بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

وحاصل ما ذكره الأستاذ العلاّمة « دام ظلّه » في دفع هذا الإيراد :

هو أنّ التّفصيل في الاستصحاب بين الأحكام العقليّة والشّرعيّة :

إن كان على تقدير القول به من باب الظّن فهو ممّا لا معنى ولا محصّل له ولا مدفع لما أورد عليه ؛ لما قد عرفت : أنّ الشّك في الحكم لا بدّ من أن يكون مستندا إلى الشّك في العلّة دائما سواء كان الحاكم به الشّرع ، أو العقل لقضيّة صريح العقل بذلك في جميع الموجودات.

ومعلوم عدم تطرّق التّخصيص في القضايا العقليّة ، فمع الشّك في العلّة لا يمكن الظّن بالحكم المعلول لها سواء كان من الأحكام الشّرعيّة ، أو العقليّة ، وإلاّ لزم تجويز التفكيك بين العلّة والمعلول وهو غير جائز ، وإن فرض الظّن بالعلّة في الزّمان الثّاني بملاحظة الغلبة في استمرار الموجودات ، أو القول : بأنّه يظنّ من نفس الوجود في السّابق من حيث إنّ العلّة المحدثة هي العلّة المبقية ، فيظنّ من

__________________

له حينئذ إلاّ نظر الحاكم ، وقد تنبّه الأستاذ ١ لهذا المعنى في بحث القطع حيث صرّح بانّه حيث أخذ القطع في الموضوع ففي قيام الأدلّة والأصول البرزخيّة مقامه الذي هو من خواص المأخوذ في الموضوع على وجه الطّريقيّة وعدمه الذي هو من لوازم المأخوذ فيه من حيث انه قطع لا من حيث انه إنكشاف يرجع إلى الشارع.

ومن الواضح انه لا ضابط في العرف لموضوعات أحكام الحكّام فهل يريب أحد في انه لو شك في كون الواجب هو الجلوس مطلقا أو المقيّد بكونه في المكان الخاص أو الكيفيّة المخصوصة لا سبيل إلى كشفه إلاّ الرّجوع إلى الحاكم.

نعم ، لو كان هناك دليل لفظي مطلقا فالعرف يستفيد منه ان الموضوع هو الخالي عن القيد وأين هذا مما نحن فيه الذي هو الرّجوع إلى العرف في استكشاف موضوع مغاير لما يعلم بانه هو الموضوع في نظر الحاكم! » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ١٠٨ ـ ١٠٧.

١٢١

جهته ببقاء الحكم المعلول له ، فيرتفع الشّك الحاصل ابتداء لم يكن أيضا فرق بين الحكمين.

وإن كان على تقدير القول به من باب الأخبار كما هو المقصود في المقام حسب ما سيجيء : من عدم الدّليل عليه غير الأخبار الواردة من الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام فهو ممّا لا ضير فيه ، ولا يمنع منه ما هو المقرّر في محلّه : من حديث تبعيّة العقل للشّرع وعدم انفكاكه عنه.

والدّليل على ما ذكرنا على وجه التّوضيح ـ وإن كان يمكن استفادته من مطاوي ما قدّمنا لك ـ : هو أنّ قاعدة التّطابق والتّلازم بين الحكمين لا يقتضي إلاّ كون العلّة والمناط في حكم الشّرع هو المناط في حكم العقل بمعنى : كونه موجبا للحكم عنده على تقدير اطّلاعه عليه تفصيلا ، وأمّا اقتضاؤها كون الموضوع في القضيّة الشّرعيّة هو نفس المناط والعلّة كما في القضيّة العقليّة فلا.

غاية الأمر : كون المناط متصادقا مع الموضوع في القضيّة الشّرعيّة في الزّمان السّابق ، فالموضوع في القضيّة الشّرعيّة أعمّ ممّا هو المناط له واقعا ، فلنا في القضيّة الشّرعيّة أشياء ثلاثة : المناط والموضوع والحكم. والثّاني أعمّ من الأوّل لا بمعنى : أنّه يوجد مع القطع بانتفاء المناط ، كيف؟ وهو ممّا لا يعقل مع فرض الشّك في الحكم المسبّب عن الشّك فيه ، بل بمعنى : أنّه يمكن مع القطع بالثّاني الشّك في الأوّل ؛ فإنّه قد يترتّب الشّارع الحكم في القضيّة على ما هو باق في زمان الشّك قطعا ، مع فرض الشّك في وجود العلّة والمناط ، فيصدق : أنّ ما هو الموضوع في الأدلّة الشّرعيّة باق قطعا ؛ لأنّ الموضوع فيها ليس إلاّ ما حكم الشّارع عليه في القضيّة بكونه معروضا للحكم.

١٢٢

وهذا بخلاف القضيّة العقليّة ؛ فإنّ الموجود فيها شيئان : موضوع ، ومحمول. وأمّا العلّة فهي عين الموضوع فيها وليست شيئا آخر. والسّر فيه : أنّ القضايا العقليّة كلّها قضايا لبّيّة يحكم العقل فيها بنفس ما هو المناط الأوّلي للحكم ، فالمعروض لحكمه ليس إلاّ نفس ما هو المناط للحكم أوّلا ، الّذي لا يعقل له تركّب في هذا العالم ولا رافع له ، بل هو أمر بسيط وحدانيّ ، وإن عرض له التّركيب في عالم التّحليل.

ومثل حكم العقل من الجهة المذكورة : حكم الشّرع النّفس الأمري المعبّر عنه في لسان جماعة بالإرادة النّفسانيّة ؛ فإنّه أيضا لا يعرض إلاّ الموضوع الأوّلي والمناط الحقيقي ؛ ضرورة أنّ العالم بالغيب لا يتعلّق إرادته إلاّ مما هو العلّة الأوّليّة ، فهذا الحكم الشّرعي كالعقلي يكون الشّك فيه دائما : من جهة الشّك في بقاء الموضوع.

ومن هنا اتّفقت كلمتهم ظاهرا : على امتناع النّسخ الحقيقي في الأحكام الشّرعيّة ، إلاّ أنّ هنا حكم شرعيّ آخر تعلّق بما هو الموضوع في الأدلّة الشّرعيّة ، وهذا الموضوع يمكن أن يكون أعمّ من المناط الواقعي بالمعنى الّذي عرفته ؛ إذ لم يقض دليل على كون الواجب على الشارع جعل الموضوع في القضايا المبنيّة فيها الأحكام للعباد ظاهرا هو نفس ما هو العلّة للحكم ، ففرض إحرازه والحكم ببقائه يجمع مع الشّك في وجود المناط في الزّمان الثّاني ، فيحكم بمقتضى أخبار الاستصحاب بعد فرض تحقّقه موضوعا على الالتزام بالحكم المتيقّن سابقا من باب التّعبّد.

والقول : بأن مقتضى حكم الشرع تعبّدا بوجوب الحكم ببقاء الحكم يستلزم

١٢٣

حكمه بوجوب الحكم تعبّدا ببقاء العلّة له ؛ من حيث عدم جواز التّفكيك بين العلّة والمعلول في جميع الشّؤون والعوالم ممّا لا يجدي شيئا ولا ينفع للخصم أصلا ؛ من حيث إنّ كلامنا في امتناع تحقّق الاستصحاب موضوعا في القضايا العقليّة. وما ذكر على فرض صحّته ممّا لا دخل له به أصلا كما لا يخفى.

(٢٥) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو علم هذا المناط (١) ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٩ )

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : ( لو علم مناط هذا الحكم ... )

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : حاصل مراده ـ على ما يشهد به التأمّل في مجموع كلامه خصوصا تعريفه الّذي سيذكره فيما بعد ـ : أنّه لو علم أنّ مناط هذا الحكم الشّرعي وعنوانه يعني موضوعه هو الشّيء الّذي علق عليه الحكم في حكم العقل يعني لو علم اتّحاد الموضوع والمناط في حكم الشّرع والعقل كما في الشّرعيّات المستكشفة من حكم العقل لم يجر فيه الإستصحاب.

ولكنّك خبير بما في العبارة من القصور والإجمال ، فإنّ ظاهرها منع جريان الاستصحاب فيما لو علم مناط حكم العقل وموضوعه تفصيلا مطلقا وهو غير مقصود بحسب الظّاهر ، وإلاّ لا يلتئم أجزاء العبادة بعضها مع بعض.

وكيف كان فالتحقيق : ما عرفت فيما تقدّم : من أنّ ملاك جريان الاستصحاب بقاء موضوع الحكم الشرعي عرفا ، وهذا إنّما يتحقّق فيما إذا كان بين المناط وعنوان الموضوع مغايرة بالنّظر إلى ظواهر الأدلّة وحكم العرف سواء علم بالمناط تفصيلا كما لو قال الشّارع : ( حرّمت الخمر ) وعلم أنّ علّته الإسكار ، فشكّ في بقاء حرمتها لأجل الشكّ في بقاء مناطها أو لم يعلم.

نعم ، لو علّق الحكم على ما هو الموضوع في الحكم العقلي لم يجر فيه الإستصحاب كما

١٢٤

أقول : أراد بذلك أنّه بعد العلم التّفصيلي بالمناط يصرف الحكم إليه فيصير هو الموضوع والمعروض لحكم الشّرع أيضا. فإذا شكّ في بقائه فيرجع الشّك فيه إلى الشّك في الموضوع المانع من تحقّق موضوع الاستصحاب ، كما لو قال :حرمت الخمر لكونه مسكرا ، فيعلم منه : أنّ معروض الحرمة هو نفس عنوان المسكر ، ولكنّه لمّا كان متصادقا مع الخمريّة حكم بحرمة الخمر هذا.

ولكنّك خبير بضعف ما ذكره « دام ظلّه » ؛ فإنّا لا نعقل الفرق بين العلم التّفصيلي بالمناط والموضوع الأوّلي المعلّق عليه الحكم عند العقل والعلم الإجمالي ، كما في صورة عدم تصريحه بالعلّة وعدم العلم التّفصيلي بها من الخارج أيضا ؛ فإنّ العقل إن استقلّ : بأنّ الموضوع في القضيّة الشّرعيّة لا بدّ أن يكون هو المناط الأوّلي فيبطل بناء عليه التّفصيل المتقدّم المبنيّ على إنكار هذا ، ولم يفرّق بين العلم التّفصيلي المناط والعلم الإجمالي به كما لا يخفى. وإن لم يستقلّ بذلك ، بل جوّز كون الموضوع في القضيّة الشّرعيّة غير المناط الأوّلي كما هو الحقّ المشاهد بالوجدان فلا معنى لصرف الحكم عنه بعد العلم بالمناط وهذا أمر لا سترة فيه عند ذوي الأفهام المستقيمة هذا.

__________________

لا يخفى » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الاصول : ٣٢٥.

* وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« قد عرفت بما لا مزيد عليه : انّ ما علّق عليه حكم العقل من المناط والعنوان ، فانّما هو مناط كشف الحكم الشّرعي عندنا ، وأمّا مناطه عند الشّارع فيمكن بقاؤه الآن على ما كان ، فظهر انّ الإستصحاب انّما لا يجري في الأحكام العقليّة ، وأمّا الشّرعيّة المستندة إليها فحالها حال سائر الأحكام ، ولا وجه للتفصيل بينها بحسب الدليل » إنتهى.

انظر درر الفوائد : ٣٠٠.

١٢٥

ويحتمل أن يكون المراد من العبارة : الإشارة إلى الحكم المستكشف من القضيّة العقليّة فيخرج عن مفروض البحث ، فلا يتوجّه عليه شيء فتأمّل.

(٢٦) قوله : ( ولا في الأحكام الشّرعيّة المستندة إليها سواء كانت وجوديّة أو عدميّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٩ )

في انّ العدم المستند ، حكمه حكم الوجود المستند

أقول : الوجه فيما ذكره : من تعميم عدم الجريان ، ممّا لا خفاء فيه لوجود ما ذكرنا من دليل المنع في جميع الصّور وعدم اختصاصه ببعضها ، فالعدم المستند إلى القضيّة العقليّة كالوجود المستند إليها في كون الشّك في كلّ منهما في أيّ زمان فرض لا بدّ من أن يكون مستندا إلى الشّك في وجود الموضوع والمعروض له في عالم اللّب ، فلا يوجد الاستصحاب موضوعا في كلّ منهما. كما أنّه لا إشكال في تحقّق الاستصحاب بحسب الموضوع لو كان العدم مستندا إلى القضيّة الشّرعيّة كما في الوجود المستند إليها.

وممّا ذكرنا يظهر : فساد ما صدر عن بعض الأصحاب : من إجراء الاستصحاب في العدم المستند إلى القضيّة العقليّة كاستصحاب عدم وجوب بعض الأجزاء الثّابت بحكم العقل في حقّ ناسيه بعد الالتفات إليه ، واستصحاب عدم تنجّز الحكم الواقعي في حقّ من كان غافلا عنه آتيا بما يعتقد كونه المأمور به كما في الجاهل المركّب بعد زوال الغفلة.

إذ من المعلوم : أنّ حكم العقل بعدم الوجوب في المقامين ؛ إنّما كان من جهة العذر وعدم قابليّة المكلّف لتوجّه الخطاب إليه وعدم قدرته على الامتثال ، وبعد

١٢٦

زوال هذا العنوان لا معنى للحكم ببقاء عدم الوجوب ، وارتفاع الحكم الواقعي الّذي لم يوجد إلاّ المانع عن تنجّزه وارتفاعه بحكم الفرض هذا.

مع أنّه لو قلنا بجريان الاستصحاب فيما إذا شكّ في بقاء الموضوع العقلي لم يعقل القول به في المقام ؛ من حيث القطع بارتفاع الموضوع فيه ؛ لأنّ الموضوع فيه حسب ما عرفت : هو المكلّف الغير القابل لتوجّه الخطاب إليه ، ومعلوم ارتفاع هذا الموضوع في صورة زوال الغفلة والنّسيان ، فالحكم بالإجزاء في المثالين من جهة الاستصحاب في غاية الضّعف.

وأضعف منه : الحكم به من جهة اقتضاء امتثال الأمر العقلي للإجزاء كما صدر عن آخر ؛ ضرورة عدم الأمر من جانب العقل في المورد المذكور بالنّسبة إلى المكلّف المزبور ، وإنّما الصّادر منه الحكم بمعذوريّته وسقوط الأمر الفعلي عنه ، وهذا أمر ظاهر قد فصّلنا القول فيه في محلّه. وقد عرفت بعض الكلام فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة.

نعم ، فيما قام هناك دليل في الشّرعيّات على عدم وجوب الإعادة على النّاسي كما في غير الأركان من أجزاء الصّلاة مثلا إذا حصل الالتفات بعد التّجاوز عن محلّ التّدارك ، يحكم بحصول الغرض من الأمر بالمركّب التّام فلا مقتضي للأمر حينئذ بالنّسبة إلى النّاسي ، فيرتفع الأمر عنه بحسب الواقع وإن لم يحدث بسبب النّسيان أمر بالنّسبة إلى ما أتى به على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة ، لكنّه لا تعلّق له بحكم العقل ولا بحكم الشّرع المستكشف عنه ، بل ولا بحديث رفع التّسعة على ما أسمعناك هناك.

(٢٧) قوله : ( وأمّا إذا لم يكن العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ...

١٢٧

إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٤٠ )

__________________

(١) قال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : توضيح المقام : أنّ لكلّ واحد من الأعدام عللا متعدّدة بعدد أجزاء علّة الوجود وشرائطه الّتي منها عدم الموانع ؛ لأنّ فقد كلّ شرط أو جزء ممّا اعتبر في علّة الوجود علّة تامّة لانتفاء ذلك الشيء ، فهذه العلل قد تتوارد على موارد وقد لا يوجد منها الاّ بعضها.

فهذا البعض إن كان من قبيل الأعذار العقليّة الموجبة لقبح التكليف وكان السبب منحصرا فيه كعدم وجوب الصلاة على الغافل الواجد لشرائط التّكليف ما عدا عدم الالتفات وكعدم وجوب إزالة النّجاسة عن المسجد على من تضيّق عليه وقت الحاضرة الّتي هي أهمّ فعند ارتفاع القضيّة العقليّة امتنع جريان الاستصحاب فيها كما عرفت.

وأمّا إذا لم ينحصر سببه في القبح العقلي كالتّكاليف المنتفية في حال الصّغر فلا مانع عن جريان الاستصحاب فيها لا بمعنى استصحاب العدم الخاصّ الذي كان العقل حاكما به بل مطلق العدم الّذي استقلّ العقل به في بعض أحواله فلا يتطرّق إليه الخدشة بتبديل الموضوع.

والفرق بين العدم الخاصّ المسبّب عن عدم تمييزه الثّابت لموضوع غير المميّز وبين مطلق العدم المسبّب عن فقد المقتضي الثّابت له في حال عدم تميّزه من حيث هو لا من حيث كونه غير مميّز : إنّما هو بمجرّد الاعتبار الناشيء من إضافته إلى سبب خاصّ ، إذ لا تمايز في الأعدام من حيث هي فاستصحاب البراءة الأصليّة والعدم الأزلي بعينه استصحاب حال يصحّ استناده إلى القضيّة العقليّة في بعض أحواله فلا ضير في تسميته استصحاب حال العقل.

وهذا بخلاف ما لو كان المستصحب وجوديّا كما لو استقلّ العقل مثلا بوجوب ردّ الأمانات إلى أهلها على المستودع الغير المتضرّر بردّها وثبت بدليل آخر من غير جهة العقل وجوب الرّد عليه من غير أخذ عنوان غير المتضرّر قيدا في الموضوع كالآية ، فبعد ارتفاع القضيّة العقليّة وصيرورة الرّد مشكوك الوجوب بواسطة التضرّر أمكن إجراء استصحاب

١٢٨

__________________

الحكم الشّرعي المستفاد من الكتاب ولكنّه ليس استصحابا للحال الّذي كان العقل حاكما به في حال عدم التضرّر ؛ لأنّ الحال الّذي أدركه العقل هو الوجوب الخاصّ العارض لموضوع غير المتضرّر وهو غير الوجوب المحمول على ذات الشّخص المستفاد من الآية الشّريفة وامتياز كلّ منهما عن الآخر حقيقي لا اعتباري فهما مباينان بالذّات فلا يصحّ جعله من استصحاب حال العقل كأصالة البراءة والعدم الأزلي فليتأمّل » إنتهى.

حاشية فرائد الأصول : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« توضيح ذلك : انّ حكم العقل واستقلاله بعدم الخطاب بتحريم أو إيجاب من الشّارع تارة : يكون لعدم علّته ومقتضيه كالعدم الأزلي للممكنات ، فانّه لعدم تحقّق علّتها في الأزل ، وأخرى : يكون لأجل ما يقتضيه ويوجبه كالأسباب الموجبة لقبح الخطاب بالتّحريم أو الإيجاب ، كالغفلة والجنون ونحوهما الموجبة لرفعه عن الغافل والمجنون ونحوهما.

وبعبارة أخرى : انّ حكم العقل بعدم الخطاب مرّة يكون بمجرّد البرهان ، وهو امتناع حدوث الممكن بلا علة ، وأخرى بتوسيط الوجدان واستقلاله بقبح تكليف الغافل.

ومن لم يكن بمميّز وعاقل فالشّك في صدور الخطاب إن كان مسبّبا عن الشّكّ في حدوث سببه وعلّته ، فاستصحاب عدمه الأزلي فيما يزال بلا ريب ولا إشكال ، فإنّ عدمه فيه لعدم تحقّق علّته وهو العدم الأزلي ، وهو واضح.

وإن كان مسبّبا عن الشّكّ في ارتفاع ما يوجب قبحه ، فبناء على كون العقل هو الحاكم في إحراز الموضوع ، لا مجال لاستصحاب عدمه الثّابت في ذاك الحال للشّكّ في الموضوع بنظر العقل ، وبناء على كون الحاكم فيه العرف ، قد عرفت : انّه لا مانع من جريانه فيما كان الموضوع باقيا بنظره ولا يضرّ بجريان استصحاب عدمه الأزلي ما لم ينقطع بالقطع ان يكون هناك ما يوجب قبحه ، وقد ارتفع كاستصحاب البراءة الأزليّة بعد حصول التّميز.

١٢٩

في بيان تصوير القسمين في العدم دون الوجود

أقول : ما ذكره « دام ظلّه » ممّا لا سترة فيه بناء على ما عرفته سابقا ، وإنما الكلام في تصوير الفرق بين العدم والوجود ؛ حيث إنّ الأوّل يمكن أن يكون في مورد حكم العقل مستندا إلى غير القضيّة العقلية ، والثّاني لا يمكن أن يكون كذلك حسب ما هو صريح كلام الأستاذ العلاّمة المبتنى عليه دفع الاعتراض عن القوم ، وإلاّ لجرى مثل ما ذكره في الوجود الثّابت في مورد القضيّة العقليّة أيضا فيبقى الاعتراض بحاله.

فنقول : ملخّص الفرق بينهما هو : أنّ العدم يكفي في الحكم به انتفاء إحدى مقدّمات الوجود حيث إنّ انتفاء كلّ من مقدّمات الوجود سبب لانتفائه حسب ما هو قضيّة التّوقّف والمقدّميّة ، فيمكن على هذا أن يحكم العقل بالعدم في مورد من جهة اطّلاعه على انتفاء إحدى المقدّمات كعدم المانع ، ويكون العدم في الواقع مستندا إلى غيره كانتفاء المقتضي للوجود ، فيمكن أن يحكم العالم بالغيب في مورد حكم العقل بالعدم به ، لكن لا من الحيث الّذي حكم العقل به ، بل من جهة

__________________

وهم ودفع :

لعلّك تقول : انّ العدم الأزلي للتّكليف ، حيث انّه ليس بمجعول ، ولا ممّا يترتّب عليه أثر مجعول ، لا وجه لاستصحابه ، ولعلّك غفلت عن انّه فيما يزال مجعول ، وإلاّ لم يكن وجود فيه. قابلا له ، وإنّما المعتبر في صحّة الاستصحاب كون المستصحب كذلك في زمان بلحاظه ليستصحب ، لا في زمان القطع بثبوته فيه ، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل ، فتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٠٠.

١٣٠

اطّلاعه ووقوفه على عدم المقتضي للوجود.

فعلى هذا يجوز أن يصير علّة الحكم بالعدم متعدّدة بالنّظر إلى حاكمين ، وهذا بخلاف الوجود ؛ فإنّ الحكم به لا يمكن إلاّ بعد الوقوف على وجود جميع ما له دخل فيه : من المقتضي ، وعدم المانع. فإذا اطّلع العقل عليه في مورد وحكم بمقتضاه ، فلا يجوز أن يحكم الشارع عليه في هذا المورد من جهة أخرى ، وإلاّ لزم إمّا خطأ العقل في إدراكه ، أو جواز اجتماع العلل المتعدّدة على المعلول الواحد ، وكلاهما باطلان.

أمّا الثّاني : فظاهر ، وأمّا الأوّل : فلأنّه بعد قطع العقل بشيء فلا يمكن أن يجوز خطأه ، وإلاّ لم يكن قاطعا ، على أنّ الكلام مفروض في صورة عدم خطأه ؛ لأنّه في جواز تعدّد ما يصلح واقعا للحكم لا باعتقاد الحاكم ، فبناء على ما ذكر : إذا فرض في مورد القطع بانتفاء العلّة العقليّة في طرف الوجود يلزمه القطع بانتفاء أصل الوجود بقول مطلق.

لا يقال : ما ذكرته من لزوم أحد المحذورين في طرف الوجود على تقدير الالتزام بتعدّد علّة الحكم يلزم بعينه في طرف العدم على هذا التقدير أيضا. بيان الملازمة أنّ ما حكم العقل بالعدم من جهته : إمّا أن يكون في الواقع علّة للعدم ، أو لا. فعلى الأوّل : يلزم الثّاني ، وعلى الثّاني : يلزم الأوّل. والمفروض : أنّ البرهان على فساد المحذورين : هو برهان العقل الغير القابل للتّخصيص.

لأنّا نقول : لسنا ندّعي جواز استناد العدم في الواقع في مورد واحد إلى أشياء متعدّدة ، كيف؟ وهو مستحيل ، إلاّ أنّا ندّعي : أنّ علّة الحكم فيه يمكن أن يكون متعدّدة بالنّظر إلى حاكمين ، لا بمعنى اعتقاد كلّ منهما انحصار العلّة فيما

١٣١

حكم لأجله حتّى يلزم خطأ أحدهما ، بل بمعنى عدم حكم أحدهما إلاّ من جهة ما أدركه ، وإلاّ كان شاكّا في العدم.

فمعنى حكم العقل بالعدم ـ من جهة الوقوف على وجود المانع ـ : أنّه لو لم يقف عليه لما حكم به مع تجويزه كون العدم في الواقع مستندا إلى غير وجود المانع ، إلاّ أنّ الواسطة في علمه هو وجود المانع. وهذا بخلاف طرف الوجود ؛ فإنّ حكم العقل به لا يمكن إلاّ بعد الاطّلاع بالمناط الأوّلي بحيث لو فرض عدمه لما جوّز الوجود ، وإلاّ لزم عدم علّية ما حكم بعليّته. فالعلّة للحكم في طرف الوجود علّة للوجود دائما وليست هي مجرّد الواسطة في الإثبات كما في طرف العدم ، فمن تعدّدها يلزم تعدّد العلّة التّامة للشّيء وهو محال. هذا ملخّص ما يقال في وجه الفرق.

المناقشة على الفرق بين الوجود والعدم

ويمكن أن يورد عليه :

أمّا أوّلا : فبأنّ الحكم بجواز تعدّد سبب الحكم في طرف العدم بمعنى جواز كون الواسطة في علم العقل بالعدم غير ما هو مستند إليه العدم واقعا في مقام الفعليّة إنّما هو من حيث كون انتفاء كلّ من المقدّمات سببا للانتفاء ، فبعد وقوف العقل على انتفاء إحداها يحكم بالعدم ، وإن كان في الواقع مستندا إلى غيره بمعنى كونه سابقا في الانتفاء ، وهذا المعنى بعينه يوجد في طرف الوجود أيضا ؛ لأنّه قد يكون للشيء أسباب متعدّدة ومقتضيات مختلفة ، فيجوز أن يحكم العقل بالوجود من جهة العلم بوجود بعضها مع إحراز عدم المانع عنه مع كونه في الواقع مستندا إلى السّبب الآخر المتقدّم على السّبب الواقف عليه العقل بحسب الوجود. وهذا لا يرد

١٣٢

عليه شيء من المحذورين ، وإلاّ لورد على ما ذكر في طرف العدم.

لا يقال : انتفاء كلّ من المقدّمات لا يمكن أن يتخلّف عنه الانتفاء بخلاف وجود بعض الأسباب في طرف الوجود ؛ فإنّه يمكن أن يتخلّف عنه الوجود من جهة المانع.

لأنّا نقول : هذا المقدار من الفرق غير مجد بعد فرض علم العقل بعدم وجود المانع للمقتضي ، وتجويزه كون الوجود في الواقع مستندا إلى غيره من الأسباب الجامعة لعدم المانع لها.

فإن أريد كون انتفاء كلّ من المقدّمات علّة تامّة لأصل العدم بحيث لو وجد لوجد العدم من جهته ، وإن انتفى انتفى العدم من جهته ، فهذا أمر غير معقول قد بني في بيان الفرق على عدم معقوليّته ، بل العلّة التّامة في جانب انتفاء الانتفاء ليس إلاّ وجود علّة الوجود ، وفي طرف الانتفاء ما هو السّابق من المقدّمات بمعنى استناد العدم إليه فعلا وإن صلح انتفاء غيره له أيضا.

وإن أريد أنّ انتفاء كلّ منها في نفسه يقتضي العدم بمعنى : أنّه لو فرض سبقه لكان العدم الفعلي مستندا إليه لجرى مثله في طرف الأسباب المتعدّدة للوجود بعد أخذ خلوّها عن المانع. وبالجملة : كلّ ما تقول به في طرف العدم نقول : به في طرف الوجود أيضا حرفا بحرف.

وأمّا ثانيا : فبأنّ الفرق المذكور على تقدير صحّته إنّما يثمر في صورة القطع بانتفاء علّة الوجود ؛ فإنّه لا يمكن حينئذ إجراء الاستصحاب ؛ فإنّ القطع بانتفاء علّة الحكم يستلزم القطع بانتفائه. وأمّا في صورة الشّك فيه ، فيمكن القول بجريان الاستصحاب وتحقّقه موضوعا حينئذ ، ولو في بعض الصّور.

١٣٣

كما إذا كان الحكم في القضيّة الشّرعيّة غير متعلّق بالعلّة العقليّة المتّحدة مع العلّة الشّرعيّة بناء على ما تقدّم : من إمكان صيرورة الموضوع في القضيّة الشّرعيّة غير المناط الأوّلي.

نعم ، لو لم يكن هناك قضيّة شرعيّة أصلا ، أو كانت وكان الموضوع فيها نفس العلّة الأوّليّة لصحّ ما ذكر : من عدم تحقّق الاستصحاب موضوعا ولو في صورة الشّك.

ثمّ إنّ ما ذكرنا أخيرا إنّما هو مبنيّ على ما بنينا عليه : من أنّ العلم التّفصيلي بالمناط لا يوجب صرف الحكم إليه. وأمّا بناء على ما ذكره الأستاذ العلاّمة فلا ورود له أصلا كما لا يخفى هذا.

وقد ذكر الأستاذ العلاّمة « دامت إفادته » كلاما لدفع ما ذكرنا أوّلا قد بنى وجه الفرق فيه على غير الوجه المذكور ـ بعد ما خصّ الكلام بما لم يكن هناك قضيّة شرعيّة أصلا ـ وهو :

أنّ الأعدام لمّا كان تحقّقها محرزا في زمان عدم وجود الموضوع للمعدوم فبعد وجود موضوعه إذا حكم العقل بعدم انقلابه إلى الوجود واستمراره على ما كان عليه من جهة وجود المانع عنه في الموضوع ، فما كان متيقّنا في الزّمان السّابق معلوم الانتفاء في الزّمان اللاّحق. وما أريد إثباته لم يتيقّن ثبوته سابقا حتّى يمكن استصحابه في صورة انتفاء المانع العقلي للشّك في انقلابه إلى الوجود ؛ إذ لعلّ كان المقتضي للوجود غير موجود ، فيصدق الاستصحاب موضوعا.

والقول : بأنّ العدم المستند إلى عدم الموضوع غير العدم المستند إلى المانع

١٣٤

عن وجود المحمول ، فالشّك في الوجود الثّابت بالقضيّة العقليّة لا بدّ من أن يكون مسبّبا دائما عن الشّك في الموضوع ، وهذا بخلاف العدم ؛ فإنّه قد يمكن كون الشّك فيه من غير جهة الشّك في الموضوع ، ممّا لا يصغى إليه.

لما قد تقرّر : أنّه لا تمايز بين الأعدام. وهذا بخلاف الوجود فإنّه إذا أحرز بالعلّة العقليّة لا يمكن الحكم بأنّه استمرار للوجود ، وإن احتمل ذلك من حيث احتمال كونه مستندا إلى السّبب السّابق في نظر الشّارع ؛ إلاّ أنّ مجرّد الاحتمال لا يجدي في الحكم بالاستمرار كما لا يخفى. فعدم التكليف في حال الصّغر يمكن استصحابه بعد ارتفاع الصّغارة من حيث وجود الحالة السّابقة له في حال عدم وجود الصّغير.

غاية الأمر : أنّ الكاشف عن بقائه بعد الوجود واستمراره هو العقل ، وهذا لا يمنع من صدق الاستصحاب. وأمّا حرمة صدق الضّار في صورة الشّك في وجود الضّرر فلا يمكن استصحابها ، لأنّ الّذي كشف عنه العقل هو الحرمة فيما كان مضرّا ، وأمّا الحرمة مع قطع النّظر عن الضّرر فلم يستكشف عنها العقل ، وإن احتمل وجودها واقعا. هذا ملخّص ما ذكره « دام ظلّه العالي » وللنّظر فيه مجال واسع.

ويكفي في ردّه أنّه « دام ظلّه » قد أورد على كثير ممّن تمسّك بهذا النّحو من الأصل في جملة من المقامات الّتي لا يسع ذكرها هذا المضمار هذا.

ويمكن التفصّي عمّا أوردنا أوّلا بوجه آخر ، وهو : أنّ فرض تعدّد السّبب والمقتضي وإن كان ممكنا في طرف الوجود بقول مطلق ، بل واقعا كما نشاهد بالعيان والوجدان ، إلاّ أنّ فرض تعدّده بالنّسبة إلى الأحكام الشّرعيّة المسبّبة عن

١٣٥

المصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال في غاية الإشكال فتأمّل.

والحاصل : أنّ حكم العقل في مسألة التّحسين والتّقبيح يرجع إلى كون العنوان الّذي يعرضه الحسن والقبح العقليّين علّة تامّة لهما ، لا أن يكون من إفراد السّبب عند العقل ؛ فإنّ مرجعه إلى كون العلّة شيئا آخر ، وهو الأمر القدر المشترك بين الأسباب ، فتأثيرها في الوجود إنّما هو من جهة انطباق الجامع عليها لا من جهة تأثيرها بالنّظر إلى أنفسها ، وليس الأمر على هذا الوجه في مسألة التّحسين والتّقبيح.

وهذا بخلاف العدم فإنّه دائما مستند إلى عدم العلّة المنطبق على عدم المقتضي ووجود المانع. هذا كلّه على تقدير كون العدم مستندا إلى العلّة وهو انتفاء علّة الوجود : من حيث إنّ الممكن بالنّظر إلى ذاته خال عن اقتضاء أحد الطّرفين ، وإلاّ لانقلب واجبا أو ممتنعا وهو خلف محال ، فيحتاج عدمه إلى المرجّح كوجوده.

وأمّا لو قلنا بامتناع التّأثير والتّأثر بالنّسبة إلى العدم ، وأنّ انتفاء علل الوجود لما كان كاشفا عن عدم الوجود ومعرّفا إليه لا محالة ، فيقال ـ مسامحة ـ : إنّه علّة العدم ، فعدم الشّيء باق على أزليّته ما لم يتحقّق علّة الوجود ، ويكفي في كونه غير ممتنع بالذّات صلاحيّته لتأثير شيء في وجوده ، كما أنّ امتناعه الذّاتي معناه : عدم إمكان وجوده بالمؤثّر ، فالفرق بين الوجود والعدم على هذا يكون ظاهرا ؛ من حيث إنّ تعدّد العلّة بالنّسبة إلى العدم دائما يرجع إلى تعدّد المعرّف ولو بالنّسبة إلى الشّخصين إن اعتبر فعليّة التّعريف ، وهذا بخلاف الوجود.

١٣٦

(٢٨) قوله : ( وممّا ذكرنا ظهر : أنّه لا وجه للاعتراض على القوم ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٤٠ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسّس الطهراني قدس‌سره :

« ليس في المقام حكم شرعي قابل للإستصحاب ، وكون المستصحب غير مستند إلى حكم العقل ، بل لعدم المقتضي لا معنى له ؛ فإن المستصحب إمّا حال الصّغر أو حال الجنون أو حال عدم المكلّف أو حال عدم حدوث الشريعة أو غير ذلك.

وكيف كان : فالعقل يستقلّ بالعدم وإن كان العدم مستندا إلى عدم المقتضي وليس استقلاله في خصوص ما كان بوجود الرّافع ، وحيث لا يستقل كما في حال الصّغر إذا كان قابلا للتكليف عقلا فالموضوع أيضا معلوم الإنتفاء كما اعترف به في مبحث أصل البراءة ، فلا معنى لاستصحاب العدم المستند إلى عدم المقتضي ؛ فإن عدم المقتضي أيضا يدرك بالعقل ، مع ان المستصحب في كلمات القوم إنّما هو حال الصّغر والجنون ، والأوّل مستند إلى إنتفاء الشرط الشرعي والعقلي ، والثاني إلى وجود المانع فكيف يمكن تنزيل كلامهم على استصحاب العدم المستند إلى عدم المقتضي؟ وقد ظهر حال الأمثلة وجريان الإستصحاب فيها بالإتّفاق » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ١١٣ ـ ١١٤.

* وقال المحقق الأصولي الشيخ موسى بن جعفر التبريزي رحمه‌الله :

« ظاهر دفع الإعتراض عن القوم بل صريحه هو : عدم وجود مورد من الاستصحاب ممّا كانت الحالة السّابقة فيه ثابتة بالعقل تكون القضية الشّرعيّة فيه غير مستندة إلى القضية العقليّة نظير ما ذكره في استصحاب النفي.

ولعلّ وجه الفرق ـ كما قيل ـ : أنّ عدم توجّه التكليف إلى شخص لا بدّ وأن يكون لانتفاء مقدّمة من مقدّماته من العقل والعلم والقدرة والإلتفات ونحوها ، ولا ريب أن انتفاء ذي المقدمة يستند إلى أوّل ما انتفت من المقدّمات لكون عدم كل مقدّمة علّة تامّة لعدم ذيها

١٣٧

__________________

، وإلاّ لم تكن مقدّمة للوجود بخلافه في طرف الوجود لتوقّف حصوله على حصول جميع المقدّمات الّتي لها مدخل في حصوله.

ولا ريب أنّ من مقدّمات صحّة التكليف ما هو عقلي ثابت بالعقل كما عرفت ، ومنها : ما هو شرعيّ لا يدركه العقل ، ولذا لا يقبح العقل تكليف الغلام المراهق مع كمال شعوره وعقله مع عدم صحّة تكليفه شرعا ، ولا أقل من احتمال ذلك بمعنى تجويز العقل شرائط شرعيّة للتكليف لا يدركها هو وإذا حكم العقل بعدم صحّة التكليف في بعض الموارد لانتفاء بعض مقدّماته العقليّة وحكم الشّرع أيضا على طبقه فكما يحتمل أن يكون حكم الشّرع مستندا إلى إنتفاء ما أدركه العقل انتفائه من المقدّمات حتى لا يصح انسحاب عدم التكليف إلى حالة تحقق هذه المقدّمة المفقودة كذا يحتمل أن يكون مستندا إلى انتفاء بعض المقدّمات الشّرعيّة الّتي لا يدركها العقل بأن كان انتفاء هذه المقدّمة سابقا على انتفاء المقدّمة العقليّة الّتي أدرك العقل انتفائها لما عرفت : من أنّ السّابق من المقدّمات المفقودة هي العلّة التامّة لانتفاء التكليف وحينئذ يصحّ استصحاب عدم التكليف مع تغير القضية العقليّة بخلافه في طرف الوجود لأن حكم العقل بشيء موقوف على إدراكه وجود جميع المقدمات الّتي لها مدخل في الوجود.

وإذا حكم الشّرع على طبقه فإن كان حكم الشّرع أيضا مستندا إلى ما كان حكم العقل مستندا إليه لم يصح الاستصحاب كما عرفته في الحاشية السّابقة وإن كان مستندا إلى غيره فإن كان كلّ ممّا استند إليه العقل والشّرع علّة لوجود الحكم لزم اجتماع علتين على معلول واحد وإن كان أحدهما علة دون الآخر لزم إمّا خطأ العقل أو الشرع وكلاهما خلاف المفروض فلا بد أن يكون مستند حكم الشّرع هو مستند حكم العقل لا محالة.

وربّما يورد عليه : بأن علل الوجود أيضا كعلل العدم قد تتعدّد وغاية الأمر عدم تأثير اللاّحق منها مع سبق إحداها نظير ما عرفته في علل العدم كما إذا قال : ( إن جاءك زيد فأكرمه

١٣٨

__________________

وإن أضافك فأكرمه ) فإنّ كلّ واحد من المجيء والإضافة علّة لوجوب الإكرام فمع تحقّق أحدهما خاصّة يكون هي العلّة في الوجود ومع تحقّقهما فالسّابق منهما ومع اقترانهما يشتركان في العلية لا بمعنى استقلال كلّ منهما فيها لامتناع اجتماع علتين على معلول واحد بل بمعنى اشتراكهما في التأثير في الوجود وحينئذ نقول : إنّ العقل والشّرع إذا حكما بوجوب فعل أو حرمته مع عدم العلم بمناط حكم الشّرع يحتمل أن يكون مناط حكم الشّرع مضافا إلى مناط حكم العقل شيئا آخر لا يرتفع بارتفاع حكم العقل بحيث يستقل لإثبات الحكم مع ارتفاع مناط حكم العقل وإن اشتركا في التأثير مع وجودهما كما إذا فرض حكم العقل بقبح شرب الخمر بعنوان كونه مسكرا وكان مناط حكم الشرع بحرمته في الواقع مضافا إلى مناط حكم العقل شيئا آخر كالإضرار فإذا ارتفع مناط حكم العقل صحّ استصحاب حكم الشرع لا محالة.

ثم إن المعترض هو صاحب الفصول حيث قال : ( المراد باستصحاب حال العقل كل حكم ثبت بالعقل سواء كان تكليفيّا كالبراءة حال الصّغر وإباحة الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة قبل الشّرع وكتحريم التصرف في مال الغير ووجوب ردّ الوديعة إذا عرض هناك ما يحتمل زواله كالاضطرار والخوف في المثالين الأخيرين أو كان وضعيّا سواء تعلّق الاستصحاب بإثباته كشرطية العلم لثبوت التكليف إذا عرض ما يوجب الشكّ في بقائها مطلقا أو في خصوص مورد أو بنفيه كعدم الزّوجيّة وعدم الملكيّة الثابتين قبل تحقق موضوعهما وتخصيص جمع من الأصوليين لهذا القسم بالمثال الأوّل ممّا لا وجه له ) إنتهى.

ووجه اندفاع الاعتراض :

أمّا أولا : فبما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله وحاصله : أن مراد القوم بتخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النّفي والبراءة ليس من جهة التفصيل في استصحاب الأحكام العقليّة بتسليمه في استصحاب النفي ومنعه في استصحاب الوجود كيف! وقد عرفت عدم جريانه

١٣٩

__________________

في استصحاب الأحكام الشّرعيّة المستندة إلى العقليّة مطلقا سواء كانت وجوديّة أم عدمية ، بل مرادهم التفصيل في موارد اجتماع الحكم العقلي والشّرعي من دون استناد الثاني إلى الأول كما عرفته في الحواشي السّابقة بين الوجودي والعدمي بدعوى عدم تحقق ذلك في الوجودي كما عرفته في الحاشية السّابقة.

وأمّا ما ذكره من الأمثلة ما عدا مثال أصالة البراءة والإباحة فغير منافية لذلك لعدم جريان الاستصحاب في بعضها وعدم مدخليّة بعض آخر فيما نحن فيه.

أمّا مثال حرمة التصرّف في مال الغير ووجوب ردّ الوديعة مع عروض ما يشكّ معه في بقائهما كالإضطرار والخوف.

ففيه : أنّ حكم العقل بحرمة التّصرف ووجوب الردّ إن كان مطلقا ولو مع فرض الخوف والاضطرار فلا معنى لفرض الشكّ في البقاء حينئذ.

ودعوى جريان الاستصحاب فيهما لفرض بقاء حكم العقل حينئذ في الزّمان الثّاني كالأوّل وإن كان مختصّا بموارد عدم الخوف والاضطرار بأن كان موضوع حكم العقل مقيّدا بعدمهما فلا معنى للاستصحاب حينئذ أيضا لفرض اختصاص موضوع حكم العقل بصورة عدم الخوف والضّرر وإن كان موضوعه مهملا من حيث التقييد بعدمهما فقد تقدّم سابقا عدم إمكان فرض الإهمال والإجمال في موضوع الحكم العقلي.

ومنه يظهر الحال في مثال شرطيّة العلم إذا عرض ما يوجب الشكّ في شرطيّته كما إذا صار المكلّف سببا في انسداد باب العلم لأنّ العقل إن كان حاكما بشرطيّة العلم مطلقا سواء كان تفصيليا أم إجماليّا وسواء تسبب المكلّف للانسداد أم لا ، فلا وجه للإستصحاب وإن كان حاكما بشرطيته مع كونه تفصيليّا مع عدم تسبب المكلّف للانسداد فكذلك أيضا ، وإن كان موضوع حكمه مهملا فقد عرفت عدم تعقله.

وأمّا مثال عدم الزّوجيّة والملكيّة فلا دخل له في حكم العقل لكونهما من قبيل الموضوعات

١٤٠