تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري» (١) ، وقال عطاء عن ابن عباس : أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة ، وقيل : تردّدك في تصفح الأحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، وتستبطن سرائرهم وكيف يعبدون الله وكيف يعملون لآخرتهم ، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات فوجدها كبيوت الزنابير.

(إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (السَّمِيعُ) أي : لجميع أقوالكم (الْعَلِيمُ) أي : بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم وشمول العلم يستلزم تمام القدرة فصار كأنه قال : إنه السميع البصير العليم القدير تثبيتا للتوكل عليه.

ولما بين سبحانه وتعالى أنّ القرأن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين ، أكد ذلك بأن بين أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصح أن ينزلوا عليه من وجهين ذكرهما بقوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم خبرا جليا نافعا في الدين عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ) وتتردّد (الشَّياطِينُ) حين تسترق السمع ولما كان كأنه قيل : نعم أشار إلى أحد الوجهين بقوله تعالى : (تَنَزَّلُ) على سبيل التدريج والتردّد (عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) أي : كذاب (أَثِيمٍ) أي : فاجر مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة أشار إلى ثاني الوجهين بقوله تعالى : (يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي : الآفكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها ، كما جاء في الحديث : «الكلمة يخطفها الجنيّ فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» (٢) ، ولا كذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها ، ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين ، ومعنى إلقائهم السمع إنصاتهم إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيخطفون منهم بعض المغيبات ويوحونه إلى أوليائهم أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة (وَأَكْثَرُهُمْ) أي : الفريقين (كاذِبُونَ) أما الشياطين فإنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا ، وأمّا الآفكون : فإنهم يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.

فإن قيل : كيف قال وأكثرهم كاذبون بعدما حكم عليهم أنّ كل واحد منهم أفاك؟ أجيب : بأنّ الأفاكين هم الذين يكثرون الكذب لأنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أنّ هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنيّ وأكثرهم مفتر عليه.

ولما قال الكفار لم لا يجوز أن يقال الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء.

ثم إنه تعالى فرق بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين الكهنة ، وذكر ما يدلّ على الفرق بينه وبين الشعراء بقوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي : الضالون المائلون عن السنن الأقوم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة حديث ٤١٨.

(٢) أخرجه البخاري في الطب باب ٤٦ ، والتوحيد باب ٥٧ ، ومسلم في السلام حديث ١٢٢ ـ ١٢٤ ، وأحمد في المسند ٦ / ٨٧.

٨١

إلى كل فساد يجرّ إلى الهلاك وأتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا كذلك بل هم الساجدون الباكون الزاهدون رضي الله تعالى عنهم ، وقرأ نافع بسكون التاء الفوقية وفتح الباء الموحدة ، والباقون بتشديد الفوقية وكسر الموحدة.

ولما قرّر حال أتباعهم ، علم منه أنهم هم أغوى منهم لتهّتكهم في شهوة اللقلقة باللسان حتى حسن لهم الزور والبهتان ، دلّ على ذلك بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي : تعلم (أَنَّهُمْ) أي : الشعراء ومثل حالهم بقوله تعالى : (فِي كُلِّ وادٍ) من أودية القول من المدح والهجو والتشبب والرثاء والمجون وغير ذلك (يَهِيمُونَ) أي : يسيرون سير البهائم حائرين وعن طريق الحق حائدين كيفما جرّهم القول أنجرّوا من القدح في الأنساب والتشبب بالحرم والهجو ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك ، ولذلك قال تعالى : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) أي : لأنهم لا يقصدونه وإنما ألجأهم إليه الفنّ الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها ، وقيل : إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه ولا يفعلونه ويذمّون البخل ويصرّون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم.

تنبيه : قال المفسرون : أراد شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر مقاتل أسماءهم فقال : منهم عبد الله بن الزبعرى السهميّ وهبيرة بن أبي وهب المخزوميّ وشافع ابن عبد مناف وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحيّ وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل وقالوا : نحن نقول كما قال محمد وقالوا الشعر واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين هجوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ويروون عنهم قولهم : فذلك قوله تعالى : (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين ، وقال قتادة : هم الشياطين.

ثم. إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف ، استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعر الجاهلية ويهجون الكفار وينافحون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، منهم : حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك ، فقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بالله ورسوله (وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) أي : التي شرعها الله تعالى ورسوله (وَذَكَرُوا اللهَ) مستحضرين ما له من الكمال (كَثِيراً) أي : لم يشغلهم الشعر عن الذكر ، روي أنّ كعب بن مالك قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله قد أنزل في الشعر ما أنزل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل» (١) وعن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول (٢) :

خلوا بني الكفار عن سبيله

اليوم نضر بكم على تنزيله

ضربا يزيل الهمام عن مقيله

ويذهب الخليل عن خليله

فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حرم الله تقول شعرا فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل» (٣) وعن البراء أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم قريظة لحسان : «أهج المشركين فإنّ جبريل معك» (٤) وعن عائشة رضي الله عنها قالت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤٥٦ ، ٦ / ٣٨٧.

(٢) الرجز في ديوان عبد الله بن رواحة ص ١٠٢.

(٣) أخرجه الترمذي في الأدب حديث ٢٨٤٧ ، والنسائي في المناسك حديث ٢٨٧٣.

(٤) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٢٤ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٨٦.

٨٢

«اهجوا قريشا فإنه أشدّ عليهم من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فقال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد ثم أدلع لسانه فجعل يحرّكه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تعجل فإنّ أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإنّ لي فيهم نسبا حتى يخلص لك نسبي ، فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله لقد أخلص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما يسلّ الشعر من العجين ، قالت عائشة فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لحسان : إنّ روح القدس لا يزال يؤيدّك ما نافحت عن الله ورسوله قالت وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هجاهم حسان فشفى وأشفى» (١) قال حسان (٢) :

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

هجوت محمدا برّا حنيفا

رسول الله شيمته الوفاء

فإنّ أبي ووالدتي وعرضي

لعرض محمد منكم وفاء

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء

وورد في مدح الشعر عن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ من الشعر حكمة» (٣) وعن ابن عباس قال : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال : هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قال : نعم قال هيه ، فأنشده بيتا فقال هيه حتى أنشده مائة بيت» (٤) وعن جابر بن سمرة قال : «جالست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون شيئا من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم» (٥) وعن عائشة : الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح ، وعن : الشعبيّ كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عليّ أشعر الثلاثة ، وعن ابن عباس : أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ واستنشده القصيدة التي أوّلها (٦) :

أمن آل نعم أنت غاد فبكر

غداة غد أم رائح فمهجر

فأنشد ابن ربيعة القصيدة إلى آخرها وهي قريبة من سبعين بيتا ، ثم إنّ ابن عباس أعاد القصيدة جميعا وكان حفظها بمرّة واحدة.

ثم بين سبحانه وتعالى ما حمل المؤمنين على الشعر وهو انتصارهم من المشركين بقوله تعالى : (وَانْتَصَرُوا) أي : بهجوهم الكفار (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بهجو الكفار لهم لأنهم بدؤا

__________________

(١) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٩٠ ، والبخاري في الأدب حديث ٦١٥٠.

(٢) الأبيات من الوافر ، وهي في ديوان حسان بن ثابت ص ٧٦.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦١٤٥ ، وأبو داود في الأدب حديث ٥٠١٠ ، والترمذي في الأدب حديث ٢٨٤٤ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٧٥٥.

(٤) أخرجه مسلم في الشعر حديث ٣٢٥٥ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٧٥٨.

(٥) أخرجه الترمذي في الأدب حديث ٢٨٥٠.

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص ٩٢.

٨٣

بالهجاء ، ثم أوعد شعراء المشركين وغيرهم من الكفار بقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالشرك وهجو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَيَّ : مُنْقَلَبٍ) أي : مرجع (يَنْقَلِبُونَ) أي : يرجعون بعد الموت ، قال ابن عباس : إلى جهنم والسعير ، وفي هذا تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ ، وفي (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من الإطلاق والتعميم وفي (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) من الإبهام والتهويل ، وقد تلا أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه هذه الآية.

اللهمّ اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها ، وروى الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي تذكر فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة» (١) وعن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهنّ نبيّ قبلي» (٢) ، وما رواه البيضاويّ تبعا للزمخشريّ من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدّق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٤ / ٢٦٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٥٢٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧٧٨٢.

(٢) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٢٥٨١.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٥٠.

٨٤

سورة النمل

مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية ، وألف ومائة وتسع وأربعون كلمة ، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) أي : الذي كمل علمه فبهرت حكمته (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بالهداية بأوضح البيان (الرَّحِيمِ) أي : الذي منّ بجنات النعيم على من اتبع الصراط المستقيم.

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢))

(طس) قال ابن عباس : هو اسم من أسماء الله عزوجل ، وقد سبق الكلام في حروف الهجاء عليه ، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة ، بإمالة الطاء ، والباقون بالفتح.

(تِلْكَ) أي : هذه الآيات العالية المقام البعيدة المرام البديعة النظام (آياتُ الْقُرْآنِ) أي :

٨٥

الكامل في قرآنيته الجامع للأصول الناشر للفروع الذي لا خلل فيه ولا فصم ولا صدع ولا وصم (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي : مظهر الحق من الباطل ، فإن قيل : كيف صح أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث والآخر مذكر باسم الإشارة المؤنث ولو قلت تلك هند وزيد لم يجز؟.

أجيب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ المراد بالكتاب هو الآيات لأنّ الكتاب عبارة عن الآيات المجموعة فلما كانا شيئا واحدا صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث ، الثاني : أنه على حذف مضاف أي : وآيات كتاب مبين ، الثالث : أنه لما ولي المؤنث ما تصح الإشارة به إليه اكتفى به وحسن ، ولو ولي المذكر لم يحسن ، ألا ترى أنك تقول جاءتني هند وزيد ولو أخرت هند لم يجز تأنيث الفعل ، وقرأ ابن كثير بالنقل وصلا وابتداء وحمزة في الوقف لا غير ، والباقون بغير نقل.

وقوله تعالى : (هُدىً وَبُشْرى) يجوز أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدّر من لفظهما ، أي : يهدي هدى ويبشر بشرى ، وأن يكونا في موضع الحال من آيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة ، وأن يكونا خبرا بعد خبر ، وأن يكونا خبري مبتدأ مضمر ، أي : هو هدى من الضلالة وبشرى (لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : المصدّقين به بالجنة كقوله تعالى : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء : ١٧٥] ولهذا خص به المؤمنين ، وقيل المراد بالهدى الدلالة ، وإنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى ، والبشرى إنما تكون للمؤمنين ، أو لأنهم تمسكوا به كقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] أو لأنه يزيد في هداهم كقوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦].

ولما كان وصف الإيمان خفيا وصفهم بما يصدّقه من الأمور الظاهرة بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والمراقبة والإحسان إصلاحا لما بينهم وبين الخالق (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي : إحسانا فيما بينهم وبين الخلائق (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي : يوجدون الإيقان حق الإيجاد بالاستدلال ويجدّدونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية ، وأعيد هم لما فصل بينه وبين الخبر.

ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها ذكره بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يوجدون الإيمان ولا يجددونه (بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا) أي : بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها (لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي : القبيحة بتركيب الشهوة حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها ، والإسناد إليه حقيقيّ عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقيّ ، وإلى الشيطان مجاز سببيّ ، وعند المعتزلة بالعكس ، قال الزمخشريّ في تفسيره : إنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عزوجل مجاز (فَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أنهم (يَعْمَهُونَ) أي : يتحيرون ويتردّدون في أودية الضلال ويتمادون في ذلك ، فهم كل لحظة في خبط جديد بعمل غير سديد.

(أُوْلئِكَ) أي : البعداء البغضاء (الَّذِينَ لَهُمْ) أي : خاصة (سُوءُ الْعَذابِ) أي : أشدّه في الدنيا بالخوف والقتل (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي : أشدّ الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم.

ولما وصف تعالى القرآن بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران ، ذكر حال المنزل عليه وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبا له بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ) أي : وأنت يا أشرف الخلق وأعلمهم وأعظمهم

٨٦

وأحكمهم (لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي : لتؤتاه وتلقنه أي : يلقى عليك بشدّة (مِنْ لَدُنْ) أي : من عند (حَكِيمٍ) أي : بالغ الحكمة فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان (عَلِيمٍ) أي : عظيم العلم واسعه تامّه شامله ، والجمع بينهما مع أنّ العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل ، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها : ما هو كالعقائد والشرائع ، ومنها : ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات.

ثم شرع في بيان تلك العلوم بقوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى) أي : اذكر قصته حين قال (لِأَهْلِهِ) أي : زوجته بنت شعيب عليه‌السلام عند مسيره من مدين إلى مصر وهي القصة الأولى من قصص هذه السورة ، قال الزمخشريّ : روي أنه لم يكن مع موسى عليه‌السلام غير امرأته ، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله : امكثوا ، وكانا يسيران ليلا وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد ، وفي مثل هذا الحال يقوى الناس بمشاهدة نار من بعد ، لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء ، فلذلك بشرها فقال : (إِنِّي آنَسْتُ) أي : أبصرت إبصارا حصل لي به الأنس وأزال عني الوحشة (ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي : عن حال الطريق وكان قد أضلها ، وعبر بلفظ الجمع كما في قوله : (امْكُثُوا) فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف؟ أجيب : بأنّ ذلك عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ الإتيان أو كانت المسافة بعيدة ، فإن قيل : قال هنا (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) وفي السورة الآتية : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) [القصص : ٢٩] وهما كالمتدافعين لأنّ أحدهما ترج والآخر تيقن؟ أجيب : بأنّ الراجي قد يقول إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الحقيقة.

(أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي : شعلة نار في رأس فتيلة أو عود ، قال البغويّ : وليس في الطرف الآخر نار ، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمي كل شيء أبيض ذي نور شهابا ، والقبس : القطعة من النار ، وقرأ الكوفيون بشهاب بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس ، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبسا وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه ، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ.

فإن قيل : لم جاء بأو دون الواو؟ أجيب : بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما ، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة ، ثم إنه عليه‌السلام علل إتيانه بذلك إفهاما لأنها ليلة باردة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي : لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد ، والطاء بدل من تاء الافتعال ، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها.

(فَلَمَّا جاءَها) أي : تلك التي ظنها نارا (نُودِيَ) من قبل الله تعالى (أَنْ بُورِكَ) أن هي المفسرة لأنّ النداء فيه معنى القول ، والمعنى قيل له : بورك ، أو المصدرية أي : بأن بورك ، وقوله تعالى : (مَنْ فِي النَّارِ) أي : موسى (وَمَنْ حَوْلَها) أي : الملائكة هو نائب الفاعل لبورك ، والأصل بارك الله من في النار ومن حولها ، وهذا تحية من الله عزوجل لموسى بالبركة.

ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه نارا ، أو من

٨٧

في النار هم الملائكة ، وذلك أنّ النور الذي رآه موسى عليه‌السلام كان فيه الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها ، وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها والنار إحدى حجب الله تعالى ، كما جاء في الحديث : «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه» (١) الحديث.

تنبيه : بارك يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ يقال باركك الله وبارك عليك وبارك فيك وبارك لك ، وقال الشاعر (٢) :

فبوركت مولودا وبوركت ناشئا

وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب

قال الزمخشريّ : والظاهر أنه عامّ في كل من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشأم ، ولقد جعل الله تعالى أرض الشأم الموسومة بالبركات لكثرتها مبعث الأنبياء ، وكفاتهم أحياء وأمواتا ، ومهبط الوحي عليهم ، وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه‌السلام وقوله تعالى (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيها ، وللعجب من عظمة الله في ذلك الأمر فإنه أتاه النداء ، كما ورد من جميع الجهات فسمعه بجميع الحواس ، أو تعجب من موسى لما دعاه من عظمته.

ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحا ، قال تعالى تمهيدا لما أراد سبحانه إظهاره على يد موسى عليه‌السلام من المعجزات الباهرات : (يا مُوسى إِنَّهُ) أي : الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه ، وجملة (أَنَا اللهُ) أي : البالغ في العظمة ما تقصر عنه الأوهام ، مفسرة له ، أو المتكلم ، وأنا خبر ، والله بيان له ، ثم وصف تعالى نفسه بوصفين يدلان على ما يفعله مع موسى عليه‌السلام : أحدهما : (الْعَزِيزُ) أي : الذي يصل إلى سائر ما يريد ولا يرده عن مراده راد ، والثاني : (الْحَكِيمُ) أي : الذي يفعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير.

فإن قيل : هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى ، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى؟ أجيب : بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر ، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى.

ثم أرى الله سبحانه وتعالى موسى عليه‌السلام آية تدلّ على قدرته ليعلم علم شهود وهي قوله تعالى : (وَأَلْقِ عَصاكَ) فألقاها كما مرّ فصارت في الحال ، كما آذنت به الفاء حية عظيمة جدّا ، ومع كونها في غاية العظم في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما تريد (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي : تضطرب في تحرّكها مع كونها في غاية الكبر (كَأَنَّها جَانٌ) أي : حية صغيرة في خفتها وسرعتها فلا ينافي ذلك كبر جثتها (وَلَّى) أي : موسى عليه‌السلام ثم إنّ التولية مشتركة بين معان ، فلذا بين المراد منها بقوله تعالى : (مُدْبِراً) أي : التفت هاربا منها مسرعا جدّا لقوله تعالى : (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليه.

تنبيه : قال الزمخشري : وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي ، والمعنى قيل : له : بورك من في النار ، وقيل له : ألق

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٧٩.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٨٨

عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة ، والصحيح كما قاله أبو حيان : أنه لا يشترط ذلك.

ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب : بأنه قيل له (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي : منها ولا من غيرها ثقة بي ، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى : مبشرا بالأمن والرسالة (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَ) أي : عندي (الْمُرْسَلُونَ) أي : من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء منقطع ، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح ، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى : (ثُمَّ بَدَّلَ) أي : بتوبته (حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) وهو الظلم الذي كان عمله أي : جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه‌السلام (فَإِنِّي) أرحمه بسبب أني (غَفُورٌ) أي : من شأني أن أمحو الذنوب محوا يزيل جميع آثارها (رَحِيمٌ) أي : أعامله معاملة الراحم البليغ الرحمة ، والثاني : أنه استثناء متصل.

وللمفسرين فيه عبارات : قال الحسن : إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، وقال غيره : إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل ، وقال بعض النحويين : إلا ههنا بمعنى ولا ، أي : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٥٠] أي : ولا الذين ظلموا.

ثم أراه الله تعالى بعد هذه الآية آية أخرى ذكرها بقوله تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي : فتحة ثوبك وهو ما قطع منه ليحيط بعنقك ، وكان عليه مدرعة صوف لا كم لها وقيل : الجيب القميص لأنه يجاب أي : يقطع (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي : بياضا عظيما نيرا جدا له شعاع كشعاع الشمس ، وكانت الآية الأولى مما في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني ، وهذه في يده نفسها بقلب عرضها التي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني ، ثم نفى عنها أن يكون ذلك بسبب آفة بقوله تعالى : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : برص ولا غيره من الآفات ، وقوله تعالى (فِي تِسْعِ آياتٍ) كلام مستأنف ، وحرف الجرّ فيه متعلق بمحذوف ، والمعنى : اذهب في تسع آيات (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) كقول القائل (١) :

فقلت إلى الطعام فقال منهم

فريق تحسد الإنس الطعاما

ويجوز أن يكون بمعنى وألق عصاك وأدخل يدك في تسع آيات وعدادهنّ.

ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية : ثنتان منها العصا واليد ، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ، وقيل : في بمعنى من أي : من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع ، ثم علل إرساله إليهم

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لشمر بن الحارث الضبي في لسان العرب (حسد) ، وتاج العروس (حسد) ، والحيوان ٦ / ١٩٧ ، ولسهم بن الحارث في الحيوان ٤ / ٤٨٢ ، ولتأبط شرا في ديوانه ص ٢٥٧ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٥٠٢.

٨٩

بالخوارق بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي : خارجين عن طاعتنا.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) أي : على يد موسى عليه‌السلام (مُبْصِرَةً) أي : بينة واضحة هادية إلى الطريق الأقوم (قالُوا هذا سِحْرٌ) أي : خيال لا حقيقة له (مُبِينٌ) أي : واضح في أنه خيال.

(وَجَحَدُوا بِها) أي : أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأنّ الجحود الإنكار مع العلم (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي : علموا أنها من عند الله تعالى وتخلل علمها صميم قلوبهم ، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس ، ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها بقوله تعالى : (ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي : شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى (فَانْظُرْ) يا أشرف الخلق (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وهو الإغراق في الدنيا بأيسر سعي وأيسر أمر ، فلم يبق منهم عين تطرف ولم يرجع منهم مخبر على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم ، والإحراق في الآخرة بالنار المؤبدة.

القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما‌السلام المذكورة في قوله تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا) أي : بما لنا من العظمة (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ابنه وهما من أتباع موسى عليهم‌السلام وبعده بأزمان متطاولة (عِلْماً) أي : جزأ من العلم عظيما من منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وغير ذلك لم نؤته لأحد من قبلهما ولما كان التقدير فعملا بمقتضاه ، عطف عليه قوله : (وَقالا) شكرا عليه ودلالة على شرف العلم وتنبيها لأهله على التواضع (الْحَمْدُ) أي : الإحاطة بجميع أوصاف الكمال (لِلَّهِ) أي : الذي لا كفء له (الَّذِي فَضَّلَنا) أي : بما آتانا من النبوّة والكتاب وتسخير الشياطين والجنّ والإنس وغير ذلك (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ممن لم يؤت علما أو مثل علمهما ، وفي ذلك تحريض للعالم أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير ، فلا يتكبر ولا يفتخر ويشكر الله تعالى ، وينفع به المسلمين كما نفعه الله تعالى به.

ثم إنه تعالى أشار إلى فضل سليمان بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه بقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أباه عليهما‌السلام دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابنا فأعطى سليمان ما أعطى داود من الملك وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين ، قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان ، وكان سليمان شاكرا لنعم الله تعالى (وَقالَ) تحدّثا بنعمة ربه ومنبها على ما شرّفه الله تعالى به ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا) أي : أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله (مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي : فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت ، فسمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس.

روي عن كعب الأحبار أنه قال : صاح ورشان عند سليمان عليه‌السلام فقال أتدرون ما يقول : قالوا : لا قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة فقال : أتدرون ما تقول قالوا : لا قال : فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول : قالوا : لا قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صرد فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاح طيطوى فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول : كل حيّ

٩٠

ميت وكل جديد بال ، وصاح خطاف فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا قال فإنه يقول : قدّموا خيرا تجدوه ، وهدرت حمامة فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا ، قال فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا ، قال : فإنه يقول سبحان ربي الأعلى ، قال والغراب يدعو على العشار ، والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول من سكت سلم ، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان رب القدّوس ، ويقول أيضا سبحان ربي المذكور بكلّ لسان ، والباز يقول سبحان ربي وبحمده ، وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : الرحمن على العرش استوى.

وروي عن فرقد السبخيّ قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء : وهو بالفتح والمدّ التراب ، وقال أبو عبيد : هو الدروس ، وفي حديث صفوان : «إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفا وشربت عليه فعلى الدنيا العفاء» ، وروي أنّ جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدّقنا ، قال : اسألوا تفقها ولا تسألوا تعنتا ، قالوا : أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والديك في صعيقه والضفدع في نعيقه والحمار في نهيقه والفرس في صهيله وما يقول الزرزور والدرّاج ، قال نعم أمّا القنبر فيقول : اللهمّ العن مبغضي محمد وآل محمد ، وأمّا الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين ، وأمّا الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار ، وأمّا الحمار فيقول : اللهمّ العن العشار ، وأمّا الفرس فيقول : إذا التقى الصفان سبوح قدّوس رب الملائكة والروح ، وأما الزرزور فيقول : اللهمّ إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق ، وأمّا الدراج فيقول : الرحمن على العرش استوى قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم.

ويروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسين بن عليّ قال : إذا صاح النسر قال : ابن آدم عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطاف قرأ : الحمد لله رب العالمين ويمدّ ولا الضالين كما يمدّ القارئ.

وقول سليمان عليه‌السلام (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي : تؤتاه الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس من أمر الدنيا والآخرة ، وقال مقاتل : يعني النبوّة والملك وتسخير الجنّ والإنس والرياح (إِنَّ هذا) أي : الذي أوتيناه (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : البين في نفسه لكلّ من ينظره الموضح لعلوّ قدر صاحبه ، روي أنّ سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك أربعين سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا من الجنّ والأنس والدواب والطير والسباع وأعطى مع ذلك منطق الطير ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة ، فقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) تقرير لقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) والمقصود منه الشكر والحمد ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١) ، فإن قيل : كيف قال علمنا وأوتينا وهو كلام المتكبر؟ أجيب بوجهين : الأوّل : أنه يريد نفسه وأباه كما مرّ ، الثاني : أنّ هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكا مطاعا.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٣ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣١٤٨ ، والمناقب حديث ٣٦١٥ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٣٤٠٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٨١ ، ٣ / ٢.

٩١

ولما كان هذا مجرّد خبر أتبعه ما يصدّقه بقوله تعالى : (وَحُشِرَ) أي : جمع جمعا حتما بقهر وسطوة وإكراه بأيسر أمر (لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) ثم بين ذلك بقوله تعالى : (مِنَ الْجِنِ) وبدأ بهم لعسر جمعهم ثم ثنى بقوله تعالى : (وَالْإِنْسِ) لشرفهم ثم أتبع من يعقل بما لا يعقل بقوله (وَالطَّيْرِ) فقدّم القسم الأول لشرفه وذلك كان في مسير له في بعض الغزوات (فَهُمْ) أي : فتسبب عن مسيره بذلك أنهم (يُوزَعُونَ) أي : يكفون بحبس أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلا حقوا فيكون ذلك أجدر بالهيبة وأعون على النصرة وأقرب إلى السلامة ، قال قتادة : كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أوّلها على آخرها لئلا يتقدّموا في المسير ، قال والوازع : الحابس وهو النقيب ، وقال مقاتل : يوزعون أي : يساقون ، وقال السدّيّ : يوقفون ، وقيل : يجمعون ، وأصل الوزع الكف والمنع.

قال محمد بن كعب القرظيّ : كان معسكر سليمان عليه‌السلام مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير ، وقيل : نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وحرير فرسخا في فرسخ وكان يوضع كرسيه وسطه فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة والناس حولهم والجنّ والشياطين حول الناس والوحش حولهم وتظلهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني : حرّة وسبعمائة سرّية ، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به مسيرة شهر ، وأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به ، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال : إني مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود واستمرّ سائرا بمن معه.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا) أي : أشرفوا (عَلى وادِ النَّمْلِ) روي عن كعب الأحبار أنه قال : كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه ، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع كل قدر عشرة من الإبل يطبخ الطباخون ويخبز الخبازون واتخذ ميادين للدّواب فتجري بين يديه وهو بين السماء والأرض والريح تهوي بهم فسار من اصطخر يريد اليمن ، فمرّ بمدينة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سليمان هذه دار هجرة نبيّ يخرج في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه.

ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله تعالى إلى البيت ما يبكيك؟

فقال : يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين ، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف.

قال البقاعي : وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم ، وقال

٩٢

قتادة ومقاتل : هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي ، وقيل : واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم ، وقال نوف الحميري : كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب ، وقيل : كان كالبخاتي ، وقال البغويّ والمشهور : أنه النمل الصغير.

فائدة : وقف الكسائي على وادي بالياء ، والباقون بغير ياء ، فإن قيل : لم عدى أتوا بعلى؟ أجيب : بأنه يتوجه على معنيين : أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء ، والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم ، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم.

ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي (قالَتْ نَمْلَةٌ) قال الشعبيّ : كانت تلك النملة ذات جناحين ، وقيل : كانت نملة عرجاء فنادت (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا) أي : قبل وصول ما أرى من الجيش (مَساكِنَكُمْ) ثم عللت أمرها فقالت : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي : يكسرنكم ويهشمنكم ، أي : لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميرا عن شيء كان لغيره أشدّ نهيا (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) أي : لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خاليا (وَهُمْ) أي : سليمان وجنوده (لا يَشْعُرُونَ) أي : بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير ، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء ، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولا له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم ، والنمل : اسم جنس معروف واحده نملة ، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم ، ونملة ونمل بضمهما.

وعن قتادة : أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى حاضرا وهو غلام حديث ، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله ، وهو قوله : قالت نملة ولو كانت ذكرا لقال قال نملة ، قال الزمخشريّ : وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي انتهى.

وردّ هذا أبو حيان فقال : ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكرا وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس ، قال وكان قتادة بصيرا بالعربية ، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين ، ولحاق العلامة لا يدل ، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا. ه.

وقال الطيبي : العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك.

فإن قيل : كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على

٩٣

بساط بين السماء والأرض؟ أجيب : بأنّ من جنوده ركبانا ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم ، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان ، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم ، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال ، وقيل : كان اسمها طاخية.

فائدة : قال أهل المعاني في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت ، ووجهه : نادت يا ، نبهت : ها ، سمت : النمل ، أمرت : ادخلوا ، نصت : مساكنكم ، حذرت : لا يحطمنكم ، خصت : سليمان ، عمت : وجنوده ، أشارت : وهم ، أعذرت : لا يشعرون.

ولما كان هذا أمر معجبا لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني تسبب عنه قوله : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أي : لما أوتيته من الفصاحة والبيان وسرورا بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذي أحدا وهم يعلمون ، وبما آتاه الله من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه.

تنبيه : ضاحكا : حال مؤكدة لأنها مفهومة من تبسم ، وقيل : هي حال مقدّرة فإنّ التبسم ابتداء الضحك ، وقيل : التبسم قد يكون للغضب ، ومنه تبسم تبسم الغضبان ، فضاحكا : مبينا له ، قال عنترة (١):

لما رآني قد قصدت أريده

أبدى نواجذه لغير تبسم

وقال الزجاج : أكثر ضحك الأنبياء التبسم ، وقوله : ضاحكا أي : متبسما ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : «ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم» (٢) ، وعن عبد الله بن الحارث بن جبير قال : «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣) ، وقيل : كان أوّله التبسم ، وآخره الضحك ، ثم حمد الله تعالى على هذه النعمة وسأل ربه توفيق شكره لما تذكر ما أولاه ربه سبحانه وتعالى بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك. (وَقالَ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (أَوْزِعْنِي) أي : ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) وقيل معناه لغة : اجعلني أزع شكر نعمتك أي : أكفه وأمنعه حتى لا يفلت مني فلا أزال شاكرا ، وأزع بفتح الزاي أصله : أوزع فحذفت واوه كما في أدع.

ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به حققه بقوله (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) وأفهم قوله : (وَعَلى والِدَيَ) أن أمّه كانت أيضا تعرف منطق الطير وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصا النعمة الراجعة إلى الدين فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته ودعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له وقالوا رضي الله عنك وعن والديك.

تنبيه : الشكر لغة : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر أو غيره سواء كان ذكرا باللسان أم اعتقادا أو محبة بالجنان أم عملا وخدمة بالأركان ، كما قال القائل (٤) :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان عنترة ص ١٢٤ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٢) أخرجه البخاري في الأدب باب ٦٨ ، وأبو داود في الأدب باب ١٠٤ ، وأحمد في المسند ٦ / ٦٦.

(٣) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٦٤١ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٩٠ ، ١٩١.

(٤) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٩٤

وعرفا : صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله ، وهذا لمن حفته العناية الربانية نسأل الله الكريم الفتاح أن يحفنا ومن يلوذ بنا بعنايته.

روي عن داود عليه‌السلام أنه قال : يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء : الأول : معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة ، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري ، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر ، الثاني : قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة ، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة ، الثالث : الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه ، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى.

ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه ، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسنا وهو ليس كذلك قال عليه‌السلام : مشيرا إلى هذا المعنى (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) أي : في نفس الأمر ، وقيده بقوله (تَرْضاهُ) لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل ، كما قيل (١) :

إذا كان المحب قليل حظ

فما حسناته إلا ذنوب

وقوله (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) يدل على أنّ دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق العبد ، والمعنى : أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين ، فإن قيل : درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين والأولياء فما السبب في أنّ الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين وقد تمنى يوسف عليه‌السلام بقوله (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] وقال إبراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء ، ٨٣].

أجيب : بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية.

ثم إنّ سليمان عليه‌السلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك. (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي : طلبها وبحث عنها ، والتفقد طلب ما فقد ، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي : أهو حاضر (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أم منقطعة ، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره ، فقال ما لي لا أراه ، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لا ح له ، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته.

وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء : أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم

__________________

(١) البيت لم أجده.

٩٥

وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه إنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم ، قالوا فبأي : دين يدين يا نبيّ الله؟ قال بدين الحنيفية : فطوبى لمن أدركه وآمن به ، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله؟ قال : مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل ، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحا وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى ، فلما نزل قال الهدهد : إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه ، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير ، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمن أين أنت؟ قال أنا من هذه البلاد ، قال ومن ملكها؟ قال امرأة يقال لها بلقيس ، وإن لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل ، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء ، قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وغاب إلى وقت العصر ، وكان نزول سليمان على غير ماء ، قال ابن عباس : وكان الهدهد دليل سليمان على الماء ، وكان يعرف الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف بعده وقربه فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء ، قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : انظر ما تقول : إن الصبيّ منا يصنع الفخ ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال بين البصر ، وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر ، قال القائل (١) :

هي المقادير فدعني والقدر

إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

إذا أراد الله أمرا بامرئ

وكان ذا عقل وسمع وبصر

يعبر الجهل فيعمى قلبه

وسمعه وعقله ثم البصر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه

ردّ عليه عقله ليعتبر

لا تقل لما جرى كيف جرى

كل شيء بقضاء وقدر

فلما دخل على سليمان وقت الصلاة سأل الإنس والجنّ والشياطين عن الماء فلم يعلموه ، فتفقد الهدهد فلم يجده فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو ، وما أرسلته مكانا ، فغضب سليمان عند ذلك وقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ) أي : بسبب غيبته فيما لم آذن فيه (عَذاباً شَدِيداً) أي : مع بقاء روحه ردعا لأمثاله (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) أي : بقطع حلقومه أي : تأديبا

__________________

(١) الأبيات لم أجدها في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٩٦

لغيره (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجة واضحة.

واختلفوا في تعذيبه الذي أوعده به على أقوال : قال البغوي : أظهرها أنّ عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل والذباب ولا من هوام الأرض انتهى ، وقيل : تعذيبه أن يؤذيه بما لا يحتمله ليعتبر به أبناء جنسه ، وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه ، وقيل : أن يطلى بالقطران ويشمس ، وقيل : أن يلقى للنمل تأكله ، وقيل : إيداعه القفص ، وقيل : التفريق بينه وبين ألفه ، وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد.

قال الزمخشريّ : وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه ، ثم دعا العقاب سيد الطير فقال له : عليّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، فالتفت يمينا وشمالا فإذا بالهدهد مقبلا من نحو اليمن ، فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أنّ العقاب يقصده بسوء ، فناشده فقال بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ إلا ما رحمتني ولم تتعرّض لي بسوء ، فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمّك إنّ نبيّ الله قد حلف أن يعذبك أو ليذبحنك ، قال فما استثنى ، قال : بلى ، قال أو ليأتيني بسلطان مبين ، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال ، فقال الهدهد وما استثنى نبي الله عليه‌السلام؟ قالوا : بلى ، قال أو ليأتيني بسلطان مبين ، قال فنجوت إذا ، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان ، وكان قاعدا على كرسيه ، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله.

(فَمَكَثَ) أي : الهدهد ، وقوله تعالى : (غَيْرَ بَعِيدٍ) صفة للمصدر ، أي : مكثا غير بعيد ، فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه ، وقال له أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدا فقال له الهدهد : يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى ، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني (فَقالَ أَحَطْتُ) أي : علما (بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي : أنت مع اتساع علمك وامتداد ملكك ، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه ، وتنبيها له على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفا في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الروافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه ، وقيل : الضمير في مكث لسليمان ، وقيل : غير بعيد صفة للزمان أي : زمانا غير بعيد ، وقرأ عاصم بفتح الكاف ، والباقون بضمها ، وهما لغتان إلا أنّ الفتح أشهر ، (وَجِئْتُكَ) أي : الآن (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) أي : خبر عظيم (يَقِينٍ) أي : محقق ، وقرأ أبو عمرو والبزيّ سبأ بفتح الهمزة من غير تنوين ، جعلاه اسما للقبيلة أو البقعة فمعناه من الصرف للعلمية والتأنيث ، والباقون بالجر والتنوين جعلوه اسما للحيّ أو المكان ، قال البغوي : وجاء في الحديث أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن سبأ فقال : «رجلا كان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» (١) فقال سليمان وما ذاك قال :

__________________

(١) أخرجه بنحوه أبو داود في الحروف باب ١ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٤ ، باب ١.

٩٧

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) وهي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان ، وكان أبوها ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكا هو آخرهم ، وكان يملك أرض اليمن كلها ، وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤا لي ، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه بامرأة من الجنّ يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.

قال البغوي : وجاء في الحديث «أنّ أحد أبوي بلقيس كان جنيا فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك ، فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون ، وملكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن ، ثم إنّ الرجل الذي ملكوه أساء السير في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهنّ ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه ، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه ، فأجابها ، وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا إياسي منك ، فقالت لا أرغب عنك أنت كفؤ كريم ، فاجمع رجال قومي واخطبني منهم ، فجمعهم وخطبها إليهم ، فقالوا لا نراها تفعل ذلك ، فقال لهم إنها قد ابتدأتني وأنا أحبّ أن تسمعوا قولها ، فجاؤها فذكروا لها قالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه ، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها ، فلما جاءته أسقته الخمر حتى سكر ، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها ، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب دارها ، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت حيلة مكر وخديعة منها ، فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من

٩٨

غيرك فملكوها».

وعن الحسن عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم امرأة قال : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (١) وقوله (وَأُوتِيَتْ) يجوز أن يكون معطوفا على تملكهم ، وجاز عطف الماضي على المضارع لأنّ المضارع بمعناه ، أي : ملكتهم ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من مرفوع تملكهم ، وقد معها مضمرة عند من يرى ذلك ، وقوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) عام مخصوص بالعقل لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان ، فالمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة (وَلَها عَرْشٌ) أي : سرير (عَظِيمٌ) أي : ضخم لم أجد لأحد مثله طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه ثلاثون ذراعا ، مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد ، وقوائمه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد عليه سبعة أبواب على كل باب بيت مغلق.

فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضا كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمن في الوصف بالعظم؟ أجيب عن الأوّل : بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش ، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك ، ووصف عرش الرحمن بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض.

فإن قيل : كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه‌السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟ أجيب : بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.

ولما كان الهدهد في خدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله تعالى فحصل له من النورانية ما هاله ، قال مستأنفا : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) أي : كلهم على ضلال كبير وذلك أنهم (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ) مبتدئين ذلك (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : من أدنى رتبة للملك الأعظم الذي لا مثل له (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي : هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة ، ثم تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق فلهذا قال (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : الذي لا سبيل إلى الله غيره ، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام ، ثم تسبب عن ذلك ضلالهم فلهذا قال (فَهُمْ) أي : بحيث (لا يَهْتَدُونَ) أي : لا يوجد لهم هدى بل هم في ضلال صرف وعمى محض.

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أي : أن يسجدوا له ، فزيدت لا وأدغم فيها نون أن ، كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] والجملة في موضع مفعول يهتدون بإسقاط إلى ، هذا إذا قرئ بالتشديد وهي قراءة غير الكسائي ، وأمّا الكسائي : فقرأ بتخفيف ألا فألا فيها تنبيه واستفتاح وما

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٨٢ ، والفتن باب ١٨ ، والترمذي في الفتن باب ٧٥ ، والنسائي في القضاة باب ٨.

٩٩

بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال (١) :

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلا بجرعائك القطر

ويقف الكسائي على ألا ، وعلى يا ، وعلى اسجدوا ، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم ، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثا على السجود له وردّا على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله : (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) في قلوبهم (وَما تُعْلِنُونَ) بألسنتهم ، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما ، والباقون بالتحتية ، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به ، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله (أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ) و (فَهُمْ) وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ ، ويجوز أن تكون إلتفاتا على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتا إليه.

وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي : الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها ، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكا لما وصف عرش بلقيس بالعظم ، وأن يكون من كلام الله تعالى ردّا عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم ، فإن قيل : من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟.

أجيب : بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها ، خصوصا في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له ، وهذه آية سجدة واختلف في محلها ، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون؟ الجمهور على الأوّل.

ولما فرغ الهدهد من كلامه. (قالَ) له سليمان (سَنَنْظُرُ) أي : نختبر ما قلته (أَصَدَقْتَ) فيه فنعذرك (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي : معروفا بالانخراط في سلكهم فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان غريقا في الكذب فهو أبلغ من أم كذبت ، وأيضا لمحافظة الفواصل ، ثم شرع فيما يختبره به فكتب له كتابا على الفور في غاية الوجازة قصدا للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة ، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جوابا له. (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) فكأنه كان مهيأ عنده فدفعه إليه وأمره بالإسراع ، فطار كأنه البرق ولهذا أشار بالفاء في قوله : (فَأَلْقِهْ

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ٥٥٩ ، والإنصاف ١ / ١٠٠ ، وتخليص الشواهد ص ٢٣١ ، ٢٣٢ ، والخصائص ٢ / ٢٧٨ ، والدرر ٢ / ٤٤ ، ٤ / ٦١ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٣٢ ، ولسان العرب (يا) ، ومجالس ثعلب ١ / ٤٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٢٣٥ ، والدرر ٥ / ١١٧ ، وشرح ابن عقيل ص ١٣٦.

١٠٠