضع الركن للناس بعد هلاكه ، حين غرق البيت وانهدم زمن نوح عليه‌السلام.

فكان أول من سقط عليه إلياس ، أو فى زمانه ، فوضعه فى زاوية البيت للناس.

ومن الناس من يقول : إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام. وهو الأشبه ، إن شاء الله.

ولم تبرح العرب تعظم إلياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة ، كلقمان وأشباهه.

فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر : مدركة ، وطابخة ، وقمعة.

وأمهم خندف بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ، واسمها ليلى ، واسم مدركة عامر ، واسم طابخة عمرو ، واسم قمعة عمير.

وإنما حالت أسماؤهم إلى الذي ذكرنا أولا عنهم ، فيما ذكروا ، أن أرنبا أنفرت إبل إلياس بن مضر ، فصاح ببنيه هؤلاء أن يطلبوا الإبل والأرنب.

فأما عمير فاطلع من المظلة ثم قمع. فسمى قمعة.

وخرج عامر وعمرو فى آثار الإبل ، وخرجت أمهم ليلى تسعى خلفهم.

فقال لها زوجها إلياس : أين تخندفين؟ أى أين تسعين. فسميت خندف (١).

ومر عامر وعمرو بظبى ، فرماه عمرو فقتله ، ويقال : بل رمى الأرنب التي أنفرت الإبل ، فقال له عامر : اطبخ صيدك ، وأنا أكفيك الإبل. فطبخ عمرو ، فسمى طابخة.

وأدرك الإبل عامر ، فسمى مدركة.

__________________

(١) قال ابن حجر فى فتح البارى (٦ / ٦٣٣) : خندف هى بكسر المعجمة وسكون النون وفتح الدال بعدها فاء ، وهو اسم امرأة إلياس بن مضر ، واسمها : ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ، لقبت بخندف لمشيتها والخندف : الهرولة.

١٥

واشتهر بنو خندف هؤلاء بأمهم خندف للذى سار من فعلها فى الناس.

وذلك أنه لما مرض زوجها إلياس وجدت لذلك وجدا شديدا ، ونذرت إن هلك ، ألا تقيم فى بلد مات فيه ، ولا يظلها بيت بعده ، وأن تسيح فى الأرض. وحرمت الرجال والطيب.

فلما هلك إلياس خرجت سائحة فى الأرض حتى هلكت حزنا.

وكانت وفاته يوم الخميس ، فكانت كلما طلعت الشمس من ذلك اليوم تبكيه حتى تغيب ، فصارت خندف وما صنعت عجبا فى الناس ، يتحدثون به ويذكرونه فى أشعارهم.

فقيل لرجل من إياد ، أو همدان ، وقد هلكت امرأته : ألا تبكى عليها؟

فقال : لو كان ذلك يردها لفعلت كما فعلت خندف على إلياس. ثم اندفع يقول :

لو أنه يغنى بكيت كخندف

على إلياس حتى ملها الشر تندب

إذا مونس لاحت خراطيم شمسه

بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب

ولم تر عيناها سوى الدفن قبره

فساحت وما تدرى إلى أين تذهب

فلم يغن شيئا طول ما بلغت به

وماطلها دهر وعيش معذب

وفقدت امرأة من غسان أخاها ثم أباها ، فمكثت دهرا تبكى عليهما ، فنهاها قومها ، فقالت :

تلحون سلمى أن بكت أباها

وقبل ما قد ثكلت أخاها

فحولوا العذل إلى سواها

عصتكم سلمى إلى هواها

كما عصت خندف من نهاها

خلت بنيها أسفا وراها

تبكى على إلياس فما أتاها

فولد مدركة بن إلياس نفرا ، منهم خزيمة بن مدركة ، وهذيل بن مدركة.

وأمهما امرأة من قضاعة ، قيل : هى سلمى بنت سويد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وقيل غير ذلك.

١٦

فولد خزيمة بن مدركة كنانة وأسدا وأسدة والهون.

وأم كنانة منهم ، عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وقيل : هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان. قرأته بخط أحمد بن يحيى بن جابر.

فولد كنانة بن خزيمة جماعة منهم : النضر ، وبه كان يكنى ، ونضير ، ومالك ، وملكان ، وعمرو ، وعامر ، وأمهم برة بنت مر ، خلف عليها كنانة بعد أبيه خزيمة ، على ما كانت الجاهلية تفعله ، إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها.

فنهى الله عن ذلك بقوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] (١).

ويقال : إن برة هذه ، لما أهديت أولا إلى خزيمة بن مدركة ، قالت له : إنى رأيت فى المنام كأنى ولدت غلامين من خلاف بينهما سابياء ، فبينا أنا أتأملهما إذا أحدهما أسد يزأر وإذا الآخر قمر ينير.

فأتى خزيمة كاهنة بتهامة ، فقص عليها الرؤيا ، فقالت : لئن صدقت رؤياها لتلدن منك غلاما يكون لولده قلوب باسلة ، ثم لتموتن عنها فيختلف عليها ابن لك ، فتلد منه غلاما يكون لولده عدل وعدد وقروم مجد وعز إلى آخر الأبد.

ثم توفى خزيمة ، فخلف عليها كنانة بعد أبيه ، فولدت له النضر وإخوته ، وإنما سمى النضر ، لنضارة وجهه وجماله.

وأتى أبوه كنانة بن خزيمة وهو نائم فى الحجر ، فقيل له : تخير يا أبا النضر بين الصهيل والهدر وعمارة الجدر وعز الدهر.

فقال : كل يا رب.

فصار هذا كله فى قريش.

والنضر هو جماع قريش فى قول طائفة من أهل العلم بالنسب ، والأكثر على أن فهر بن مالك بن النضر هو قريش.

فمن كان من ولده فهو قرشى ، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشى.

وذكر الزبير أن هذا هو رأى كل من أدرك من نساب قريش.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٩٣).

١٧

فولد النضر بن كنانة مالكا ، ويخلد ، والصلت (١).

فولد مالك فهر بن مالك. وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعيد بن الحارث بن مضاض الجرهمى. وهو جماع قريش عند الأكثر.

قال الزبير : قد اجتمع النساب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر.

ويقال : إن قريشا هو اسمه الذي سمته به أمه ، ولقبته فهرا.

فولد فهر بن مالك غالبا ومحاربا والحارث وأسدا ، وأختهم جندلة. وأم جميعهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة (٢).

ولما حضرت الوفاة فهر بن مالك ، قال لابنه غالب : يا بنى ، إن فى الحزن إقلاق النفوس قبل المصائب ، فإذا وقعت المصيبة برد حرها ، وإنما القلق فى غليانها ، فإذا أنا مت فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك ، وعن يمينك وعن شمالك ، وبما ترى من آثارها فى محيى الحياة ، ثم اقتصر على قليلك ، وإن قلت منفعته ، فقليل ما فى يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك.

فولد غالب بن فهر لؤيا وتيما ، وهو الأدرم ، كان منقوص الذقن.

ويقال لقومه : بنو الأدرم.

وأمهما فى قول ابن إسحاق (٣) : سلمى بنت عمرو الخزاعى.

وفى قول الزبير : عاتكة بنت يخلد بن النضر.

وروى أن لؤيّ بن غالب قال لأبيه ، وهو غلام حديث : يا أبت ، من رب معروفة قل إخلاقه ، ونضر ماؤه. ومن أخلقه أخمله ، وإذا أخلق الشيء لم يذكر ، وعلى المولى تكبير صغيره ونشره ، وعلى المولى تصغير كبيره وستره.

فقال له أبوه غالب : إنى لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك ، وأستدعي لك به الطول على قومك ، فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك ، وكف غرب جهلهم بحلمك ، ولم شعثهم برفقك ، فإنما تفضل الرجال الرجال بأفعالها ، ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل ولم تعل به درجة على أحد ، وللعليا فضل أبدا على السفلى.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٩٤ ـ ٩٥).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٩٥).

(٣) انظر : السيرة (١ / ٩٥).

١٨

فولد لؤيّ بن غالب كعبا وعامرا ، وسامة ، وعوفا وسعدا ، وخزيمة (١).

فدخل بنو خزيمة فى شيبان ، ويسمون فيهم بعائذة ، وهى امرأة من اليمن ، كانت أم بنى عبيد بن خزيمة فنسبوا إليها.

وكذلك دخل بنو سعد ، فى شيبان ، ويسمون فيهم ببنانة حاضنة كانت لهم من قضاعة ، وقيل من النمر بن قاسط ، فنسبوا إليها.

وأما سامة بن لؤيّ ، فخرج إلى عمان ، ويزعمون أن عامر بن لؤيّ أخرجه.

وذلك أنه كان بينهما شيء ، ففقأ سامة عين عامر ، فأخافه عامر ، فخرج إلى عمان.

فيزعمون أن سامة بن لؤيّ بينا هو يسير على ناقته ، إذ وضعت رأسها ترتع ، فأخذت حية بمشفرها ، فهصرتها (٢) حتى وقعت الناقعة لشقها ، ثم نهشت ساقه فقتلته. فقال سامة حين أحس بالموت ، فيما يزعمون :

عين فابكى لسامة بن لؤيّ

علقت ما بسامة العلاقة

لا أرى مثل سامة بن لؤيّ

يوم حلوا به قتيلا لناقة

بلغا عامرا وكعبا رسولا

أن نفسى إليهما مشتاقة

إن تكن فى عمان دارى فإنى

غالبى خرجت من غير فاقة

رب كأس هرقت يا بن لؤيّ

حذر الموت لم تكن مهراقة

رمت دفع الحتوف يا بن لؤيّ

ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة

وخروس السرى تركت رديا

بعد جد وحدة ورشاقة (٣)

قال ابن هشام : وبلغنى أن بعض ولده أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانتسب إلى سامة بن لؤيّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألشاعر؟» فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول الله أردت قوله :

رب كأس هرقت يا ابن لؤيّ

حذر الموت لم تكن مهراقة

قال : «أجل» (٤).

__________________

(١) انظر : السيرة (٩٦).

(٢) الهصر : هو الكسر ، هصر الشيء يهصره هصرا : جبذه وأماله واهتصره ، وقال أبو عبيدة : هصرت الشيء ووقصته إذا كسرته. انظر : اللسان (مادة هصر).

(٣) خروس السرى : يعنى ناقة صموتا صبورا. السرى : هو سير الليل ، وقيل : سير الليل كله.

(٤) ذكره الأصفهانى فى كتاب الأغانى (٩ / ١٠٤) ، وليس له إسناد يعرف.

١٩

قال ابن إسحاق (١) : وأما عوف بن لؤيّ ، فإنه خرج فيما يزعمون فى ركب من قريش ، حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان أبطئ به ، فانطلق من كان معه من قومه ، فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، فحبسه والتاطه وآخاه وزوجه ، فانتسب بتلك المؤاخاة إلى سعد بن ذبيان أبى ثعلبة.

وثعلبة ، يزعمون ، هو القائل له :

احبس على ابن لؤيّ جملك

تركتك القوم ولا مترك لك

ويروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، قال : لو كانت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لا دعيت بنى مرة بن عوف ، إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع ؛ يعنى عوف بن لؤيّ.

وهم فى نسب غطفان مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان ، وهم يقولون إذا ذكر لهم النسب : ما ننكره ولا نجحده ، وإنه لأحب النسب إلينا.

وقيل : إن عمر بن الخطاب قال لرجال من بنى مرة : إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه. وكان القوم أشرافا فى غطفان هم سادتهم وقادتهم ، منهم هرم بن سنان ابن أبى حارثة ، وأخوه خارجة بن سنان ، والحارث بن عوف ، والحصين بن الحمام ، وهشام بن حرملة ، قوم لهم صيت وذكر فى غطفان وقيس كلها ، فأقاموا على نسبهم.

على أن الحصين بن الحمام قد تحير فى هذا واختلف رأيه ، فلما سمع قول الحارث ابن ظالم ، أحد بنى مرة بن عوف ، حين هرب من النعمان بن المنذر ولحق بقريش :

وما قومى بثعلبة بن سعد

ولا بفزارة الشعر الرقابا (٢)

فقومى إن سألت بنو لؤيّ

بمكة علموا مضر الضرابا

سفهنا باتباع بنى بغيض

وترك الأقربين لنا انتسابا

سفاهة مخلف لما تروى

هراق الماء واتبع السرابا (٣)

فلو طوعت عمرك كنت فيهم

وما ألفيت انتجع السحابا (٤)

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٩٨ ـ ٩٩).

(٢) الشعر : جمع أشعر ، وهو الكثير الشعر.

(٣) المخلف : الذي يسقى الماء. هراق : أى صبه.

(٤) انتجع : أى ذهب فى طلب الكلاء فى موضعه. وذكره ابن إسحاق فى السيرة وزاد فى آخره بيت هو :

وخش رواحة القرشى رحلى

بناحية ولم يطلب ثوابا

انظر : السيرة (١ / ٩٨ ـ ٩٩).

٢٠