تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

لا تعرفه (لَعَلَّ السَّاعَةَ) أي : التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب (تَكُونُ) أي : توجد وتحدث على وجه مهوّل عجيب (قَرِيباً) أي : في زمن قريب قال البقاعي : ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو عن تعيين وقتها قال البخاري في الصحيح : إذا وصفت صفة المؤنث قلت قريبة ، وإذا جعلته ظرفا أو بدلا ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث ، وكذلك لفظها في الاثنين والجمع للذكر والأنثى.

ثم استأنف الإخبار بحال السائلين عنها بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعلى (لَعَنَ) أي : أبعد إبعادا عظيما من رحمته (الْكافِرِينَ) أي : الساترين لما من شأنه أن يظهر مما دلت عليه العقول السليمة من أمرها (وَأَعَدَّ) أي : أوجد وهيأ (لَهُمْ) من الآن (سَعِيراً) أي : نارا شديدة الاضطرام والتوقد لتكذيبهم بها وبغيرها مما أوضح لهم أدلته.

(خالِدِينَ) أي : مقدّرا خلودهم (فِيها) أي : السعير وأعاد عليها الضمير مؤنثا لأنها مؤنثة أو لأنه في معنى جهنم وقوله تعالى : (أَبَداً) بيان لإرادة الحقيقة لئلا يتوهم بالخلود المكث الطويل (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) أي : يتولى أمرا مما يصيبهم بشفاعة أو غيرها (وَلا نَصِيراً) ينصرهم.

وقوله تعالى : (يَوْمَ) معمول لخالدين أي : مقدرا خلودهم فيها على تلك الحال يوم (تُقَلَّبُ) أي : تقلبا كثيرا (وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي : ظهرا لبطن كاللحم يشوى بالنار حالة كونهم (يَقُولُونَ) وهم في محل الجزاء وقد فات المحل القابل للعمل متمنين بقولهم : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا) أي : في الدنيا (اللهَ) أي : الذي لا أمر لأحد معه لما لا يدركون تلافيه لأنهم لا يجدون ما يقدّر أنه يبرد غلتهم من ولي ولا نصير ولا غيرهما سوى هذا التمني.

ولما كان المقام للمبالغة في الإذعان والخضوع أعادوا العامل بقولهم (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي : الذي بلغنا عنه حتى لا نبتلي بهذا العذاب.

تنبيه : تقدم الكلام على القراءة في (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا) أول السورة عند (الظُّنُونَا).

(وَقالُوا) أي : الأتباع منهم لما لم ينفعهم شيء متبرئين بالدعاء على من أضلهم بما لا يبرئ عليلا ولا يشفي غليلا (رَبَّنا) أي : أيها المحسن إلينا وأسقطوا أداة النداء على عادة أهل الخصوص بالحضور زيادة في التوثيق بإظهار أنه لا واسطة لهم إلا ذلهم وانكسارهم (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر ، وقرأ ابن عامر بألف بعد الدال وكسر التاء على جمع الجمع للدلالة على الكثرة والباقون بغير ألف بعد الدال وفتح التاء على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء (فَأَضَلُّونَا) أي : فتسبب عن ذلك أنهم أضلونا بما كان لهم من نفوذ الكلمة (السَّبِيلَا) أي : طريق الهدى فأحالوا ذلك على غيرهم كما هي عادة المخطئ من الإحالة على غيره مما لا ينفعه.

ثم كأنه قيل : فما تريدون لهم فقالوا : مبالغين في الرقة للاستعطاف بإعادة الرب.

(رَبَّنا) أي : المحسن إلينا (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي : مثلي عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي : اطردهم عن محالّ الرحمة طردا متناهيا ، وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي : لعنا هو أشد اللعن وأعظمه والباقون بالثاء المثلثة أي : كثير العدد.

ولما بين تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب ، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : صدقوا بما يتلى عليهم (لا تَكُونُوا) بإيذائكم

٣٤١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر زينب وغيره كونا هو كالطبع لكم (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) من قومه بني إسرائيل آذوه بأنواع الأذى كما قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قسم قسما فتكلم فيه بعضهم فقال : «لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر» (١). واختلفوا فيما أوذي به موسى ، فروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا : ما تستر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا» (٢) كما قال تعالى : (فَبَرَّأَهُ) أي : فتسبب عن أذاهم أن برأه (اللهُ) الذي له صفات الجلال والكمال (مِمَّا قالُوا) فخلا يوما وحده ليغتسل فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ففر الحجر بثوبه فجمح موسى عليه‌السلام وأخذ عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر به ، وطفق بالحجر يضربه بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا» ، والأدرة : عظم الخصية لنفخة فيها وقوله : فجمح أي : أسرع وقوله ندبا هو بفتح النون والدال وأصله : أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب بالحجر ، وقال قوم : إيذاؤهم إياه لما مات هارون في التيه ادّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة عليهم‌السلام حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا ، وقال أبو العالية : هو أن قارون استأجر مومسة أي : زانية لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله تعالى وبرأ موسى من ذلك ، وكان ذلك سبب الخسف بقارون ومن معه وقال عبد الله بن مسعود : لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى فلانا كذا لناس من العرب ، وآثرهم في القسمة فقال رجل : هذه قسمة والله ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت : والله لأخبرن بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال : «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله» ثم قال : «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (٣) والصرف بكسر الصاد : صبغ أحمر يصبغ به الأديم.

ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال تعالى : (وَكانَ) أي : موسى عليه‌السلام كونا راسخا (عِنْدَ اللهِ) أي : الذي لا يذل من والاه (وَجِيهاً) أي : معظما رفيع القدر ذا وجاهة يقال وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا كان ذا جاه وقدر قال ابن عباس كان عظيما عند الله تعالى لا يسأله شيئا إلا أعطاه وقال الحسن كان مجاب الدعوة وقيل كان محببا مقبولا.

ولما نهاهم عن الأذى أمرهم بالنفع ليصيروا ذوي وجاهة عنده مكرر للنداء استعطافا وإظهارا للاهتمام بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ادعوا ذلك (اتَّقُوا اللهَ) أي : صدقوا دعواكم بمخافة من له جميع العظمة فاجعلوا لكم وقاية من سخطه بأن تبذلوا له جميع ما أودعكم من الأمانة (وَقُولُوا) في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر زينب وغيرها ، وفي حق بناته ونسائه وفي حق المؤمنين

__________________

(١) أخرجه البخاري في الخمس حديث ٣١٥٠ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٦٢ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٨٩٦.

(٢) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٠٤ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٢١.

(٣) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.

٣٤٢

ونسائهم وغير ذلك (قَوْلاً سَدِيداً) قال ابن عباس : صوابا وقال قتادة : عدلا وقال الحسن : صدقا وقال عكرمة : هو قول لا إله إلا الله. وقيل : مستقيما.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم وقال مقاتل : يزكي أعمالكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي : يمحها عينا وأثرا فلا يعاقب عليها ولا يعاتب (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) أي : الذي لا أعظم منه (وَرَسُولَهُ) أي : الذي عظمته من عظمته في الأوامر النواهي (فَقَدْ فازَ) وأكد ذلك بقوله تعالى : (فَوْزاً عَظِيماً) أي : ظفر بجميع مراداته يعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا.

ولما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحسن الآداب بين أن التكليف الذي وجهه الله تعالى إلى الإنسان أمر عظيم بقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) واختلف في هذه الأمانة المعروضة فقال ابن عباس : أراد بالأمانة الطاعة من الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده عرضها (عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود : الأمانة أداء الصلوات ، وإيتاء الزكوات ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن أسلم : هو الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ، وقال : هذه أمانتي استودعتكها ، فالفرج أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال بعضهم : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير وهي رواية الضحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف أن الله تعالى عرض هذه الأمانة على السموات والأرض والجبال فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن : وما فيها؟ فقال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن (فَأَبَيْنَ) على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها (أَنْ يَحْمِلْنَها) أي : قلن : لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي : وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو ألزمن لم يمتنعن من حملها فالجمادات كلها خاضعة لله عزوجل مطيعة ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقال في الحجارة : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ) [البقرة : ٧٤] وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ) [الحج : ١٨] الآية وقال بعض أهل العلم : ركّب الله فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقال بعضهم : المراد بالعرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض عرضها على من فيهما من الملائكة كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهلها وقيل : المراد المقابلة أي : قابلنا الأمانة مع السموات والأرض والجبال فرجحت الأمانة قال البغوي : والأول أصح ، وهو قول أكثر العلماء.

تنبيه : قوله تعالى : (فَأَبَيْنَ) أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك ، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السموات على المذكر وهو الجبال.

٣٤٣

فإن قيل : ما الفرق بين إبائهن وإباء إبليس في قوله تعالى : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣١] أجيب : بأن الإباء هناك كان استكبارا ، لأن السجود كان فرضا وههنا استصغارا لأن الأمانة كانت عرضا.

وإنما امتنعن خوفا كما قال تعالى : (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي : آدم قال الله تعالى لآدم : إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها قال : يا رب وما فيها قال : إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم عليه‌السلام وقال : بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك أجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر لما لا يحل فأرخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك لحيين وغلقا فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك سترا فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر. وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة بصخرة ملقاة ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها وقالوا : لا نطيق حملها وجاء آدم عليه‌السلام من غير أن يدعى وحرك الصخرة وقال : لو أمرت بحملها لحملتها فقلن : احمل فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال : والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له : احمل فحملها إلى حقويه وقال والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فأراد أن يضعها فقال له الله تعالى : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.

(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) قال ابن عباس : ظلوما لنفسه جهولا بأمر الله تعالى وما احتمل من الأمانة وقال الكلبي : ظلوما حين عصى ربه جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقال مقاتل : ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل ، وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني في قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) قولا آخر فقالوا : إن الله تعالى ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقن له وقوله تعالى : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) أي : أبين الأمانة يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) [العنكبوت : ١٣].

(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال : وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق حملا الأمانة أي : خانا فيها ، والأول قول السلف وهو الأولى وقيل : المراد بالأمانة العقل والتكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وتحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ، ومجازوة الحد ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما ، وعن أبي هريرة قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال : «متى الساعة فمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال ، وقال بعضهم : بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال : أين السائل عن الساعة

٣٤٤

قال : ها أنا يا رسول الله قال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» (١) وعنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (٢) وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» (٣).

وقوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ) أي : الملك الأعظم متعلق بعرضنا المترتب عليه حمل الإنسان (الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي : المضيعين الأمانة.

تنبيه : لم يعد اسمه تعالى فلم يقل : ويعذب الله المشركين وأعاده في قوله تعالى (وَيَتُوبَ اللهُ) أي : بما له من العظمة (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : المؤدين للأمانة ، ولو قال تعالى : ويتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلا ، ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف.

ولما ذكر تعالى في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر تعالى من أوصافه وصفين بقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ) أي : على ما له من الكبرياء والعظمة (غَفُوراً) للمؤمنين حيث عفا عن فرطاتهم (رَحِيماً) بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم مكرما لهم بأنواع الكرم. وما رواه البيضاوي من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» (٤) حديث موضوع رواه الثعلبي.

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم حديث ٥٩.

(٢) أخرجه أبو داود في البيوع حديث ٣٥٣٤ ، والترمذي في البيوع حديث ١٢٦٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٤.

(٣) أخرجه مسلم في النكاح حديث ١٤٣٧ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٨٧٠.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٧٥.

٣٤٥

سورة سبأ

مكية إلا (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية وهي أربع أو خمس وخمسون آية ، وثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) أي : الذي من شمول قدرته إقامة الحساب (الرَّحْمنِ) أي : الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب (الرَّحِيمِ) أي : الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب.

ولما ختم السورة التي قبل هذه بصفتي المغفرة والرحمة بدأ هذه بقوله :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : ذي الجلال والجمال على هذه النعمة.

٣٤٦

فائدة : السور المفتتحة بالحمد خمس : سورتان في النصف الأول وهما الأنعام والكهف ، وسورتان في النصف الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة ، والخامسة هي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الثاني الأخير ، والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، فإن الله تعالى خلقنا أولا برحمته ، وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان : الإبداء ، والإعادة ، وفي كل حالة له تعالى نعمتان : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، فقال في النصف الأول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢] فأشار إلى الإيجاد الأول ، وقال في السورة الثانية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١] فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء ، فإن الشرائع بها البقاء ولو لا شرع تنقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والنفاق وقال ههنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى (وَلَهُ) أي : وحده (الْحَمْدُ) أي : الإحاطة بالكمال (فِي الْآخِرَةِ) أي : ظاهر الكل من يجمعه الحشر وله كل ما فيها لا يدعي أحد ذلك في شيء منه ظاهرا ولا باطنا وقال في سورة الملائكة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ١] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] أي : يوم القيامة يرسلهم الله تعالى مسلمين على المسلمين كما قال تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنبياء : ١٠٣] وقال تعالى عنهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر نعمتين أشار بقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] إلى النعمة العاجلة ، وأشار بقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] إلى النعمة الآجلة فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.

فإن قيل : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلم ذكر الله تعالى السموات والأرض؟ أجيب : بأن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله تعالى النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض.

ثم قال : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) ليقابل نعم الآخرة بنعم الدنيا ، ويعلم فضلها بدوامها وقيل : الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] وتقدم الكلام على الحمد لغة واصطلاحا ، والشكر كذلك في أول الفاتحة فتح الله علينا بكل خير وفعل ذلك بأحبابنا.

ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاد الآخرة قال تعالى : (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي : الذي بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها ، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلا بالعمل على وفقه (الْخَبِيرُ) أي : البليغ الخبر وهو العلم بظواهر الأمور وبواطنها حالا ومآلا.

ثم بين كمال خبره بقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) أي : يدخل (فِي الْأَرْضِ) أي : هذا الجنس من المياه والأموال والأموات وغيرها (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من المياه والمعادن والنبات وغيرها (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) أي : من هذا الجنس من قرآن وملائكة وماء وحرارة وبرودة وغير ذلك (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الكلام الطيب قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] والملائكة

٣٤٧

والأعمال الصالحة قال تعالى (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

تنبيه : قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء لأن الحبة تبذر أولا ثم تسقى ثانيا وقال تعالى (ما يَعْرُجُ فِيها) ولم يقل ما يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة لأن كلمة إلى للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال (وَما يَعْرُجُ فِيها) ليفهم نفوذه فيها وصعوده وتمكنه فيها ، ولهذا قال في الكلم الطيب (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) لأن الله تعالى هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه (وَهُوَ) أي : والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للأبدان (الرَّحِيمُ) أي : المنعم بإنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان وغير ذلك (الْغَفُورُ) أي : المحاء للذنوب للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائقة للحصر.

تنبيه : قدم تعالى صفة الرحمة على صفة الغفور ليعلم أن رحمته سبقت غضبه.

ثم بين تعالى أن هذه النعمة التي يستحق الله تعالى بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي : أنكروا مجيئها أو استظهارها استهزاء بالوعد به ، وقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) أي : لهم (بَلى) رد لكلامهم وإيثار لما نفوه (وَرَبِّي) أي : المحسن إلي بما عمني به معكم وبما خصني من تنبيئي وإرسالي إليكم إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي : الساعة لتظهر فيها ظهورا تاما الحكمة بالعدل والفصل وغير ذلك من عجائب الحكم والفضل وقوله تعالى (عالِمِ الْغَيْبِ) قرأه نافع وابن عامر برفع الميم على هو عالم الغيب ، أو مبتدأ وخبره ما بعده ، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بجره نعتا لربي وقرأ حمزة والكسائي بعد العين بلام ألف مشددة وخفض الميم (لا يَعْزُبُ) أي : لا يغيب (عَنْهُ مِثْقالُ) أي : وزن (ذَرَّةٍ) أي : من ذات ولا معنى ، والذرة : النملة الحمراء الصغيرة جدا صارت مثلا في أقل القليل فهي كناية عنه ، وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بضمها.

وقوله تعالى (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله تعالى (فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه بالأرواح وما فيها من الملائكة وغيرهم. وقوله تعالى (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى علمه بالأجسام وما في الأرض من غيرها ، فإذا علم الأرواح والأجسام قدر على جمعهما فلا استبعاد في الإعادة. وقوله تعالى : (وَلا أَصْغَرُ) أي : ولا يكون شيء أصغر (مِنْ ذلِكَ) أي : المثقال (وَلا أَكْبَرُ) أي : منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : بين هو اللوح المحفوظ جملة مؤكدة لنفي العزوب.

فإن قيل : فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ أجيب : بأنه تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغار لكونها محل النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال : الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضا مكتوب.

ثم بين علة ذلك كله بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) أي : وإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان فلا يدعه بغير جزاء ، ثم بين جزاءهم بقوله تعالى : (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي : لزلاتهم وهفواتهم لأن الإنسان المبني على

٣٤٨

النقصان لا يقدر أن يقدر العظيم السلطان حق قدره (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي : جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي لا كدر فيه وهو رزق الجنة.

تنبيه : ذكر تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات أمرين : الإيمان ، والعمل الصالح ، وذكر لهم أمرين : المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ومن في قلبه وزن ذرة من إيمان» (١) ، والرزق الكريم على العمل الصالح وهذا مناسب ، فإن من عمل لسيد كريم عملا فعند فراغه لا بد وأن ينعم عليه وقوله تعالى (كَرِيمٌ) بمعنى : ذي كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي غالبا.

فإن قيل : ما الحكمة في تمييزه الرزق بأنه كريم ولم يصف المغفرة؟ أجيب : بأن المغفرة واحدة وهي للمؤمنين ، وأما الرزق فمنه شجرة الزقوم والحميم ، ومنه الفواكه والشراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها.

ولما بين تعالى حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين في ذلك اليوم بقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) أي : فعلوا فعل الساعي (فِي آياتِنا) أي : القرآن بالإبطال وتزهيد الناس فيها وقوله تعالى : معجزين قرأه ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف بعد العين وتشديد الجيم أي : مبطئين عن الإيمان من أراده ، والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم وكذا في آخر السورة أي : مسابقين كي يفوتونا (أُولئِكَ) الحقيرون عن أن يبلغوا مرادا بمعاجزتهم (لَهُمْ عَذابٌ) وأي عذاب (مِنْ رِجْزٍ) أي : سيئ العذاب (أَلِيمٌ) أي : مؤلم وقرأ ابن كثيرة وحفص أليم بالرفع على أنه صفة لعذاب ، والباقون بالجر على أنه صفة لرجز قال الرازي : قال هناك لهم رزق كريم ولم يقل بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم ، وقال ههنا (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) بلفظة صالحة للتبعيض وذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب.

وقوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو أهل الكتاب وقيل : مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل : الصحابة ومن شايعهم فيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على ليجزي أي : وليعلم الذين أوتوا العلم. والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بإنزاله (هُوَ الْحَقَ) أي : أنه من عند الله تعالى.

تنبيه : الذي أنزل هو المفعول الأول ، وهو ضمير فصل والحق : مفعول ثان لأن الرؤية علمية.

وقوله تعالى (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ) أي : طريق (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) في فاعله وجهان أظهرهما أنه ضمير الذي أنزل وهو القرآن. والثاني : ضمير اسم الله تعالى وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٤٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٩٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣١٢ ، وأخرجه بلفظ : «يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من إيمان» الترمذي في صفة جهنم حديث ٢٥٩٨.

٣٤٩

والرغبة ، العزيز : يفيد التخويف والانتقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : قال بعضهم على وجه التعجب لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ) أي : يخبركم إخبارا لا أعظم منه بما حواه من العجب الخارج عما نفعله أنكم (إِذا مُزِّقْتُمْ) أي : قطعتم وفرقتم بعد موتكم. وقوله تعالى (كُلَّ مُمَزَّقٍ) يحتمل أن يكون اسم مفعول أي : كل تمزيق فلم يبق شيء من أجسادكم مع شيء بل صار الكل بحيث لا يميز بين ترابه وتراب الأرض ، ويحتمل أن يكون ظرف مكان بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم الرياح والسيول كل مذهب (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : تنشؤون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا.

والهمزة في قوله : (أَفْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ) أي : الذي لا أعلم منه (كَذِباً) أي : بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل صحيح القصد همزة استفهام فالقراء الجميع يحققونها ، واستغنى بها عن همزة الوصل فإنها تحذف لأجلها فلذلك تثبت هذه الهمزة ابتداء ووصلا ، قال البغوي : هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك نصبت (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون يحكى به ذلك ، واستدل الجاحظ بهذه الآية على أن الكلام ثلاثة أقسام : صدق وكذب ، ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة منه على القسم الثالث أن قولهم (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) لا جائز أن يكون كذبا لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ، ولا جائز أن يكون صدقا لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث. وأجيب عنه : بأن المعنى أم لم يفتر ولكن عبر هذا بقولهم (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) لأن المجنون لا افتراء له.

تنبيه : قوله (أَفْتَرى) يحتمل أن يكون من تمام قول الكافرين أولا أي : من كلام القائلين (هَلْ نَدُلُّكُمْ) ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل (هَلْ نَدُلُّكُمْ) كأن القائل لما قال له (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) قال له : هل افترى على الله كذبا إن كان يعتقد خلافه أم به جنة أي : جنون إن كان لا يعتقد خلافه.

ولما كان الجواب ليس به شيء من ذلك عطف عليه قوله تعالى (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يوجدون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر (بِالْآخِرَةِ) أي : المشتملة على البعث والعذاب (فِي الْعَذابِ) أي : في الآخرة (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي : عن الصواب في الدنيا ، فرد الله تعالى عليهم ترديدهم وأثبت لهم سبحانه ما هو أفظع من القسمين فقوله تعالى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) في العذاب في مقابلة قولهم (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وقوله تعالى (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) في مقابلة قولهم (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) وكلاهما مناسب ، أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤد إلى أنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا الكذب إلى البريء ، وأما الضلال فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء ، فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين تعالى أنهم هم الضالون ، ثم وصف ضلالهم بالبعد ووصف الضلال به للإسناد المجازي لأن من يسمي المهدي ضالا يكون أضل ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هادي كل مهتد.

ولما ذكر تعالى الدليل على كونه عالم الغيب وكونه مجازيا على السيئات والحسنات ، ذكر دليلا آخر فيه التهديد والتوحيد بقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا) أي : ينظروا (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : أمامهم (وَما خَلْفَهُمْ) وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كلا الخافقين فقوله تعالى (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) دليل التوحيد فإنهما يدلان على الوحدانية ، ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة لقوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس ،

٣٥٠

٨١] وأما دليل التهديد فقوله تعالى (إِنْ نَشَأْ) أي : بما لنا من العظمة (نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) أي : كما فعلنا بقارون وذويه لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيه بأولى من غيره (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) أي : قطعا (مِنَ السَّماءِ) فنهلكهم بها ، وقرأ حفص بفتح السين والباقون بسكونها.

تنبيه : في قوله تعالى (أَفَلَمْ يَرَوْا) الرأيان المشهوران قدره الزمخشري أفعموا فلم يروا وغيره يدعي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف ، وقوله (مِنَ السَّماءِ) بيان للموصول فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون حالا فيتعلق به أيضا قيل : وثم حال محذوفة تقديره : أفلم يروا إلى كذا مقهورا تحت قدرتنا أو محيطا بهم فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها ، وأنا القادر عليهم وقرأ حمزة والكسائي إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط بالياء في الثلاثة كقوله تعالى (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١] والباقون بالنون ، وأدغم الكسائي الفاء في الباء وأظهرها الباقون (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما ترون من السماء والأرض (لَآيَةً) أي : علامة بينة تدل على قدرتنا على البعث (لِكُلِّ عَبْدٍ) أي : متحقق أنه مربوب ضعيف مسخر لما يراد منه (مُنِيبٍ) أي : فيه قابلية الرجوع إلى ربه بقلبه.

ولما ذكر تعالى من ينيب من عباده وكان من جملتهم داود عليه‌السلام كما قال ربه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [ص : ٢٤] ذكره بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي : أعطينا إعطاء عظيما دالا على نهاية المكنة بما لنا من العظمة (داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي : النبوة والكتاب ، أو الملك أو جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به ، وهذا الأخير أولى.

تنبيه : قوله تعالى (مِنَّا) فيه إشارة إلى بيان فضل داود عليه‌السلام لأن قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيدا خلعة فإذا قال القائل : أتاه منه خلعه يفيد أنه كان من خاص ما يكون له ، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ونظيره قوله تعالى (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) [التوبة : ٢١] فإن رحمة الله تعالى واسعة تصل إلى كل أحد ، لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه وقوله تعالى (يا جِبالُ) محكي بقول مضمر ثم إن شئت قدرته مصدرا ، ويكون بدلا من فضل على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلا قولنا يا جبال ، وإن شئت قدرته فعلا وحينئذ لك وجهان : إن شئت جعلته بدلا من آتينا معناه آتينا قلنا : يا جبال ، وإن شئت جعلته مستأنفا (أَوِّبِي) أي : رجّعي (مَعَهُ) بالتسبيح إذا سبح أمر من التأويب وهو الترجيع وقيل : التسبيح بلغة الحبشة وقال العيني : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا كأنه يقول : أوبي النهار كله بالتسبيح معه وقال وهب : نوحي معه وقيل : سيري معه وقوله تعالى (وَالطَّيْرَ) منصوب بإجماع القراء السبعة واختلف في وجه نصبه على أوجه : أحدها : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديرا لأن كل منادى في موضع نصب. الثاني : أنه عطف على فضلا قاله الكسائي ، ولا بد من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلا وتسبيح الطير. الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : وسخرنا له الطير قاله أبو عمرو.

تنبيه : لم يكن الموافق له في التأويب منحصرا في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما تستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى ، ثم من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة قال المفسرون : كان داود عليه

٣٥١

الصلاة والسلام إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح ، وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له. وقال وهب بن منبه : كان يقول للجبال سبحي ، وللطير أجيبي ، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئا أطيب منه ، وذلك كما : «كان الحصى يسبح في كف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما» (١) وكما : «كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل» (٢) ، وكما : «كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه» (٣) ، و«حنين الجذع مشهور» (٤) ، وكما : «كان الضب يشهد له» (٥) و«الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه» (٦) ونحو ذلك ، وكما : «جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برده رحمة لها» (٧).

ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها ، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي : الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة ، وذلك في قدرة الله تعالى يسير ، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليه‌السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا ، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود ، واليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا ، فقيض الله تعالى له ملكا في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك : نعم الرجل هو لو لا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله؟ فقال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال : فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع ، وإنه أول من اتخذها يقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله ، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين

__________________

(١) انظر حديث تسبيح الحصى بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أبي داود في الوتر باب ٢٤ ، والترمذي في الدعوات باب ١١٣.

(٢) روي الحديث بلفظ : «كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٥ ، والدارمي في المقدمة باب ٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٦٠.

(٣) روي الحديث بلفظ : «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ» أخرجه مسلم في الفصائل حديث ٢ ، والترمذي في المناقب باب ٣ ، والدارمي في المقدمة باب ٤ ، وأحمد في المسند ٥ / ٨٩ ، ٩٥ ، ١٠٥.

(٤) انظر حديث حنين الجذع عند البخاري في المناقب باب ٢٥ ، والترمذي في الجمعة باب ١٠ ، والمناقب باب ٦ ، والنسائي في الجمعة باب ١٧ ، وابن ماجه في الإقامة باب ١٩٩ ، والدارمي في المقدمة باب ٦ ، والصلاة باب ٢٠٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٤٩ ، ٢٦٧ ، ٣١٥ ، ٣٦٣ ، ٣ / ٢٢٦ ، ٢٩٣ ، ٢٩٥ ، ٣٠٦ ، ٣٢٤ ، ٥ / ١٣٩.

(٥) انظر حديث شهادة الضب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ١٥١ ـ ١٥٢.

(٦) انظر حديث «البعير الناد وسجوده له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكواه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عند ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ١٣٨ ـ ١٤٥.

(٧) انظر حديث الحمرة عند ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

٣٥٢

ويقال : إنه كان يعمل كل يوم درعا يبيعه بستة آلاف درهم ، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل ، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل ، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما ، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان داود عليه‌السلام لا يأكل إلا من عمل يده» (١).

ثم ذكر سبحانه وتعالى علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله تعالى بقوله عز من قائل : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي : دروعا طوالا واسعات يجرها لابسها على الأرض ، وذكر الصفة يعلم منها الموصوف ، واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي : نسج الدروع يقال لصانعه : الزراد والسراد فقيل : قدر المسامير في حلق الدروع أي : لا تجعل المسامير غلاظا فتكسر الحلق ولا دقاقا فتتقلقل فيها ويقال : السرد المسمار في الحلقة يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) اجعله على القصد وقدر الحاجة وقيل : اجعل كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلا ينفذ منها سهم ، ولتكن في ثخنها بحيث لا يقطعها سيف ، ولا تثقل على الدرع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر ، والظاهر ـ كما قال البقاعي ـ أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها ، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ولا كان للإلانة كبير فائدة ، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير وقال الرازي : يحتمل أن يقال : السرد هو عمل الزرد وقوله تعالى (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي : أنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب ، والكسب يكون بقدر الحاجة ، وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ، ويدل عليه قوله تعالى (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي : لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ، وأما الكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله تعالى : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : مبصر فأجازيكم به يريد بهذا داود وآله.

تنبيه : كما ألان الله تعالى لداود عليه‌السلام الحديد ألان لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخندق تلك الكدية وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم ، فضربها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضربة واحدة ، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيبا أهيل لا ترد فأسا ، وتلك الصخرة التي أخبره سلمان عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث ضربات كسر في كل ضربة ثلثا منها ، وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة وأضاءت للصحابة رضي الله تعالى عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار ، كأنها مصباح في جوف بيت مظلم فسألوه عن ذلك ، فأخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك ، وأخبره جبريل عليه‌السلام أنها ستفتح على أمته ، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر أنها مفتوحة لهم ، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر بفتحها عليهم فصدقه الله تعالى في جميع ما قال (٢) ، وأعظم من ذلك تصلب الخشب له عليه‌السلام حتى

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢٠٧٢.

(٢) انظر حديث الخندق والصخرة عند ابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ١٠١ ـ ١١٠.

٣٥٣

صار سيفا قويّ المتن جيد الحديدة ، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرجونا فصار في يده سيفا قائمة منه فقاتل به ، فكان يسمى العرجون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده حتى قتل ، وهو عنده وعن الواقدي : «أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر ، فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضيبا كان في يده من عراجين رطاب فقال : اضرب به فإذا هو سيف جيد ، فلم يزل عنده حتى قتل» (١) وإلحام داود للحديد ليس بأعجب من : «إلحام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليد معوذ ابن عفراء لما قطعها أبو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها» (٢) كما نقله البيهقي وغيره ومعجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنحصر ، وإنما أذكر بعضها تبركا بذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرته ويفعل ذلك بأهلينا ومحبينا.

ولما أتم الله تعالى المراد من آيات داود عليه‌السلام ، أتبعها بعض آيات ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام لمشاركته في الإنابة بقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ) أي : عوضا عن الخيل التي عقرها لله تعالى (الرِّيحَ) قرأ شعبة الريح بالرفع على الابتداء ، والخبر في الجار قبله أو محذوف والباقون بالنصب بإضمار فعل أي : وسخرنا (غُدُوُّها) أي : سيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال (شَهْرٌ) أي : تحمله وتذهب به وبجميع عسكره من الصباح إلى نصف النهار مسيرة شهر (وَرَواحُها) أي : من الزوال إلى الغروب (شَهْرٌ) أي : مسيرته فكانت تسير به في يوم واحد مسيرته شهرين قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع ، وهذا كما سخر الله تعالى الريح لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة الأحزاب ، فكانت تهد خيامهم وتضرب وجوههم بالتراب والحجارة ، وهي لا تجاوز عسكرهم إلى أن هزمهم الله تعالى بها ، وكما حملت شخصين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في غزوة تبوك فألقتهما بجبل طيىء ، وتحمل من أراد الله تعالى من أولياء أمته كما هو في غاية الشهرة ونهاية الكثرة ، وأما أمر الإسراء والمعراج فهو من الجلالة والعظم بحيث لا يعلمه إلا الله تعالى ، مع أن الله تعالى صرفه في آيات السماء بحبس المطر تارة وإرساله أخرى.

ولما ذكر تعالى الريح أتبعها ما هو من أسباب تكوينه بقوله تعالى : (وَأَسَلْنا) أي : أذبنا بما لنا من العظمة (لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي : النحاس حتى صار كأنه عين ماء فأجريت ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وعمل الناس إلى اليوم مما أعطي سليمان (وَمِنَ الْجِنِ) أي : الذي سترناهم عن العيون من الشياطين وغيرهم عطف على الريح أي : وسخرنا له من الجن (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : قد أمكنه الله تعالى منهم غاية الإمكان في غيبته وحضوره (بِإِذْنِ) أي : بأمر (رَبِّهِ) أي : بتمكين المحسن إليه (وَمَنْ يَزِغْ) أي : يمل (مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي : عن أمره الذي هو من أمرنا (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي : النار أي : في الآخرة وقيل : في الدنيا بأن يضربه ملك بسوط منها ضربة يحرقه ، وهذا كما أمكن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك العفريت فخنقه وهم بربطه حتى تلعب به صبيان المدينة ، ثم تركه تأدبا مع أخيه سليمان عليه‌السلام فيما سأل الله تعالى فيه ، وأما الأعمال التي يدور عليها إقامة الدين فأغناه الله تعالى فيها عن الجن بالملائكة الكرام عليهم‌السلام وسلط جمعا من صحابته

__________________

(١) انظر البداية والنهاية ٣ / ٢٦٨ ـ ٣٠٠.

(٢) انظر البداية والنهاية ٣ / ٣٠٦.

٣٥٤

على جماعة من مردة الجان منهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : «لما وكله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظ زكاة رمضان» ، ومنهم أبي بن كعب قبض على شخص منهم كان يسرق من تمره وقال : لقد علمت الجن ما فيهم من هو أشد مني ، ومنهم معاذ بن جبل لما جعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صدقة المسلمين فأتاه شيطان يسرق وتصور له بصور منها صورة فيل ، فضبطه والتفت يداه عليه وقال له : يا عدو الله فشكا له الفقر وأخبره أنه من جن نصيبين ، وأنهم كانت لهم المدينة فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجهم منها ، وسأله أن يخلي عنه على أن لا يعود ، ومنهم بريدة ، ومنهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه صارع الشيطان فصرعه عمر ، ومنهم عمار بن ياسر قاتل الشيطان فصرعه عمار وأدمى أنف الشيطان بحجر ذكر ذلك البيهقي في الدلائل ، وأما عين القطر فهي مما تضمنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والملك في الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فاخترت أن أكون نبيا عبدا أجوع يوما وأشبع يوما» (١) الحديث ، فشمل ذلك اللؤلؤ الرطب إلى عين الذهب المصفى إلى ما دون ذلك ، وروى الترمذي ـ وقال : حسن ـ عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت : لا يا رب ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ، فإذا جعت تضرعت إليك وشكرتك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» (٢) وللطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس : «أن إسرافيل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمفاتيح خزائن الأرض وقال : إن الله أمرني أن أعرض عليك أن تسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة ، فإن شئت نبيا ملكا وإن شئت نبيا عبدا فأومأ إليّ جبريل عليه‌السلام أن تواضع فقال : نبيا عبدا» (٣) ورواه ابن حبان في صحيحه مختصرا من حديث أبي هريرة ، وله في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس» (٤) وفي البخاري في غزوة أحد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، أو مفاتيح الأرض» (٥) هذا ما يتعلق بالأرض ، وقد زيد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك بأن أيده ربه سبحانه بالتصرف في خزائن السماء تارة بشق القمر وتارة برجم النجوم ، وتارة باختراق السموات ، وتارة بحبس المطر ، وتارة بإرساله إلى غير ذلك مما قد أكرمه الله تعالى به مما لا يحيط به إلا الله عزوجل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه ، وحشرنا ومحبينا معهم في دار كرامته.

ولما أخبر تعالى أنه سخر لسليمان الجن ذكر حالهم في أعمالهم بقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ) أي : في أي وقت شاء (ما يَشاءُ) أي : عمله (مِنْ مَحارِيبَ) أي : أبنية مرتفعة غير مساجد يصعد إليها بدرج ، سميت بذلك لأنها يذب عنها ويحارب عليها ومساجد ، والمحراب مقدم كل مسجد

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٣٩٨٠.

(٢) أخرجه الترمذي حديث ٢٣٤٧ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٥٤.

(٣) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٤٨ ، ٨٤ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٢ / ٣٤٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٣٣٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٥٤٤٩.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٢٨ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ١٩٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣١٨٩٤.

(٥) أخرجه البخاري في الجنائز حديث ١٣٤٤ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٢٩٦.

٣٥٥

ومجلس وبيت ، وكان مما عملوه له بيت المقدس ابتدأه داود عليه‌السلام ورفعه قامة رجل فأوحى الله تعالى إليه أني لم أقض ذلك على يديك ، ولكن ابن لك اسمه سليمان عليه‌السلام اقضي تمامه على يديه فلما توفاه الله تعالى استخلف سليمان عليه‌السلام فأحب إتمام بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضا ، وأنزل على كل ربض سبطا من الأسباط ، وكانوا اثني عشر سبطا ، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقا يقتلعون الجواهر من الحجارة من أماكنها ، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى ، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا ، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة ، وفصص سقفه وحيطانه باللآلئ والياقوت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله تعالى ، وأن كل شيء فيه خالص لله تعالى واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا لله تعالى ، روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنتين ، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» (١) قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار ملكه من أرض العراق ، وبنى الشياطين باليمن لسليمان حصونا كثيرة عجيبة من الصخر (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال ، وهو كل شيء مثلته بشيء أي : كانوا يعملون له تماثيل أي : صورا من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك.

فإن قيل : كيف استجاز سليمان عليه‌السلام عمل التصاوير؟ أجيب : بأن هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب ، وعن أبي العالية لم يكن اتخاذ التصاوير إذ ذاك محرما ، ويجوز أن تكون غير صور الحيوان كصور الأشجار ونحوها ، لأن التمثال كل ما صوره على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان ، أو بصور محذوفة الرؤوس ، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين في أعلاه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما وقيل : كانوا يتخذون صور الأنبياء والملائكة والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل : إن هذا كان أول الأمر ، فلما تقادم الزمن قال لهم إبليس : إن آباءكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوا الأصنام ولم تكن التصاوير ممنوعة في شريعتهم كما أن عيسى عليه‌السلام كان يتخذ صورا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرا.

__________________

(١) أخرجه النسائي في المساجد حديث ٦٩٣ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٤٠٨.

٣٥٦

(وَجِفانٍ) أي : قصاع وصحاف يؤكل فيها ، واحدتها جفنة «كالجوابي» جمع جابية وهي الحوض الكبير يجبى إليه الماء أي : يجتمع يقال : كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ، وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الباء الموحدة في الوصل دون الوقف ، وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا ، والباقون بالحذف وقفا ووصلا.

ولما ذكر القصاع على وجه يتعجب منه ذكر ما يطبخ فيه طعام تلك الجفان بقوله تعالى : (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي : ثابتات ثباتا عظيما لأنها لكبرها كالجبال لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن ، ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد عليها بالسلالم وكانت باليمن.

ولما ذكر المساكن وما يتبعها أتبعها الأمر بالعمل بقوله تعالى : (اعْمَلُوا) أي : وقلنا لهم اعملوا أي : تمتعوا واعملوا على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل بقوله تعالى : (آلَ داوُدَ) وقوله تعالى (شُكْراً) يجوز فيه أوجه : أحدها : أنه مفعول به أي : اعملوا الطاعة سميت الصلاة ونحوها شكرا لسدها مسده. ثانيها : أنه مصدر من معنى اعملوا كأنه قال : اشكروا شكرا بعملكم ، أو اعملوا عمل شكر. ثالثهما : أنه مفعول من أجله أي : لأجل الشكر ، واقتصر على هذا البقاعي. رابعها : أنه مصدر واقع موقع الحال أي : شاكرين. خامسها : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره : واشكروا شكرا. سادسها : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره عملا شكرا أي : ذا شكر.

تنبيه : كما قال تعالى عقب قوله سبحانه (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) : (اعْمَلُوا صالِحاً) قال عقب ما تعمله الجن له (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء ، وإنما الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكرا ، وقوله تعالى (وَقَلِيلٌ) خبر مقدم وقوله تعالى (مِنْ عِبادِيَ) صفة له وقوله تعالى (الشَّكُورُ) مبتدأ والمعنى : أن العامل بطاعتي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه ويديه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله تعالى به عليه فيما يرضيه قليل ، ومع ذلك لا يوفي حقه لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية ، ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر ، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه مطلق الشكر كثير ، وأقل ذلك حال الاضطرار وقيل : المراد من آل داود عليه‌السلام هو داود نفسه وقيل : داود وسليمان وأهل بيتهما عليهما‌السلام قال جعفر بن سليمان : سمعت ثابتا يقول : كان داود عليه‌السلام نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تك تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود عليه‌السلام قائم يصلي ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة النافلة : «أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه» (١) وقال في صوم التطوع : «أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» (٢) وروي عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول : اللهم اجعلني من القليل فقال عمر : ما هذا الدعاء فقال : إني سمعت الله يقول : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل فقال عمر : كل الناس أعلم من عمر.

ولما كان الموت مكتوبا على كل أحد قال تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا) وحقق صفة القدرة بأداة

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ١١٣١ ، ومسلم في الصيام حديث ١١٥٩.

(٢) أخرجه النسائي في الصيام حديث ٢٣٨٨ ، وابن حجر في فتح الباري ٤ / ٢٢١.

٣٥٧

الاستعلاء بقوله تعالى : (عَلَيْهِ) أي : سليمان عليه‌السلام (الْمَوْتَ) قال أهل العلم : كان سليمان يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر ، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فسألها ما اسمك فتقول : كذا وكذا فيقول : لأي شيء خلقت فتقول : لكذا وكذا فيؤمر بها فتقلع فإن كانت تنبت لغرس غرسها ، وإن كانت تنبت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال لها : ما أنت قالت : الخروبة قال : لأي شيء نبت قالت : لخراب مسجدك قال عليه‌السلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض الله روحه وهو متكئ عليها ، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى ، وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته ، وينظرون إلى سليمان عليه‌السلام فيرونه قائما متكئا على عصاه فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ميتا فعلموا بموته حينئذ كما قال تعالى (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي : الأرضة لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال البخاري : يعني عصاه فالمنسأة العصا اسم آلة من نسأه أخره كالمكسحة والمكنسة من نسأت الغنم أي : زجرتها وسقتها ، ومنه نسأ الله في أجله أي : أخره وقرأ نافع وأبو عمرو بعد السين بألف وابن ذكوان بعد السين بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين فإذا وقف حمزة سهل الهمزة وقيل : لم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع فنظر فإذا سليمان قد خر ميتا ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة (فَلَمَّا خَرَّ) أي : سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي : علمت علما بينا لا يقدرون معه على تدبيج وتلبيس وانفضح أمرهم وظهر ظهورا تاما (أَنْ) أي : أنهم (لَوْ كانُوا) أي : الجن (يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) أي : علمه (ما لَبِثُوا) أي : أقاموا حولا (فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه ، ويجوز أن تكون أن تعليلية ويكون التقدير : تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب لأنهم إلخ ، وسبب علمهم مدة كونه ميتا قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوما وليلة مقدارا ، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة قال ابن عباس : فشكر الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب.

تنبيه : قد تقدم أن كل شيء أثبت لمن قبل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنبياء عليهم‌السلام من الخوارق ثبت له مثله وأعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته ، وهذا الذي ذكر لسليمان عليه‌السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه ، قال القشيري في رسالته في باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا ، وقال أبو عمران الإصطخري : رأيت أبا تراب في البادية قائما ميتا لا يمسكه شيء انتهى.

فائدة : روي أن سليمان عليه‌السلام كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك

٣٥٨

يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ، وروي أن داود عليه‌السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه‌السلام فمات قبل أن يتم فوصى به إلى سليمان عليه‌السلام فأمر الشياطين بإتمامه.

ولما بقي من عمله سنة سأل الله تعالى أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه ، وليبطل دعواهم علم الغيب ، وروي أن إفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا منه ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعد يدنو منه.

ولما بين تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان عليهما‌السلام ، بين حال الكافرين لأنعمه بحكاية أهل سبأ فقال تعالى :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١))

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) أي : القبيلة المشهور روى أبو سبرة النخعي عن أبي قرة بن مسيك القطيعي قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلا أو امرأة أو أرضا قال : «كان رجلا من العرب وله عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير فقال رجل : وما أنمار قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان وسبأ يجمع هذه القبائل كلها» (١) والجمهور على

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٩٤ ، والطبراني في المعجم الكبير ٢٢ / ٥٣.

٣٥٩

أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية وعدنانية ، فالقحطانية : شعبان سبأ وحضر موت ، والعدنانية : شعبان : ربيعة ومضر ، وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قحطان ، وبعضهم إلى عدنان ، قيل : إن قحطان أول من قيل له أنعم صباحا وأبيت اللعن ، قال بعضهم : وجميع العرب منسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم وليس بصحيح ، فإن إسماعيل عليه‌السلام نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عربا ، والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل عليه‌السلام منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأهم وجرهم والعماليق يقال : إن أهما كان ملكا ويقال : إنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة يقال لها وبار هلكوا بالرمل أساله الله عليهم فأهلكهم وطم مناهلهم وفي ذلك يقول بعض الشعراء :

وكر دهر على وبار

فهلكت عنوة وبار

واسم سبأ : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وسمي سبأ قيل : لأنه أول من سبأ في العرب قاله السهيلي ، ويقال : إنه أول من تتوج ، وذكر بعضهم أنه كان مسلما وله شعر يشير فيه بوجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال في سليمان عليه‌السلام :

سيملك بعدنا ملك عظيم

نبي لا يرخص في الحرام

ويملك بعده منهم ملوك

يدينوه القياد بكل دامي

ويملك بعدهم منا ملوك

يصير الملك فينا بانقسام

ويملك بعد قحطان نبي

تقي مخبت خير الأنام

يسمى أحمدا يا ليت أني

أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري

بكل مدجج وبكل رامي

متى يظهر فكونوا ناصريه

ومن يلقاه يبلغه سلامي

وقرأ البزي وأبو عمرو بعد الموحدة بهمزة مفتوحة من غير تنوين لأنه صار اسم قبيلة ، وقنبل بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مكسورة منونة ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا ولهما أيضا الروم مع التسهيل وقرأ في مساكنهم أي : التي هي في غاية الكثرة حمزة وحفص بسكون السين وفتح الكاف ولا ألف بينهما إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد ، وقرأ الكسائي كذلك إلا أنه يكسر الكاف والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملائمة لهم واللين ، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن قال حمزة الكرماني : قال ابن عباس : على ثلاثة فراسخ من صنعاء (آيَةٌ) أي : علامة ظاهرة على قدرتنا ، ثم فسر الآية بقوله تعالى : (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي : عن يمين الوادي وشماله قد أحاطت الجنتان بذلك الوادي وقيل : عن يمين من أتاهما وبشماله.

فإن قيل : كيف عظم الله تعالى جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ورب قرية من قرى العراق يحتف بها من الجنات ما شئت؟ أجيب : بأنه لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال تعالى (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) [الكهف : ٣٢] فكانت

٣٦٠