تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

أم القرى كلها وهي مكة البلد الحرام (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى) أي : كلها بعد الإرسال (إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي : عريقون في الظلم بالعصيان بترك ثمرات الإيمان وتكذيب الرسل.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧))

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : من أسباب الدنيا (فَمَتاعُ) أي : فهو متاع (الْحَياةِ الدُّنْيا) تتمتعون بها أيام حياتكم وليس يعود نفعه إلى غيرها فهو آيل إلى فساد وإن طال زمن التمتع به (وَزِينَتُها) أي : فهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها فضلا عن زينتها إلى فناء فليست هي ولا شيء بأزلي ولا أبدي (وَما عِنْدَ اللهِ) أي : الملك الأعلى وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت (خَيْرٌ) على تقدير مشاركة ما في الدنيا له فالخيرية في ظنكم لأنّ الذي عنده أطيب وأكثر وأشهى وأزهى (وَ) هو مع ذلك كله (أَبْقى) لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزليا فهو أبدي وهذا جواب عن شبههم فإنهم قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أنّ ذلك خطأ عظيم لأنّ ما عند الله خير وأبقى من وجهين : الأوّل : أنّ المنافع هناك أعظم ، والثاني : أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل المضار فيها أكثر ، وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومن قابل المتناهي بغير المتناهي كان عدما فظهر بهذا أنّ منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة فلا جرم نبه على ذلك بقوله تعالى : (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أنّ الباقي خير من الفاني فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير فمن لم يرجّح منافع الآخرة على منافع الدنيا فإنه يكون خارجا عن حدّ العقل ، قال ابن عادل ورحم الله الشافعيّ حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأنّ أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا

١٦١

المشتغلون بالطاعة ، فكأنه رحمه‌الله تعالى إنما أخذه من هذه الآية انتهى ، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة لاشتماله على الالتفات للإعراض به عن خطابهم ، والباقون بالتاء على الخطاب جريا على ما تقدّم.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق (وَعْداً حَسَناً) لا شيء أحسن منه في موافقته للأمنية وبقائه وهو الجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود ولذلك سمى الله تعالى الجنة بالحسنى (فَهُوَ لاقِيهِ) أي : مدركه لامتناع الخلف في وعده ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب للتحسر على الانقطاع ، وعن ابن عباس أن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر فالمؤمن يتزوّد والمنافق يتزين والكافر يتمتع (ثُمَّ هُوَ) مع ذلك كله (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي هو يوم التغابن من خسر فيه لم يربح أصلا (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي : المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه ، قال قتادة يحضره المؤمن والكافر ، قال مجاهد : نزلت في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل ، وقال محمد بن كعب نزلت في حمزة وعلي وفي أبي جهل ، وقال السدّي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة.

تنبيه : ثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع في الزمان أو الرتبة ، وقرأ ثم هو قالون والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بالضم.

(وَيَوْمَ) أي : واذكر يوم (يُنادِيهِمْ) أي : ينادي الله هؤلاء الذين يضلون الناس ويصدّون عن سبيل الله (فَيَقُولُ) أي : الله تعالى (أَيْنَ شُرَكائِيَ) من الأوثان وغيرهم ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله تعالى : (الَّذِينَ كُنْتُمْ) أي : كونا عريقين فيه (تَزْعُمُونَ) أنها تشفع ليدفعوا عنكم وعن أنفسهم فيخلصكم من هذا الذي نزل بكم.

تنبيه : تزعمون مفعولاه محذوفان أي : تزعمونهم شركائي (قالَ الَّذِينَ حَقَ) أي : ثبت ووجب (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : بدخول النار وهم رؤوس الضلالة وهو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود ، ١١٩] وغيره من آيات الوعيد وقولهم (رَبَّنا هؤُلاءِ) إشارة للإتباع (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي : أوقعنا الإغواء وهو الإضلال بهم صفته والعائد حذف وقولهم (أَغْوَيْناهُمْ) أي : فغووا باختيارهم (كَما غَوَيْنا) أي : نحن فهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصول محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا لا أنّ فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء ، أو دعونا إلى الغي وسوّلوه لنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأنّ إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا لا قسرا وإلجاء فلا فرق إذا بين غينا وغيهم وإن كان تسويلنا لهم داعيا إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وبما بعث إليهم من الرسل وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر وناهيك بذلك صارفا عن الكفر وداعيا إلى الإيمان ، وهذا معنى ما حكاه الله تعالى عن الشيطان : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم ، ٢٢].

تنبيه : اعترض أبو علي على الزمخشريّ في هذا الإعراب بأن الخبر ليس فيه زيادة فائدة على

١٦٢

ما في صفته ، فإن قلت قد وصل الخبر بقوله كما غوينا وفيه زيادة قلت الزيادة بالظرف لا تصيّره أصلا في الجملة لأنّ الظروف فضلات ، ثم إنه أعرب هو هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا خبره وأغويناهم مستأنف ، وأجاب أبو البقاء وغيره بأن الظروف قد تلزم كقولك زيد عمرو قائم في داره ثم أشاروا بقولهم (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) أي : من أمورهم إلى أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم فهو تقرير للجملة الأولى ولهذا خلت عن العاطف وعلى تقدير إغوائنا لهم (ما كانُوا إِيَّانا) أي : خاصة (يَعْبُدُونَ) بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء إليه وحث عليه فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على من كان سببا في ذلك ، وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا أي : تبرأنا من عبادتهم إيانا.

ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عدّ عدما لأنه لا طائل تحته أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جوابا كما قيل رب قول جوابه السكوت ، بقوله تعالى : (وَقِيلَ) أي : ثانيا للأتباع تهكما بهم وإظهارا لعجزهم الملزوم لتحيرهم وعظم تأسفهم وذكر ذلك بصيغة المجهول للاستهانة بهم وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل آمر كائنا من كان (ادْعُوا) أي : كلكم (شُرَكاءَكُمْ) أي : الذين ادعيتم جهلا شركتهم ليدفعوا عنكم العذاب (فَدَعَوْهُمْ) تعللا بما لا يغني وتمسكا بما يتحقق أنه لا يجدي لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي : لم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة ، قال ابن عادل : والأقرب أنّ هذا على سبيل التقريع لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم (وَرَأَوُا) أي : هم (الْعَذابَ) عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم فكان الحال حينئذ مقتضيا لأن يقال من كل من يهواهم (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي : تحصل منهم هداية ساعة من الدهر تأسفا على أمرهم وتمنيا لخلاصهم ولو أن ذلك كان في طاقتهم وجواب لو محذوف أي : لنجوا من العذاب ولما رأوه أصلا ، قال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : الله تعالى وهم بحيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر قد برزوا لله جميعا من كان منهم عاصيا ومن كان منهم مطيعا في صعيد واحد قد أخذ بأنفاسهم الزحام وتراكب الأقدام على الأقدام وألجمهم العرق وعمهم الغرق (فَيَقُولُ ما ذا) أي : أوضحوا وعينوا جوابكم الذي (أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) إليكم.

تنبيه : ويوم معطوف على الأوّل فإنه تعالى يسأل عن إشراكهم به ثم تكذيبهم الأنبياء.

ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج لم يكن لهم جواب إلا السكوت وهو المراد بقوله تعالى : (فَعَمِيَتْ) أي : خفيت وأظلمت (عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أي : الأخبار المنجية (يَوْمَئِذٍ) التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر.

تنبيه : الأصل فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج وإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام في ذلك اليوم يفوّضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال فلهذا قال تعالى : (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي : لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة أو للعلم بأنه مثله هذا حال من أصر على كفره.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) عنه وقوله تعالى : (وَآمَنَ) تصريح بما علم التزاما فإن الكفر والإيمان

١٦٣

ضدّان لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر وقوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً) لأجل أن يكون مصدقا لدعواه باللسان (فَعَسى) إذا فعل ذلك (أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام ، أو ترجّ من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.

ولما كان كأنه قيل ما لأهل القسم الأوّل لا يتوخون النجاة من ضيق ذلك البلاء إلى رحب هذا الرجاء وكان الجواب ربك منعهم من ذلك ، وما له لم يقطع لهذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأوّل بالشقاء كان الجواب. (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) لا موجب عليه ولا مانع له (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي : أن يفعلوا يفعل لهم كل ما يختارونه.

تنبيه : الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا ، قال البيضاوي والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العبيد مخلوق منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقال الرازي في اللوامع : وفيه دليل على أنّ العبد في اختياره غير مختار فلهذا أهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا وإن أصابهم سهام المصائب العظام صابروا وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا وإن أذلهم رضوا وسلموا فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه ، قال القائل (١) :

وقف الهوى لي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدّم

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوّم

وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا

ما من يهون عليك ممن يكرم

وقيل : ما موصولة مفعول ليختار والراجع محذوف ، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي : الخير والصلاح (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له أن يزاحمه أحد أو ينازع اختياره (وَتَعالى) أي : علا علوا لا تبلغ العقول توجيه كنه مداه (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : عن إشراكهم أو مشاركة ما يشاركونه به.

ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم قال تعالى : (وَرَبُّكَ) أي : المحسن إليك المتولي أمر تربيتك (يَعْلَمُ ما تُكِنُ) أي : تخفي وتستر (صُدُورُهُمْ) من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى عليه‌السلام ، أو لا يؤمنون ومن كون ما أظهر من أظهر الإيمان بلسانه خالصا أو مشوبا ، ومن كونهم يخفون عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما يُعْلِنُونَ) أي : يظهرون من ذلك كل ذلك لديه سواء فلا يكون لهم مراد إلا يخلقه ، فإن قيل : هلا اكتفى بقوله تعالى : (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) عن قوله : (وَما يُعْلِنُونَ) أجيب : بأنّ علم الخفي لا يستلزم علم الجليّ إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك.

ولما كان علمه تعالى بذلك إنما هو لكونه إلها واحدا فردا صمدا وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ) أي : المستأثر بالإلهية الذي لا سميّ له الذي لا يحيط الواصفون بكنه عظمته ، ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهذا تنبيه على كونه قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات منزها عن النقائص والآفات ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (لَهُ) أي : وحده (الْحَمْدُ) أي : الإحاطة بأوصاف الكمال (فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ)

__________________

(١) الأبيات لم أجدها في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٦٤

لأنه المولي للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا ، فإن قيل : الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ أجيب : بأنهم يحمدونه بقولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] والتوحيد هناك على وجه اللذة لا الكلفة ، وفي الحديث : «يلهمون التسبيح والتقديس» (١)(وَلَهُ الْحُكْمُ) أي : القضاء النافذ في كل شيء وقال ابن عباس : حكم لأهل الطاعة بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُونَ) أي : بأيسر أمر يوم النفخ في الصور لبعثرة ما في القبور ، بالبعث والنشور مع أنكم الآن راجعون في جميع أحكامكم إليه ، ومقصورون عليه إن شاء أمضاها وإن أراد ردّها ولواها ففي الآية غاية التقوية لقلوب المطيعين ونهاية الزجر والردع للمتمردين.

ثم بين سبحانه وتعالى بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه بقوله تعالى : (قُلْ) أي : يا أفضل الخلق لأهل مكة (أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ) أي : الملك الأعلى (عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ) أي : الذي به اعتدال حرّ النهار (سَرْمَداً) أي : دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا نهار معه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي : العظيم الشأن الذي لا كفء له (يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي : بنهار تطلبون فيه المعيشة (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي : ما يقال لكم سماع إصغاء وتدبر.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ) أي : الذي له الأمر كله (عَلَيْكُمُ النَّهارَ) أي : الذي توازن حرارته برطوبة الليل فيتمّ بها صلاح النبات وغير ذلك من جميع المقدّرات (سَرْمَداً) أي : دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا ليل فيه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي : الجليل الذي ليس له مثل (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ) أي : ينشأ منه ظلام (تَسْكُنُونَ فِيهِ) استراحة عن متاعب الأشغال ، فإن قيل هلا قيل بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه؟ أجيب : بأنه تعالى ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأنّ المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعايش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر من ذلك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر الضياء أولا دليلا على حذف الظلام ثانيا والليل والسكون ثانيا دليلا على حذف النهار والانتشار أوّلا.

ولما كان التقدير ومن رحمته جعل لكم السمع والأبصار لتتدبروا آياته وتبصروا في مصنوعاته عطف عليه.

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ) أي : التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) آيتين عظيمتين دبر فيهما وبهما جميع مصالحكم فجعل آية الليل (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) فلا تسعوا فيه لمعاشكم (وَ) جعل آية النهار مبصرة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم ، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر أوّلا السكون دليلا على حذف السعي في المعاش ثانيا وذكر الابتغاء من فضله ثانيا دليلا على حذف عدم السعي في المعاش أوّلا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٢٢ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤ ، وابن ماجه في الزهد باب ٣٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١٦.

١٦٥

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر لما يتجدد لكم من تقلبهما من النعم المتوالية التي لا يحصرها إلا خالقها ، وأما الآخرة فلما كانت غير مبنية على الأسباب وكانت الجنة لا تعب فيها بوجه كان لا حاجة فيها لليل.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به كما أنه لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده ، اللهمّ فكما أدخلتنا في أهل توحيدك فأدخلنا في الناجين من وعيدك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا أرحم الراحمين ، ويحتمل أن يكون الأوّل لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشهّ وهوى ، أو أنه ذكر الثاني كما قال الجلال المحلي ليبنى عليه.

(وَنَزَعْنا) أي : أخرجنا وأفردنا بقوّة وسطوة (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي : وهو رسولهم يشهد عليهم بما قالوه (فَقُلْنا) أي : فتسبب عن ذلك أن قلنا للأمم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه وعوّلتم في شرككم عليه كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئا على غير أساس (فَعَلِمُوا) أي : بسبب هذا السؤال لمّا اضطروا ولم يجدوا لهم سندا (أَنَّ الْحَقَ) في الإلهية (لِلَّهِ) أي : الملك الذي له الأمر كله لا يشاركه فيه أحد (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي : غاب غيبة الضائع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة للغلط فيه.

(إِنَّ قارُونَ) ويسمى في التوراة تورح (كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) قال أكثر المفسرين كان ابن عمه لأنّ قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوي وقال ابن إسحاق كان قارون عم موسى فكان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل اقرأ للتوراة من قارون ولكنه نافق كما نافق السامريّ وكان يسمى النور لحسن صورته.

وعن ابن عباس : كان ابن خالته (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي : تجاوز الحدّ في احتقارهم بما خوّلناه فيه ، قيل كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء.

وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك ، وقال شهر بن حوشب زاد في طول ثيابه شبرا ، روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء» (١) ، وقال القفال : طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده ، وقال ابن عباس : تكبر عليهم وتجبر ، وقال الكلبيّ : حسد هارون عليه‌السلام على الحبورة.

روى أهل الأخبار : أن قارون كان أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أوّل طغيانه وعصيانه أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر كلون السماء يذكرون إذا نظروا إليها السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي فقال موسى : عليه‌السلام يا رب افلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإنّ بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال الله تعالى : يا موسى إنّ الصغير من

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ٣٦٦٥ ، ومسلم في اللباس حديث ٢٠٨٥ ، والترمذي في اللباس حديث ١٧٣٠.

١٦٦

أمري ليس بصغير فإن لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى عليه‌السلام وقال : إنّ الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به واستكبر قارون ولم يفعل وقال إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم وكان هذا بدء عصيانه وبغيه.

ولما قطع الله تعالى لبني إسرائيل البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون عليه الصلاة والسلام فحصلت له النبوّة والحبورة وكان له القربان والذبح وكان لموسى عليه‌السلام الرسالة فوجد قارون لذلك في نفسه وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر أنا على هذا فقال موسى : عليه‌السلام والله ما صنعت ذلك لهارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى عليه‌السلام رؤساء بني إسرائيل وأمرهم أن يجيء كل رجل منهم بعصا فجاؤوا بها فحزمها وألقاها موسى عليه‌السلام في قبة له كان يعبد الله تعالى فيها وكان ذلك بأمر الله تعالى ودعا موسى عليه‌السلام أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون عليه‌السلام وقد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى عليه‌السلام لقارون : ألا ترى ما صنع لهارون؟ عليه‌السلام فقال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فاعتزل ومعه ناس كثير ، وولي هارون عليه‌السلام الحبورة وهي رياسة الذبح والقربان وكانت بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هارون عليه‌السلام فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فكان لا يأتي موسى عليه‌السلام ولا يجالسه ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن قارون كان من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى» (١) ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر سببه الحقيقي بقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) أي : الأموال المدفونة المذخورة فضلا عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منها لما عساه يعرض من المهمات (ما) أي : الذي أوتي شيء كثير لا يدخل تحت حصر حتى (إِنَّ مَفاتِحَهُ) أي : مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيها وراء أبوابها (لَتَنُوأُ) أي : تميل بجهد ومشقة بثقلها (بِالْعُصْبَةِ) أي : الجماعة الكثيرة التي تعصب أي : يقوي بعضهم بعضا (أُولِي) أي : أصحاب (الْقُوَّةِ) أي : تميلهم من أثقالها إياهم.

تنبيه : في المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده وكل ذلك مما تستبعده العقول فلذلك وقع التأكيد.

واختلفوا في عدد العصبة : فقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين ، وقيل : أربعون رجلا ، وقيل سبعون وروي عن ابن عباس قال : كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلا ، أقوى ما يكون من الرجال.

وقال جرير عن منصور عن خيثمة قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتح خزائن قارون وقر ستين بغلا ما يزيد فيها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز ، ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما أثقلت عليه جعلت من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا ، وفي الباء في بالعصبة : وجهان

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

١٦٧

أنها للتعدية كالهمزة ولا قلب في الكلام والمعنى لتنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول أجأته وجئت به وأذهبته وذهبت به ، والثاني : قال أبو عبيدة : إن في الكلام قلبا والأصل لتنوء العصبة بالمفاتح أي : لتنهض بها كقولهم عرضت الناقة على الحوض.

ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر وقته بقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) أي : من بني إسرائيل (لا تَفْرَحْ) أي : بكثرة المال فرح بطر فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه وذلك يدل على نسيان الآخرة وعلى غاية الجهل وقلة التأمل بالعواقب ، قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركا لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله عزوجل (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال (لا يُحِبُ) أي : لا يعامل معاملة المحب (الْفَرِحِينَ) أي : البطرين الأشرين الراسخين في الفرح بما يفني الذين لا يشكرون الله تعالى بما أعطاهم فإن فرحهم يدل على سقوط الهمم كما قال تعالى : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد ، ٢٣] وقال القائل في ذلك (١) :

ولست بمفراح إذا الدهر سرني

وقال آخر (٢) :

أشدّ الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

فلا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن ، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح.

(وَابْتَغِ) أي : اطلب طلبا تحمد نفسك فيه (فِيما آتاكَ اللهُ) أي : الملك الذي الأمر كله بيده من الغنى والثروة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تقوم بشكر الله فيما أنعم الله عليك وتنفقه في رضا الله تعالى فيجازيك بالجنة (وَلا تَنْسَ) أي : ولا تترك (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) قال مجاهد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة ، وقال السدّيّ : بالصدقة وصلة الرحم.

وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لا تنسى صحتك وقوّتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة ، روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار» (٣) ، وعن ميمون الأزدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل وهو يعظه «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» (٤) ، وقال الحسن : أمر أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه ، وقال منصور بن

__________________

(١) عجزه :

ولا جازع من صرفة المتقلب

والبيت من الطويل ، وهو لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص ٧٢.

(٢) البيت بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٣ / ٤٣٥.

(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ١١٦.

(٤) أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٠٦ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٢٥١ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٤ / ١٤٨ ، وابن حجر في فتح الباري ١١ / ٢٣٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ١٥١ ، ٢٥٣ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ١٦٧.

١٦٨

زادان : قوتك وقوت أهلك (وَأَحْسِنْ) أي : أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج والإنفاق في جميع الطاعات ويدخل في ذلك الإعانة بالجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر (كَما أَحْسَنَ اللهُ) الجامع لصفات الكمال (إِلَيْكَ) بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع الله عليك (وَلا تَبْغِ) أي : ولا ترد إرادة ما ، (الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بتقتير ولا تبذير ولا تكبر على عباد الله تعالى ولا تحقير ، ثم أتبع ذلك علته مؤكدا لأنّ أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب فقيل (إِنَّ اللهَ) أي : العالم بكل شيء القدير على كل شيء (لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي : لا يعاملهم معاملة من يحبه ، وقيل : إن القائل له هذا موسى عليه‌السلام ، وقيل مؤمنو قومه ، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما فيه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه كفر النعمة بأن.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

(قالَ) أي : قارون في الجواب (إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي : هذا المال (عَلى عِلْمٍ) حاصل (عِنْدِي) فإنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة أي : فرآني له أهلا ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره ، وقيل هو علم الكيمياء ، وقال سعيد بن المسيب : كان موسى يعلم الكيمياء فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلّم كالب بن يوفنا ثلثة وعلّم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان ذلك سبب أمواله ، وقيل على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب ، ثم أجاب الله تعالى : عن كلامه بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ) أي : بما له من صفات الجلال والعظمة والكمال (قَدْ أَهْلَكَ) وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) فيه تنبيه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان وبعده وقوله تعالى : (مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً) أي : في البدن والمعاني من العلم وغيره والأنصار والخدم (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) في المال والرجال آخرهم فرعون الذي شاهده في ملكه وحقق أمره يوم هلكه فيه تعجيب وتوبيخ على اغتراره بقوّته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأ في التوراة وكان أعلمهم بها وسمعه من حفاظ التواريخ واختلف في معنى قوله عزوجل : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) فقال قتادة :

١٦٩

يدخلون النار بغير سؤال ولا حساب ، وقال مجاهد لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن : لا يسئلون سؤال استعلام وإنما يسئلون سؤال توبيخ وتقريع ، وقيل : المراد أنّ الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال ، فإن قيل : كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] أجيب : بحمل ذلك على وقتين ، وقال أبو مسلم : السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتوبيخ والتقريع وقد يكون للاستعتاب ، قال ابن عادل : وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله تعالى : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [النحل ، ٨٤] (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦].

(فَخَرَجَ) أي : فتسبب عن تجبره واغتراره بماله أن خرج (عَلى قَوْمِهِ) أي : الذين نصحوه في الاقتصاد في شأنه والإكثار في الجود على إخوانه وقوله تعالى : (فِي زِينَتِهِ) فيه دليل على أنه خرج بأظهر زينته وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر.

والناس ذكروا وجوها مختلفة : فقال إبراهيم النخعي : إنه خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر ، وقال ابن زيد : في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وقال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهنّ الحلي والثياب الحمر على البغال ولما كان كأنه قيل ماذا قال قومه له؟ قيل : (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) منهم لسفول هممهم وقصور نظرهم على الفاني لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من باب الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود (يا لَيْتَ لَنا) أي : نتمنى تمنيا عظيما أن نؤتى من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وصف كان (مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) أي : من هذه الزينة وما تسبب عنه من العلم حتى لا نزال أصحاب أموال ، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن ثم من يريد أن ينكر عليهم (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ) أي : نصيب وبخت من الدنيا (عَظِيمٍ) بما أوتيه من العلم الذي كان سببا له إلى جمع هذا المال وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إلى اتباعه قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم أهل الدين قال ابن عباس : رضي الله تعالى عنهما يعني الأحبار من بني إسرائيل ، وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة فقالوا للذين تمنوا (وَيْلَكُمْ) ويل : أصله الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما يضر ، وهو منصوب بمحذوف أي : ألزمكم الله ويلكم (ثَوابُ اللهِ) أي : الجليل العظيم (خَيْرٌ) أي : من هذا الحطام الذي أوتيه قارون في الدنيا بل من الدنيا وما فيها ومن فاته الخير حل به الويل ، ثم بينوا مستحقه تعظيما له وترغيبا للسامع في حاله بقولهم (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ) تصديقا لإيمانه (صالِحاً) ثم بين تعالى عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله تعالى : (وَلا يُلَقَّاها) أي : هذه النصيحة التي قالها أهل العلم وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله أو الجنة المثاب بها (إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي : على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرّمات وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار الذين صار الصبر لهم خلقا.

ولما تسبب عن نظره هذا الذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب أشار إلى ذلك بقوله

١٧٠

سبحانه وتعالى : (فَخَسَفْنا) أي : بما لنا من العظمة (بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) روي أنه كان يؤذي موسى عليه الصلاة والسلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويضاحكونه.

قال ابن عباس : نزلت الزكاة على موسى عليه‌السلام فأتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار بدينار ، وعن كل ألف درهم بدرهم ، وعن كل ألف شاة بشاة ، فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم : إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت قال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلا حتى تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل : طشتا من ذهب ، وقيل : قال لها : إني أمونك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد وكان يوم عيد لهم قام موسى عليه‌السلام خطيبا فقال : من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه فقال له قارون : ولو كنت أنت قال : ولو كنت أنا قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعها فإن قالت فهو كما قالت فلما أن جاءت قال : لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء فعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت في نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت : لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أرميك بنفسي فخرّ موسى ساجدا يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى : عليه‌السلام يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلبث مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق بأقدامهم ، وفي رواية كان على فراشه وسريره فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وصاحباه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون بالله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرّة وموسى في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض فأوحى الله تعالى إليه ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم ترحمه وعزتي وجلالي لو دعاني مرة واحدة لأجبته ، وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد ، قال : قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة قال : وأصبح بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم إن موسى إنما دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وبأمواله ، فإياكم يا أمة هذا النبيّ أن تردوا ما أتاكم به من الرحمة فتهلكوا ، وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن قارون كان من أقارب موسى عليه‌السلام فإن الأنبياء عليهم‌السلام كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدا فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى (فَما) فتسبب عنه أنه ما (كانَ لَهُ) أي : لقارون ، وأكد النفي لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون بزيادة الجار في قوله تعالى : (مِنْ فِئَةٍ) أي : أعوان وأصل الفئة الجماعة من الطير كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعتها إلى المكان الذي ذهبت منه (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي :

١٧١

غيره بأن يمنعوا عنه الهلاك (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي : الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.

ولما خسف به واستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات ذكر حالهم بقوله :

(وَأَصْبَحَ) أي : وصار ولكنه ذكره لمقابلة المساء (الَّذِينَ تَمَنَّوْا) أي : أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشفقة أن يكونوا (مَكانَهُ) أي : تكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم (بِالْأَمْسِ) أي : الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه فالأمس قد يذكر ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ) أي : يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء منه وفتنة و«وي» اسم فعل بمعنى أعجب أي : أتى والكاف بمعنى اللام ، وهذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف.

واختلف القراء في الوقف فالكسائي وقف على الياء قبل الكاف ، ووقف أبو عمرو على الكاف ، ووقف الباقون على النون وعلى الهاء ، وحمزة يسهل الهمزة في الوقف على أصله ، وأما الوصل فلا خلاف فيه بينهم ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله اتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضا أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ) أي : تفضل الملك الأعظم (عَلَيْنا) بجوده ولم يعطنا ما تمنيناه من الكنوز على مثل حاله (لَخَسَفَ بِنا) مثل ما خسف به (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمة الله تعالى كقارون والمكذبين لرسله وبما وعد لهم من ثواب الآخرة.

وقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إشارة تعظيم وتفخيم لشأنها أي : تلك الدار التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ، وتلك مبتدأ والدار صفته والخبر (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) بالبغي (وَلا فَساداً) بعمل المعاصي فلم يعلق تعالى الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود ، ١١٣] فعلق الوعيد بالركون ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها ، وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال ذهبت الأماني ههنا ، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يرددها حتى قبض ، قال الزمخشري : ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقا بقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) وبقوله تعالى : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) فيقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله تعالى (وَالْعاقِبَةُ) أي : المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) أي : عقاب الله تعالى بعمل طاعته كما تدبره علي والفضيل وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم.

ولما بيّن تعالى أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علوا في الأرض ولا فسادا بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل فقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وهي ما نهى الله تعالى عنه ومنه إخافة المؤمنين (فَلا يُجْزَى) أي : من أيّ جاز وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من بقوله تعالى : (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) تصويرا لحالهم وتقبيحا لهم وتنفيرا من عملها

١٧٢

(إِلَّا) جزاء (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : مثله وهذا من فضل الله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بأكثر منها كما مرّ ، فإن قيل قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة فما السبب في ذلك؟.

أجيب : بأن هذا المقام مقام ترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة ، وأما الآية الأخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى ، فإن قيل : كيف أنه تعالى لا يجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد؟ أجيب : بأنه كان على عزم أنه لو عاش أبدا لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ) أي : أنزل (عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) قاله أكثر المفسرين ، وقال عطاء : أوجب عليك العمل بالقرآن ، وقال أبو عليّ : فرض عليك أحكامه وفرائضه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي : معاد ليس لغيرك من البشر وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه وتنكير المعاد لذلك ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني إلى الموت ، وقال الزهري وعكرمة : إلى يوم القيامة ، وقيل إلى الجنة.

وروى العوفي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعني إلى مكة وهو قول مجاهد ، وقال القتيبي : معاد الرجل بلده ينصرف ثم يعود إلى بلده وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن ورجع إلى الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : اشتقت إلى بلدك ومولدك قال : نعم قال : فإنّ الله تعالى يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال الرازي : وهذا أقرب لأنّ ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل له العود إليه وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملا لكن ذلك أقرب ، قال أهل التحقيق : وهذا آخر مما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزا ونزل جوابا لقول كفار مكة إنك لفي ضلال مبين (قُلْ) أي : للمشركين (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) وما يستحقه من الثواب في المعاد يعني نفسه (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم فهو الجائي بالهدى وهم في الضلال.

تنبيه : من جاء منصوب بمضمر أي : يعلم أو بأعلم إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله.

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا) أي : في سالف الدهر بحال من الأحوال (أَنْ يُلْقى) أي : ينزل على وجه لم تقدر على رده (إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي : يوحى إليك القرآن ، قال البيضاوي أي : سيردك إلى معاد كما ألقي إليك الكتاب وما كنت ترجوه وهو ظاهر على أن المراد بالمعاد مكة وقوله تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً) استثناء منقطع أي : لكن ألقى إليك الكتاب رحمة (مِنْ رَبِّكَ) أي : فأعطاك القرآن ، وقيل : متصل قال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة فيكون استثناء من الأحوال أو من المفعول له (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً) أي : معينا (لِلْكافِرِينَ) على دينهم الذي دعوك إليه ، قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه ، فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن

١٧٣

مظاهرتهم على ما هم عليه.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) أي : قراءتها والعمل بها (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي : لا ترجع إليهم في ذلك (وَادْعُ) أي : أوجد الدعاء (إِلى رَبِّكَ) أي : إلى عبادته وتوحيده (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : بإعانتهم ، ولم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه بخلافه في يصدنك فإنه حذف منه نون الرفع إذ أصله يصدوننك حذفت نون الرفع للجازم ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين.

(وَلا تَدْعُ) أي : تعبد (مَعَ اللهِ) أي : الجامع لجميع صفات الكمال (إِلهاً آخَرَ) فإن قيل : هذا وما قبله لا يقع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما فائدة ذلك النهي؟ أجيب : بأنه ذكر للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم أو أن الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره كما في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ثم علل ذلك بقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] فلا يجوز اتخاذ إله سواه ، ثم علل وحدانيته بقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي : ذاته فإنّ الوجه يعبر به عن الذات ، قال أبو العالية : إلا ما أريد به وجهه ، وقيل : إلا ملكه ، واختلفوا في قوله تعالى : (هالِكٌ) فمن الناس من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعا به بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعا به ، ومنهم من قال : معنى كونه هالكا كونه قابلا للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه تعالى ممكن الوجود قابل للعدم فكان قابلا للهلاك فأطلق عليه اسم الهالك نظرا إلى هذا الوجه وعلى هذا يحمل قول النسفي في بحر الكلام سبعة لا تفنى : العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار بأهلهما من ملائكة العذاب والحور العين والأرواح (لَهُ الْحُكْمُ) أي : القضاء النافذ في الخلق (وَإِلَيْهِ) وحده (تُرْجَعُونَ) أي : في جميع أحوالكم في الدنيا وبالنشور من القبور للجزاء في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم ، وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشريّ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدّق بموسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا» (١) ، حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٤١.

١٧٤

سورة العنكبوت

مكية إلا عشر آيات من أوّلها إلى قوله تعالى (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ).

قال الحسن : فإنها مدنية وهي سبع وستون آية ، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده (الرَّحْمنِ) الذي شمل جميع العباد بنعمه (الرَّحِيمِ) بجميع خلقه وقوله تعالى :

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤))

(الم) سبق القول فيه في أوّل البقرة ، ووقوع الاستفهام بعده دليل على استقلاله بنفسه فيكون اسما للسورة ، أو للقرآن ، أو لله ، أو أنه سرا استأثر بعلمه الله تعالى ، أو استقلاله بما يضمر معه بتقديره مبتدأ أو خبرا وغيره مما مرّ أوّل سورة البقرة ، وقيل في ألم أشار بالألف الدال على القائم إلا على المحيط ، ولام الوصلة وميم التمام بطريق الرمز إلى أنه تعالى أرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.

ولما قال تعالى في آخر السورة المتقدّمة (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) [القصص : ٨٧] وكان في الدعاء

١٧٥

إليه الحراب والضراب والطعان لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد فشق على البعض ذلك فقال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ) أي : كافة (أَنْ يُتْرَكُوا) أي : أظنوا أنهم يتركون بغير اختبار وابتلاء في وقت ما بوجه من الوجوه.

تنبيه : أن يتركوا سدّ مسدّ مفعولي حسب عند الجمهور (أَنْ) أي : بأن (يَقُولُوا) أي : بقولهم (آمَنَّا وَهُمْ) أي : والحال أنهم (لا يُفْتَنُونَ) أي : يختبرون بما تتميز به حقية إيمانهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب ، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات فإنّ مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية : فقال الشعبي : نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ثم هاجروا فتبعهم الكفار فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام كانوا يعذبون بمكة.

وقال ابن جريج : نزلت في عمار بن ياسر كان يعذب في الله عزوجل.

وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر كان أوّل قتيل قتل من المسلمين يوم بدر فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيد الشهداء مهجع وهو أوّل من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» (١) فجزع عليه أبواه وامرأته فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقيل وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي وذلك أنّ الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم عزاهم فقال : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب فذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) أي : الذي له الكمال كله (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم علم مشاهدة للخلق وإلا فالله تعالى لا يخفى عليه خافية (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه أي : فيظهر الله الصادقين من الكاذبين في الإيمان.

(فائدة) لبعض المحبين :

للهوى آية (أي علامة) بها يعرف الصا

دق في عشقه من الكذاب

سهر الليل دائما ونحول ال

جسم والموت في رضا الأحباب

(أَمْ حَسِبَ) أي : ظن (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : الشرك والمعاصي ، فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح (أَنْ يَسْبِقُونا) أي : يفوتونا فلا ننتقم منهم ، وهذا ساد مسدّ مفعولي حسب. وأم منقطعة والإضراب فيها لأنّ هذا الحساب أبطل من الأوّل لأنّ صاحب ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه وصاحب هذا يظن أن لا يجازى بمساويه ، ولهذا عقبه بقوله تعالى : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي : بئس الذي يحكمونه ، أو حكما يحكمونه ، حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم.

ولما بين بقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) أن العبد لا يترك في الدنيا سدى ، وبين في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أن من ترك ما كلف به يعذب عذابا بين أن من يعترف

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٣ / ٣٢٤ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٢٧.

١٧٦

بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله بقوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي : الملك الأعلى ، قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب والرجاء بمعنى الخوف ، وقال سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي : الوقت المضروب للقائه (لَآتٍ) أي : لجاء لا محالة فإنه لا يجوز عليه إخلاف الوعد ، فإن قيل : كيف وقع فإن أجل الله لآت جوابا للشرط؟ أجيب : بأنه إذا كان وقت اللقاء آتيا كان اللقاء آتيا لا محالة كما تقول من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب ، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة ، وقال مقاتل يعني : يوم القيامة لكائن ومعنى الآية أن من يخشى الله تعالى ويأمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم كما قال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] (وَهُوَ السَّمِيعُ) أي : لما قالوه (الْعَلِيمُ) يعلم من صدق فيما قال ومن كذب فيثيب ويعاقب على حسب علمه ، قال الرازي : وههنا لطيفة وهي أنّ للعبد أمورا هي أصناف حسناته عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم ، وعمل لسانه وهو يسمع ، وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله تعالى لمسموعه ما لا أذن سمعت ، ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر كما وصف في الخبر في وصف الجنة ا ه.

(تنبيه) : لم يذكر الله تعالى من الصفات غير هذين الصفتين كالعزيز والحكيم وذلك لأنه سبق القول في قوله (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) وسبق الفعل بقوله تعالى : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وبقوله تعالى : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) وبقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ولا شك أن القول يدرك بالسمع ، والعمل منه ما يدرك بالبصر ومنه ما لا يدرك به كما علم مما مرّ والعلم يشملها.

ولما بين تعالى أنّ التكليف حسن واقع وإن عليه وعدا وإيعادا ليس لهما دافع بين أن طلب الله تعالى ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه بقوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ) أي : بذل جهده في جهاد حرب أو نفس حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لأنّ منفعة جهاده له لا لله تعالى فإنه غني مطلق كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : المتصرّف في عباده بما شاء (لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي : الأنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) [فصلت : ٤٦] وقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧] فينبغي للعبد أن يكثر من العمل الصالح ويخلصه لأنّ من عمل فعلا يطلب به ملكا ويعلم أنّ الملك يراه يحسن العمل ويتقنه ، وإذا علم أن عمله لنفسه لا لأحد يكثر منه ، نسأل الله الكريم الفتاح أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يفعل ذلك بأهلينا وذريتنا ومحبينا بمحمد وآله.

ولما بين تعالى حال المسيء مجملا بقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) إشارة إلى التعذيب مجملا ، وذكر حال المحسن بقوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) وكان التقدير فالذين جاهدوا والذين عملوا السيئات لنجزينهم أجمعين ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء عطف عليه قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) أي : في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم وفي ذلك إشارة إلى أن رحمته تعالى أتم من غضبه وفضله أتم من عدله وأشار بقوله تعالى : (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد من أن يزل عن الطاعة لأنه مجبول على

١٧٧

النقص : «فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم تؤت الكبائر ، والجمعة ، إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان» (١) ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المختار ، فالصغائر تكفر بعمل الصالحات ، وأما الكبائر فتكفر بالتوبة.

ولما بشرهم بالعفو عن العقاب أتم البشرى بالامتنان بالثواب فقال عاطفا على ما تقديره ولنثبتنّ لهم حسناتهم (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : أحسن جزاء ما عملوه وهو الصالحات ، وأحسن نصب بنزع الخافض وهو الباء.

ولما كان من جملة العمل الصالح الإحسان إلى الوالدين ذكر ذلك بقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي : وإن عليا (حُسْناً) أي : برّا بهما وعطفا عليهما أي : وصيناه بإيتاء والديه حسنا أو بإيلاء والديه حسنا لأنهما سبب وجود الولد وسبب بقائه بالتربية المعتادة والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه ، فيطيعهما ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى كما قال : تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) وقوله تعالى (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي : لا علم لك بإلهيته موافق للواقع فلا مفهوم له أو أنه إذا كان لا يجوز أن يتبع فيما لا يعلم صحته فبالأولى أن لا يتبع فيما يعلم بطلانه (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك كما جاء في الحديث : «لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى» (٢) ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي : من آمن منكم ومن كفر ومن برّ والديه ومن عق ، ثم تسبب عنه قوله تعالى : (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس : «روي أنها لما سمعت بإسلامه قالت له : يا سعد بلغني أنك قد صبأت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضّح ـ وهو بكسر الضاد المعجمة وبحاء مهملة الشمس ـ والريح ، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحب أولادها إليها فأبى سعد ولبثت ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ولا تأكل ولا تشرب فلم يطعها سعد بل قال : والله لو كانت مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم جاء سعد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية وهي التي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن يداريها ويترضاها بالإحسان» (٣).

وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمّه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إنّ من دين محمد صلة الأرحام وبرّ الوالدين وقد تركت أمك لا تأكل ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منا فاستشار عمر فقال : هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٢٣٣ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢١٤ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٠٨٦.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٣١ ، ٤٠٩ ، ٥ / ٦٦ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٨ / ١٦٥ ، ١٧٠ ، ١٧٧ ، ١٨٥ ، ٢٢٩ ، وعبد الرزاق في المصنف ٣٧٨٨.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

١٧٨

حتى أطاعهما وعصى عمر فقال عمر : أمّا إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال : نعم فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدّاه وأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت رضي تعالى الله عنه وأرضاه ونفعنا به في الدنيا والآخرة.

ولما كان التقدير فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدين ولكنه طواه لدلالة السياق عليه عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) تحقيقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي : الأنبياء والأولياء بأن نحشرهم معهم ، أو ندخلهم وهم الجنة ، والصلاح منتهى درجات المؤمنين ومنتهى أنبياء الله والمرسلين.

ولما بين سبحانه وتعالى المؤمن بقوله تعالى : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) وبين الكافر بقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) بين أنه بقي قسم ثالث مذبذب بقوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) بأن عذبهم الكفرة على الإيمان (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي : له بما يصيبه من أذيتهم في منعه عن الإيمان إلى الكفر (كَعَذابِ اللهِ) أي : في الصرف عن الكفر إلى الإيمان (وَلَئِنْ) لام قسم (جاءَ نَصْرٌ) أي : للمؤمنين (مِنْ رَبِّكَ) أي : بفتح وغنيمة (لَيَقُولُنَ) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات ، والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الإيمان فأشركونا في الغنيمة وأما عند الشدّة فيجبنون كما قال الشاعر (١) :

وما أكثر الأصحاب حين تعدهم

ولكنهم في النائبات قليل

قال الله تعالى : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ) أي : بعالم (بِما فِي صُدُورِ) أي : قلوب (الْعالَمِينَ) من الإيمان والنفاق.

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بقلوبهم (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) فيجازي الفريقين ، واللام في الفعلين لام قسم.

ولما بين الفرق الثلاثة وأحوالهم ذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ظاهرا وباطنا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : ظاهرا وباطنا لم تتحملون الأذى والذل؟ (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي : الذي نسلكه في ديننا تدفعوا عن أنفسكم ذلك ، فقالوا : نخاف من عذاب الله تعالى على خطيئة اتباعكم فقالوا لهم اتبعونا (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة ، قال الجلال المحلي : والأمر بمعنى الخبر وهو أولى من قول البيضاوي : وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كان تشجيعا للمؤمنين على الاتباع وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله (وَما هُمْ) أي : الكفار (بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ) أي : المؤمنين (مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ذلك ، قال الزمخشري : وترى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم افعل هذا وإثمه في عنقي وكم من مغرور

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٧٩

بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم؟!.

ومنه ما يحكى أن أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه فلما قضاها قال يا أمير المؤمنين بقيت الحاجة العظمى قال : وما هي؟ قال شفاعتك يوم القيامة فقال : له عمرو بن عبيد رحمه‌الله إياك وهؤلاء فإنهم قطاع الطريق في المأمن ، فإن قيل كيف سماهم الله تعالى كاذبين وإنما ضمنوا شيئا علم الله تعالى أنهم لا يقدرون على الوفاء به وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به ، لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ أجيب : بأنّ الله تعالى شبه حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنهم ، ويجوز أن يراد أنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف.

تنبيه : من الأولى : للتبيين ، والثانية : مزيدة ، والتقدير : وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.

فإن قيل : قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) ثم قال الله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَ) أي : الكفرة (أَثْقالَهُمْ) أي : أثقال ما اقترفته أنفسهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي : أثقالا بقولهم للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا وبإضلالهم مقلديهم فكيف الجمع بينهما؟ أجيب : بأن قول القائل حمل فلان عن فلان يريد أن حمل فلان خف فإن لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئا فقوله تعالى : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ) يعني : لا يرفعون عنهم خطيئة بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزارا بسبب إضلالهم كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» (١) وقال تعالى في آية أخرى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل ، ٢٥] من غير أن ينقص من أوزار من تبعهم شيء (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : سؤال توبيخ وتقريع (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يختلقون من الأكاذيب والأباطيل ، واللام في الفعلين لام قسم وحذف فاعلهما الواو ونون الرفع.

ولما كان السياق للبلاء والامتحان والصبر على الهوان ذكر من الرسل الكرام عليهم‌السلام من طال صبره على البلاء ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) أي : أوّل رسل الله إلى المخالفين من العباد وهو معنى (إِلى قَوْمِهِ) وعمره أربعون سنة فإنّ الكفر كان قد عمّ أهل الأرض وكان عليه‌السلام أطول الأنبياء ابتلاء بهم ، ولذلك قال الله تعالى مسببا عن ذلك ومتعقبا : (فَلَبِثَ فِيهِمْ) أي : بعد الرسالة (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم إلى توحيد الله تعالى فكذبوه (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أي : الماء الكثير فغرقوا (وَهُمْ ظالِمُونَ) قال ابن عباس مشركون ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيت لهم وتهديد لقريش ، قال ابن عباس : كان عمر نوح عليه‌السلام ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.

وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن كان هذا محفوظا عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسون

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

١٨٠