تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] أجيب : بأن الماضي كالأمس الدابر وهو من أبعد ما يكون إذ لا وصول إليه ، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنون فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيها ، ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه ، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي بعد الألف بهمزة مضمومة والباقون بعد الألف بواو مضمومة فمعناه على هذا : كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريبا في الدنيا فضيعوه ، وأما من همز فقيل معناه هذا أيضا.

وقيل : التناؤش بالهمز من التنؤش الذي هو حركة في إبطاء يقال : جاء منئشا أي : مبطئا متأخرا والمعنى : من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه قال ابن عباس : يسألون الرد فيقال : وأنى لهم الرد إلى الدنيا من مكان بعيد أي : من الآخرة إلى الدنيا وأمال أنى محضة حمزة والكسائي ، وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.

(وَقَدْ) أي : كيف لهم ذلك والحال أنهم قد (كَفَرُوا بِهِ) أي : بالذي طلب منهم أن يؤمنوا به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن أو البعث (مِنْ قَبْلُ) أي : في دار العمل (وَ) الحال أنهم حال كفرهم (يَقْذِفُونَ) أي : يرمون (بِالْغَيْبِ) ويتكلمون بما يظهر لهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المطاعن وهو قولهم : ساحر وشاعر وكاهن ، وفي القرآن سحر شعر كهانة وقال قتادة : يعني يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي : ما غاب علمه عنهم غيبة بعيدة وهذا تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئا ولا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي : من نفع الإيمان يومئذ والنجاة من النار والفوز بالجنة ، أو من الرد إلى الدنيا كما حكى عنهم (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢] ، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم الحاء وهو المسمى بالإشمام والباقون بكسرها (كَما فُعِلَ) أي : بأيسر وجه (بِأَشْياعِهِمْ) أي : أشباهم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم (مِنْ قَبْلُ) أي : قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم ، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم بل كان كلما كذب أمة رسولها أخذناها فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا فلم يقبل منهم ذلك ولا نفعهم شيئا لا بالكف عن إهلاكهم ولا لإدراكهم شيئا من الخير بعد إهلاكهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ثم علل عدم الوصول إلى قصدهم بقوله تعالى : مؤكدا لإنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك في شيء من أمرهم (إِنَّهُمْ كانُوا) أي : في دار القبول (فِي شَكٍ) أي : في جميع ما تخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء والبعث وغير ذلك (مُرِيبٍ) أي : موقع في الريبة فهو بليغ في بابه كما يقال : عجب عجيب أو هو واقع في الريب كما يقال : شعر شاعر أي : ذو شعر فهو اسم فاعل من أراب أي : أتى بالريب أو دخل فيه أي : أوقعته في الريب ، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز قال الزمخشري : إلا أن بينهما فرقا وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريبا من الأعيان إلى المعني ، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر انتهى ، وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٦٠٣.

٣٨١

سورة فاطر

مكية هي ست وأربعون آية ، ومائة وسبعة وتسعون كلمة ، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا

وهي ختام السور المفتتحة باسم الحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة وهي : الإيجاد الأول ، ثم الإبقاء الأول ، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بإنهاء القدرة وأحكمها المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلا شافيا على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محله.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاطت دائرة قدرته بالممكنات (الرَّحْمنِ) الذي عم الخلق بعموم الرحمة (الرَّحِيمِ) الذي شرف أهل الكرامة بدوام المراقبة.

ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني ، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام كما يكون بالإعطاء والإنعام قال تعالى ما هو نتيجة ذلك :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

(الْحَمْدُ) أي : الإحاطة بأوصاف الكمال إعداما وإيجادا (لِلَّهِ) أي : وحده.

٣٨٢

ولما كان الإيجاد من العدم أدل دليل على ذلك قال تعالى دالا على استحقاقه للمحامد (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق قاله ابن عباس ، أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض ، وعن مجاهد عن ابن عباس ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي : ابتدأتها.

تنبيه : إن جعلت إضافة فاطر محضة كان نعتا ، وإن جعلتها غير محضة كان بدلا وهو قليل من حيث إنه مشتق.

ولما كانت الملائكة عليهم‌السلام مثل الخافقين في أن كلا منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر أخبر عنهم بعدما أخبر عما طريقه المشاهدة بقوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي : وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون رسالته بالوحي والإلهام والرؤية الصادقة ، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه (أُولِي) أي : أصحاب (أَجْنِحَةٍ) يهيئهم لما يراد منهم ، ثم وصفها بقوله تعالى : (مَثْنى) أي : جناحين لكل واحد من صنف منهم (وَثُلاثَ) أي : ثلاثة ثلاثة لصنف آخر منهم (وَرُباعَ) أي : أربعة أربعة لصنف آخر منهم ، فهم متفاوتون بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ويسرعون بها نحو ما وكلهم الله تعالى عليه فيتصرفون فيه على ما أمرهم به ، وإنما لم تصرف هذه الصفات لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة.

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي : يزيد في خلق الأجنحة وفي غيره ما تقتضيه مشيئته ، والأصل : الجناحان ؛ لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل وذلك أقوى للطيران وأعون عليه ، فإن قيل : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة؟ أجيب : بأن الثالث لعله يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران ، قال الزمخشري : فقد مرّ بي في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى انتهى.

وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينثر من رأسه الدر والياقوت» (١) ، وروي أنه عليه‌السلام : «سأل جبريل أن يتراءى في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك فقال : إني أحب أن تفعل فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أفاق وجبريل عليه‌السلام مسنده ، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال : سبحان الله ما كنت أرى أن شيئا من الخلق هكذا فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل عليه‌السلام له اثنا عشر ألف جناح جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله تعالى حتى يعود مثل الوصع ، وهو العصفور الصغير» (٢).

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤١٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٩٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٢٣.

(٢) أخرجه ابن المبارك في الزهد ٧٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٩٢ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١١٨.

٣٨٣

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) وهو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن ، وقيل : هو الخط الحسن ، وعن قتادة : الملاحة في العينين ، والآية كما قال الزمخشري : مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش ، ومتانة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ، ولباقة في التكلم وحسن تأنّ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.

ثم علّل تعالى ذلك كله بقوله مؤكدا لأجل إنكارهم البعث (إِنَّ اللهَ) أي : الجامع لجميع أوصاف الكمال (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وتخصيص بعض الأشياء دون بعض إنما هو من جهة الإرادة.

قال أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السموات والأرض ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه ، وأنه الأهل للحمد والمستحق إذ الكل خلقه وملكه ، وتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه وتجردت هذه للتعريف بالاختراع والخلق.

ولما وصف سبحانه نفسه المقدسة بالقدرة الكاملة دلّ على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه ، وقال مستأنفا أو معللا مستنتجا : (ما) أي : مهما فهي شرطية (يَفْتَحِ اللهُ) أي : الذي لا يكافئه شيء (لِلنَّاسِ) لأن كل ما في الوجود لأجلهم (مِنْ رَحْمَةٍ) أي : من الأرزاق الحسية والمعنوية ، من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر قلّت أو كثرت فيرسلها (فَلا مُمْسِكَ لَها) أي : الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه إذا حصل له خير لا يعدمه من يود أنه لم يحصل ، ولو قدر على إزالته لأزاله ولا يقدر على تأثير ما فيه (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ) يطلقه ، واختلاف الضميرين ، لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة ، والثاني مطلق يتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه.

ولما كان ربما ادعى أحد فجورا حال إمساك الرحمة أو النعمة أنه هو الممسك قال تعالى (مِنْ بَعْدِهِ) أي : إمساكه وإرساله (وَهُوَ) أي : هو فاعل ذلك ، والحال أنه هو وحده (الْعَزِيزُ) أي : القادر على الإمساك والإرسال الغالب على كل شيء ، ولا غالب له (الْحَكِيمُ) أي : الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراده على قوانين الحكمة فلا يستطاع نقض شيء منه.

ولما بيّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه ، فإن الذكر يعود إلى الشكر وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : الجميع ؛ لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله تعالى ، وعن ابن عباس يريد يا أهل مكة (اذْكُرُوا) بالقلب واللسان (نِعْمَتَ اللهِ) أي : الذي لا منعم في الحقيقة سواه (عَلَيْكُمْ) أي : في دفع ما دفع عنكم من المحن وصنع ما صنع لكم من المنن لتشكروه ولا تكفروه.

تنبيه : (نِعْمَتَ) هنا مجرورة في الرسم وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء.

ولما أمر بذكر نعمته أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته بقوله تعالى

٣٨٤

منبها لمن غفل موبخا لمن جحد ورادّا على أهل القدر الذين يدعون أنهم يخلقون أفعالهم ومنبها على نعمة الإيجاد الأول (هَلْ مِنْ خالِقٍ) أي : للنعم وغيرها (غَيْرُ اللهِ) أي : فليس لغيره في ذلك مدخل يستحق أن يشرك به ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء نعتا لخالق على اللفظ ومن خالق مبتدأ مزاد فيه من ، والباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر المبتدأ ، والثاني : أنه صفة لخالق على الموضع والخبر إما محذوف وإما يرزقكم. والثالث : أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية ؛ لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام.

ولما كان جواب الاستفهام قطعا لا بل هو الخالق وحده قال منبها على نعمة الإبقاء الأول بقوله تعالى : (يَرْزُقُكُمْ) أي : وحده فنعمة الله تعالى مع كثرتها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء.

ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال (مِنَ السَّماءِ) أي : بالمطر وغيره (وَالْأَرْضِ) أي : بالنبات وغيره.

ولما بين تعالى أنه الرازق وحده قال (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : من أين تصرفون عن توحيده مع إقراركم بأنه الخالق الرازق وتشركون المنحوت بمن له الملكوت.

ولما بين تعالى الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي : يا أشرف الخلق في مجيئك بالتوحيد والبعث والحساب والعقاب وغير ذلك (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) في ذلك ، فإن قيل : فما وجه صحة جزاء الشرط ومن حق الجزاء أن يعقب الشرط وهذا سابق له؟ أجيب : بأن معناه وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك فوضع (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) موضع «فتأس» استغناء بالسبب عن المسبب أعني بالتكذيب عن التأسي ، فإن قيل : ما معنى التنكير في رسل؟ أجيب : بأن معناه فقد كذبت رسل أي : رسل ذوو عدد كثير وأولو آيات ونذر وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم وما أشبه ذلك ، وهذا أسلى له وأحث على المصابرة.

قال القشيري : وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، وأهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذية ، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتعنتين.

ثم بين من حيث الإجمال أن المكذّب في العذاب ، وأن المكذّب له الثواب بقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ) أي : وحده ؛ لأن له الأمور كلها (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : في الآخرة فيجازيكم وإياهم على الصبر والتكذيب.

ثم بين تعالى الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله تعالى (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) أي : الذي له صفات الكمال بكل ما وعد به من البعث وغيره (حَقٌ) أي : ثابت لا خلف فيه ، وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب ويعرض عن الأحساب والأنساب (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ) أي : بأنواع الخداع من اللهو والزينة (الْحَياةُ الدُّنْيا) فإنه لا يليق بذي همة علية اتباع الدنيء والرضا بالدون الزائل عن العالي الدائم (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي : الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعال (الْغَرُورُ) أي : الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو.

٣٨٥

ولذلك استأنف قوله تعالى مظهرا في موضع الإضمار : (إِنَّ الشَّيْطانَ) أي : المحترق بالغضب البعيد عن الخير (لَكُمْ) أي : خاصة (عَدُوٌّ) فهو في غاية الفراغ لأذاكم بتصويب مكايده كلها إليكم ، وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه‌السلام بما وصل أذاه إليكم ، وأيضا من عادى أباك فقد عاداك فاجتهدوا في الهرب منه ولا توالوه كما قال تعالى (فَاتَّخِذُوهُ) أي : بغاية جهدكم (عَدُوًّا) أي : في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجدنّ منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. قال القشيري : ولا تقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب ، فإنه لا يغفل عن عداوتك فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة.

ثم علل عداوته بقوله (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي : الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله تعالى (لِيَكُونُوا) باتباعه كونا راسخا (مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) وهذا غرضه لا غرض له سواه ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف ، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسّوف لهم بها بالفسحة في الأمل والإبعاد في الأجل للإفساد في العمل ، والرحمن إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم كما قال تعالى (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥].

ثم بين تعالى ما حال حزب الشيطان بقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : في الدنيا بفوات ما يأملونه مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجرا ، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها ، ثم بين حزبه تعالى بقوله سبحانه (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك من المأمورات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي : ستر لذنوبهم في الدنيا ولو لا ذلك لافتضحوا ، وفي الآخرة بحيث لا عتاب ولا عقاب ولو لا ذلك لهلكوا (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم ، فالمغفرة في مقابلة الإيمان فلا يؤبد مؤمن في النار ، والأجر الكبير في مقابلة العمل الصالح.

ونزل كما قال ابن عباس في أبي جهل ومشركي العرب : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) أي : قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالا أو مآلا بأن غلب وهمه وهواه على عقله (فَرَآهُ) أي : السيء بسبب التزيين (حَسَناً) أي : عملا صالحا (فَإِنَ) أي : السبب في رؤية الأشياء على غير ما هي عليه أن (اللهَ) أي : الذي له الأمر كله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) فلا يرى شيئا على ما هو به فيقدم على الهلاك البيّن وهو يراه عين النجاة (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلا حسنا.

تنبيه : من موصول مبتدأ وما بعده صلته ، والخبر محذوف ، واختلف في تقديره فقدره الكسائي : تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة قوله تعالى تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة قاهرة (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ) أي : المزيّن لهم (حَسَراتٍ) أي : لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم ، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر ، وقدره الزجاج وأضله الله كمن هداه ، وقدره غيرهما كمن لم يزين له ، وهو أحسن لموافقته لفظا ومعنى ، ونظيره (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) [هود : ١٧] أي : كمن هو أعمى (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩] وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في أصحاب الأهواء والبدع قال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ، فأما أهل الكتاب فليسوا منهم ؛ لأنهم لا يستحلون الكبائر (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بجميع صفات

٣٨٦

الكمال (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم (بِما يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليه.

ثم عاد تعالى إلى البيان بقوله سبحانه : (وَاللهُ) أي : الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها (الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) أي : أوجدها من العدم فهبوبها دليل على الفاعل المختار ، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال ، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب وقد لا ينشئ فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر مؤثر مقدر وقوله تعالى (فَتُثِيرُ سَحاباً) عطف على أرسل ؛ لأن أرسل بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرسل لتحقيق وقوعه وب «تثير» لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة كقوله تعالى (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ولما أسند فعل الإرسال إليه تعالى وما يفعله يكون بقوله تعالى : (كُنْ) فلا يبقى في العدم لا زمانا ولا جزءا من الزمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة تكوينه فكأنه كان ، ولأنه فرغ عن كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة.

ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهي تؤلف في زمان فقال (فَتُثِيرُ) أي : على هيئتها ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد ، والباقون بالجمع وقوله تعالى (فَسُقْناهُ) فيه التفاف عن الغيبة (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) أي : لا نبات بها ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء ، والباقون بالتخفيف (فَأَحْيَيْنا بِهِ) أي : بالمطر النازل منه ، وذكر السحاب كذكر المطر حيث أقيم مقامه أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطرا (الْأَرْضَ) بالنبات والكلأ (بَعْدَ مَوْتِها) أي : يبسها.

تنبيه : العدول في : «سقنا» و«أحيينا» من الغيبة في قوله تعالى (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) إلى ما هو أدخل في الاختصاص وهو التكلم فيهما لما فيهما من مزيد الصنع ، والكاف في قوله تعالى (كَذلِكَ) في محل رفع أي : مثل إحياء الموات (النُّشُورُ) للأموات وجه الشبه من وجوه : أولها : أن الأرض الميتة قبلت الحياة كذلك الأعضاء تقبل الحياة. ثانيها : كما أن الريح يجمع السحاب المقطع كذلك تجمع الأعضاء المتفرقة. ثالثها : كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت كذلك نسوق الروح إلى الجسد الميت.

فإن قيل : ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟ أجيب : بأنه تعالى لما ذكر كونه فاطر السموات والأرض وذكر من الأمور السماوية الأرواح وإرسالها بقوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] ذكر من الأمور الأرضية الرياح ، وروي أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز؟ فقال : نعم فقال : فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه» (١) وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق.

ولما كان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] والذين آمنوا بألسنتهم غير مواطئة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩]

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١١ ، وابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٧٦.

٣٨٧

بين تعالى أن لا عزة إلا لله بقوله سبحانه : (مَنْ كانَ) أي : في وقت من الأوقات (يُرِيدُ الْعِزَّةَ) أي : الشرف والمنعة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي : في الدنيا والآخرة ، والمعنى : فليطلبها عند الله ، فوضع قوله تعالى (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) موضعه استغناء به عنه لدلالته عليه ، لأن الشيء لا يطلب إلا من عند صاحبه ومالكه ، ونظيره قوله : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، يريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه ، وقال قتادة : من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله تعالى ومعناه : الدعاء إلى طاعة من له العزة أي : فليطلب العزة من عند الله بطاعته ، كما يقال من كان يريد المال فالمال لفلان أي : فليطلبه من عنده.

ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله تعالى : (إِلَيْهِ) أي : لا إلى غيره (يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) قال المفسرون : هو قول لا إله إلا الله ، وقيل : هو قول الرجل سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وعن ابن مسعود قال : إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عزوجل : «ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وتبارك الله إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صعد بهن فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيي بها وجه رب العالمين» ومصداقه من كتاب الله عزوجل قوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقيل : الكلم الطيب ذكر الله ، وعن قتادة إليه يصعد الكلم الطيب أي : يقبل الله الكلم الطيب ، وقيل : الكلم الطيب يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن ، وعن الحاكم موقوفا وعن الثعلبي مرفوعا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل» (١).

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي : يقبله فصعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله تعالى إياهما ، أو صعود الكتبة بصحفهما ، أو المستكن في يرفعه لله تعالى ، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص يعني الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال لقوله تعالى (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء.

تنبيه : صعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله تعالى إياهما ، أو صعود الكتبة بصحفهما والمستكن في (يَرْفَعُهُ) لله تعالى ، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة أو للكلم ، فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد أو للعمل فإنه يحقق الإيمان ويقويه ، قال الرازي في «اللوامع» : «العلم لا يتم إلا بالعمل كما قيل : العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل» انتهى. وقد قيل (٢) :

لا ترض من رجل حلاوة قوله

حتى يصدق ما يقول فعاله

فإذا وزنت مقاله بفعاله

فتوازنا فإخاء ذاك جماله

وقال الحسن : الكلم الطيب ذكر الله تعالى ، والعمل الصالح أداء فرائضه فمن ذكر الله تعالى

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٨٨

ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله ، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال ، فمن قال حسنا وعمل غير صالح ردّ الله تعالى عليه قوله ، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه الله.

ولما بيّن ما يحصل العزة من عليّ الهمة بين ما يكسب المذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ) أي : يعملون على وجه المكر أي : الستر ، المكرات : (السَّيِّئاتِ) أي : مكرات قريش بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث : حبسه وقتله وإجلاؤه ، كما قال تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) الآية [الأنفال : ٣٠].

وقال الكلبي : معناه يعملون السيئات وقال مقاتل : يعني الشرك ، وقال مجاهد : هم أصحاب الرياء (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : لا توبة دونه بما يمكرون (وَمَكْرُ أُولئِكَ) أي : البعداء من الفلاح (هُوَ) أي : وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره (يَبُورُ) أي : يفسد ولا ينفذ إذ الأمور مقدرة فلا تتغير بسبب مكرهم كما دل عليه بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : بتكوين أبيكم آدم منه فمزجه مزجا لا يمكن لغيره تمييزه ، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلا ورأسا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (ثُمَ) أي : بعد ذلك في الزمان والرتبة خلقكم (مِنْ نُطْفَةٍ) أي : جعلها أصلا ثانيا من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجا منه (ثُمَ) بعد أن أنهى التدبير زمانا ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار (جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي : بين ذكور وإناث دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار ، وعن قتادة : زوج بعضكم بعضا.

تنبيه : يصح أن يقال كما قال ابن عادل : خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم عليه‌السلام وكلهم من تراب ومن نطفة ؛ لأن كلهم من نطفة ، والنطفة من غذاء ، والغذاء ينتهي بالآخرة إلى الماء والتراب فهم من تراب صار نطفة.

ولما بين تعالى بقوله سبحانه : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) كمال قدرته بين بقوله سبحانه (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ) أي : حملا (إِلَّا) أي : مصحوبا (بِعِلْمِهِ) أي : في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصا بذلك كله حتى عن أمّه التي هي أقرب إليه فلا يكون إلا بقدرته فما شاء أتمه وما شاء أخرجه كمال علمه.

ثم بين نفوذ إرادته بقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي : وما يمد في عمره من مصغره إلى كبر ، وإنما سماه معمرا بما هو صائر إليه فمعناه : وما يعمر من أحد ، وفي عود ضمير قوله تعالى (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) قولان : أحدهما : أنه يعود على معمر آخر ؛ لأن المراد بقوله تعالى : (مِنْ مُعَمَّرٍ) الجنس فهو يعود عليه لفظا لا معنى ؛ لأنه بعد أن فرض كونه معمرا استحال أن ينقص من عمره نفسه كما يقال : لفلان عندي درهم ونصفه أي : نصف درهم آخر.

والثاني : أنه يعود على المعمر نفسه لفظا ومعنى ، والمعنى : أنه إذا ذهب من عمره حول أحصى وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص ، وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ومنه قول الشاعر (١) :

حياتك أنفاس تعد فكلما

مضى نفس منك انتقصت به جزءا

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٨٩

وقال الزمخشري : هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد ، وعليه كلام الناس المستفيض يقولون : لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق قال : وفيه تأويل آخر وهو : أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب ، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة ، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر ، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون فقد نقص عن عمره الذي هو الغاية وهو الستون ، وإليه أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» (١).

وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله تعالى عنه : لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله فقيل لكعب : أليس قد قال الله تعالى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص ، وقرأ هذه الآية وقد استفاض على الألسنة : أطال الله تعالى بقاءك ، وفسح في مدتك وما أشبهه.

وعن سعيد بن جبير : يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخره ، وعن قتادة المعمر من بلغ ستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة ، والكتاب في قوله تعالى (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي : مكتوب فيه عمر فلان كذا وكذا ، وعمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا إن لم يعمل كذا هو اللوح المحفوظ قاله ابن عباس ، قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله تعالى أو صحيفة الإنسان.

ولما كان ذلك أمرا لا يحيط به العد ولا يحصره الحد فكان في عداد ما ينكره الجهلة قال تعالى مؤكدا لسهولته (إِنَّ ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها (عَلَى اللهِ) أي : الذي له جميع العزة (يَسِيرٌ) أي : هين.

وقوله تعالى :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر». أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ١٥١ ، وابن حجر في فتح الباري ١٠ / ٤١٦ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٣٣٥.

٣٩٠

وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ) أي : طيب حلو لذيذ ملائم طبعه (فُراتٌ) أي : بالغ العذوبة (سائِغٌ شَرابُهُ) أي : شربه مريء سهل انحداره لما له من اللذة والملايمة للطبع (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي : جمع إلى الملوحة المرارة فلا يسوغ شرابه بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار ضرب مثلا للمؤمن والكافر ، وقوله تعالى : (وَمِنْ كُلٍ) أي : الملح والعذب (تَأْكُلُونَ) أي : من السمك المنّوع إلى أنواع تفوت الحصر (لَحْماً طَرِيًّا) أي : شهي المطعم (وَتَسْتَخْرِجُونَ) أي : من الملح دون العذب (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي : نساؤكم من الجواهر الدر والمرجان وغيرهما ، ذكر استطرادا في صفة البحرين وما فيهما من النعم وتمام التمثيل ، والمعنى : كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو مقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما أفسده ، وغيره عن كمال فطرته فلا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصة العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر.

وقيل : تخرج الحلية منهما كما هو ظاهر قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] قال البغوي : لأنه قد يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك انتهى.

فائدة : عاب المبرد وغيره قول الشافعي رضي الله تعالى عنه : كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز وقالوا : إنه لحن وإنما يقال : ملح كما قال تعالى (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وهم مخطئون في ذلك كما قيل (١) :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

ولكن تأخذ الآذان منه

على قدر القريحة والفهوم

قال النووي : وأجاب أصحابنا بأجوبة : أصحها أن فيه أربع لغات : ملح ومالح ومليح وملاح بضم الميم وتخفيف اللام قال عمر بن أبي ربيعة (٢) :

__________________

(١) البيتان من الوافر ، والبيت الأول بلا نسبة في تاج العروس (كفر).

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ٤٨٥ ، ولسان العرب (ملح) ، وتاج العروس (ملح).

٣٩١

ولو تفلت في البحر والبحر مالح

لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

وقال آخر (١) :

وللرزق أسباب تروح وتغتدي

وإني منها غير غاد ورائح

قنعت بثوب العدم من حلة الغنى

ومن بارد عذب زلال بمالح

وقال محمد بن حازم (٢) :

تلونت ألوانا علي كثيرة

وخالط عذبا من إخائك مالح

وقال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة بنت الزبير (٣) :

ولو وردت ماء وكانت قبيله

مليحا شربنا ماءه باردا عذبا

وقال الخطابي : يقال : ماء ملاح كما يقال : أجاج وزعاق وزلال قال : وإنما نزل الشافعي من اللغة العالية إلى التي هي أدنى للإيضاح وحسما للإشكال والالتباس ؛ لئلا يتوهم متوهم أنه أراد بالملح المذاب فيظن أن الطهارة به جائزة.

وثاني الأجوبة : أن الشافعي إمام في اللغة فقوله فيها حجة.

وثالثها : أن هذه اللفظة ليست من كلام الشافعي ولم يذكرها بل من كلام المزني وهذا ليس بشيء ، وكيف ينسب الخطأ إلى المزني وعنه مندوحة.

وقولهم : لم يذكرها الشافعي غير صحيح ، وقد أنكره البيهقي ، وقال : بل سمى الشافعي البحر مالحا في كتابين «أمالي الحج» و«المناسك الكبير».

فائدة أخرى : وهي أن ابن عمر قال في البحر : التيمم أحب إلينا منه وقال : بحركم هذا نار وتحت النار بحر حتى عد سبعة أبحر وسبعة أنوار ، ولكن روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لم يطهره البحر فلا طهره الله» (٤) ويؤول كلام ابن عمر بأنه سيصير يوم القيامة نارا أو بأنه مهلكة يهلك كما تهلك النار ، ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عمّ الخطاب.

ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمرا غريبا لكنه صار لشدة ألفه لا يقوم بأنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر خص بالخطاب فقال : (وَتَرَى الْفُلْكَ) أي : السفن سمى فلكا لدورانه وسفينة لقشره الماء ، وقدم الظرف في قوله تعالى : (فِيهِ) لأنه أشد دلالة على ذلك (مَواخِرَ) أي : جواري مستدبرة الريح شاقة للماء بجريها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة يقال : مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب : بنات مخر ؛ لأنها تمخر الهواء ، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر ؛ لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ثم علق بالمخر معللا قوله تعالى (لِتَبْتَغُوا) أي : تطلبوا طلبا شديدا (مِنْ فَضْلِهِ) أي : الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ، ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك ولم يجر به ذكر في الآية ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه (وَلَعَلَّكُمْ

__________________

(١) البيتان من الطويل ، ولم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٤) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١ / ٤ ، والدارقطني في سننه ١ / ٣٦.

٣٩٢

تَشْكُرُونَ) أي : وليكون حالكم بهذه الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ولطفه حال من يرجى شكره.

تنبيه : حرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل؟ كأنما قيل : لتبتغوا ولتشكروا.

ولما ذكر تعالى اختلاف الذوات الدالة على بديع صنعه أتبعه اختلاف الأزمنة الدالة على بديع قدرته بقوله تعالى : (يُولِجُ) أي : يدخل الله (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) فيصير الظلام ضياء.

ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفا فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة نبه عليه بإعادة الفعل بقوله تعالى : (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) فيصير ما كان ضياء ظلاما ، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار.

ولما ذكر الليل والنهار ذكر ما ينشأ عنهما بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ثم استأنف قوله تعالى (كُلٌ) أي : منهما (يَجْرِي) أي : في فلكه (لِأَجَلٍ) أي : لأجل أجل (مُسَمًّى) مضروب له لا يقدر أن يتعداه ، فإذا جاء ذلك الأجل غرب هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم فيختل هذا النظام بإذن الملك العلّام ، وتقوم الناس ليوم الزحام وتكون الأمور العظام.

ولما ذكر سبحانه أنه الفاعل المختار القادر على ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره وختم بما تكرر مشاهدته في كل يوم مرتين أنتج ذلك قطعا قوله تعالى معظما بأداة البعد وميم الجمع (ذلِكُمُ) أي : العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها (اللهُ) الذي له صفة كل كمال ، ثم نبههم على أنه لا مدبر لهم سواه بخبر آخر بقوله تعالى : (رَبُّكُمْ) أي : الموجد لكم من العدم المربّي بجميع النعم لا رب لكم سواه ، ثم استأنف قوله تعالى : (لَهُ) أي : وحده (الْمُلْكُ) أي : كله وهو مالك كل شيء (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون (مِنْ دُونِهِ) أي : غيره وهم الأصنام وغيرها وكل شيء دونه (ما يَمْلِكُونَ) في حال من الأحوال وأعرق في النفي بقوله تعالى : (مِنْ قِطْمِيرٍ) وهو كما روي عن ابن عباس : لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها ، كناية عن أدنى الأشياء فكيف بما فوقه؟ فليس لهم شيء من الملك ، والآية من الاحتباك ذكر الملك أولا دليلا على حذفه ثانيا والملك ثانيا دليلا على حذفه أولا.

وقيل : القطمير هو القمع وقيل : ما بين القمع والنواة ، ففي النواة على الأول أربعة أشياء يضرب بها المثل : في القلة الفتيل : وهو ما في شق النواة ، والقطمير : وهو اللفافة والنقير : وهو ما في ظهر النواة والرقروق : وهو ما بين القمع والنواة.

ثم بين ذلك بقوله تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : المعبودات من دونه دعاء عبادة أو استعانة (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) أي : لأنهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) أي : على سبيل الفرض والتقدير (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي : لعدم قدرتهم على الانتفاع.

ولما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في الآخرة بقوله سبحانه (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : حين ينطقهم الله تعالى (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي : بإشراككم فينكرونه ويتبرؤن منه بقولهم (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) [يونس : ٢٨] كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في آية أخرى (وَلا يُنَبِّئُكَ) أي : يخبرك أي : السامع بالأمر مخبر هو (مِثْلُ خَبِيرٍ) أي : عالم به أي : أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به ؛ لأنه لا يمكن

٣٩٣

الطعن في شيء مما أخبر به بخلاف غيره والمعنى : أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ؛ لأني خبير بما أخبرت به.

ولما اختص تعالى بالملك ونفى عن شركائهم النفع أنتج ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : كافة (أَنْتُمُ) أي : خاصة (الْفُقَراءُ) وقوله سبحانه (إِلَى اللهِ) إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه ، وهذا يوجب عبادته لكونه مفتقر إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره.

فإن قيل : لم عرف الفقراء؟ أجيب : بأنه قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم ؛ لأن الفقر يتبع الضعف وكلما كان الفقير أضعف كان أحقر ، وقد شهد الله تعالى على الإنسان بالضعف في قوله تعالى (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] وقال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الروم : ٥٤] ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء.

قال القشيري : والفقر على ضربين : فقر خلقة ، وفقر صفة فالأول عام ، فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبدئه وينشئه ، وفي ثانيه ليديمه ويبقيه ، وأما فقر الصفة : فهو التجرد وفقر العوام التجرد عن المال ، وفقر الخواص التجرد عن الإعلال فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلومات.

ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم فقال : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) أي : المستغني على الإطلاق فلا يحتاج إلى أحد ولا إلى عبادة أحد من خلقه ، وإنما أمرهم بالعبادة لإشفاقه تعالى عليهم ففي هذا رد على المشركين حيث قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله لعله محتاج إلى عبادتنا حتى أمرنا بها أمرا بالغا وهددنا على تركها مبالغا ، فإن قيل : قد قابل الفقر بالغنى فما فائدة قوله تعالى (الْحَمِيدُ) أي : المحمود في صنعه بخلقه؟ أجيب : بأنه لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم وليس كل غني نافعا بغناه إلا إذا كان الغني منعما جوادا ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد ذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه الجواد المنعم عليهم المستحق بإنعامه أن يحمدوه.

وقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي : جميعا بيان لغنائه وفيه بلاغة كاملة ؛ لأن قوله تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي : ليس إذهابكم موقوفا إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه : إن شاء فلان هدم داره ، وإنما يقال : لو لا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها ، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله تعالى : (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : إن كان يتوهم متوهم أن بهذا الملك كماله وعظمته فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقا جديدا أحسن من هذا وأجمل ، وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئا.

(وَما ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من الإذهاب والإتيان (عَلَى اللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال خاصة (بِعَزِيزٍ) أي : بممتنع ولا شاق وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد ، فإن قيل : استعمل تعالى العزيز تارة في القائم بنفسه فقال تعالى في حق نفسه (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) [الأحزاب : ٢٥] وقال في هذه السورة (عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر : ٢٨] واستعمله تارة في القائم بغيره فقال تعالى (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) وقال تعالى (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨] فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ أجيب : بأن العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا

٣٩٤

يطيقه شخص يقال : هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله تعالى (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي : ذلك الفعل لا يغلبه بل هو هيّن على الله تعالى وقوله سبحانه (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي : يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب.

وقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فيه حذف الموصوف للعلم به أي : ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، فإن قيل : كيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)؟ [العنكبوت : ١٣] أجيب : بأن تلك الآية في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وكل ذلك أوزارهم وليس فيها شيء من أوزار غيرهم. (وَإِنْ تَدْعُ) أي : نفس (مُثْقَلَةٌ) أي : بالوزر (إِلى حِمْلِها) أي : من الوزر أحدا ليحمل بعضه (لا يُحْمَلْ) أي : من حامل ما (مِنْهُ شَيْءٌ) أي : لا طواعية ولا كرها بل لكل امرئ شأن يغنيه (وَلَوْ كانَ) ذلك الداعي أو المدعو للحمل (ذا قُرْبى) لمن دعاه.

فإن قيل : ما الفرق بين معنى قوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ومعنى قوله تعالى (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ)؟ أجيب : بأن الأول : في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها ، والثاني : في أن لا غياث يومئذ بمن استغاث حتى أن نفسا قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن تخفف بعض وزرها لم تجب ولم تغث ، وإن كان الداعي أو المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ قال ابن عباس : يلقى الأب أو الأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي.

تنبيه : أضمر الداعي أو المدعو بدلالة إن تدع عليه.

ولما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمعهم ذلك فلم ينفعهم نزل (إِنَّما تُنْذِرُ) أي : إنذارا يفيد الرجوع عن الغي (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي : المحسن إليهم فيوقعون هذا الفعل في الحال ويواطئون عليه في الاستقبال ، ولما كان أولى الناس عقلا وأعلاهم همة من كان غيبه مثل حضوره قال تعالى (بِالْغَيْبِ) وهو حال من الفاعل أي : يخشونه غائبين عنه أو من المفعول أي : غائبا عنهم.

ولما كانت الصلاة جامعة للخضوع الظاهر والباطن فكانت أشرف العبادات وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص قال تعالى معبرا بالماضي ؛ لأن مواقيت الصلاة مضبوطة (وَأَقامُوا) أي : دليلا على خشيتهم (الصَّلاةَ) في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن (وَمَنْ تَزَكَّى) أي : تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) إذ نفعه لها (وَإِلَى اللهِ) أي : الذي لا إله غيره (الْمَصِيرُ) أي : المرجع كما كان منه المبدأ فيجازي كلا على فعله.

ثم لما بين تعالى الهدى والضلالة وهدى الله تعالى المؤمن ولم يهد الكافر ضرب لهما مثلا بقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى) أي : عن الهدى (وَالْبَصِيرُ) بالهدى أي : المؤمن والكافر وقيل : الجاهل والعالم ، وقيل : هما مثلا للصنم ولله تعالى.

(وَلَا الظُّلُماتُ) أي : الكفر (وَلَا النُّورُ) أي : الإيمان ، أو ولا الباطل ولا الحق.

(وَلَا الظِّلُ) أي : الجنة (وَلَا الْحَرُورُ) أي : النار ، أو ولا الثواب ولا العقاب.

تنبيه : قال ابن عباس : الحرور الريح الحارة بالليل ، والسموم بالنهار وقيل : الحرور تكون بالنهار مع الشمس ، وقيل : السموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار.

٣٩٥

وقوله تعالى (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) تمثيل آخر للمؤمن والكافر أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل : للعلماء وللجهال.

تنبيه : زيادة لا في الثلاثة لتأكيد نفي الاستواء ، وجاء ترتيب هذه المنفيات على أحسن الوجوه ، فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير مثلين للمؤمن والكافر عقب بما كل منهما فيه ، والكافر في ظلمة والمؤمن في نور ؛ لأن البصير وإن كان حديد البصر لا بد له من ضوء يبصر فيه ، وقدم الأعمى ؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ، ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ، ولأن النور فاصلة ، ثم ذكر ما لكل منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور وأخر الحرور لأجل الفاصلة كما مر ، وقولنا : لأجل الفاصلة أولى من قول بعضهم لأجل السجع ؛ لأن القرآن ينبو عن ذلك ، وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع.

وإنما كرر الفعل في قوله تعالى (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) مبالغة في ذلك ؛ لأن المنافاة بين الحياة والموت أتمّ من المنافاة المتقدمة ، وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يعد لا تأكيدا في قوله تعالى (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) وكرّرها في غيره ؛ لأن منافاة ما بعده أتم ، فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا ثم يصير أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظل والحرور ، والظلمات والنور ، فإنها منافية أبدا لا يجتمع اثنان منها في محل ، فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمة.

فإن قيل : الحياة والموت بمنزلة العمى والبصر فإن الجسم قد يكون متصفا بالحياة ثم يتصف بالموت ، أجيب : بأن المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ؛ لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت ، فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ؛ لأنه قابل الجنس بالجنس ، وقد يوجد في أفراد العميان من يساوي بعض أفراد البصراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيرا بليدا فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد.

وجمع الظلمات ؛ لأنها عبارة عن الكفر والضلال وطرقهما كثيرة متشعبة ووحد النور ؛ لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد ، فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى : الظلمات كلها لا يوجد فيها ما يساوي هذا الواحد.

ثم نبه سبحانه بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة من صفات الكمال (يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) على أن الخشية والقسوة إنما هما بيده تعالى ، وإن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه فيتعظ ويجيب (وَما أَنْتَ) أي : بنفسك من غير إقدار الله تعالى لك (بِمُسْمِعٍ) أي : بوجه من الوجوه (مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي : الحسية أو المعنوية إسماعا ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

(إِنْ) أي : ما (أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي : تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار ولست بوكيل تقهرهم على الإيمان.

ثم بين تعالى أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه إنما هو بإذن الله تعالى وإرساله بقوله تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (أَرْسَلْناكَ) أي : إلى هذه الأمة (بِالْحَقِ) أي : الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع ، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيه من الدلائل علم مطابقة الواقع لما يأمر به.

٣٩٦

تنبيه : يجوز في قوله تعالى : (بِالْحَقِ) أوجه : أحدها : أنه حال من الفاعل أي : أرسلناك محقين ، أو من المفعول أي : محقا ، أو نعت لمصدر محذوف أي : إرسالا متلبسا بالحق ويجوز أن يكون صلة لقوله تعالى (بَشِيراً) أي : لمن أطاع (وَنَذِيراً) أي : لمن عصى (وَإِنْ) أي : وما (مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا) أي : سلف (فِيها نَذِيرٌ) أي : نبي ينذرها.

تنبيه : الأمة : الجماعة الكثيرة قال تعالى (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣] ويقال لكل أهل عصر أمة ، والمراد ههنا أهل العصر ، فإن قيل : كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخل فيها نذير ، أجيب : بأن آثار النذارة إذا كانت باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه‌السلام بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن قيل : كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ أجيب : بأنه لما كانت النذارة مشفوعة من البشارة لا محالة دلّ ذكرها على ذكرها ، لا سيما وقد اشتملت الآية على ذكرهما ، أو لأن الإنذار هو المقصود والأهم من البعثة.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي : أهل مكة (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : ما أتتهم به رسلهم عن الله تعالى (جاءَتْهُمْ) أي : الأمم الخالية (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : الآيات الواضحات والدلالة على صحة الرسالة من المعجزات وغيرها (وَبِالزُّبُرِ) أي : الأمور المكتوبة كصحف إبراهيم عليه‌السلام (وَبِالْكِتابِ) أي : جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل (الْمُنِيرِ) أي : الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر ، كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كانت طريقتك أوضح وأظهر ، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر ، وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث علم أن غيره كان مثله في تكذيبه وكان محتملا لأذى القوم.

تنبيه : لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب.

ولما سلاه الله تعالى هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم الماضية بقوله تعالى : (ثُمَّ أَخَذْتُ) أي : بأنواع الأخذ (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام عليهم ودعائهم لهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك أي : هو واقع موقعه.

تنبيه : أثبت ورش الياء بعد الراء في الوصل دون الوقف ، والباقون بغير ياء وقفا ووصلا.

ولما ذكر تعالى الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم بقوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ) أي : تعلم أي : أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر ما ذكره للأول ، ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة ، وأيضا فلا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول بل يأتي بما يقاربه ؛ لئلا يسمع الأول كلام الآخر فيترك التفكر فيما كان وقوله تعالى (فَأَخْرَجْنا) أي : بما لنا من القدرة والعظمة (بِهِ) أي : بالماء (ثَمَراتٍ) أي : متعددة الأنواع ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان ذلك ؛ لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء وقوله تعالى : (مُخْتَلِفاً) نعت لثمرات وقوله تعالى : (أَلْوانُها) فاعل به ، ولو لا ذلك لأنث مختلفا ، ولكنه لما أسند إلى جمع تكسير غير عاقل

٣٩٧

جاز تذكيره ، ولو أنث فقيل : مختلفة كما تقول : اختلفت ألوانها لجاز أي : مختلفة الأجناس من الرمان والتفاح والعنب وغيرها مما لا يحصر أو الهيئات من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها ، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نورا لشخص وعمى لآخر.

ولما ذكر تعالى تنوع ما من الماء وقدمه ؛ لأنه الأصل في التكوين أتبعه التكوين من التراب الذي هو أيضا شيء واحد بقوله تعالى ذاكرا ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التكوين : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) قال الجلال المحلّي رحمه‌الله تعالى : جمع جدة : طريق في الجبل وغيره وقال الزمخشري : الجدد الخطوط والطرائق ، وقال أبو الفضل : الجدة ما تخالف من الطرائق لون ما يليها ، ومنه جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه (بِيضٌ وَحُمْرٌ) وصفر وقوله تعالى (مُخْتَلِفٌ) صفة لجدد وقوله تعالى (أَلْوانُها) فاعل به كما مر في نظيره ، ويحتمل معنيين : أحدهما : أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرب أبيض أشد من أبيض وأحمر أشد من أحمر فنفس البياض مختلف وكذا الحمرة ، فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المشكك. والثاني : أن الجدد كلها على لونين بياض وحمرة والبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا باعتبار محلهما.

وقوله تعالى (وَغَرابِيبُ سُودٌ) فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه معطوف على حمر عطف ذي لون على ذي لون. ثانيها : أنه معطوف على بيض. ثالثها : واقتصر عليه الجلال المحلي أنه معطوف على جدد أي : صخور شديدة السواد قال الجلال المحلي : يقال كثيرا : أسود غربيب ، وقليلا غربيب أسود ، وقال البغوي : أي : سود غرابيب على التقديم والتأخير يقال : أسود غربيب أي : شديد السواد تشبيها بلون الغراب أي : طرائق سود ، وعن عكرمة : هن الجبال الطوال السود ، وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للأسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده مفسرا لما أضمر كقوله النابغة الجعدي (١) :

والمؤمن العائذات الطير تمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسند

هما موضعان والمؤمن : اسم الله وهو مجرور بالقسم والعائذات : منصوب بالمؤمن والمراد بها : الحمام لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم التعرض لها ، والطير منصوب بالبدل أو بعطف البيان ، ووجه الاستدلال بذلك : أن الطير دال على المحذوف وهو مفعول لمؤمن والعائذات الطير ، قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ، ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك ، ورد عليه بأن هذا ليس هو التأكيد المختلف في حذف مؤكده ؛ لأن هذا من باب الصفة والموصوف ومعنى تسميه الزمخشري له توكيدا من حيث إنه لا يفيد معنى زائدا وإنما يفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون ، والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول توكيدا فقالوا : وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو قوله تعالى (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] و (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] والتوكيد المختلف في حذف مؤكده ، إنما هو في باب التوكيد الصناعي ،

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٧١ ، ٧٣ ، ١٨٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٣٨٦ ، وشرح المفصل ٣ / ١١.

٣٩٨

ومذهب سيبويه جوازه ، وقال ابن عادل : والأولى فيه أن يسمى توكيدا لفظيا إذ الأصل سود غرابيب سود.

ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى أمر آخر بعيد من الماء وأتبعه التراب الصرف ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِ) ولما كانت الدابة في الأصل اسما لما دبّ على الأرض ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال : (وَالْأَنْعامِ) ليعم الكل صريحا (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي : ألوان ذلك البعض الذي أفهمته من (كَذلِكَ) أي : مثل الثمار والأراضي منه ما هو ذو لون ومنه ما هو ذو لونين أو أكثر.

ولما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ) بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعه وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدل به عليه وعلى صفاته من أنه فاعل بالاختيار فهو يفعل ما يشاء قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني ، فالخشية بقدرة معرفة المخشي ، والعالم يعلم الله فيخافه ويرجوه ، وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] بين تعالى أن الكرامة بقدر التقوى ، والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل ، فمن ازداد منه علما ازداد منه خشية وخوفا ، ومن كان علمه به أقل كانت خشيته أقل ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» (٢).

وقال مسروق : كفى بالمرء علما أن يخشى ، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله ، وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم فقال له : العالم من خشي الله تعالى ، قال السهروردي في الباب الثالث من معارفه : فينتفي العلم عمن لا يخشى الله تعالى كما إذا قال إنما يدخل الدار بغدادي فينتفي دخول غير البغدادي الدار ، وقيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى أثرت فيه ، فإن قيل : هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ أجيب : بأنه يختلف فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، فإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله تعالى (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) [الأحزاب : ٣٩] وهما معنيان مختلفان.

تنبيه : رسم العلماء بالواو وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بالجلال والإكرام (عَزِيزٌ) أي : غالب على جميع أمره (غَفُورٌ) أي : لذنوب من أراد من عباده تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصرّ على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه ، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.

ولما بين سبحانه العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي : يداومون على تلاوته وهي شأنهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٧٢ ، والاعتصام باب ٥ ، وملم في الفضائل حديث ١٢٧ ، ١٢٨ ، والدارمي في المقدمة باب ٣٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٥ ، ١٨١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٦٢١ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٢٦.

٣٩٩

وديدنهم ، وعن مطرف : هي آية القراء ، وعن الكلبي : يأخذون بما فيه ، وقيل : يعلمون ما فيه ويعملون به ، وعن السدي : هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن عطاء : هم المؤمنون (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : أداموها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من زكاة وغيرها (سِرًّا وَعَلانِيَةً) قيل : السر في المسنون والعلانية في المفروض.

تنبيه : أشار تعالى بقوله سبحانه وتعالى (يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) إلى الذكر وبقوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إلى العمل البدني وبقوله تعالى : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) إلى العمل المالي ، وفي هاتين الآيتين الشريفتين حكمة بالغة وهي أن قوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) إشارة إلى عمل القلب وقوله تعالى (الَّذِينَ يَتْلُونَ) إشارة إلى عمل اللسان وقوله (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إشارة إلى عمل الجوارح ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله تعالى وقوله تعالى (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) بمعنى الشفقة على خلقه وقوله تعالى (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حث على الإنفاق كيفما تهيأ ، فإن تهيأ سرا فذاك وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء.

ولما أحل تعالى هؤلاء بالمحل الأعلى بين حالهم بقوله تعالى : (يَرْجُونَ) أي : في الدنيا والآخرة (تِجارَةً) أي : بما عملوا (لَنْ تَبُورَ) أي : تكسد وتهلك بل هي باقية ؛ لأنها رفعت إلى من لا تضيع إليه الودائع وهي رائجة رابحة لكونه تعالى تام القدرة شامل العلم له الغنى المطلق.

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي : جزاء أعمالهم بالثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قال ابن عباس رضي الله عنه : يعني سوى الثواب ما لم تر عين ولم تسمع أذن ، ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه تعالى كما جاء في تفسير الزيادة وهذا هو النعمة العظمى (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) قال ابن عباس رضي الله عنه : يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم ، وقيل : غفور عند إعطاء الأجر شكور عند إعطاء الزيادة.

تنبيه : في خبر إن من قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) وجهان : أحدهما : أنه الجملة من قوله تعالى : (يَرْجُونَ تِجارَةً) أي : إن التالين يرجون ، ولن تبور صفة تجارة ، وليوفيهم متعلق ب يرجون أو تبور ، أو بمحذوف أي : فعلوا ذلك ليوفيهم ، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة. والثاني : أن الخبر إنه غفور شكور جوز هذا الزمخشري على حذف العائد أي : غفور لهم وعلى هذا فيرجون حال من أنفقوا أي : أنفقوا ذلك راجين.

ولما بين تعالى الأصل الأول وهو وجود الله تعالى الواحد بالدلائل في قوله تعالى (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) وقوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى :

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ

٤٠٠