تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

نكتفي به قال تعالى : (قُلْ) أي : جوابا لما قد يقولونه من نحو هذا (كَفى بِاللهِ) أي : الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ونصحتكم وأنذرتكم وأنهم قابلوني بالجحد والتكذيب وقد صدقني بالمعجزات ، وروي أنّ كعب بن الأشرف وغيره قالوا يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله فنزلت ، ثم وصف الشهيد وعلل كفايته بقوله : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) أي : كلها (وَالْأَرْضِ) أي : كذلك لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما تنسبونه إليه من التقوّل عليه وبما أنسبه أنا إليه من هذا القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عنه فهو شاهدي ، والله في الحقيقة هو الشاهد لي فيه بالثناء عليّ والشهادة لي بالصدق لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه.

ولما بين تعالى الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكامل الشامل لهما والإنكار العامّ فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) أي : وهو ما يعبد من دون الله (وَكَفَرُوا بِاللهِ) أي : الذي يجب الإيمان به والشكر له لأنّ له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : العريقون في الخسارة فإنهم خسروا أنفسهم أبد الآبدين ، فإن قيل : قوله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يقتضي الحصر في من آمن بالباطل وكفر بالله فمن يأتي بأحدهما دون الآخر لا يكون كذلك؟ أجيب : بأنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتيا بالآخر لأنّ المؤمن بما سوى الله تعالى مشرك لأنه جعل غير الله مثله وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله تعالى كذلك ومن كفر بالله تعالى وأنكره فيكون قائلا بأنّ العالم واجب الوجود إله فيكون قائلا بأنّ غير الله إله فيكون إثباتا لغير الله وإيمانا به.

فإن قيل : إذا كان الإيمان بما سواه كفرا به فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي في قول القائل قم ولا تقعد واقرب مني ولا تبعد؟ أجيب : بأنّ فيه فائدة غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأوّل كقول القائل : أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أنّ القول بالباطل قبيح.

ولما أنذرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوعد بالعذاب إن لم يؤمنوا أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ

٢٠١

يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين ويجعلون تأخيره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) قد ضرب لوقت عذابهم فلا تقدّم فيه ولا تأخر (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) وقت استعجالهم لأنّ القدرة تامّة والعلم محيط (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) أي : فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه.

ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله تعالى مبدلا : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي : يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزا ولو كان في غير وقته الأليق به ولو علموا ما هم صائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلا عن أن يستعجلوا ، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه (وَإِنَّ جَهَنَّمَ) التي هي من عذاب الآخرة (لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي : ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب أو هي كالمحيطة بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم ، وأتى بالظاهر موضع المضمر تنبيها على ما استحقوا به عذابها وتعميما لكل من اتصف به.

ثم ذكر تعالى كيفية إحاطة جهنم بقوله عزوجل : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أي : يلحقهم ويلصق بهم (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) فعلم بذلك إحاطته من جميع الجوانب ، فإن قيل : لم خص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدّام؟ أجيب : بأنّ المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإنّ من يدخلها تكون الشعلة قدّامه وخلفه ويمينه ويساره ، وأمّا النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة بل تنطفئ الشعلة التي تحت القدم ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ولم يقل من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم ومن تحتهم بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق؟ أجيب : بأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرأس أم من موضع آخر عجب لأنّ طبع النار الصعود إلى فوق فلهذا لم يخصه بالرؤوس ، وأمّا بقاء النار تحت القدم فهو عجب وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطفئ بالدوس ، وأمّا فوق فعلى الإطلاق وقوله تعالى ونقول قرأ نافع والكوفيون بالياء أي : الموكل بالعذاب من ملائكته بأمره ، والباقون بالنون أي : نأمر بالعذاب.

ولما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق اسم المسبب على السبب فإن عملهم كان سببا لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال.

ولما ذكر تعالى حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتدّ عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من العبادة قال تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) فشرفهم بالإضافة إليه (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) أي : في الذات والرزق

٢٠٢

وكل ما تريدون من الرفق إن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ، قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة يقول الله تعالى : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها فإنّ أرض المدينة واسعة آمنة وقال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها ، وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة ، وكذا يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تتهيأ له العبادة ولكن صارت البلدان في زماننا كلها متساوية فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

وقرأ بفتح الياء ابن عامر ، والباقون بتسكينها ، وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا : نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج ، وقال مطرف بن عبد الله : أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا ، روى الثعلبي عن الحسن البصري مرسلا : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبرا استوجب الجنة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما» (١).

تنبيه : قوله تعالى : (يا عِبادِيَ) لا يدخل فيه الكافر لوجوه : الأوّل : قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يدخل في قوله تعالى يا عبادي. الثاني : قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] الثالث : أنّ العباد مأخوذ من العبادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله تعالى (يا عِبادِيَ) وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه ، الرابع : الإضافة بين الله تعالى والعبد يقول العبد إلهي ويقول الله عبدي ، فإن قيل : إذا كان عباده لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله (الَّذِينَ آمَنُوا) مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال : يا أيها المكلفون المؤمنون ، يا أيها الرجال العقلاء تمييزا بين الكافر والجاهل؟ أجيب : بأنّ الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرّد بيان أنّ فيه الوصف كما يقال : الأنبياء المكرمون ، والملائكة المطهرون ، مع أن كل نبيّ مكرم ، وكل ملك مطهر ، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة ، ومثله قولنا ، الله العظيم فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون ولما كانت الإقامة بمكة قبل الفتح مودّية إلى الفتنة قال تعالى : (فَإِيَّايَ) أي : خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها (فَاعْبُدُونِ) أي : وحدون وإن كان بالهجرة وكانت هجرة الأهل والأوطان شديدة ، فإن قيل : قوله تعالى : (يا عِبادِيَ) يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة؟ أجيب : بأنّ فيه فائدتين أحداهما : المداومة أي : يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل ، الثانية : الإخلاص أي : يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري ، فإن قيل ما معنى الفاء في فاعبدون؟ أجيب : بأن الفاء جواب شرط محذوف لأنّ المعنى إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرضي فأخلصوها في غيرها.

ولما أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٣٩٢ ، وأخرجه بلفظ : «من فر بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة ..» السيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٧٦ ، والقرطبي في تفسيره ٥ / ٣٤٧ ، ١٣ / ٣٥٨.

٢٠٣

البلاد وإن بعدت وشق عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان خوّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة بقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي : كل نفس مفارقة ما ألفته حتى بدنا طالما لبسته وأنسها وأنسته فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة من الأجل شيئا وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئا فإذا قدّر الإنسان أنه ميت سهلت عليه الهجرة فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت ، وقد ورد «أكثروا من ذكر هادم اللذات أي : الموت فإنه ما ذكر في قليل أي : من العمل إلا كثره ولا ذكر في كثير أي : من أمل الدنيا إلا قلله» (١).

ولما هوّن أمر الهجرة حذر من رضي في دينه بنقص شيء من الأشياء حثا على الاستعداد بغاية الجهد في التزّود للمعاد بقوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) على أيسر وجه فنجازي كلا منكم بما عمل ، وقرأ أبو بكر بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي : لننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) أي : بيوتا عالية ، قال البقاعي : تحتها قاعات واسعة ، وقرأ حمزة والكسائي بعد النون بثاء مثلثة ساكنة وبعدها واو مكسورة وبعد الواو ياء مفتوحة أي : لنثوينهم أي : لنقيمنهم من الثواء وهو الإقامة يقال : ثوى الرجل إذا أقام فيكون انتصاب غرفا لإجرائه مجرى لننزلنهم ، أو بنزع الخافض اتساعا أي : في غرف أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم كقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ) [الأعراف : ١٦] ، والباقون بعد النون بباء موحدة وبعدها واو مشدّدة وبعد الواو همزة مفتوحة وعلى هذه القراءة فانتصابها على أنها مفعول ثان لأنّ بوّأ يتعدّى لاثنين ، قال الله تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١] ويتعدّى باللام قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) [الحج : ٢٦].

ولما كانت العلالي لا تروق إلا بالرياض قال تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار إلا أن يكون فيه بساتين كبار وزروع ورياض وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي.

ولما كانت بحالة لا نكر فيها يوجب هجرة في لحظة ما كنى عنه بقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) أي : لا يبغون عنها حولا ، ثم عظم أمرها وشرف قدرها بقوله تعالى : (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي : هذا الأجر وهذا في مقابلة قوله تعالى للكافر : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٥٥] ، ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة بقوله تعالى : (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي : أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرّت عندهم فكانت سجية لهم فأوقفوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها فإنّ الإنسان قل أن ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه ، ثم رغب في الاستراحة بالتفويض إليه بقوله تعالى : (وَعَلى رَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم وحده لا على أهل ولا وطن (يَتَوَكَّلُونَ) أي : يوجدون التوكل إيجادا مستمرّا لتجديد كل مهم يعرض لهم.

ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة لا مال ولا أهل قال عاطفا على ما تقديره فكأين من متوكل عليه كفاه ولم يحوجه إلى أحد سواه فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طلبا لرضاه. (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) أي : كثير من الدواب العاقلة وغيرها (لا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٠٧ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٥٨ ، والنسائي في الجنائز حديث ١٨٢٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٩٣.

٢٠٤

تَحْمِلُ) أي : لا تطيق أن تحمل (رِزْقَهَا) أي : لا تدخر شيئا لساعة أخرى لأنها قد لا تدرك نفع ذلك وقد تدركه وتتوكل ، وعن الحسن : لا تدخر إنما تصبح فيرزقها الله تعالى ، وعن ابن عيينة : ليس شيئا يخبأ إلا الإنسان والنملة والفارة ، وعن بعضهم قال : رأيت البلبل يدخر في حنية ، ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها أو لا تجده أو لا تطيق حمله لضعفها ، ثم كأنه قيل فمن يرزقها فقيل (اللهُ) أي : المحيط علما وقدرة المتصف بكل كمال (يَرْزُقُها) على ضعفها وهي لا تدخر (وَإِيَّاكُمْ) مع قوتكم وادخاركم واجتهادكم لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وعدم ادخارها ، وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم فإنه هو المسبب وحده فإنّ الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون فصار الإدخار وعدمه غير معتدّ به ولا منظورا إليه ، وقرأ ابن كثير بعد الكاف بألف وبعد الألف همزة مكسورة ، والباقون بعد الكاف همزة مفتوحة وبعدها ياء مشدّدة ، ووقف أبو عمرو على الياء ، ووقف الباقون على النون ، وحمزة في الوقف يسهل الهمزة على أصله.

تنبيه : كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي : التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم ثم لم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأنّ كأي تستعمل غير مركبة كما يقول القائل : رأيت رجلا كأيّ رجل يكون وحينئذ لا يكون كأي : مركبا فإذا كان كأيّ ههنا مركبا كتب بالنون للتمييز (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم نخشى الفقر والضيعة (الْعَلِيمُ) بما في ضمائركم.

واختلف في سبب نزول هذه الآية فعن ابن عمر أنه قال : دخلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حائطا من حوائط الأنصار : فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلتقط الرطب بيده ويأكل فقال : كل يا ابن عمر قلت : لا أشتهيه يا رسول الله قال : لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاما ولم أجده فقلت : يا رسول الله إن الله المستعان فقال : يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ)(١) [العنكبوت : ٦٠].

وروى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون «هاجروا إلى المدينة» فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت (٢) وعن أنس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان لا يدخر شيئا» (٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (٤) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس ليس شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، وإنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» (٥).

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٢١ ، والبغوي في تفسيره ٥ / ١٩٩.

(٢) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ١٩٩.

(٣) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٦٢.

(٤) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٤٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٦٤.

(٥) أخرجه ابن ماجه في التجارات حديث ٢١٤٤.

٢٠٥

(وَلَئِنْ) اللام لام قسم (سَأَلْتَهُمْ) أي : كفار مكة وغيرهم (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وسوّاهما على هذا النظام العظيم (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لإصلاح الأقوات ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي : الذي له جميع صفات الكمال لما تقرّر في نظرهم من ذلك وتلقوه من آبائهم موافقة للحق في نفس الأمر (فَأَنَّى) أي : فكيف ومن أيّ وجه (يُؤْفَكُونَ) أي : يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك ، فإن قيل : ذكر في السموات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير؟ أجيب : بأنّ مجرد خلق السموات والأرض آية ظاهرة بخلاف خلق الشمس والقمر فإنهما لو كانا في موضع واحد لا يتحرّكان ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء فإذا الحكمة الظاهرة في تحريكهما وتسخيرهما.

ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند من لم يتأمّل حق التأمّل فيقول : ما بال الخلق متفاوتين في الرزق قال تعالى : (اللهُ) أي : بما له من الإحاطة بصفات الكمال (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) بقدرته التامّة امتحانا (لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على حسب ما يعلم من بواطنهم (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق (لَهُ) بعد البسط أو لمن يشاء ابتلاء فظهر من ذلك قدرته وحكمته وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم علما لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال (بِكُلِّ شَيْءٍ) أي : من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف يمنع أو يساق وغير ذلك (عَلِيمٌ) يعلم مقادير الحاجات والأرزاق فهو على ذلك كله قدير يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وإفقار غني فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال.

ولما قال الله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) ذكر اعترافهم بذلك بقوله تعالى :

(وَلَئِنْ) اللام لام قسم (سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) بعد أن كان مضبوطا في جهة العلو (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) الغبراء وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات فقال : (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن لها شيء من ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك فلما ثبت أنه الخالق بدء وإعادة كما يشاهد في كل زمان قال منبها على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلِ) يا أفضل الخلق متعجبا منهم في جمودهم كيف يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون؟! (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي لا سميّ له وليس لغيره إحاطة من الأشياء فلزمتهم الحجة بما أقروا به من إحاطته وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فيناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به ، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يلزمه سائر الفروع ، ومنهم من كان دون ذلك فكان نفي العقل عنه مقيدا بالكمال.

ولما تبين بهذه الآيات أنّ الدنيا مبنية على الفناء والزوال والتقلع والارتحال وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال مشيرا بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى هذا الاعتراف فهذا الاسم كاف

٢٠٦

في الإلزام بالاعتراف بالأخرى (إِلَّا لَهْوٌ) وهو الاستمتاع بلذات الدنيا (وَلَعِبٌ) وهو العبث وسميت بهما لأنها فانية ، وقيل : اللهو الإعراض عن الحق ، واللعب : الإقبال على الباطل ، فإن قيل : قد قال تعالى في الأنعام : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) [آل عمران ، ١٨٥] ولم يقل (وَما هذِهِ الْحَياةُ) وقال ههنا : (وَما هذِهِ الْحَياةُ) فما فائدته أجيب بأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا فأحيا به الأرض من بعد موتها فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) ، فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه هناك اللعب على اللهو وههنا أخر اللعب عن اللهو؟ أجيب : بأنه لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوعد يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد ، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها ، اللهمّ إلا لمانع يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلا وكان الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.

ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها بقوله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ) أي : خاصة (الْحَيَوانُ) أي : الحياة التامّة الباقية ، فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى هناك (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) وقال ههنا : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)؟ أجيب : بأنه لما كان الحاصل هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازع قوي فقال : الآخرة خير.

ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج وازع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة ، والحيوان مصدر حيئ وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واوا وبه سمي ما فيه حياة حيوانا وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ههنا.

ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كليهما فنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها فعدوا الدنيا وجودا دائما على هذه الحالة وعدوا الآخرة عدما لا وجود لها بوجه قال تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي : لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في الأنعام : (أَفَلا يَعْقِلُونَ)(١) وقال ههنا : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؟ أجيب : بأن المثبت هناك كون الآخرة خيرا ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع.

(فَإِذا) أي : فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا (رَكِبُوا) البحر (فِي الْفُلْكِ) أي : السفن (دَعَوُا اللهَ) أي : الملك الأعلى (مُخْلِصِينَ) بالتوحيد (لَهُ الدِّينَ) معرضين عن الشركاء بالقلب واللسان حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) أي : الله سبحانه وتعالى موصلا لهم (إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ) أي : حين

__________________

(١) أَفَلا يَعْقِلُونَ جزء من الآية ٦٨ من سورة يس ، وأما التي في الأنعام ، قوله تعالى : وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام : ٣٧]. فتنبه.

٢٠٧

الوصول إلى البرّ (يُشْرِكُونَ) كما كانوا فهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد مقرون أن القادر على كشفها هو الله عزوجل وحده فإذا زالت عادوا إلى كفرهم.

قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدّ عليهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب ، وقال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء انتهى ، فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة ولهذا تجد الفقراء أقرب إلى كل خير ، وفي اللام في قوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) وجهان : أظهرهما أن اللام فيه لام كي أي : يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة فيكون ذلك فعل من لا عقل له أصلا وهم يتحاشون عن مثل ذلك ، والثاني : كونها للأمر (وَلِيَتَمَتَّعُوا) باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها ، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالكسر وهي محتملة للوجهين المتقدّمين ، والباقون بالسكون وهي ظاهرة في الأمر فإن كانت اللام الأولى للأمر فقد عطف أمرا على مثله ، فإن قيل كونها للأمر مشكل إذ كيف يأمر الله تعالى بالكفر وهو متوعد عليه؟ أجيب : بأن ذلك على سبيل التهديد كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وإن كانت للعلة فقد عطف كلاما على كلام فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يومئذ ما يحلّ بهم من العقاب.

ولما كان الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذكرهم حالهم عند الأمر العظيم بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : أهل مكة بعيون بصائرهم (أَنَّا جَعَلْنا) بعظمتنا لهم (حَرَماً) وقال (آمِناً) لأنه لا خوف على من دخله ، فلما أمن كل من دخله كان كأنه هو نفسه الآمن وهو حرم مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصينة بحصن الله وآمنة موجبة للتوحيد والإخلاص لأنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله ، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص فما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلتم وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها؟ والأصنام التي قلتم في حال الخوف أنها لا أمن لها كيف آمنتم بها في حال الآمن (وَ) الحال أنه (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي : من حول من فيه من كل جهة قتلا وسبيا مع قلة من بمكة وكثرة من حولهم فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفا ومن حوله آمنا أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد (أَفَبِالْباطِلِ) من الشياطين والأديان وغيرهما (يُؤْمِنُونَ) والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) التي أحدثها لهم من الإنجاء وإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَكْفُرُونَ) حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاة وغيرها شركهم بعبادة غيره.

(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي : أشدّ وضعا للأشياء في غير مواضعها (مِمَّنِ افْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون (إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) أي : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن المعجز المبين على لسان هذا

٢٠٨

الرسول الأمين الذي ما أخبر خبرا إلا طابقه الواقع (لَمَّا) أي : حين (جاءَهُ) من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل بل سارع إلى التكذيب أوّل ما سمعه وقوله تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) استفهام تقرير لمثواهم كقوله (١) :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

قال بعضهم : ولو كان استفهاما ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل ، وحقيقته أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي فرجع إلى معنى التقرير ، والمعنى أما لهذا الكافر المكذب مثوى في جهنم حتى اجترأ مثل هذه الجراءة؟.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا) أي : أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دلّ عليه بالمفاعلة (فِينا) أي : بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدّة والرخاء ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن وشدائد المحن مستحضرين لعظمتنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) مما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه هداية تليق بعظمتنا (سُبُلَنا) أي : طريق السير إلينا وهي الطريق المستقيمة والطريق المستقيمة هي التي توصل إلى رضا الله عزوجل ، قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإنّ الله تعالى قال (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وقال الحسن : الجهاد مخالفة الهوى ، وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به ، وقال سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا ، وقال أبو سليمان الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا ، وعن بعضهم : من عمل بما يعلم وفق لما لم يعلم ، وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لم نعلم إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم ، وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعة ، وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة ، والباقون بضمها (وَإِنَّ اللهَ) أي : بعظمته وجلاله وكبريائه (لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي : المؤمنين بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة والثواب في عقباهم ، وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشريّ من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين» (٢) فهو حديث موضوع ، ورواه ابن عادل عن أبي أمامة عن أبي بن كعب.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٨٥ ، ٨٩ ، والجنى الداني ص ٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢ ، ولسان العرب (نقص) ، ومغني اللبيب ١ / ١٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٦٣ ، ٣ / ٢٦٩ ، ورصف المباني ص ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢.

(٢) الحديث ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٧٠.

٢٠٩

سورة الروم

مكية وهي ستون آية ، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة ، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي يملك الأمر كله (الرَّحْمنِ) الذي رحم الخلق كلهم بنصب الدلائل (الرَّحِيمِ) الذي لطف بأوليائه وقوله تعالى :

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥))

(الم) تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة ، وقال البقاعي : لما ختم سبحانه وتعالى التي قبلها بأنه مع المحسنين قال : (الم) مشيرا بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم‌السلام إلى أشرف خلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق يوحي إليه وحيا معلما بالشاهد والغائب فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلا على صحة رسالته وكمال علم مرسله وشمول قدرته ووجوب وحدانيته.

(غُلِبَتِ الرُّومُ) وهم أهل كتاب ، غلبتهم فارس وليسوا أهل كتاب بل يعبدون الأوثان (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي : أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة ، التقى فيها الجيشان والبادي بالغزو الفرس (وَهُمْ) أي : الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أضيف المصدر إلى المفعول أي : غلبة فارس إياهم (سَيَغْلِبُونَ) فارس.

٢١٠

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) وهو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر ، فالتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأوّل وغلبت الروم فارس ، وسبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودّون أن تغلب فارس لأن أهل فارس كانوا مجوسا أميين ، والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليه رجلا يقال له شهريار ، وبعث قيصر جيشا واستعمل عليه رجلا يدعى بخنس ، فالتقى مع شهريار بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم ، وبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن تظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، وفرح كفار مكة وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ولنظهرن عليكم فنزلت هذه الآية. فخرج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله لتظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له أبيّ بن خلف الجمحي : كذبت يا أبا فضيل فقال أبو بكر : أنت أكذب يا عدوّ الله فقال : اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه ـ والمناحبة المراهنة ـ فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فجاء أبو بكر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك فقال ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل ، فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال : لعلك ندمت قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت ، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبيّ بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم ، وقيل كان يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تصدّق به ، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة وأنّ القرآن من عند الله لأنه أنبأ عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

فإن قيل : كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ أجيب : بأن قتادة رحمه‌الله تعالى قال : كان ذلك قبل تحريم القمار ، وقال الزمخشري : ومذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر رضي الله عنه بينه وبين أبي بن خلف.

ولما كان تغلب ملك على ملك من الأمور الهائلة وكان الإخبار به قبل كونه أهول ذكر علة ذلك بقوله تعالى : (لِلَّهِ) أي : وحده (الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) أي : قبل جولة فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس (وَمِنْ بَعْدُ) أي : بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم.

ولما أخبر تعالى بهذه المعجزة أخبر بمعجزة أخرى بقوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ) أي : تغلب الروم على فارس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) أي : العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(بِنَصْرِ اللهِ) أي : الذي لا رادّ لأمره للروم على فارس ، وقد فرحوا بذلك وعلموا به يوم

٢١١

وقوعه يوم بدر بنزول جبريل عليه‌السلام بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه ، قال السدي : فرح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ، وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدر وفي هذا اليوم نصر المؤمنون. (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) من ضعيف وقوي لأنه لا مانع له ولا يسأل عما يفعل ، فالغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يزيد ثواب المؤمن فيبتليه ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم المعاد (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يعز من عادى ولا يذل من والى ، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بالضم.

ولما كان السياق لبشارة المؤمنين قال (الرَّحِيمُ) فيخصهم بالأعمال الزكية والأخلاق المرضية.

(وَعْدَ اللهِ) أي : الذي له جميع صفات الكمال ، مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي : وعدهم الله ذلك وعدا بظهور الروم على فارس (لا يُخْلِفُ اللهُ) أي : الذي له الأمر كله (وَعْدَهُ) به ، وهذا مقرّر لمعنى هذا المصدر ، ويجوز أن يكون قوله تعالى : (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) حالا من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع كأنه قيل : وعد الله وعدا غير مخلف (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) لجهلهم وعدم تفكرهم (لا يَعْلَمُونَ) ذلك.

وقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ) بدل من قوله تعالى (لا يَعْلَمُونَ) وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ليعلمه أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يجاوز الدنيا (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا : فظاهرها : ما يعرفه الجهال من أمر معايشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وكيف يبنون ويعرشون ، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه وهو لا يخطئ ، وهو لا يحسن يصلي. وأمثال هذا العلم كثير وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيما فهو عند الله حقير فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل ، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع ، وأما علم باطنها : وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزوّد منها بالطاعة فهو ممدوح ، وفي تنكير الظاهر إشارة إلى أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها (وَهُمْ) أي : هؤلاء الموصوفون خاصة (عَنِ الْآخِرَةِ) أي : التي هي المقصودة بالذات ، وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام (هُمْ غافِلُونَ) أي : في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا تخطر في خواطرهم.

تنبيه : هم الثانية يجوز أن تكون مبتدأ ، وغافلون خبره ، والجملة خبر هم الأولى ، وأن تكون تكريرا للأولى ، (غافِلُونَ) خبرا للأولى ، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها ، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أي : يجتهدوا في إعمال الفكر ، وقوله تعالى (فِي أَنْفُسِهِمْ) يحتمل أن يكون ظرفا كأنه قيل : أولم يحدثوا الفكر في أنفسهم أي : في قلوبهم الفارغة من التفكر ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وأن يكون صلة أي : أولم يتفكروا في أحوالها خصوصا فيعلموا أن من كان منهم قادرا

٢١٢

كاملا لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص فكيف بالإله الحق. ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين أحوالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، ومات أكثرهم مظلوما قبل القصاص والظفر ، لا بدّ في حكمته البالغة من جمعه العدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو كفر. ففي ذلك دلالة على وحدانية الله تعالى وعلى الحشر ، ثم ذكر تعالى نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم. وعلى التقدير الأوّل يكون المتفكر فيه (ما خَلَقَ اللهُ) أي : بعز جلاله وعلوه في كماله (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على ما هما عليه من النظام المحكم والقانون المتقن ، قال البقاعي : وإفراد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعدّدها بخلاف السماء ا. ه وقد يردّ هذا بقوله تعالى : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] (وَما بَيْنَهُما) من المعاني التي بها كمال منافعهما (إِلَّا) خلقا متلبسا (بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيما قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقا لأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقا لكل ما يخطر بالبال.

ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى (وَأَجَلٍ) لا بد أن ينتهي إليه (مُسَمًّى) أي : في العلم من الأزل ، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث.

ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) مع ذلك على وضوحه (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي : الذي ملأهم إحسانا برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب (لَكافِرُونَ) أي : لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.

فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى ههنا (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) وقال من قبل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ)؟ أجيب : بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلا على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لا بد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل : و (إِنَّ كَثِيراً) وقال قبله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته ، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : سير اعتبار ، وقوله تعالى (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم تقريرا لسيرهم في أقطار الأرض ، ونظرهم إلى آثار المدمرين كعاد وثمود (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي : العرب (قُوَّةً) أي : في أبدانهم وعقولهم (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي : حرثوها وقلبوها للزرع والغرس والمعادن والمياه وغير ذلك (وَعَمَرُوها) أي : أولئك السالفون (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي : هؤلاء الذين أرسلت إليهم بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر ، فإن بلاد العرب إنما هي في جبال سود ، وفياف غبر ، فما هو إلا تهكم بهم وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي :

٢١٣

بالحجج الظاهرات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة وأمورنا الخارقة كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار : «بأن العير تقدم في يوم كذا يقدمها جمل صفته كذا وغرائره كذا فظهر كذلك» وما آمنتم به كما لم يؤمن من كان أشدّ منكم قوّة (فَما) أي : تسبب أنه ما (كانَ اللهُ) أي : على ما لهم من أوصاف الكمال مريدا (لِيَظْلِمَهُمْ) بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالما بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات (وَلكِنْ كانُوا) بغاية جهدهم (أَنْفُسَهُمْ) أي : خاصة (يَظْلِمُونَ) أي : يجدّدون الظلم لها بإيقاع الضر موقع مجلب النفع.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ) أي : آخر أمر (الَّذِينَ أَساؤُا) وقوله تعالى (السُّواى) تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم إن عاقبتهم السوأى ، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر ، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنها اسم كان والسوأى خبرها ، والباقون بالنصب على أنها خبر كان. وقيل : السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ، وإساءتهم (أَنْ) أي : بأن (كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي : القرآن. وقيل : تفسير السوأى ما بعده وهو قوله تعالى (أَنْ كَذَّبُوا) أي : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب ، حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله (وَكانُوا بِها) مع كونها أبعد شيء عن الهزء (يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : يستمرون على ذلك بتحديده في كل حين.

ولما كان حاصل ما مضى أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء صرح بذلك في قوله تعالى : (اللهُ) أي : المحيط علما وقدرة (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي : بدأ منه ما رأيتم وهو يجدد في كل وقت ما يريد من ذلك كما تشاهدون (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : خلقهم بعد موتهم أحياء ، ولم يقل يعيدهم لرده إلى الخلق (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء فيجزيهم بأعمالهم ، وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة على النسق الماضي والباقون بالتاء على الخطاب أي : إليه ترجعون معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها للأسباب ، وحسا بعد قيام الساعة ، وهي أبلغ من القراءة الأولى ؛ لأنها أنص على المقصود.

ولما ذكر الرجوع أتبعه ببعض أحواله بقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما هم فيه من العظماء والكبراء والرؤساء (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي : يسكت المشركون لانقطاع حجتهم ، فالإبلاس أن يبقى يائسا ساكتا متحيرا. يقال : ناظرته فأبلس. ومنه الناقة المبلاس أي : التي لا ترغو ، وقال مجاهد : مفتضحون ، وقال قتادة : المعنى : ييأس المشركون من كل خير.

ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره نفي ذلك بقوله تعالى محققا له بجعله ماضيا : (وَلَمْ يَكُنْ) ومعناه لا يكون (لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) أي : ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام (شُفَعاءُ) ينقذونهم مما هم فيه ليتبين لهم غلطهم وجهلهم المفرط في قولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

ولما ذكر تعالى حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله تعالى : (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي : خاصة (كافِرِينَ) أي : متبرئين منهم بأنهم ليسوا بآلهة ، وقيل : كانوا في الدنيا كافرين بسببهم ،

٢١٤

وكتب شفعاء في المصحف بواو قبل الألف كما كتب علماء بني إسرائيل ، وكذلك كتب السوأى بألف قبل الياء إثباتا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي : ويا له من يوم ، وزاد في تهويله بقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي : المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها ، هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين كما قال عز من قائل : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان بأنفسهم (وَعَمِلُوا) تصديقا لإقرارهم (الصَّالِحاتِ فَهُمْ) أي : خاصة (فِي رَوْضَةٍ) وهي أرض عظيمة جدا منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهيج. هذا أصلها في اللغة ، قال الطبري : ولا نجد أحسن منظرا ولا أطيب نشرا من الرياض ا ه والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب : كل أرض ذات نبات وماء. ومن أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة ، يريدون بيضة النعامة (يُحْبَرُونَ) قال أبو بكر بن عياش : التيجان على رؤوسهم ، وقال أبو عبيدة : يسرون أي : على سبيل التجدد كل وقت سرورا تشرق له الوجوه وتبسم الأفواه وتزهر العيون فيظهر حسنها وبهجتها ، فتظهر النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها ، وقال ابن عباس : يكرمون ، وقال قتادة : ينعمون ، وقال الأوزاعي عن يحيى ابن كثير : يحبرون هو السماع في الجنة ، وقال الأوزاعي : إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت ، وقال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم أعرابيّ قال يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال : «نعم يا أعرابي إنّ في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» قال الدارمي : فسألت أبا الدرداء بم يتغنين قال : بالتسبيح (١) وروي «أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا» (٢).

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ

__________________

(١) أخرجه الذهبي في ميزان الاعتدال ٣٤٩٣ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٢٩.

(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٢٩.

٢١٥

دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : غطوا ما كشفته أنوار العقول (وَكَذَّبُوا) عنادا (بِآياتِنا) التي لا أصدق منها ولا أضوأ من أنوارها بما لها من عظمتنا وهو القرآن (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي : بالبعث وغيره (فَأُولئِكَ) أي : البغضاء البعداء (فِي الْعَذابِ) الكامل لا غيره (مُحْضَرُونَ) أي : مدخلون لا يغيبون عنه.

(فَسُبْحانَ اللهِ) أي : سبحوا الله تعالى بمعنى صلوا (حِينَ تُمْسُونَ) أي : حين تدخلون في المساء وفيه صلاتان : المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي : تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح.

وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراض ومعناه : يحمده أهلهما. وقوله تعالى (وَعَشِيًّا) عطف على حين وفيه صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي : تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر ، قال نافع بن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في مواقيتها في القرآن؟ فقرأ هاتين الآيتين وقال : جمعت الآيتان الصلوات الخمس ومواقيتها ، وإنما خص هذه الأوقات مع أن أفضل الأعمال أدومها ؛ لأنّ الإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك ، فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أوّل النهار ووسطه وآخره وفي أوّل الليل ووسطه فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين ، وكذلك باقي الركعات وهن سبع عشرة مع ركعتي الفجر ، فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار ، بقي عليه سبع ساعات من جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم ، والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته بالتسبيح في العبادة ، أو بمعنى : نزهوه من السوء بالثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعم الله تعالى الظاهرة.

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (١) وعنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال

__________________

(١) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٤٠٥ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٦٦ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨١٢.

٢١٦

مثل ما قال وزاد عليه» (١) وعنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (٢) وعن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنها أنه خرج ذات غداة من عندها وكان اسمها برّة فحوّله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسماها جويرية فكره أن يقال خرج من عند برّة ، فخرج وهي في مسجدها أي : مصلاها ، فرجع بعد ما تعالى النهار فقال : «ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزن بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (٣).

وعن سعد بن أبي وقاص قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أيعجز أحدكم أن يكتسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكتسب كل يوم ألف حسنة قال : يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة» (٤) وفي غير رواية مسلم ويحط بغير ألف.

ولما كان الإنسان عند الإصباح يخرج من سنة النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة ، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم أتبعه الإحياء والإماتة حقيقة بقوله تعالى :

(يُخْرِجُ الْحَيَ) كالإنسان والطائر (مِنَ الْمَيِّتِ) كالنطفة والبيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ) كالبيضة والنطفة (مِنَ الْحَيِ) على عكس ذلك ، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس ، وقيل : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) أي : بالمطر وإخراج النبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي : يبسها (وَكَذلِكَ) أي : ومثل هذا الإخراج (تُخْرَجُونَ) بأيسر أمر من الأرض بعد تفرّق أجسامكم فيها أحياء للبعث والحساب ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي الميت بكسر الياء المشددة ، والباقون بالسكون ، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بفتح التاء قبل الخاء وضم الراء على البناء للفاعل ، والباقون بضمّ التاء وفتح الراء على البناء للمفعول.

(وَمِنْ آياتِهِ) أي : ومن جملة علامات توحيده وكمال قدرته (أَنْ خَلَقَكُمْ) أي : أصلكم وهو آدم عليه‌السلام (مِنْ تُرابٍ) لم يكن له أصلا اتصاف ما بحياة ، أو أنه خلقكم من نطفة ، والنطفة من الغذاء ، والغداء إنما يتولد من الماء والتراب (ثُمَ) أي : بعد إخراجكم منه (إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) في الأرض كقوله تعالى (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١].

تنبيه : الترتيب والمهلة ههنا ظاهران ، فإنهم يصيرون بشرا بعد أطوار كثيرة ، وتنتشرون حال. وإذا هي الفجائية إلا أنّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء ؛ لأنها تقتضي التعقيب. ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي : بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في موضع آخر من كونها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما مجردا ثم عظما مكسوا لحما فاجأ البشرية والانتشار.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٦٩٢.

(٢) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٤٠٦ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٦٩٤ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٦٧ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨٠٦.

(٣) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٧٢٦ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٥٠٣ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٥٥٥ ، والنسائي في السهو حديث ١٣٥٢.

(٤) أخرجه مسلم في الذكر ٢٦٩٨ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٦٣.

٢١٧

(وَمِنْ آياتِهِ) أي : على ذلك (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أي : لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد وفي تقديم الجار وهو قوله تعالى (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي : جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه‌السلام (أَزْواجاً) إناثا هن شفع لكم دلالة ظاهرة على حرمة التزّوج من غير الجنس كالجن ، قال البقاعي : والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل أي : فخلق حواء من ضلع آدم (لِتَسْكُنُوا) مائلين (إِلَيْها) بالشهوة والألفة من قولهم : سكن إليه إذا مال وانقطع واطمأن إليه ، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها ، قال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد من جنسكم كما قال تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] ويدل عليه قوله تعالى (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) يعني أنّ الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي : لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه.

ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الإلفة قال تعالى (وَجَعَلَ) أي : صير بسبب الخلق على هذه الصفة (بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) أي : معنى من المعاني يوجب أن لا يحب أحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه (وَرَحْمَةً) أي : معنى يحمل كلّا على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ودفع الضر ، وقيل : المودّة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد تمسكا بقوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم ، ٢] وقوله تعالى : (وَرَحْمَةً مِنَّا) [مريم ، ٢١] (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : يستعملون أفكارهم على القوانين المحرّرة ويجتهدون في ذلك فيعلمون ما في ذلك من الحكم.

ولما بين تعالى دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) أي : الدالة على ذلك (خَلْقُ السَّماواتِ) على علوها وإحكامها (وَالْأَرْضِ) على اتساعها وإتقانها ، وقدّم السماء على الأرض لأنّ السماء كالذكر لها.

ولما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بقوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي : لغاتكم من العربية والعجمية وغيرهما ، ونغماتكم وهيآتها ، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ولا شدّة ولا رخاوة ولا لكنة ولا فصاحة ولا غير ذلك من صفات النطق وأشكاله وأنتم من نفس واحدة (وَ) اختلاف (أَلْوانِكُمْ) من أبيض وأسود وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد وهو آدم عليه‌السلام ، والحكمة في ذلك : أنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه ، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه ، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور ، وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات ، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز بين كل واحد بشكله وحليته وصورته ، ولو اتفقت الصور والأصوات وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية فيروك الخطأ في التمييز بينهما ، فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد ، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وتفرعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله تعالى مختلفون متفاوتون.

ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحات

٢١٨

جدا على وحدانيته تعالى (لِلْعالِمِينَ) أي : ذوي العقول والعلم لا يختص به صنف منهم دون صنف من جنّ ولا أنس ولا غيرهم ، فهذا هو حكمة قوله تعالى هنا للعالمين وفيما تقدّم بقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، [يونس : ٢٤] وقرأ حفص وحده بكسر اللام.

ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلبا للرزق كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على القدرة والعلم (مَنامُكُمْ) أي : نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعا (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قيلولة (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية ، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيرا ما يكسب الإنسان بالليل ، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف ، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعارا بأنّ كلّا من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١٠ ـ ١١] وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] ويكون التقدير هكذا : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله. وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه. ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] وقوله تعالى (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).

تنبيه : قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة ، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما ، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل (لَآياتٍ) عديدة على القدرة والعلم لا سيما البعث (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة.

تنبيه : قال هنا (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) وقال تعالى من قبل (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وقال تعالى (لِلْعالِمِينَ) لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى ، فلم يقل آيات للعالمين ، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم ، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة ، فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه ، وأما قوله تعالى (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة ، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد ، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة ، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية ، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ويجعلون بالهم من كلام المرشد.

ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على عظيم قدرته (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) أي : إراءتكم له على هيئآت وكيفيات

٢١٩

طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى (خَوْفاً) أي : للإخافة من الصواعق المحرقة (وَطَمَعاً) أي : وللإطماع في المياه العذبة (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي (فَيُحْيِي بِهِ) أي : بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره (الْأَرْضَ) أي : بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان (بَعْدَ مَوْتِها) أي : يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم العالي القدر (لَآياتٍ) لا سيما على القدرة على البعث (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع.

تنبيه : كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء ، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة ، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له ، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء ، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضا أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب.

واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين ، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وفيما تقدم (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؟ أجيب : بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمرا عاديا مطردا قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف ، والبرق والمطر ليس أمرا مطردا غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة ، وفي وقت دون وقت ، وتارة يكون قويا وتارة يكون ضعيفا ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكرا تاما.

ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ) أي : على تمام القدرة وكمال الحكمة (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) قال ابن مسعود ، قامتا على غير عمد بأمره أي : بإرادته ، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم ، فإنّ الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه ، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع ؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس.

تنبيه : ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى (خَلَقَكُمْ* خَلَقَ لَكُمْ) واستدل بخلق الزوجين ، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الروم : ٢٢] ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار ، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض ؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار ، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين ، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه‌السلام (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠].

فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى هنا (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ) [الروم : ٢٥] وقال تعالى قبله (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) [الروم : ٢٤] ولم يقل أن يريكم ليصير كالمصدر بأن؟ أجيب : بأنّ القيام لما كان غير معتبر أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية ،

٢٢٠