السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-172-6
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٢٦
التناقض في المواقف :
فروايتهم عن النواصب والخوارج ، والمبتدعة ، وعن الشيعة ، والرافضة ، تتناقض مع قولهم : إن الرواية عن كل هؤلاء لا تصح.
فهم يقولون :
ألف : الخوارج :
عن ابن لهيعة : أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعد توبته :
«إن هذه الأحاديث دين ؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم ؛ فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا» (١).
أو قال : «انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه ، فإنّا كنا إذا تراءينا رأيا ، جعلنا له حديثا» (٢).
ويلاحظ هنا : أن نفس هذا النص مروي عن حماد بن سلمة ، ولكن عن شيخ من الرافضة!! (٣).
ولما حدث إياس بن معاوية الأعمش بحديث عن بعض الحرورية ،
__________________
(١) لسان الميزان ج ١ ص ١٠ و ١١ والكفاية للخطيب ص ١٢٣ و ١٢٨ وآفة أصحاب الحديث ص ٧١ و ٧٢ واللآلي المصنوعة ج ٢ ص ٤٦٨ وراجع : العتب الجميل ص ١٢٢. وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٩ عن الأولين ، وعن الموضوعات لابن الجوزي ص ٣٨ وعن السنة ومكانتها في التشريع للسباعي ص ٩٧.
(٢) اللآلي المصنوعة ج ٢ ص ٤٦٨.
(٣) راجع : لسان الميزان ج ١ ص ١١.
قال : «تريد أن أكنس الطريق بثوبي ، فلا أدع بعرة ، ولا خنفساء إلا حملتها؟!» (١).
وقال الجوزجاني عن الخوارج ، الذين تحركوا في الصدر الأول ، بعد الرسول «صلى الله عليه وآله» : «نبذ الناس حديثهم اتهاما لهم» (٢).
ب : أهل البدع :
قد وردت أحاديث رواها أهل السنة أيضا تنهى عن الرواية عن أهل البدع (٣) فلتراجع في مظانها.
ج : الشيعة والرافضة :
إن أدنى مراجعة لكتب الرجال على مذاق أهل السنة تظهر : أن أكثر المجروحين عندهم إنما جرحوهم بالتشيع أو الرفض ، وقد اعتبروا ذلك جريمة لا مجال للسكوت عليها ، أو التساهل فيها (٤).
وسئل مالك عن الرافضة ، فقال : لا تكلمهم ، ولا ترو عنهم ، فإنهم يكذبون (٥).
__________________
(١) الكفاية في علم الرواية ص ٤٠٣ وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٩ عن المحدث الفاضل للرامهرمزي ج ١ ص ١٢.
(٢) أحوال الرجال ص ٣٤.
(٣) راجع : لسان الميزان ج ١ ص ١٠ و ١٢ و ٧ وميزان الاعتدال ج ١ ص ٣.
(٤) وراجع على سبيل المثال : السنة قبل التدوين ص ٤٤٣ و ٤٤٢ والكفاية في علم الرواية ص ١٢٣ و ١٣٠ و ٣١.
(٥) لسان الميزان ج ١ ص ١٠ وميزان الاعتدال ج ١ ص ٢٧ ـ ٢٨ ومقدمة فتح الباري ص ٤٣١ وفتح الباري ج ٢ ص ١٥٣ وقواعد في علوم الحديث ص ٤٠٧ و ٤٢٢.
وعن الشافعي : لم أر أحدا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة (١).
وقال أبو عصمة لأبي حنيفة : «ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟! قال : من كل عدل في هواه إلا الشيعة ، فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله» ، ومن أتى السلطان طائعا الخ ..» (٢).
وعن شريك : إحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة ، فإنهم يضعون الحديث ، ويتخذونه دينا (٣).
وقال التهانوي : «نحن نعلم : أنهم كذبوا في كثير مما يروونه في فضائل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان.
كما كذبوا في كثير مما يروونه في فضائل علي. وليس في أهل الأهواء أكثر كذبا من الرافضة» (٤).
ويقول هارون الرشيد : «طلبت أربعة فوجدتها في أربعة : طلبت الكفر فوجدته في الجهمية ، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة ، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة ، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث» (٥).
وعن يزيد بن هارون : يكتب عن كل صاحب بدعة ، إذا لم يكن داعية
__________________
(١) الكفاية في علم الرواية ص ١٢٦ وراجع لسان الميزان ج ١ ص ١٠.
(٢) الكفاية في علم الرواية ص ١٢٦.
(٣) لسان الميزان ج ١ ص ١٠ وميزان الاعتدال ج ١ ص ٢٧ و ٢٨.
(٤) قواعد في علوم الحديث ص ٤٤٤ وراجع ص ٤٤٣.
(٥) شرف أصحاب الحديث ص ٥٥ وراجع ص ٧٨.
إلا الرافضة ، فإنهم يكذبون (١).
العلاج المتطور :
كانت تلك بعض أقاويلهم حول هؤلاء وأولئك ، وهي تناقض موقفهم منهم ، وروايتهم عنهم ، فكان علاجهم لهذا المشكل بتقديم عدة ضوابط ، رأوا أنها تكفي لدفع الخطر ، وتجنب الكثير من الضرر.
ونذكر من هذه المعالجات :
٣٤ ـ ردّ روايات الشيعة في المطاعن والفضائل :
فكل ما فيه تأكيد على الحق ، وإظهار له ، فيما يرتبط بفضائل علي «عليه السلام» ، وكذا فيما يرتبط بما صدر من خصوم أهل البيت «عليهم السلام» من أفاعيل تدينهم ، وتظهر بعض مساوئهم ، فإنهم لا يقبلونه ، ويتهمون الرافضة بالكذب فيه.
إنهم لا يقبلون منهم أي شيء فيه تأييد لمذهب الشيعة ، وتفنيد لمذاهب غيرهم.
٣٥ ـ الرافضة لا إسناد لهم :
ومن أجل استبعاد فقه ، ورؤى ، ومعارف أهل البيت «عليهم السلام» الذين هم أحد الثقلين اللذين أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالتمسك بهما إلى يوم القيامة ، وهم سفينة نوح التي ينجو من ركبها.
ولكي تبقى الساحة مفتوحة أمام الآخرين ليأخذوا بفتاوى أناس عاشوا ، أو فقل : ولدوا بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» بعشرات
__________________
(١) لسان الميزان ج ١ ص ١٠ وميزان الاعتدال ج ١ ص ٢٧ و ٢٨.
السنين ، ليسوا من أهل بيت النبوة ، ولا من معدن الرسالة ، ولا من مهبط الوحي والتنزيل.
نعم ، من أجل ذلك ، نجدهم يحاولون قطع الصلة بين الرافضة وبين الرسول بالكلية.
فقد قال التهانوي حول المعرفة بالإسناد : «لا ريب أن الرافضة أقل معرفة بهذا الباب ، وليس في أهل الأهواء والبدع أجهل منهم به ؛ فإن سائر أهل الأهواء ، كالمعتزلة والخوارج يقصرون في معرفة هذا ، لكن المعتزلة أعلم بكثير من الخوارج ، والخوارج أعلم بكثير من الرافضة ، والخوارج أصدق من الرافضة».
إلى أن قال : «أهل البدع سلكوا طريقا أخرى ابتدعوها واعتمدوها ، ولا يذكرون الحديث بل ولا القرآن في أصولهم إلا للاعتضاد ، لا للاعتماد.
والرافضة أقل معرفة بل وعناية بهذا ، إذ كانوا لا ينظرون في الأسناد ، ولا في سائر الأدلة الشرعية والعقلية ، هل توافق ذلك أو تخالفه. ولهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط.
بل كل إسناد متصل لهم ؛ فلا بد أن يكون فيه من هو معروف بالكذب ، أو كثرة الغلط ، وهم في ذلك شبيه باليهود والنصارى ، فإنه ليس لهم أسناد».
وقال : والأسناد من خصائص هذه الأمة ، وهو من خصائص الإسلام ، ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة ، والرافضة أقل عناية به ، إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم ، وعلامة كذبه أنه يخالف هواهم» (١).
__________________
(١) قواعد في علوم الحديث ص ٤٤٣ و ٤٤٤.
٣٦ ـ رواية ما لا يضر :
وأما رواية الشيعي ، وحتى الرافضي لما يؤيد مذهب أهل السنة ، أو فقل ما لا يضر بنهجهم ، ولا بمذهبهم ، فهي مقبولة ، بل يمكن أن يصبح الشيعي بل الرافضي من رواة الصحاح ألست أيضا ، وبذلك يكون قد جاز القنطرة ، كما سنرى.
٣٧ ـ حديث الداعية إلى البدعة يرد :
وأما بالنسبة للخوارج والنواصب ، وحتى الشيعي والرافضي أحيانا حين يوافق هواهم ، ويخدم اتجاههم بزعمهم ، فقد قالوا :
إن صاحب البدعة إذا لم يكن داعية ، أو كان وتاب ، أو اعتضدت روايته بمتابع ، فإن روايته تقبل ، أما إذا كان داعية ، فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته (١).
وقيل لا تقبل رواية غير الداعية أيضا (٢).
__________________
(١) علوم الحديث لابن الصلاح ص ١٠٤ و ١٠٣ والباعث الحثيث ص ٩٩ وإرشاد الفحول ص ٥١ وفتح الباري (المقدمة) ص ٤٥٩ و ٤٥٠ ومعرفة علوم الحديث ص ١٣٥ والخلاصة في أصول الحديث ص ٩٥ والمجروحون ج ١ ص ١٦٨ والكفاية في علم الرواية ص ١٢١ و ١٢٣ و ١٢٦ ـ ١٢٨ وقواعد في علوم الحديث للتهانوي ص ٢٣٠ و ٢٣١ و ٤٠٢ و ٢٠٧ وتقريب النووي وشرحه للسيوطي المسمى بتدريب الراوي ج ١ ص ٣٢٥.
(٢) الخلاصة في أصول الحديث ص ٩٥ والكفاية في علم الرواية ص ١٢٠ وقواعد في علوم الحديث للتهانوي ص ٢٢٧ ـ ٢٣٠ وتقريب النووي وشرحه (تدريب الراوي) ج ١ ص ٣٢٤ وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٤٦ عنه وعن
٣٨ ـ حجم البدعة :
وبما أن ما تقدم لا يكفي في علاج بعض جهات القضية ، لا سيما وأنهم يردون روايات من يتهم بالتشيع ، مع أن صحاحهم تروي عن الشيعة ، فقد اتجهوا نحو الحديث عن حجم البدعة ومقدارها ، فقالوا :
إن كانت البدعة صغرى ، جازت الرواية عن صاحبها ، وإن كانت كبرى لم تجز ؛ فالبدعة الكبرى هي الرفض الكامل ، والصغرى كغلو التشيع ، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق (١).
وبذلك يفسحون المجال أمام الرواية عن بعض علمائهم الذين ينسبون إليهم التشيع لمجرد :
أنه روى حديثا في فضل علي «عليه السلام» ، أو تكلم في معاوية ، كالنسائي ، وعبد الرزاق الصنعاني ، والحاكم النيسابوري ، وأضرابهم.
٣٩ ـ من روى له الشيخان ، جاز القنطرة :
ولكن تبقى مشكلة روايتهم عن بعض المبتدعة ، الذين هم من أشد الدعاة إلى بدعتهم ، مثل عمران بن حطان ، وغيره من النواصب والخوارج ، فحلوها بطريقة جبرية ، وقاطعة ، حين قالوا : من روى له الشيخان ، فقد جاز القنطرة (٢).
__________________
الكامل لابن عدي ج ١ ص ٣٩ : أو عن : المجروحون ج ٢ ص ٢٧ ب وعن المحدث الفاضل ج ١ ص ١٢.
(١) لسان الميزان ج ١ ص ٩ و ١٠ وميزان الاعتدال ج ١ ص ٣٠.
(٢) قواعد في علوم الحديث للتهانوي ص ٤٦٣ عن أبي الوفاء القرشي في كتاب الجامع الذي جعله ذيلا للجواهر المضية ج ٢ ص ٤٢٨.
وقال الذهبي في ترجمة يحيى بن معين : «وأما يحيى فقد جاز القنطرة (يعني برواية الشيخين له) فلا يلتفت إلى ما قيل فيه ، بل قفز من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي ـ يعني أنه في أعلى مراتب التعديل والتوثيق» (١).
وذكر التهانوي : إن كل من حدث عنه البخاري فهو ثقة ، سواء حدث عنه في الصحيح ، أم في غيره ، وكذا كل من ذكره البخاري في تواريخه ، ولم يطعن فيه ، فهو ثقة ، وكذا كل من حدث عنه مسلم ، والنسائي ، وأبو داود ، أو سكت عنه أبو داود فهو ثقة أيضا (٢).
٤٠ ـ الخوارج صادقون :
وبعد ما تقدم ، فقد حلت مسألة لزوم قبول روايات بعض علماء أهل السنة الكبار ، الذي اتهموا بالتشيع ، بسبب روايتهم بعض فضائل علي وأهل بيته «عليهم السلام» ، أو انتقدوا معاوية وأضرابه ، وقبلت أيضا روايات بعض الشيعة أو الرافضة ، التي جاءت منسجمة مع النهج الفكري الذي يلتزمه غير الشيعة أيضا ، ثم قبلت أيضا روايات الصحاح ؛ البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي داود ، ولكن ذلك كله لا يكفي أيضا ، بل لا بد من تصحيح رواية كل خارجي وناصبي ، مع أنهم يدّعون : أن هؤلاء أهل بدعة قد ترك أهل السنة حديثهم (٣).
__________________
(١) ميزان الاعتدال ج ٤ ص ٤١٠.
(٢) لخصنا ذلك من كتاب : قواعد في علوم الحديث للتهانوي ج ٢ ص ٤٢٨.
(٣) ميزان الاعتدال ج ١ ص ٣ ولسان الميزان ج ١ ص ٧ و ١٢.
ومع أن فيهم من يدعو إلى بدعته ، ومن كان داعية إلى بدعته لا تقبل روايته (١).
ومع أنه قد تقدم : أن الخوارج معروفون بوضع الحديث ، وقد ترك الناس الرواية عنهم في البداية لذلك.
فعالجوا هذا المشكل بدعوى : أن «الخوارج أعلم بكثير من الرافضة ، والخوارج أصدق من الرافضة ، بل الخوارج لا نعلم عنهم أنهم يتعمدون الكذب ، بل هم من أصدق الناس» (٢).
وقال أبو داود : «ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج» (٣).
وقال التهانوي : «الخوارج لا يكادون يكذبون ، بل هم من أصدق الناس مع بدعتهم وضلالهم» (٤).
وقال ابن تيمية : «الخوارج مع مروقهم من الدين فهم أصدق الناس ، حتى قيل : إن حديثهم أصح الحديث» (٥).
وعلل بعضهم صدقهم بأنهم يقولون بأن مرتكب الكبيرة كافر (٦).
__________________
(١) راجع تفصيل ذلك فيما تقدم وفي لسان الميزان ج ١ ص ١٠.
(٢) قواعد في علوم الحديث للتهانوي ص ٤٤٣.
(٣) ميزان الاعتدال ج ٣ ص ٢٣٦ والعتب الجميل ص ١٢١ وفتح الباري (المقدمة) ص ٤٣٢ وج ٢ ص ١٥٤.
(٤) قواعد في علوم الحديث ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.
(٥) بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٢٩.
(٦) المصدر السابق ص ٢٨.
ولا ندري كيف صح له هذا التعليل.
وهؤلاء الخوارج أنفسهم قد قتلوا عبد الله بن خباب ، وارتكبوا جرائم الزنى ، وغيرها مما هو مسطور في تواريخهم؟!
٤١ ـ الاعتزال ، والعداء لأهل الحديث :
وحين طغت مدرسة أهل الحديث ، ونشروا في الناس الكثير من الأمور التي يأباها العقل والوجدان ، والفطرة ، وتخالف القرآن.
مثل : نفي عصمة النبي «صلى الله عليه وآله» إلا في التبليغ ، عقيدة الجبر ، التجسيم والتشبيه ، لزوم الخضوع للحاكم الظالم ، والمنع من الاعتراض عليه ، وغير ذلك من أمور أدخلوها في عقائد المسلمين ، وفي تاريخهم ، وهي مأخوذة في الأكثر من أهل الكتاب.
ثم واجههم المعتزلة ، وغيرهم ، ولا سيما الشيعة بالأحاديث الصحيحة والصريحة ، التي رووها هم أنفسهم ، فأحرجوهم في كثير من المواقع ، وفندوا مزاعمهم وأقاويلهم ، سواء بالنسبة لكثير من الجهات العقائدية ، أم بالنسبة لبعض ما يزعمون أنه أحداث تاريخية ، أو غيرها.
فإنهم التجأوا إلى أسلوب التجريح ، والمقاطعة على الصعيد الفكري ، وقرروا بالنسبة إلى الشيعة رد رواية كل من فيه رائحة التشيع.
وأما بالنسبة للمعتزلة الذين كانوا يتمتعون بالتأييد من قبل عدد من الحكام ، فقد قرروا :
أنه إذا كان الراوي معتزليا ، يناصب أهل الحديث العداء ، فلا يسمع كلامه ، ولا يعتد به ، لأن كونه معتزليا ، مخالفا لأهل الحديث ، يوجب
ضعفه ، وسقوط ما يأتي به!! (١).
٤٢ ـ خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء :
ومن الذين يسمح لهم بالحديث على نطاق واسع عائشة أم المؤمنين ، التي نشرت في الناس ألوف الأحاديث ، التي تصب في اتجاه معين ، لا يتلاءم كثيرا مع خط علي «عليه السلام» وأهل بيته.
إن لم نقل : إنه يؤيد الاتجاهات المخالفة له في كثير من الأحيان.
ومنعا لأي ريب أو اعتراض ، فقد جاءت الضابطة على صورة حديث منسوب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» يقول : «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» (٢).
٤٣ ـ أبو هريرة راوية الإسلام :
ومن المعلوم : أن أبا هريرة الدوسي يستأثر بأكبر رقم من الروايات التي ينسبها إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، حيث إن له منها ، حسب إحصائية ذكرها العلامة أبو رية رحمه الله ٥٣٧٤ حديثا (٣).
ونحن نجد الطعون تتوجه إلى هذا الرجل ، أعني أبا هريرة من كل حدب وصوب ، وقد ألفت في ذلك الكتب (٤) ، وكتبت البحوث.
بل إنك تجد في الطاعنين عليه من هو من كبار الصحابة أيضا ؛ وقد قال
__________________
(١) السنة قبل التدوين ص ٤٤٣.
(٢) أضواء على السنة المحمدية ص ١٢٧.
(٣) راجع : كتابه أضواء على السنة المحمدية.
(٤) راجع كتاب : أبو هريرة لشرف الدين ، وكتاب : أبو هريرة شيخ المضيرة ، لأبي رية.
إبراهيم بن سيار النظام : أكذبوه : عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة (١).
ورد سعد على أبي هريرة مرة ، فوقع بينهما كلام حتى ارتجت الأبواب بينهما (٢).
وروي عن عمر بن الخطاب قوله : أكذب المحدثين أبو هريرة (٣).
وقد ذكر الذهبي نصوصا عديدة تفيد : أنهم كانوا يتجنبون حديث أبي هريرة ، ويتكلمون في إكثاره من الحديث (٤).
وإن أدنى مراجعة لكتاب أبو هريرة شيخ المضيرة للشيخ محمود أبي رية ، وكذا كتاب أبو هريرة للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين ، تغنينا عن ذكر النصوص الكثيرة لذلك.
وبعد كل ما تقدم نقول : لقد رأوا : أن هذه الطعون التي تتوجه إلى أبي هريرة من كل حدب وصوب ، قد تؤدي إلى إحداث خلل كبير في البنية الفكرية لتيار كبير من الناس ، فلا بد إذن من مواجهة هذه الهجمة بهجمة مماثلة ، ولا مانع من أجل تثبيت الأصول والقواعد من استعمال أسلوب التخويف ، والتهويل ، بل والسباب ، ثم الاتهام بكل عظيمة ، وإن لم ينفع ذلك كله في دفع غائلة تلك التجريحات والطعون ، فبالإمكان الالتجاء إلى أسلوب تحريض الحكام على أولئك الناس ، إذا ما حاولوا التذكير بأقوال
__________________
(١) تأويل مختلف الحديث ص ١٣٢ والسنة قبل التدوين ص ٤٥٥.
(٢) سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٦٠٣.
(٣) السنة قبل التدوين ص ٤٥٥ عن : رد الدارمي على بشر المريسي ص ١٣٢.
(٤) راجع : سير أعلام النبلاء ج ٢ ترجمة أبي هريرة.
السلف ومواقفهم من أبي هريرة راوية الإسلام.
ولعل خير ما يجسد هذا الاتجاه هي أقوال ابن خزيمة التي جمعت ذلك كله ، حيث قرر :
أن من يطعن في أبي هريرة : إما معطل جهمي .. وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد ، ولا يرى طاعة خليفة ، ولا إمام ، أو قدري ، أو جاهل (١).
هذا كله عدا عن رمي الطاعنين على أبي هريرة بالانحراف ، والضلال ، وبكثير من أنحاء التوهين والتهجين ، والإخراج من الدين ، كل ذلك إكراما لأبي هريرة ، فلأجل عين ألف عين تكرم.
٤٤ ـ لا يعرض الحديث على القرآن :
ومن أجل مواجهة الحالة الناشئة من وجود أحاديث كثيرة ، حتى في الصحيحين تخالف القرآن الكريم وتنافيه ، الأمر الذي من شأنه أن يحرج القائلين بصحة كل ما في الصحيحين ، وكذا ما جاء في غيرهما من أحاديث بأسانيد معتبرة وصحيحة ، حسب تقديراتهم ، من أجل ذلك ، قرروا :
أن الحديث أصل قائم برأسه (٢) ولا يعرض على الكتاب العزيز ، والأحاديث التي تلزم بعرض الحديث على القرآن هي من وضع الزنادقة ، والسنة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة. (وسيأتي ذلك مع مصادره في الفصل التالي إن شاء الله تعالى).
__________________
(١) راجع : السنة قبل التدوين ص ٤٦٧ و ٤٦٨.
(٢) مقالات الإسلاميين ج ٢ ص ٢٥١.
ولأجل هذا نجد : «أن كثيرا من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة ؛ لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول ، لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع من الأحاديث ، ومعاني القرآن» (١).
٤٥ ـ موافقة أهل الكتاب :
أما ما نرى : أنه قد جاء موافقا لأهل الكتاب ، فهو لا يعني ـ بالضرورة ـ أن أهل الكتاب قد تلاعبوا بهذا الدين ، وأدخلوا فيه ترهاتهم.
وذلك لوجود ضابطة مزعومة تقول : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يحب موافقة أهل الكتاب في كل ما لم يؤمر به (٢).
رغم أننا قد قدمنا : أن الأمر كان على عكس ذلك تماما ، ولسوف يأتي في هذا الكتاب ، حين الكلام حول صيام عاشوراء ما يثبت ذلك أيضا إن شاء الله تعالى.
٤٦ ـ حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج :
أما بالنسبة للرواية عن بني إسرائيل ، وإعطاء الفرصة لأهل الكتاب لبث سمومهم ، والعبث بأفكار الناس ، وتسريب عقائدهم ، وأفكارهم ، وحتى أحكامهم الفقهية إلى المسلمين ، فليس الذنب في ذلك ذنبهم ، وإنما كان ذلك انسجاما مع الضابطة المقررة ، وامتثالا للمرسوم الذي يقول : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».
__________________
(١) أضواء على السنة ص ٣٧٠ عن الانتقاء ص ١٤٩.
(٢) راجع : صحيح البخاري ط الميمنية ج ٤ ص ٦٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٢ وزاد المعاد ج ١ ص ١٦٥.
وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يحدث عن بني إسرائيل عامة ليله حتى يصبح ، كما زعموا ، وكل ذلك قد تقدم.
٤٧ ـ الحسن والقبح شرعيان لا عقليان :
وتواجههم أحكام شرعية مزعومة ، وأقاويل عقائدية ، وأحاديث وأوامر وأمور غير معقولة ، ولا مستساغة ، من قبيل ما ذهب إليه جمهور الأشاعرة من أن التكليف بغير المقدور وما لا يطاق صحيح وجائز ، بل جوز بعضهم التكليف بالمحال أيضا (١) ، واستدلوا على ذلك بما لا مجال لذكره هنا (٢) ، واستدل البعض بروايات بدء نزول الوحي أيضا ، كما سيأتي.
فمن أجل مواجهة الضجة التي ربما تثيرها أقاويل من هذا القبيل جاؤوا بضابطة عجيبة غريبة تقول :
إنه لا قبيح إلا ما قبحه الشرع ، ولا حسن إلا ما حسنه الشرع. أما العقل فلا دور له في هذا الأمر ، لا من قريب ولا من بعيد ، وهذا ما ذهب إليه الأشعرية ، ومن وافقهم (٣) وبذلك تنحل عندهم كثير من العقد العقائدية ، والتاريخية ، والفقهية وغيرها ، ولا نريد أن نناقش هذه المزعمة هنا ، غير أننا نشير إلى أن الشوكاني ـ وهو من كبار علمائهم ـ قد اعتبر إنكار
__________________
(١) راجع : نهاية السؤل (شرح منهاج الأصول) ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣٢١ متنا وهامشا ، وص ٣٤٥ و ٣٤٧ و ٣٤٨ و ٣٥٣ وإرشاد الفحول ص ٩ (١).
(٢) راجع : إرشاد الفحول ص ٩.
(٣) راجع : إرشاد الفحول ص ٧ ونهاية الأصول ج ١ ص ٣١٤ وص ٨١ ـ ٨٥.
إدراك العقل لكون الفعل حسنا ، أو قبيحا مكابرة ومباهتة (١).
٤٨ ـ صوافي الأمراء :
وقد قلنا في فصل سابق : إنهم من أجل تلافي الإعتراضات على بعض الفتاوى التي كانت تصدر من بعض الرموز الرئيسية ، مما يخالفون فيها صريح النص القرآني أو النبوي ، الأمر الذي قد يزعزع الثقة بهم ، بالإضافة إلى سلبيات أخرى ، إنهم من أجل تلافي ذلك ، قرروا حصر الفتوى في القضايا السياسية والقضائية الهامة ، بالأمراء ، وسموها : صوافي الأمراء.
٤٩ ـ الفتوى لأشخاص بأعيانهم :
وأما سائر ما تبقى من أمور ، فقد أوكلت إلى أناس بأعيانهم ، وحظر على الآخرين ـ الذين لا يطمأنّ إلى ميلهم ، أو أهليتهم في مجال تقوية الخط السياسي القائم ـ حظر عليهم أن يتصدوا للفتوى ، أو للرواية ، وقد قدمنا بعض ما يوضح ذلك فلا نعيد ، ثم قرروا ضابطة أخرى وهي :
٥٠ ـ المنع من الحديث ، من روايته ، ومن كتابته :
وكذا ضابطة :
٥١ ـ المنع من السؤال عن معاني القرآن :
إلى غير ذلك : من معايير زائفة ، وضوابط تهدف إلى حفظ الإنحراف والإحتفاظ به ، لا يتسع المقام لذكرها ، ولا تسمح الفرصة بتقصيها. ولعل فيما ذكرناه كفاية لمن أراد الرشد والهداية.
__________________
(١) إرشاد الفحول ص ٩.
الفصل الرابع :
الضوابط الصحيحة للبحث العلمي
لا بد من معايير وضوابط :
وإذ قد اتضح لدينا : أنه قد كان ثمة خطة خبيثة ، تستهدف النيل من شخصية النبي العظيم والكريم «صلى الله عليه وآله» ، ومن المقدسات الإسلامية ، ومن كل رموز الإسلام وشعائره ، ومبانيه ومآثره ؛ فمن الضروري جدا ـ إذا أردنا تقييم النصوص الروائية والتاريخية النبوية ، وكل قضايا الإسلام ـ أن نعتمد معايير وضوابط قادرة على إعطائنا الصورة الحقيقية ، والأكثر نقاء وصفاء ، ثم هي قادرة على إبعاد ذلك الجانب الموبوء والمريض ، والمزيف عن دائرة اهتماماتنا ، ثم عن محيطنا الفكري ، والعملي بصورة كاملة وشاملة ، فما هي تلك المعايير؟
وما هي حقيقة هاتيك الضوابط؟!
إننا من أجل الإجابة على هذا السؤال نقول بإيجاز واختصار :
أدوات البحث الموضوعي والعلمي :
إن من الواضح : أن ما لدينا من علوم إسلامية ، مثل علم الفقه وأصوله ، وعلوم القرآن ، والكلام ، والرجال ، والتاريخ ، والنحو واللغة ، وغير ذلك قد استفدنا في بعضه ـ جزئيا على الأقل ـ من إرشادات العقل وأحكامه ، ومن تتبع ودراسة اللغة العربية ، من جهات وحيثيات مختلفة ، إلا
أن معظم ذلك قد جاء من خلال الاستفادة من النص القرآني الكريم ، ومعرفة حقائقه ودقائقه ، وسائر ما يرتبط به ، ثم ما جاء على شكل روايات ، نقلها لنا أناس عن غيرهم ، ونقلها هؤلاء عن آخرين أيضا ..
وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، أو الإمام «عليه السلام» ، أو أي شخص آخر روى الحدث أو عاينه ، أو صدر منه القول أو الموقف.
فإذا أردنا البحث في صحة أو فساد هذا المنقول ، فلا بد لنا من امتلاك أدوات البحث ، واستخدام وسائله.
ونريد أن نوضح هنا : أن وسائل وأدوات البحث العلمي لدى الواعين من أهل الإسلام ، لا تختلف عنها لدى غيرهم من عقلاء البشر جميعا ، فهم يعتمدون نفس المعايير والضوابط التي يعتمدها سائر العقلاء والحكماء من الناس ، إذا أرادوا الوصول إلى ما هو حق وواقع وصحيح ، واستبعاد ما هو مزيف ، أو محرف ، أو مصطنع.
ونحن لا بد لنا من أجل استيفاء البحث من الإشارة إلى بعض تلك الأدوات والوسائل (١) ، فنقول :
__________________
(١) إن محط نظرنا في هذا الفصل وفي سابقه ، هو ـ في الأكثر ـ النصوص المرتبطة بالنبي «صلى الله عليه وآله» ، والأئمة المعصومين «عليهم السلام». وما عدا ذلك من قضايا تاريخية فإنه لا يهمنا كثيرا الآن. ونشير هنا إلى أن من المعلوم : أن التاريخ وكل قضايا التراث قد كتبت ـ في الأكثر ـ بأيد غير أمينة ، فلا يمكن المبادرة إلى عرضها على أنها تاريخ أو تشريع ، أو غير ذلك إلا بعد دراستها بعمق ، وتمحيصها بصورة كافية ووافية. ونحن نعترف في الوقت الحاضر أننا غير قادرين على القيام بمهمة كهذه.