بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٨

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-351-4
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٨٢٠

أول اجتماعهما إلى اجتماع النّقيضين حقيقة ، فيصحّ من جهته القول باشتراط الوحدات الثّمانية الرّاجعة إلى وحدة الموضوع ولو بالعنوان التّقييدي في استحالة اجتماع الضّدين أيضا ، وإن كان القول باشتراط وحدة المحمول بالنّسبة إلى

__________________

فان جهة المنافاة منحصرة في وجوب كل منهما وعدمه ، أو إذا علمنا من الخارج بأن إحداهما واجبة ، والأخرى محرمة ، فان كلاّ من الدليلين ، الدالين على وجوبهما يدل على حرمة الآخر بالالتزام ؛ وجهة المنافاة بالتبع ـ وهي المنافاة بنحو التضاد ـ هي اللازمة مراعاتها بالجمع أو الترجيح ، أو التخيير ، فتدبر جيدا.

وأما التنافي من حيث الدليلية والحجية ، فتوضيح الحال فيه : إن الحجية في كل من الطرفين وصف ثبوتي ، فلا تنافي من حيث التناقض ، وستعلقهما ـ إذا كان فعلين متضادين بالذات أو بالعرض ـ متعدد ، فلا تنافي من حيث التضاد ، فكيف يتصور التنافي من حيث المناقضة ، أو المضادة في الدليلية والحجية.

والجواب : أما إذا كانت الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل ، فالحكم المجعول في كل طرف ـ على طبق مدلوله المنافي لمدلول الآخر ـ بالمناقضة أو المضادة.

وأما إذا كانت بمعنى المنجزية والمعذرية ، ففي مورد قيام الخبرين على وجوب شيء وعدمه ، من حيث كونهما صفتين ـ قائمتين بالخبرين ـ غير متنافيتين بالذات بنحو التناقض ، ولا بنحو التضاد ، لكونهما ثبوتيين ، ولتعدد موضوعهما ، إلا أنه بلحاظ مضايفهما ـ وهو تنجز الحكم والمعذورية عنه ثبوتيان قائمان بحكم واحد ، متعلق بفعل واحد ـ متضادان.

وبلحاظ استحقاق العقاب ـ على الترك مثلا ، وعدم الاستحقاق عليه ـ متناقضان.

وفي مورد قيام الخبرين ـ على وجوب شيء وحرمته ـ وصفان متماثلان.

لكنه لتعدد موضوعهما غير داخلين فيما يمتنع اجتماعهما.

وبلحاظ تنجز الحكمين الواردين على موضوع واحد متنافيان بتنافي التضاد بالعرض.

كما أنه بلحاظ استحقاق العقاب على الفعل والترك متضادان بالعرض ، لأنه لازم تعلق الوجوب والحرمة بفعل واحد ، ولازم المحال محال إنتهى. أنظر نهاية الدراية : ج ٦ / ٢٧٢.

٢١

اجتماع الضّدّين بظاهره ظاهر الفساد ؛ ضرورة تغاير المحمول في اجتماع الضّدين ، فتنافي وجوب الشّيء وحرمته مع كونهما محمولين : من جهة أنّ وجوبه يقتضي عدم حرمته كما أنّ حرمته يقتضي عدم وجوبه ، فاجتماعهما يقتضي اجتماع كلّ من الوجوب والحرمة مع عدمه ، كما أنّ اجتماع السّواد والبياض يقتضي اجتماع كلّ منهما مع عدمه.

وهذا الّذي ذكرنا وإن كان أمرا واضحا ، إلاّ أنّ التباس الأمر على بعض المعاصرين دعانا إلى التّنبيه عليه وليكن في ذكر منك لعلّه ينفعك في بعض ما سيتلى عليك.

وممّا ذكرنا كلّه : يظهر استقامة ما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : ( وكيف كان : فلا يتحقّق إلاّ بعد اتّحاد الموضوع ، وإلاّ لم يمتنع اجتماعهما ) (١) ضرورة اقتضاء التّنافي بأحد الوجهين امتناع اجتماع المتنافيين الّذي لا يتحقّق إلاّ بعد اتّحاد الموضوع الجامع للوحدات.

ثمّ إنّ المراد من المدلول ـ كما هو ظاهر وصرّح به غير واحد ـ أعمّ من المطابقي والتّضمّني والالتزامي بأقسامه حتّى الالتزام الشّرعي ، فإذا دلّ دليل على وجوب القصر في أربعة فراسخ ودلّ دليل على وجوب الصّوم فيها فلا محالة يقع التّعارض بينهما بملاحظة ما دلّ على التّلازم بين القصر والإفطار شرعا والصّوم والإتمام ، فالخبر الدّالّ على القصر يدلّ على وجوب الإفطار بالالتزام الشّرعي كما أنّ الخبر الدّال على الصّوم يدلّ على وجوب الإتمام كذلك فيقع التّعارض

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٤ / ١١.

٢٢

بينهما من حيث الالتزام الشّرعي ، كما أنّه إذا دلّ دليل على وجوب شيء يدلّ على وجوب ما يتوقّف عليه بالالتزام العقلي ، فإذا ورد ما يدلّ على عدم وجوب ما يتوقّف عليه يدلّ على عدم وجوب ذلك الشّيء لا محالة مع فرض بقاء التّوقّف ، فيتعارضان من حيث الدّلالة الالتزاميّة العقليّة.

ومن التّعارض من جهة الالتزام الشّرعي أيضا : ما إذا دلّ دليل على بطلان الصّلاة بنقص جزء منها سهوا ودلّ دليل آخر على عدم بطلان الصّلاة بزيادة هذا الجزء ؛ فإنّه لا تعارض بينهما إلاّ بملاحظة ما دلّ على التّلازم بين النّقيصة والزّيادة صحّة وبطلانا.

ومنه أيضا : ما إذا دلّ دليل على انفعال القليل بشيء من النّجاسات ، ودلّ دليل آخر على عدم انفعاله بنجس آخر غيره ، فيقع التّعارض بينهما بملاحظة ما دلّ على عدم التفصيل بين النّجاسات الواردة على القليل وهكذا ...

وهذا هو المراد ممّا ذكره بعض أفاضل مقاربي عصرنا : من كون التّعارض بين الدّليلين قد يكون بأنفسهما وقد يكون بواسطة أمر خارج عنهما هذا. وقد يجعل الواسطة إذا لم يكن قطعيّة طرفا للمتعارضين ويحكم بهذه الملاحظة باندراج الفرض في تعارض أزيد من الدّليلين ، ولعلّنا نتكلّم في تحقيق المقام فيما يتلى عليك في طيّ مطالب المسألة.

ثمّ إنّ قصر موضوع المسألة على تعارض الدّليلين ، إنّما هو بالنّظر إلى ما يقع غالبا لا من جهة اختصاص التّعارض أو حكمه بتعارض الدّليلين ، وإلاّ فقد يقع التّعارض بين الثّلاثة والأزيد كما ستقف على شرح القول في حكم تعارض أزيد

٢٣

من الدّليلين في طيّ « الكتاب » والتّعليقة.

(٢) قوله ( دام ظلّه ) : ( ومنه يعلم : أنّه لا تعارض بين الأصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة (١) ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٤ / ١١ )

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لا يذهب عليك أن قيد التنافي في الحد مخرج لأمرين :

أحدهما : مخالفة الأصول للأدلة الاجتهادية ؛ لعدم تحقق التعارض بينهما لأجل اختلاف موضوعهما.

وثانيهما : مخالفة الدليلين القطعيين على ما سيشير الى بيانه.

وتوضيح المقام تارة : ببيان الوجوه التي يمكن أن يتوهم التنافي والتعارض من جهتهما بين الحكم الواقعي والظاهري في موضوع واحد ، وأخرى : ببيان ما يدفع ذلك.

أمّا الأول : فاعلم أن الحكم الواقعي ما جعله الشارع اقتضاء أو تخييرا للموضوعات الواقعية من حيث هي يعنى مع قطع النظر عن تعلق احدى الادراكات بها فلا يتغيّر بالعلم والجهل ، والظاهرى ما كان مجعولا للجاهل بالحكم الواقعي أو موضوعه ، فالفرق بينهما : إنّما هو بأخذ الجهل في موضوع الثاني دون الأوّل ومجرد ذلك لا يدفع التنافي بينهما ؛ لأنه اذا كان شيء في الواقع حراما فالشك في حرمته أو في موضوعها لا يخرج الموضوع الواقعي من وجوده الواقعي فالمائع المردد بين الخمر والخل اذا كان خمرا في الواقع ، تلازمه الحرمة في الواقع وحينئذ يمتنع عروض الرخصة له في الظاهر بأصالة الاباحة لوجوه :

أحدها : امتناع اجتماع الضدين قضية لتضاد الأحكام الخمسة لأن الحرمة وان ثبتت لشرب الخمر في الواقع من حيث هو والاباحة في حال الجهل الا أن اختلاف جهة المنع والرخصة أعني جهتي الواقع والظاهر لا يوجب اختلاف موضوعهما في الخارج نظير ما لو وجب اكرام زيد لكونه ابن عمرو واهانته لكونه أخابكر.

٢٤

__________________

وثانيها : لزوم التكليف بما لا يطاق بعض صور اختلاف الحكم الواقعي والظاهري وان قلنا بكون تعدد الجهة مكثرة للموضوع نظير ما ذكروه في امتناع اجتماع الأمر والنهي مع تعدد الجهة.

وثالثها : امتناع اجتماع المصلحة والمفسدة موضوع واحد والتقريب فيه يظهر من الوجه الأوّل.

[ رابعها ] : قبح تقويت مصلحة الواقع عن المكلف لأنّه اذا كان فعل فى الواقع واجبا أو حراما فالرخصة في الترك على الأوّل والفعل على الثاني في الظاهر لأصالة البراءة يوجب تفويت مصلحة فعل الواجب أو ترك الحرام لا محالة ومحظور هذه الوجوه لا يندفع الاّ بارتكاب التخصيص في أدلّة الواقع أو الظاهر ، ولكن لا سبيل الى الأوّل اجماعا فتعين الثاني كما عليه جماعة من متاخري المتأخرين هذا كله في الحكم الواقعي بالقياس الى مؤديات الأصول. ومنه يظهر قياس الواقع الى مؤديات الطرق الاجتهادية لكونها ظاهرية أيضا بالنسبة إلى الواقع الأوّلي ، وكذا قياس مؤدّيات الطّرق الى مؤدّيات الأصول لكونها بمنزلة الواقع بالنسبة اليها.

وأما الثاني :

فانه يدفع الوجه الاوّل : منع التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري بعد تغاير موضوعهما ؛ لأن موضوع الأوّل هو الواقع من حيث هو وموضوع الثاني هو الواقع بوصف كونه مجهولا وقياسهما على وجوب إكرام زيد من جهة كونه ابن عمرو واهانته من جهة كونه أخابكر قياس مع الفارق ؛ لأن الموضوع المقيس عليه واحد وكونه ابن عمرو وأخابكر إنّما هما جهتا عروض الحكمين وسببه ، ومنه يظهر ضعف الثالث أيضا.

وأما الثانى فيدفع : بأن التكليف بما لا يطاق إنّما يلزم اذا تنجز التكليف بالواقع مطلقا سواء علم به المكلف أم لا ، وإلاّ فاللازم منتف لا محالة.

٢٥

__________________

وأما الرابع فيندفع : بأن مفسدة تفويت الواقع يندفع بتداركها بمصلحة أخرى وان لم نعلمها تفصيلا واحتمال ذلك يدفع القبح المذكور ، ومما يكشف عن صحّة جميع ما ذكرناه : حسن الاحتياط في موارد الأصول ؛ إذ الواقع لو كان مختصّا بها لم يبق مسرح للاحتياط حينئذ أصلا. ومما ذكرناه تظهر الحال بالنسبة الى سائر المراتب المذكورة التي منها ما نحن فيه وهي نسبة الأدلة الاجتهادية الى الأصول » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٥٨٧.

* أقول : وقد مرّ ما ينفعك في المقام من السيّد الشيرازي فراجع.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى اغتشاش النسخ في المقام بحيث لا يكاد انطباقها على شيء حيث ضرب في بعضها على ما هو بين قوله « لأنّ موضوع الحكم في الاصول » وقوله : « فحينئذ الدليل المفروض » كما يظهر من مراجعتها.

وكيف كان فلو كانت العبارة ثابتة بحالها يتعين مرجع الضمير في « منه » في اعتبار الاتحاد ، كما ان سياق المقام قاض بكونه المرجع ، كما لا يخفى على المتأمّل العارف بأساليب الكلام ؛ فيشكل حينئذ بان الموضوع في الاصول العملية وان لم يكن عين الموضوع في الأدلة الاجتهادية ، الا انه مرتبة من مراتبه ومحكوم بحكمه ، كيف! والاّ يلزم التصويب فيكون حاله بالنسبة اليه من قبيل حال المقيد بالاضافة الى المطلق في سراية حكمه اليه ، وتنافى الحكمين فيه وان لم يكن من ذاك الباب ، إذ من المعلوم ان الاطلاق والتقييد أمران إضافيان لا بد من كون المحل قابلا لورود كلّ فيه بدل الآخر ، وليس المقام كذلك ، بداهة عدم قابلية الموضوع في الادلة للتقييد بالجهل بالحكم ولا بعدمه ، فلا تقييد فلا اطلاق ، فافهم فانه لا يخلو من دقة ، ولا يبعد كون هذا منشأ للضرب عليه في بعض النسخ.

واما لو كانت مضروبا عليها يتعين المرجع في كون التعارض تنافي الدليلين.

وبيانه على هذا : انه حيث علم ان التعارض هو التنافي بين الدليلين ، علم انه لا تعارض بين

٢٦

__________________

الاصول والأدلة ؛ اذ لا تنافى بينهما ، وذلك لان الموضوع في الاصول لمّا كان مقيدا بالجهل ، فلا تخلو الأدلة من ورودها عليها ورفعها لموضوعها حقيقة او من حكومتها عليها ورفعها له حكما ، حسبما اشار اليه من التفصيل.

ومن المعلوم انه لا تنافي عرفا بين الوارد والمورود وهو واضح ، ولا بين الحاكم والمحكوم فانه بمنزلة الشرح والتفصيل ، ولا يعد التفاوت بين الشارح والمشروح في العرف تنافيا. هذا كلّه في رفع التنافى بين الأدلة الاجتهادية وأدلة الاصول العملية.

واما رفع التنافي بين نفس الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطائفة الأولى ومؤدّى الثانية من الحكم الظاهري فقد استوفينا الكلام فيه عند تصوير جعل الطرق في ردّ ابن قبة ، فمن أراد الاطلاع فعليه المراجعة ثمة » إنتهى. انظر درر الفوائد : ٤٢٧.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس سره :

« وقد مرّ في أوّل رسالة أصل البراءة أيضا في المتن : أن وجه عدم التعارض بين الأصول والأدلّة تعدّد الموضوع ، لأنه من المعلوم أنه لا يتحقق التناقض بين قضيتين الا بعد اجتماع الوحدات الثمانية التي منها وحدة الموضوع ، لكنه قد ضرب على هذه العبارة هنا في بعض النسخ خط المحو ، وقد ذكرنا نحن سابقا فساد هذا الكلام ، فانه لما كان موضوع الحكم الواقعي الذي هو مفاد الأدلة نفس الفعل أعم من أن يكون حكمه معلوما أو مظنونا أو مشكوكا أو موهوما أو مغفولا عنه بالمرة بناء على الصواب من مذهب المخطئة ، فلا جرم يكون الفعل في حال الشك في حكمه الذي هو موضوع الأصل بعض أفراد الموضوع الواقعي للدليل فاتحد الموضوع فيهما فيحصل التعارض بينهما.

قيل : ان وجه عدم التعارض بين الاصول والأدلة اختلاف المحمول فيهما دون الموضوع ، لأن المحمول فى الاصول هو الحكم الظاهري الفعلي ، وفي الأدلة هو الحكم الواقعي الشأني وأحدهما ليس من سنخ الآخر حتى يتنافيا.

٢٧

__________________

وفيه : أن هذا الجواب مناسب لدفع التناقض المورد على جعل الأحكام الظاهرية كلية في قبال الأحكام الواقعية حيث انه عند الشك في الحكم الواقعى ليس الحكم الفعلي سوى مفاد الأصل ، والحكم الواقعي باق على شأنيته لم يصر فعليّا ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ؛ فان الحكم الواقعي الذي هو مفاد الدليل فعلي لحصول العلم به بالفرض ، ومفاد الأصل أيضا فعلي فيحصل التعارض بين حكمين فعليين فافهم.

وكفيف كان : لا كلام في تقديم الأدلة الاجتهادية على الاصول العملية ، إنّما الكلام والاشكال في وجه التقديم وقد مر في أوّل رسالة أصل البراءة الوجوه المذكورة فيه مفصلا ولا بأس باعادة الكلام فيها إجمالا فانه لا يخلو عن فائدة ، فنقول : ان فيه وجوها :

أحدها : الحكومة وتقرّر بوجوه :

الأوّل وما يستفاد من المتن هنا وفي رسالة أصل البراءة أيضا : وهو أن دليل حجية الأدلة الاجتهادية قد نزّل مؤدّاها منزلة الواقع المستلزم ذلك لتنزيل نفس الدليل منزلة العلم ، وهو ناظر بالنظر القصدي الى إلغاء الشك وآلغاء أحكام الشك من الاصول المجعولة فلذلك يقدم عليها.

الثانى : ما حكي عن تلميذ المصنف رحمه‌الله السيد المحقق الشيرازى رحمه‌الله : من أن دليل حجية الأدلة تنزّل نفس الأدلة منزلة العلم المستلزم لتنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، وهو ناظر الى الغاء الشك وأحكامه كما ذكر في التقرير الأول.

الثالث : ما مر منا عن قريب من كون الأدلة بملاحظة دليل حجيتها ناظرة الى أدلة الاصول بالنظر القهري ، بمعنى أن الشارع لما نزّل مؤدّى الدليل منزلة الواقع كان لازمه بحكم العقل رفع الشك وحكمه أعني تنزيلا وان لم يقصد المتكلم هذا المعنى بل لم يلتفت اليه أيضا.

وفي الكل نظر.

أما الوجه الأول فيرد عليه :

٢٨

__________________

أولا : النقض بأدلة الاصول بأن نقول : لو كان قوله : ( صدّق العادل واعمل بقوله ) ناظرا الى الاستصحاب الذي مؤدّاه نقيض قول العادل مثلا ويعني به ألغ الاستصحاب ، لكان دليل الاستصحاب أيضا ناظرا الى قوله : ( صدّق العادل ) ويستفاد منه ألغ قول العادل ، وأحدهما ليس بأولى من الآخر.

وثانيا : أنا نمنع كون مفاد ( صدّق العادل ) ألغ احتمال الخلاف وألغ الشك ناظرا الى أدلة الاصول ، ولو سلم افادته لالغاء الشك فانه يدل على الغاء الشك مقدمة للأخذ بمؤدى قول العادل وبمقدار ما يتوصّل به الى العمل بقول العادل لا الغاء الشك مطلقا بالنسبة الى الحكم المجعول للشك المخالف لقول العادل فانه في غاية البعد ، فافهم ذلك فإنه لا يخلو عن دقة.

وأما الوجه الثانى فيرد عليه :

أوّلا : أن ظاهر حجية الأدلة تنزيل مؤداها منزلة الواقع كما ذكره المصنّف لا تنزيل الدليل منزلة العلم.

وثانيا : على فرض التسليم أن تنزيل الطريق منزلة العلم ليس الا من حيث الطريقية ليس ناظرا الى أحكام موضوع العلم ورفع أحكام موضوع الشك.

وثالثا : أن قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين » أولى بدعوى يكونه في مقام اثبات اليقين في زمان الشك أعني تنزيلا بل هو مدلوله المطابقى ، فيعارض مقتضى الدليل المخالف له لو لم نقل بكونه أقوى في الافادة فتدبر.

فاذن أحسن وجوه الحكومة هو الوجه الثالث ومحصله : أن أدلة الطرق بلسانها تدل على أن مؤداها هو الواقع نفسه ، ومن المعلوم أن من أدرك الواقع لا يحصل له الشك ولا يجري في حقه أحكام الشك فكأن الدليل الاجتهادي بتعيينه الواقع كشف عن عدم موضوع الشك وأحكامه يعني تنزيلا ، والا فالشك متحقق بالوجدان وكأنه قال : لا تشك واعلم بأن الواقع كذا.

٢٩

__________________

الثانى : الورود ويقرّر بوجوه :

أوّلها : أن يقال ان الشك الذي قد علّق الحكم عليه في أدلة الاصول يراد منه التحيّر في مقام العمل ، وهو لا يتحقق الا اذا لم يكن هناك دليل والا فترتفع الحيرة بذلك الدليل ، ولازم ذلك أن يراد من العلم الذي جعل غاية لحكم الأصل أعم من العلم الوجداني والشرعي أعني الدليل الاجتهادي.

ثانيها : أن يقال : ان المراد من العلم المأخوذ غاية في أدلة الاصول أعم من الوجداني والشرعي ، ويلزم ذلك أن يكون المراد من الشك المعلق عليه حكم الأصل هو التحيّر وعدم طريق للعمل ، والفرق بينه وبين الوجه الأول ليس الا بالأصالة والفرعية في كيفية الاستفادة.

ثالثها : أن يقال : انه يفهم من سياق أدلة الاصول أن اعتبارها مقيد بصورة عدم وجود دليل كاشف عن الواقع ، والفرق بينه وبين الأولين : أن التصرّف في الأوّلين داخلي حيث حمل الشك والعلم على غير ظاهرهما ، وفي هذا الوجه من الخارج حيث جعل السياق قرينة على تقييد مفاد أدلة الاصول بما اذا لم يكن هناك دليل.

الثالث : التخصيص ويقرّر بوجوه :

أحدها : أن يقال ان التعارض حاصل بين أدلة الاصول وكل واحد واحد من الأمارات الواردة في الأحكام الخاصة ، ولا ريب في أنه اذا قيس كل دليل خاص الى أدلة الاصول يكون أخص مطلقا منها فيقدم لذلك. ولكن المصنّف في أوّل رسالة البراءة جعل التعارض بين أدلة الأمارات وبين الاصول لا نفس الأمارات ، فراجع وراجع ما علقنا عليه.

الثانى : أن يقال ـ بعد جعل التعارض بين أدلة الأمارات والاصول ـ : ان تخصيص الاصول بأدلة الأمارات تخصيص حسن ، أما تخصيص أدلة الأمارات بالاصول من تخصيص الأكثر فهو المستهجن ، اذ قل ما يكون مورد من موارد الأمارة لا يجري فيه أصل تعبدي فلا جرم يقدم الأوّل على الثاني.

٣٠

__________________

الثالث : أن يقال : ان عموم أدلة الأمارات لأفراد العام مرآتي بمعنى أن عنوان العام ليس موردا للحجة بل الحجة نفس المصاديق الخاصة ، وانّما ذكر عنوان العام لأجل كونه مرآة لها كاشفا عنها ، وكل عام كذلك يكون نصا في مدلوله ، فلا جرم يقدم على ما يعارضه من الظواهر. ولا يخفى ما فيه من منع الصغرى أولا والكبرى ثانيا » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٤٣٢ ـ ٤٣٦.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس سره :

« أقول : محطّ النظر في هذا المبحث بيان أن الاصول العملية لا تعارض الأدلة الاجتهادية ، حيث أن الاصول العملية عبارة عن القواعد العقلية أو النقلية أو المقررة للجاهل بالأحكام الشرعية الواقعية ، فهي لا تصلح معارضة للأدلة الرافعة للجهل بالواقع حقيقة أو حكما ، كما أوضحه المصنف رحمه‌الله ، فما صدر من كثير من الأعلام في كثير من المقامات من جعل الاصول العملية معارضة للأدلة الاجتهادية ، أو معاضدة لها ، إمّا غفلة منهم ، أو مبني على اعتبار الاصول لديهم من باب الظن ، أو غير ذلك من المحامل.

وكيف كان فقد ظهر ـ بما أشرنا اليه في توضيح مرام المصنف « رحمه‌الله » ـ اندفاع ما قد يتوهم من أنه يرد عليه : أن النسبة بين المتعارضين إنّما تلاحظ بين ذوات الأدلة التي حصّلها المجتهد ، لا بوصف اطلاعه عليه ، لأن هذا الوصف لم يؤخذ قيدا في موضوع الأحكام الواقعية ، وحيث أن موضوعها أعم من صورتي العلم والجهل ، فلا يجدي تقييد موضوع الاصول بصورة الجهل في دفع المعارضة ، فان حكم الشارع بحرمة العصير ونجاسته على الاطلاق ، يعارض حكمه بطهارته وحليته مع الجهل ، غاية الأمر أن أحد المتعارضين أخص من الآخر ، وما لم يطلع المجتهد على حكم الشارع بحرمته ونجاسته ، لا يعلم بأن كل شيء حلال وطاهر ما لم يعلم حرمته ونجاسته مبتلى بالمعارض في خصوص المورد ، وبعد الاطلاع عليه يعلم بأن اطلاق الحكم الأوّل مع عموم الحكم الثاني متنافيان ، فلا بد في رفع

٣١

بيان المراد من الدليل الإجتهادي والفقاهتي والنسبة بينهما

__________________

المعارضة إمّا من الالتزام بعدم التضاد بين الأحكام مع اختلافها في المرتبة من حيث الفعلية والشأنية ، وتحقيقه موكول الى محله ، وقد تقدم بعض الكلام فيه فيما علقناه على أوائل أصل البراءة فراجع.

والحاصل : ان تقييد موضوع الاصول بالجهل لا يجدى في رفع المعارضة بينها وبين الأحكام الواقعية المخالفة لها ، وانما المجدي إنكار المضادة ، أو إنكار كون الأحكام الظاهرية أحكاما حقيقة ، كما لا يخفى.

توضيح الاندفاع : ان المقصود بالبحث عنه في هذا المقام ، انما هو بيان النسبة بين المتعارضين من حيث الدليلية ، لا من حيث الدلالة ، فلم يقصد المصنف رحمه الله بهذا الكلام تصحيح اجتماع الأحكام الظاهرية والواقعية المخالفة لها بالالتزام بتغاير موضوعيهما ، حتى يتوجه عليه ما ذكر ، فان هذا أمر أجنبي عمّا تعلق الغرض بالبحث عنه في هذا المبحث ، وإنّما المقصود في هذا المقام التنبيه على أن جعل الاصول معارضة للأدلة في مقام الإستدلال خطأ ، لأنه لا يجرى الأصل بعد الاطلاع على الدليل.

واما أنه كيف رخص الشارع في ارتكاب مشكوك الحرمة ، مع كونه في الواقع حراما ، فلتحقيقه مقام آخر ، وقد نبّه في بعض الحواشي المنسوبة اليه على أن وجه عدم المعارضة بين الأحكام الواقعية والظاهرية إنّما هو اختلافهما في المرتبة من حيث الشأنية والفعلية ، لا باختلاف الموضوع ، فان موضوعهما واحد.

ثم ان تسمية الأحكام الواقعية أحكاما شأنية ، إنّما بمقايستها الى الأحكام الفعلية المنجّزة على المكلّف ، التي لا يعذر في مخالفتها ، وإلاّ فهي لدينا أحكام فعلية حقيقة ، ولكن المكلف بواسطة جهله بها معذور فى مخالفتها ما لم يكن عن تقصير ، كما لا يخفى » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٩١ ـ ٤٩٣.

٣٢

أقول : بعد التّعرّض لتعريف التّعارض وبيان المراد منه ، أراد التّعرض لتشخيص ما يوجد فيه هذا المعنى : من حيث وجوده بين مطلق الدّليلين أو الدّليلين المأخوذين بخصوصيّة وقيد ؛ فإنّهما قد يكونان اجتهاديّين ، وقد يكونان فقاهيّين ، وقد يكونان مختلفين وأيضا قد يكونان قطعيّين ، وقد يكونان ظنّيين ، وقد يكونان تعبّديّين ، وقد يكونان مختلفين ، فهذا الكلام في مباديء المسألة بعد الفراغ عن بيان حقيقة التّعارض.

فنقول : إنّ تحقيق القول في المقام وتوضيحه يقتضي التّكلّم في موضعين :

أحدهما : في بيان الحال من جهة التّقسيم الأوّل.

فنقول : المراد من الدّليل الاجتهادي : ما أنيط اعتباره بالكشف عن الواقع ظنّا ولو نوعا بناء على اختصاص الاجتهاد عندهم كما حقّقناه في بحث الاجتهاد والتّقليد سواء كان بمعنى الفعليّة على ما يقتضيه كلمات الأكثرين من الخاصّة والعامّة ، أو الملكة ، بتحصيل الظّن بالحكم الشّرعي أو ملكته فتحصيل القطع بالحكم الشّرعي خارج عن الاجتهاد موضوعا ، وإن كان العلم بالحكم الشّرعي الفرعيّ الحاصل من المقدّمات النّظريّة داخلا في الفقه عندهم على ما ينادي به تعريفهم للفقه.

والمراد من الدّليل الفقاهتي : الّذي يسمّى بالأصل في كلماتهم ، ويطلق عليه الدّليل مقيّدا ، كما أنّ الأوّل يطلق عليه الدّليل مطلقا ومقيّدا ما لم ينط اعتباره بالكشف ، سواء لم يكن كاشفا أصلا أو كان كاشفا ولم يلحظ في اعتباره ، فالمعتبر في الدّليل الاجتهادي أمران ينتفي بانتفاء أحدهما فالاستصحاب على القول بعدم إناطة اعتباره بالظّن داخل في الأصل وإن قيل بإفادته للظّنّ. ومنه يظهر : أنّ

٣٣

الأمارات الموضوعيّة خارجة عن الدّليل الاجتهادي موضوعا.

والمؤسّس لهذا الاصطلاح على ما وقفنا عليه : المحقّق الطّبري (١) في « شرح الزّبدة » وشاع في لسان الفريد البهبهاني قدس‌سره وتلامذته ومن هنا نسبه شيخنا الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) إلى الفريد البهبهاني وقد تقدّم وجه المناسبة في الجزء الثّاني من التّعليقة (٢).

ثمّ إنّ الأصل قد يكون شرعيّا صرفا كالاستصحاب ، وقد يكون عقليّا كذلك كالتّخيير بين الاحتمالين ، وقد يكون ذا وجهين وجهتين كالبراءة في وجه والاحتياط كذلك على ما أسمعناك شرح القول فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة (٣).

أمّا الدّليلان الاجتهاديّان : فلا إشكال في وقوع التّعارض بينهما في الجملة ؛ لأنّه إن كان اعتبارهما منوطا بالظّن النّوعي المطلق من دون اشتراط حصول الظّن منهما في القضايا الشّخصيّة ومن دون اعتبار عدم قيام الظّن على الخلاف ، فلا إشكال في وقوع التّعارض بينهما وإن كان اعتبارهما منوطا بحصول الظّن منهما في الوقائع شخصا ، فلا إشكال في عدم تصور التّعارض بينهما لاستحالة حصول الظّن بالنّقيضين أو الضدّين كما هو ظاهر ، فإن ارتفع الظّن منهما فلا يكونان دليلين وحجّتين وإن بقي في أحدهما فيعود سليما عن المعارض.

ومن هنا تبيّن : أنّه لا يمكن التّعارض بين الأمارات على القول باعتبارها

__________________

(١) العالم الفاضل المولى محمّد صالح المازندراني صهر المجلسي الأوّل في شرحه على زبدة الشيخ البهائي ( قدس أسرارهم ).

(٢) بحر الفوائد : ج ٢ / ٤.

(٣) بحر الفوائد : ج ٢ / ٨.

٣٤

من باب الظّن المطلق على القول باختصاص نتيجة الدّليل لحجّيّة الظّن في الفروع مع القول بكون النّتيجة هي حجّيّة الظّن الشّخصي ، إلاّ إذا فرض ارتفاع الظّن الشّخصي من إحدى الأمارتين لا من جهة المعارضة ، بل من جهة القياس القائم على خلافها ، أو سائر الظّنون الغير المعتبرة بالخصوص بناء على القول بحجيّتها فيما إذا ارتفع الظّن منها من جهة المقابلة المزبورة ـ على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة ـ فإنّ النّتيجة حينئذ الظّن الشّأني والنّوعي فيعارض مع الأمارة المفيدة للظّن في الشّخصي في المسألة فيما إذا لم يستند حصول الظّن منها بالقياس ولو بالاستناد النّاقص بأن يكون جزءا للسّبب المفيد للظّن فتأمّل (١).

نعم ، على القول بتعميم النّتيجة من الجهتين أو إحداهما فضلا عن القول باختصاص النّتيجة بالمسائل الأصوليّة يقع التّعارض بينهما جدّا ، فإطلاق القول بعدم إمكان وقوع التّعارض على القول باعتبار الأمارات من باب الظّن المطلق في كلام غير واحد منظور فيه ، اللهمّ إلاّ أن يحمل على الصّورة الأولى فإنّها المعروفة المعهودة من كلماتهم فتدبّر.

وممّا ذكرنا تبيّن : أنّه لا يمكن التّعارض بين الدّليلين اللّفظيّين إذا قلنا باشتراط اعتبار الظّواهر بحصول الظّن بالمراد منها شخصا على ما بنى عليه الأمر بعض أفاضل من تأخّر في باب « الألفاظ » على القول باعتبارها من باب الظّن الخاصّ ـ كما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة ـ وإن كان اعتبارهما منوطا

__________________

(١) الوجه في التأمّل : الإشكال في حكم العقل بحجيّة الظّن النوعي في الفرض ، وإن حكم بحجيّته في صورة عدم المعارض مع الأمارة المعتبرة. منه دام ظلّه.

٣٥

بعدم قيام الظّن على الخلاف ، فإن أخذ القيد على وجه الإطلاق فلا إشكال في عدم إمكان التّعارض ، وإن أخذ على وجه التّقييد بالظّن الشّخصي فإن ارتفع الظّن منهما بالتّقابل فيقع التّعارض بينهما لا محالة ، وإن بقي الظّن في أحدهما عاد سليما لانتفاء شرط الاعتبار في الآخر كما هو المفروض.

وإن كان الدّليلان الاجتهاديّان مختلفين من حيث عنوان الاعتبار من الجهات المسطورة فالنّوعي المطلق يعارض القسمين الأخيرين والنّوعي المقيّد لا يعارض الشّخصي مطلقا سواء فرض حصول الظّن منه على ما هو المفروض أو عدمه كما هو ظاهر هذا.

وأمّا الأصلان فلا يقع التّعارض بينهما على ما هو التّحقيق عندنا في الأصلين الحكميّين سواء كانا من جنسين أو من جنس واحد كالاستصحابين ؛ فإنّ الاستصحاب وارد على الأصول العقليّة وحاكم على الأصول الشّرعيّة ولا يتصوّر اجتماع البراءة موردا مع الاحتياط والتّخيير كما لا يتصوّر اجتماع فردين من هذه الأصول.

نعم ، قد يتوهّم التّعارض بين أصالة الاشتغال أو استصحابه وأصالة البراءة في دوران الأمر في المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ، وكذا بينهما في مسألتي النّقض السّهوي والزّيادة بين قيام الإجماع على اتّحاد حكمهما من حيث الإبطال والصّحة بناء على عدم جواز الفصل ظاهرا فيما لا فصل فيه واقعا ، لكن تقدّم فساد التّوهّم المزبور بما لا مزيد عليه في الجزء الثّاني من التّعليقة.

وأمّا الاستصحابان فلا يتصوّر اجتماعهما في الشّبهة الحكميّة ، إلاّ في مسألة المتمّم والمتمّم وأشباهها بناء على عدم اعتبار سبق الكرّيّة في الاعتصام بعد قيام

٣٦

الإجماع على اتّحاد حكم الماء الواحد طهارة ونجاسة ، فقد يتوهّم في المسألة : تعارض استصحابي الطّهارة والنّجاسة والرّجوع إلى قاعدة الطّهارة بعد تساقطهما أو التّرجيح بها ، ولكنّه فاسد أيضا بعد جعل النّاقض في باب الاستصحاب الأعمّ من اليقين التّفصيلي والإجمالي بارتفاع الحالة السّابقة عن مجرى أحد الاستصحابين ، مع أنّ القول بالتّساقط في تعارض الأصول فيما يحكم فيه بالتّساقط لا بدّ وأن يرجع إلى عدم شمول الدّليل لصورة التّعارض كما هو الشّأن في كلّ ما يحكم فيه بالتّساقط ؛ فإنّه لا بدّ وأن يرجع إلى ما ذكرنا في تساقط الأصول على ما ستقف عليه عن قريب هذا في الأصول الحكميّة.

وأمّا الأصول الموضوعيّة وإن كان الكلام فيها خارجا عن محلّ البحث فيتصوّر فيها التّعارض كما يتصوّر الورود والحكومة ولو بين الجنسين منها ؛ فإنّ قاعدة الشّك في التّجاوز وبعد الفراغ وبعد خروج الوقت أخصّ من الاستصحاب ، وكذا البناء على الأكثر في الشّك في الرّكعات على القول بكون مقتضى الأصل البناء على الأقلّ وإن كان فاسدا عندنا على ما أوضحنا القول فيه في باب الخلل ، فإذا لم يكن المخصّص قطعيّا فيقع التّعارض بينهما لا محالة على ما ستقف عليه وإن تعيّن العمل بالخاصّ من باب التّرجيح.

نعم ، لا يتصوّر التّعارض بينهما إذا كانت من جنس واحد على ما هو التّحقيق عندنا : من كون الغاية في الأصول العلم بالخطاب المنجّز الأعمّ من الإجمالي والتّفصيلي ، بل على القول بكون الغاية فيها خصوص العلم التّفصيلي لا يتصوّر التّعارض بينهما أيضا كما هو ظاهر ، فالاستصحابان الجاريان في الموضوعات مثلا : إمّا أن يكون الشّك في مستصحب أحدهما مسبّبا عن الشّك في

٣٧

مستصحب الآخر ، أو يكون الشّك فيهما مسبّبا عن ثالث. وعلى الأوّل : لا إشكال في عدم تعارضهما وحكومة الثّاني على الأوّل. وعلى الثّاني : يعمل بكلّ منهما إذا ترتّب عليهما أثر شرعيّ لا يلزم من ترتيبه مخالفة عمليّة للخطاب المعلوم بالإجمال فلا مورد للتّعارض في هذا الفرض ، وبما له أثر إن لم يترتّب الأثر على كلّ واحد منهما ، بل على أحدهما فلا يفرض التّعارض في الفرض أيضا ، ولا يعمل بشيء منهما فيما لو عمل بهما مع ترتّب الأثر عليهما لزم طرح الخطاب المعلوم إجمالا من جهة حصول الغاية وهو اليقين والعلم هذا وقد مضى شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الثّالث من التّعليقة فراجع ، هذا بعض الكلام في الاجتهاديّين والفقاهيّين.

وأمّا المختلفان أعني : الدّليل والأصل فلا يتصوّر التّعارض بينهما فضلا عن تقديم الثّاني على الأوّل في الشّبهة الحكميّة على ما هو المقصود بالبحث والكلام.

وأمّا الأمارات القائمة على الموضوعات الخارجيّة مع الأصول الجارية فيها فنتكلّم فيها بعد الفراغ عن بيان حكم الدّليل والأصل في الأحكام.

والوجه فيما ذكرنا : من عدم تصوّر التّعارض بينهما في الأحكام بعنوان الأصل الجاري في المسألة إن كان عقليّا محضا كالتّخيير بين الاحتمالين والبراءة والاحتياط ـ على ما هو الحقّ عندنا المبرهن عليه في الجزء الثّاني من التّعليقة :

من رجوع ما ورد فيهما في الشّرع من الأدلّة النّقليّة إلى تأكيد حكم العقل بهما في مواردهما ـ فلا إشكال في عدم تصوّر التّعارض بينه وبين الدّليل الموجود في مورده ؛ ضرورة ارتفاع موضوع حكم العقل فيها بوجود الدّليل وإن كان ظنيّا ؛ لأنّ الموضوع في التّخيير هو عدم ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ، وفي البراءة

٣٨

عدم البيان الواصل إلى المكلّف من الشّارع بحيث يرجع العقاب معه إلى العقاب من دون حجّة من الشّارع ، وفي الاحتياط احتمال العقاب والمؤاخذة على الواقع المحتمل لا عدم العلم بالواقع والشّكّ فيه.

ومن المعلوم ضرورة ارتفاع تلك الموضوعات العقليّة بعد قيام الدّليل الشّرعي على الحكم في المسألة ، وهذا هو المراد من الورود في كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه العالي ) ، وإن أطلق عليه الحكومة في لسان غير واحد من المتأخّرين : من جهة عدم الفرق عندهم بينهما ولا مشّاحة ، ويطلق عليه التّخصّص في لسان شيخنا أيضا ، وإن كان التّخصّص عنده أعمّ من الورود : من حيث شموله لما لا يشمل مورد الدّليل الآخر في نفسه وابتداء وإن كان منظورا فيه ، إلاّ أنّه لا مشاحّة ، فالدّليل والأصل العقلي لا يجتمعان في مورد وموضوع واحد حتّى يتصوّر التّعارض بينهما.

وإن كان الأصل شرعيّا كالاستصحاب بناء على التّمسّك فيه بالأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك وعدم تنزيلها على صورة حصول الظّن كما زعمه بعض ؛ إذ على التّمسّك فيه بالعقل يخرج عن الأصول ويدخل في الأدلّة ، وإن كان تعليقيّا بالنّسبة إلى غالب الأدلّة الظّنيّة فلا يتصوّر التّعارض بينهما من حيث كون دليل اعتبار الأمارة القائمة في المسألة شارحا لما أثبته الأصل ودلّ عليه ومفسرا له وحاكيا عنه : من حيث دلالته على عدم الاعتناء باحتمال كونه مخالفا للواقع وترتيب آثار الواقع عليه ، فمؤدّاه واقع بنائي بمقتضى دليل اعتباره ، فكلّما ترتّب شرعا على احتمال مخالفة الدّليل للواقع لو لا اعتباره وهو الرّجوع إلى الأصل يحكي دليل اعتباره عن كونه ملغى في نظر الشّارع ، كما يدلّ على ترتيب الآثار

٣٩

الشّرعيّة المترتّبة على الواقع على مؤدّى الأمارة فهو بمنزلة الواقع.

كما أنّ الاحتمال بمنزلة عدمه في حكم الشّارع فيكون دليل اعتبار الأمارة ناظرا إلى دليل الأصل وشارحا عنه وهذا هو المراد بالحكومة ولا يعتبر فيها تأخّر الحاكم عن المحكوم ، كما ربّما يتوهّم من بيان شيخنا في « الكتاب ».

ومن المعلوم أنّ الحاكم بالمعنى المذكور لا يعدّ في العرف معارضا للمحكوم ومنافيا له ، فيكون تقدّمه عليه في نظر العرف تقدّما ذاتيّا لا لمكان التّرجيح وإن كان أضعف الظّنون المعتبرة.

ومن هنا يقدّمون ما دلّ على نفي الحرج والضّرر على أدلّة الأحكام من غير ملاحظة تعارض وترجيح ، وهذا يكشف عن التّقدّم الذّاتي وإن زعم بعض خلاف ما ذكرناه ، هذا فيما كان الدّليل ظنّيّا ولو كان قطعيّا فتقديمه على الأصل من باب الورود مطلقا.

ثمّ إنّ الحكومة بالمعنى المذكور إنّما هو فيما لوحظ فيه حال الدّليلين ، وإلاّ فالحكومة قد توجد بين فردين من جنس واحد كالاستصحابين في الشّك السّببي والمسبّبي فلا يكون هناك دليلان يكشف أحدهما عن الآخر كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ افتراق الحكومة عن الورود لا يكاد يخفى على أحد ، وأمّا افتراقها عن التّخصيص فيما كان الخاصّ ظنّيّا من جميع الجهات ، فإنّما هو في مجرّد التّرتّب والتّعبير ، وإلاّ فهو تخصيص في المعنى ورافع لحكم الموضوع واقعا. ومن هنا ذكر شيخنا الأستاذ العلاّمة في « الكتاب » : أنّها تخصيص في المعنى بعبارة التّفسير ، فكلامه هذا منزّل على الخاصّ الظّني من جميع الجهات حتّى لا ينافي ما يفيده بعد ذلك في شأن العامّ والخاصّ.

٤٠