مستند الشّيعة - ج ٦

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٦

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-81-7
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٩١

عن قوم في قرية ليس من يجمّع ، أيصلّون الظهر يوم الجمعة جماعة؟ قال : « نعم إذا لم يخافوا » (١).

أي من عدم حضور جماعة المخالفين حيث يقرب قريتهم مصر الجمعة ، صرّحت بمغايرة إمام الجمعة لإمام الجماعة. وليس التغاير في مجرّد القدرة على الخطبة ، لتلازم القدرة على الجماعة وعلى أقلّ الواجب من الخطبة غالبا ، بل دائما كما ذكرنا. فلم يبق إلاّ العصمة أو النيابة بالإجماع. ولو منع ، فيحصل الإجمال في الشرط ، الموجب للإجمال في مخصص عمومات الجمعة ، والعام المخصص بالمجمل ليس بحجّة.

ومنها : مرسلة الكافي : عن صلاة الجمعة [ فقال ] : « أمّا مع الإمام فركعتان ، وأمّا من يصلّي وحده فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة » (٢).

والتقريب ما تقدّم ، ومعنى قوله وحده أي : بدون الإمام.

ومنها : موثقة سماعة : عن الصلاة يوم الجمعة ، فقال : « أمّا مع الإمام فركعتان ، وأمّا من يصلّي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر. يعني إذا كان إمام يخطب ، وأمّا إذا لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة » (٣).

وجه الاستدلال : أنّ من المعلوم أنّ المراد بإمام يخطب ليس من كان مشتغلا بالخطبة ، بل من من شأنه ذلك ، ولا يمكن أن يكون المراد شأنه بواسطة القدرة ، لما عرفت من التلازم ، فلا يكون إلاّ باعتبار الصلاحية شرعا ، وإطلاق مثل ذلك شائع ، وليس بعد القدرة وسائر ما يشترط في إمام الجماعة ما ينفي الصلوح إلاّ فقد‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٥ ـ ٥٥ ، الاستبصار ١ : ٤١٧ ـ ١٥٩٩ ، قرب الاسناد : ١٦٩ ـ ٦١٩ ، الوسائل ٧ : ٣٢٧ أبواب صلاة الجمعة ب ١٢ ح ١.

(٢) لم نعثر عليها في الكافي وإنّما الموجود فيه موثقة سماعة الآتية ، وقال في الرياض ١ : ١٨٤ وجواهر الكلام ١١ : ١٦٠ إن تلك الموثقة وردت بنحو آخر في نسخة من الكافي ، وأوردها أيضا في الوسائل ٧ : ٣١٤ أبواب صلاة الجمعة ب ٦ ح ٨.

(٣) الكافي ٣ : ٤٢١ الصلاة ب ٧٥ ح ٤ ، التهذيب ٣ : ١٩ ـ ٧٠ ، الوسائل ٧ : ٣١٠ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٥ ح ٣.

٢١

العصمة أو النيابة ، ولو لم نقل بذلك فلا أقلّ من حصول الإجمال ، المستلزم لوجوب الاقتصار على المتيقّن.

ومنها : صحيحة زرارة الآتية : « إنّما وضعت الركعتان اللّتان أضافهما النبي يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام ، فمن صلّى بقوم يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربعا كالظهر في سائر الأيّام » (١).

أي في غير جماعة خاصة كما في شرح الروضة للهندي ، أو في غير صلاة الجمعة كما في الوافي (٢) ، فتكون في الجمعة جماعة معتبرة غير المعهودة ، وليس إلاّ مع الإمام ، أو يكون مجملا.

ومنها : موثقة البقباق : « إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات ، فإن كان لهم من يخطب بهم جمّعوا إذا كانوا خمسة نفر » (٣).

والتقريب ما مرّ ، مع أنّ في الإتيان بقوله : « لهم من يخطب » الدالّ على نوع اختصاص دون : فيهم من يخطب ، إشعارا بعدم شمول من يخطب لكلّ من يقدر عليه.

ومنها : صحيحة محمّد : عن أناس في قرية ، هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال : « نعم ، يصلّونها أربعا إذا لم يكن لهم من يخطب » (٤).

وجه الاستدلال ما مرّ أيضا ، هذا إذا جعلت لفظة « نعم » تصديقا لما قبلها ويجعل جملة « يصلّونها » مستأنفة ، وأريد بالجمعة صلاة الجمعة. ولو جعلت تصديقا لقوله : « يصلّونها » بأن يراد بالجمعة الظهر دلّت الرواية بتقريب آخر مرّ‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧١ الصلاة ب ٣ ح ١ ، الفقيه ١ : ١٢٤ ـ ٦٠٠ ، الوسائل ٧ : ٣١٢ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٦ ح ١.

(٢) الوافي ٨ : ١١٢١.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٣٨ ـ ٦٣٤ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ ـ ١٦١٤ ، الوسائل ٧ : ٣٠٦ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٣ ح ٢.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٣٨ ـ ٦٣٣ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ ـ ١٦١٣ بتفاوت يسير ، الوسائل ٧ : ٣٠٦ أبواب صلاة الجمعة ب ٣ ح ١.

٢٢

أيضا ، وهو دلالتها على مغايرة إمامي الجمعة والجماعة.

ومنها : رواية طلحة : « لا جمعة إلاّ في مصر تقام فيه الحدود » (١).

وليس ذلك إلاّ فيما كان فيه الإمام أو نائبه. وحمله على التقية لأجل اشتراط المصر ، مردود بأنّه لأجل أنّ الإمام أو أميره لا يكون غالبا إلاّ فيه ؛ على أنّ إرادة مجتمع الناس عنه ممكنة ، وكونه مجازا ـ لو سلّم ـ لا يضرّ ، لأولويّته عن الحمل على التقية.

ومنها : الأخبار المتكثرة المشترطة لصلاة الجمعة بالإمام ، كموثقة سماعة ، وصحيحة زرارة ، ومرسلة الكافي المتقدّمة (٢).

وصحيحة زرارة : « لا يكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط ، الإمام وأربعة » (٣).

والأخرى : « صلاة الجمعة فريضة ، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام » (٤).

وصحيحة محمّد : « تجب الجمعة على من كان منها على فرسخين ، ومعنى ذلك إذا كان إمام عادل » (٥).

والأخرى : « تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ، ولا يجب على أقلّ منهم : الإمام ، وقاضيه ، والمدعي حقا ، والمدعى عليه ، والشاهدان ، والّذي‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣٩ ـ ٦٣٩ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ ـ ١٦١٧ ، الوسائل ٧ : ٣٠٧ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٣ ح ٣.

(٢) في ص ٢١ و ٢٢.

(٣) الكافي ٣ : ٤١٩ الصلاة ب ٧٣ ح ٤ ، التهذيب ٣ : ٢٤٠ ـ ٦٤٠ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ ـ ١٦١٢ ، الوسائل ٧ : ٣٠٣ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢ ح ٢.

(٤) المحاسن : ٨٥ ـ ٢٣ ، أمالي الصدوق : ٣٩٢ ـ ١٣ ، الوسائل ٧ : ٢٩٧ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١ ح ٨.

(٥) الكافي ٣ : ٤١٩ الصلاة ب ٧٣ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٣ ـ ٨٠ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ ـ ١٦٢٠ ، الوسائل ٧ : ٣١٥ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٧ ح ٢ ؛ ولا يخفى انّ ذيل الحديث غير مذكور في الكافي والاستبصار ، وإنّما ذكر في التهذيب ، ويحتمل قويا كونه من كلام الشيخ.

٢٣

يضرب الحدود بين يدي الإمام » (١).

وصحيحة ابن عمّار في قنوت الجمعة : « إذا كان إماما قنت في الركعة الأولى ، فإن كان يصلّي أربعا ففي الركعة الثانية قبل الركوع » (٢).

والمروي في رجال الكشي بسنده المتصل من أصحابنا الإمامية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فلهم أن يجمّعوا » (٣).

دلّ بالمفهوم على نفي الجواز بدون الإمام ، إلى غير ذلك.

دلّت هذه الأخبار على اشتراط وجوب الجمعة بوجود الإمام ، والمتبادر منه حين أطلق : المعصوم ، كما صرّح به جماعة منهم التوني والخوانساري. ولذا ترى جماعة من علماء العرب ـ منهم الفاضل في المنتهى (٤) ـ قد حملوه عليه ، وجماعة أخرى كالعماني والسيّد والشيخ والحلي أطلقوه (٥) وأرادوا به إمام الأصل. ولذا لو فرض وجود المعصوم في بلد فقال أحد : كان الإمام في بيتي ، يتبادر هو قطعا ، وأمّا عدم التبادر حينئذ فللقرينة الحالية ، ولذا لو قال أحد : رأيت الإمام في المنام يتبادر المعصوم ، انظر إلى أنّه لو حكي عن زمان الظهور حكايات فقيل : قال الإمام وجاء الإمام وذهب الإمام ، لم يتبادر غير المعصوم.

والظاهر ـ كما صرح به بعضهم (٦) ـ أنّ الإمام لا يطلق على غيره إلاّ بالقرينة ، فيقال : إمام المسجد ، وإمام الصلاة ، وإمام البلد ، ولذا ترى يطلق على‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٦٧ ـ ١٢٢٢ ، التهذيب ٣ : ٢٠ ـ ٧٥ ، الاستبصار ١ : ٤١٨ ـ ١٦٠٨ ، الوسائل ٧ : ٣٠٥ أبواب صلاة الجمعة ب ٢ ح ٩.

(٢) الكافي ٣ : ٤٢٧ الصلاة ب ٧٧ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ١٦ ـ ٥٩ ، الاستبصار ١ : ٤١٧ ـ ١٦٠٣ ، الوسائل ٦ : ٢٧٠ أبواب القنوت ب ٥ ح ١.

(٣) رجال الكشي ١ : ٣٨٩ ـ ٢٧٩ الوسائل ٧ : ٣٠٦ أبواب صلاة الجمعة ب ٢ ح ١١.

(٤) المنتهى ١ : ٣١٧.

(٥) حكاه عن العماني في المختلف : ١٠٨ ، السيّد في جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٤١ ، الشيخ في النهاية : ١٠٣ ، الحلي في السرائر ١ : ٣٠٣.

(٦) كصاحب مفتاح الكرامة ٣ : ٦٩.

٢٤

الاثنا عشرية الإمامية ، ولذا ورد في الأحاديث أنّ الإمام إمامان : إمام هدى وإمام ضلالة (١).

وقد أريد منه ذلك في الأخبار بحيث يثبت منه تبادره عنه في تلك العهود ، كما في صحيحة محمّد المتقدّمة (٢) حيث أطلقه وأراد به إمام الأصل بقرينة قوله « وقاضيه ».

وفي رواية ابن سيابة : « وعلى الإمام أن يخرج المحبسين في الدّين يوم الجمعة إلى الجمعة ، ويوم العيد إلى العيد ، ويرسل معهم ، فإذا قضوا الصلاة ردّهم إلى السجن » (٣).

وفي رواية الرقّي : « إنّ الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلاّ بإمام ، حتى يعرف » (٤).

ورواية إسحاق : « إنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام » (٥).

وفي صحيحة ابن أبي العلاء : تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال : « لا » (٦).

وفي رواية أبي حمزة : « لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت » (٧).

وفي رواية أبي هراسة : « لو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها » (٨).

وفي رواية يونس : « لو لم يكن في الأرض إلاّ اثنان لكان الإمام أحدهما » (٩).

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١٥ الحجّة ب ٢٥ ح ١.

(٢) في ص ٢٣.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٨٥ ـ ٨٥٢ ، الوسائل ٧ : ٣٤٠ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢١ ح ١.

(٤) الكافي ١ : ١٧٧ الحجّة ب ٤ ح ١.

(٥) الكافي ١ : ١٧٨ الحجّة ب ٥ ح ٢.

(٦) الكافي ١ : ١٧٨ الحجّة ب ٥ ح ١.

(٧) الكافي ١ : ١٧٩ الحجّة ب ٥ ح ١٠.

(٨) الكافي ١ : ١٧٩ الحجّة ب ٥ ح ١٢.

(٩) الكافي ١ : ١٨٠ الحجّة ب ٦ ح ٥.

٢٥

وفي الحديث المشهور : « من مات ولم يعرف إمام زمانه .. » (١).

بل في الآية الشريفة ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) (٢).

وقال في حق إبراهيم ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً ) (٣).

بل صرّح بعض العلماء أنّ الإمام في مقابل الرعية.

سلّمنا عدم تبادر مطلق الإمام ، ولكن لا شكّ أنّ المراد من الإمام العادل ـ المذكور في صحيحة محمّد (٤) ـ حيث يطلق في الأخبار هو إمام الأصل ، كما لا يخفى على المتتبع في الأخبار.

ففي التهذيب عن الباقر عليه‌السلام : فيمن قتل ناصبيّا غضبا لله تعالى [ ولرسوله ، أيقتل به؟ ] قال : « أما هؤلاء فيقتلونه ، ولو رفع إلى إمام عادل لم يقتله به » (٥).

وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه‌السلام : في امرأة قتلت من قصدها بحرام إنّه : « ليس عليها شي‌ء ، وإن قدّمت إلى إمام عادل هدر دمه » (٦).

وفي الكافي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة ، وحدّ يقام في أرضه أفضل من مطر أربعين صباحا » (٧).

__________________

(١) المحاسن : ١٥٣ ـ ٧٨.

(٢) القصص : ٥.

(٣) البقرة : ١٢٤.

(٤) راجع ص ٢٣ ، الهامش رقم (٥) ، وقد ذكرنا أنّ جملة : « ومعنى ذلك إذا كان إمام عادل » يحتمل كونها من كلام الشيخ في التهذيب.

(٥) التهذيب ١٠ : ٢١٣ ـ ٨٤٣ ، الوسائل ٢٩ : ١٣٢ أبواب القصاص في النفس ب ٦٨ ح ١. وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٦) الكافي ٧ : ٢٩١ الديات ب ٤ ح ٢ ، الفقيه ٤ : ٧٥ ـ ٢٣٢ ، الوسائل ٢٩ : ٦١ أبواب القصاص في النفس ب ٢٣ ح ١.

(٧) الكافي ٧ : ١٧٥ الحدود ب ١ ح ٨ ، الوسائل ١٨ : ١٢ أبواب مقدمات الحدود ب ١ ح ٥.

٢٦

وفي الكافي أيضا ، عنه : « لا غزو إلاّ مع إمام عادل » (١).

وفي التهذيب في باب قتال أهل البغي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه قال : « إن خرجوا على إمام عادل فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم » (٢).

وفي التهذيب في باب حدّ السرقة : « إذا سرق السارق من البيدر من إمام جائر فلا قطع عليه ، فإذا كان من إمام عادل عليه القطع » (٣).

وفي المحاسن عن الباقر عليه‌السلام : « من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام عادل فهو غير مقبول » (٤).

وفي رواية ثواب زيارة الحسين عليه‌السلام : « من أتى الحسين عارفا بحقّه » إلى قوله : « وعشرين حجّة مقبولة وعمرة مع نبي مرسل أو إمام عادل » (٥).

وفي رواية أبي بصير : « إنّ الله أجّل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل » (٦).

سلّمنا عدم تبادر الإمام في إمام الأصل ، ولكن لا شك في وجوب الحمل عليه مع القرينة ، وأيّ قرينة أقوى وأدلّ ممّا ذكر من فهم الأصحاب ، والإجماعات المنقولة متواترة ، والأخبار المتقدّمة الظاهرة أو المشعرة بذلك ، وسائر ما تقدّم.

مع أنّ قوله في صحيحة محمّد : « الإمام وقاضيه » صريح في إمام الأصل ، وهذه الصحيحة بنفسها كافية في إثبات المطلوب. ولا يضرّ اشتمالها على غير الإمام ممّن لا نقول باشتراطه ؛ لأنّ خروج بعض الحديث بدليل عن ظاهره أو الحجيّة لا‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٠ الجهاد ب ٥ ح ١ ، الوسائل ١٥ : ٤٣ أبواب جهاد العدو وما يناسبه ب ١٠ ح ٢.

(٢) التهذيب ٦ : ١٤٥ ـ ٢٥٢ ، الوسائل ١٥ : ٨٠ أبواب جهاد العدو وما يناسبه ب ٢٦ ح ٣.

(٣) التهذيب ١٠ : ٦٢٨ ـ ٥١٠ ، الوسائل ٢٨ : ٢٨٩ أبواب حد السرقة ب ٢٤ ح ٥.

(٤) المحاسن : ٩٢ ـ ٤٧.

(٥) الكافي ٤ : ٥٨٠ الحجّ ب ٢٠ ح ١ ، الفقيه ٢ : ٣٤٦ ـ ١٥٨٦ ، التهذيب ٦ : ٤٦ ـ ١٠١ ، الوسائل ١٤ : ٤٥٩ أبواب المزار وما يناسبه ب ٤٩ ح ١.

(٦) الكافي ١ : ١٧٨ الحجّة ب ٥ ح ٦.

٢٧

يوجب خروج الباقي. مع أنّ المحكي عن صاحب نوادر الحكمة والفقيه والهداية الفتوى بمضمون الجميع (١).

سلّمنا عدم القرينة ، فيكون الإمام مجملا ، فيجب الاقتصار فيه على المتيقّن ، مضافا إلى أنّه بعد الإجمال ـ فحيث خصّ وجوب الجمعة به ـ تخرج أخبار الوجوب في غير موضع الإجماع عن الحجيّة.

فإن قيل : لا إجمال فيه ، بل المراد منه من يقتدى به ويتّبع أو يقصد ، وهذا أمر معلوم.

قلنا : من أين علم انحصار معناه في ذلك لغة حتى يجب الأخذ به فيما لا قرينة فيه ، والأصل يجزي لو لم يعلم استعماله في غير ذلك المعنى أيضا ، مع العلم بالوضع لذلك ، وقد فسّره في القاموس بمعان ، منها : قيّم الأمر المصلح له ، والنبي ، والخليفة ، والدليل (٢) ، وقد فسّر اللغويّون الامّ بالأصل (٣) ، فيمكن أن يكون مأخوذا منه.

سلّمنا ، ولكن لا شك أنّه لم يوضع لكلّ متبّع ومقصود ولو لأمر سهل ، كمن قصد رؤيته أو التكلّم معه ، أو من يتّبع ويقتدى به في جلوس في مكان ، أو التكلّم بكلام ونحو ذلك ؛ بل يلزم فيه شي‌ء آخر إمّا اتّباع أكثريّ بل مع وجوبه ، أو غير ذلك ، فمن أين ثبت إطلاقه حقيقة في عهد المعصومين على من يتّبع في ركوع وسجود وتسليم؟.

فإن قيل : استعمل لفظ الإمام في الأخبار في إمام الأصل والجماعة ، والأصل عدم التجوّز ، فيكون للقدر المشترك.

قلنا : فيكون مجازا في الخصوصيات مع استعماله فيها ، فالتجوّز لازم على ذلك أيضا ، وهذا ليس بأولى من التجوّز في إمام الجماعة خاصّة.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٦٧ ـ ١٢٢٢ ، الهداية : ٣٤.

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٧٨.

(٣) انظر : القاموس المحيط ٤ : ٧٧ ، ومجمع البحرين ٦ : ٩ ، وأقرب الموارد ١ : ١٩.

٢٨

ومنها : المروي في العلل والعيون : فإن قال قائل : فلم صارت الجمعة إذا كان مع الإمام ركعتين وإذا كان بغير إمام ركعتين وركعتين؟ قيل : لعلل شتّى ـ إلى أن قال ـ : ومنها أنّ الصلاة مع الإمام أتمّ وأكمل ، لعلمه وفقهه وفضله وعدله ـ إلى أن قال ـ : فإن قال قائل : فلم جعلت الخطبة؟ قيل : لأنّ الجمعة مشهد عام ، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم ، وترغيبهم في الطاعة ، وترهيبهم عن المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم ، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق ـ إلى أن قال ـ : وليس بفاعل غيره ممن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة. فإن قال : فلم جعلت خطبتين؟ ـ إلى أن قال ـ : والأخرى للحوائج والأعذار والإنذار والدعاء وما يريد به أن يعلمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد (١).

جعل عليه‌السلام أوّلا علّة الركعتين علم الإمام وفقهه وفضله ، وظاهر أنّ مجرّد كونه كذلك في بعض الأوقات لا يصلح علّة للسقوط دائما ، فلا بدّ من اشتراط هذه الأوصاف في الإمام ، ولا يشترط في إمام الجماعة اتّفاقا ، فيكون إمام الجمعة غيره ، فهوأمّا الفقيه أو إمام الأصل ، لعدم الفصل ، ثمَّ بملاحظة ما يلحقه من الكلام يتعيّن الثاني.

وثانيا علّة الخطبة حصول سبب للأمير ، وليس هو إلاّ الإمام أو نائبه الخاص ، ثمَّ قال : « وتوقيفهم على ما أراد » وليس هذا شأن كلّ إمام جماعة. ثمَّ قال : « وليس بفاعل غيره » ثمَّ قال : « وما يريد أن يعلمهم من أمره ونهيه ».

وإثبات شي‌ء من العلم والفقه والفضل لكلّ إمام جماعة ـ مع أنّه ممنوع ـ يجعل العلّة لغوا.

وكون العلل الشرعيّة معرّفات إنّما هي في الأدلّة والأسباب ، دون ما يعلّل به الأحكام ، فإنّ الأصل فيها العلّية الحقيقية التامّة.

__________________

(١) العلل : ٢٦٤ ، العيون ٢ : ١٠٩ ، الوسائل ٧ : ٣١٢ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٦ ح ٣ و ٣٩ ب ٢٥ ح ٦.

٢٩

وتعميم الأمير لكلّ من يصلح لأمر ولو للأمر بالمعروف ، خلاف الظاهر ، بل هو جدّا بارد.

وضعف بعض هذه الأخبار ـ لو سلّم ـ بما مرّ مجبور.

وهنا أمور أخر ، كلّ منها يؤيّد المطلوب قويّا ، بل باجتماعها يحصل العلم به ، كعبارة الصحيفة السجّادية في دعاء الجمعة والأضحى (١).

وما روي عن أهل البيت عليهم‌السلام : « أنّ في كلّ جمعة وعيد يتجدّد حزن لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم » (٢).

فإنّه لو لا أنّ صلاة اليومين من حقّ الإمام فأيّ حقّ يرى في اليومين لا يرى في غيرهما من الأيّام. وتداول إبراز الأمراء

عظمتهم وشوكتهم فيهما لا يفيد ؛ لأنّ الشوكة ليست حقّا لشخص ، مع أنّها ترى في سائر الأيّام أيضا.

فذلك صريح في المطلوب ، إلاّ أنّه لما كان المرويّ في التهذيب بدون لفظ الجمعة ، وإنّما روي معه في طائفة من كتب الأصحاب جعلناه مؤيّدا.

والنبويّين (٣) : أحدهما : « أربع إلى الولاة : الفي‌ء ، والحدود ، والجمعة ، والصدقات » والآخر : « إنّ الجمعة والحكومة لإمام المسلمين ».

واستمرار عمل النبيّ والوليّ وغيرهما من المتمكّنين في تعيين إمام الجمعة.

وصحيحة زرارة : حثّنا أبو عبد الله عليه‌السلام على صلاة الجمعة حتّى ظننت أنّه يريد أن نأتيه ، فقلت : نغدو عليك؟ فقال : « لا ، إنّما عنيت عندكم » (٤).

وموثقّة عبد الملك : قال : « مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله تعالى » ‌

__________________

(١) وهي : « اللهم إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزّوها .. ».

(٢) التهذيب ٣ : ٢٨٩ ـ ٨٧٠ ، الوسائل ٧ : ٤٧٥ أبواب صلاة العيد ب ٣١ ح ١.

(٣) لم نجدهما في الكتب الحديثية التي بأيدينا ، وأورد النبوي الأول في المنتهى ١ : ٣١٧ عن الجمهور ، وأوردهما في الرياض ١ : ١٨٣ معبّرا عنهما بالنبويين المشهورين.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٣٩ ـ ٦٣٥ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ ـ ١٦١٥ ، الوسائل ٧ : ٣٠٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٥ ح ١.

٣٠

فقلت : كيف أصنع؟ قال : « صلّوا جماعة ، يعني صلاة الجمعة » (١).

دلّتا على ترك زرارة وعبد الملك لها ، ومثلهما لا يتركان الفريضة الكذائية لو لا لها شرط لم يتمكّنا منه ، سيّما مع قراءتهما سورة الجمعة ، ورواية زرارة أكثر أخبار وجوبها. ولا يمكن أن يكون تركهما للتقيّة ؛ لأنّها إن أمكن لهما بدونها فلا معنى للتقيّة ، وإلاّ فلا معنى للحثّ على ترك التقيّة.

مع أنّ في قول زرارة : حتى ظننت أنّه يريد أن نأتيه ، دلالة واضحة على المطلوب ، إذ لو لا أنّها منصبه لما كان لذلك الظنّ وقوله : « نغدو عليك » وجه ، بل كان المناسب أن يقول : حتّى ظننت أنّه يجوز فعلها عقيب الفاسق أيضا.

وأظهر منه قول عبد الملك : فكيف أصنع ، حيث تحيّر واضطرب ، ولو لا اشتراط إذن الإمام لم يكن لذلك وجه. وظاهر أنّه لم يكن مراده كيف أصنع مع وجود التقيّة ، إذ لم يكن جوابه حينئذ « صلّوا جماعة ».

وحسنة محمّد وزرارة : « تجب الجمعة على من كان منها على فرسخين » (٢).

ونحوها حسنة محمّد ، وزاد فيها : « فإن زاد على ذلك فليس عليه شي‌ء » (٣).

وغيرهما ممّا دلّ على أنّها لا تجب على من كان بينه وبينها أزيد من فرسخين ؛ فإنّه لو لا كون الجمعة منصب شخص معيّن لم يكن لها موضع معيّن ، ولم يكن لنفي وجوبها عمّن بعد عنها بالزائد عن الفرسخين على الإطلاق وجه.

وأيضا : من الأمور البديهيّة وقوع الاختلاف بين الفقهاء في نفس العدالة ، وموجباتها ، ونواقضها ، والكبائر ، وأصالة الفسق والعدالة ، بحيث لا يكاد يتحقّق فقيهان متفقان في جميع ذلك. ولا شكّ أنّ الفاقد للمرتبة العليا فاسق عند المشترط‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣٩ ـ ٦٣٨ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ ـ ١٦١٦ ، الوسائل ٧ : ٣١٠ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٥ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤١٩ الصلاة ب ٧٣ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٤٠ ـ ٦٤٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ ـ ١٦٢٠ ، الوسائل ٧ : ٣٠٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٤ ح ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٤١٩ الصلاة ب ٧٣ ح ٣ ، التهذيب ٣ : ٢٤٠ ـ ٦٤١ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ ـ ١٦١٩ ، الوسائل ٧ : ٣٠٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٤ ح ٦.

٣١

لها في العدالة ، والأغلب في البلاد سيّما الكبيرة وما حواها وجود فقهاء كثيرة ، ولا أقلّ من فقيهين ، أو وجود مقلّدي فقهاء أخر.

وعلى هذا فنقول : لو لم يشترط الإمام ، ووجب عينا على الأعيان ، فلا يخلوأمّا يجب على الجميع الائتمام بواحد ، ولو كان فاسقا عنده ، أو لا.

والأوّل باطل.

وعلى الثاني فإمّا يجب على الجميع الائتمام بصاحب المرتبة العليا ، أو لا.

والأوّل فاسد ؛ للإجماع القطعيّ على عدم اشتراط ذلك الشرط.

وعلى الثاني فإمّا تجب على كلّ إقامة جمعة مع مقلّديه ، أو مع من يقلّد مجتهده في بلد واحد ، أو لا.

والأوّل غير جائز إجماعا ، وكذا الثاني ؛ للإجماع على عدم الاشتراط بعدم إقامة جمعة ممنّ ليس هو بعادل عنده ، فلم يبق إلاّ انتفاء الوجوب العينيّ.

ولو قلنا بعدم جواز ائتمام المجتهد أو مقلّده بمجتهد آخر أو مقلّده ، المخالف له في بعض مسائل الصلاة ـ كما اختاره بعضهم ـ سيّما مع ظهور أنّه لا يتفق مجتهدان متفقان في جميع مسائل الصلاة ومقدّماتها ، يصير المحذور أشدّ ، والمطلوب أوضح.

وأيضا : من البديهيّات وجود عدول عديدة صالحين لإمامة الجماعة والخطبة في أكثر البلاد وما يقربها إلى فرسخين ، حتّى نشاهد إقامة قريب من مائة صلاة الجماعة في المدن الكبيرة وقرأها.

وعلى هذا فنقول : لو وجبت الجمعة عينا ، ولم تكن منصبا لمعيّن يجب على الكلّ الحضور إلى جمعته ، فإمّا أن يكون بناء أحد هؤلاء العدول على إمامة الجمعة ، أم لا.

فعلى الأوّل إمّا يجب على الباقين الحضور إلى جماعته ، أم لا.

والأوّل باطل قطعا ؛ ضرورة عدم دليل على أنّ إرادة واحد لها وبناءه يوجب تعيينه وعدم جواز إمامة غيره ممّن هو مثله.

٣٢

وعلى الثاني ـ وكذا على عدم بناء واحد منهم على الإمامة ـ إمّا لا يجب عليهم تعيين إمام لها قبل الزوال ، أو يجب.

والأوّل باطل ؛ لأنّه إذا لم يجب عليهم ذلك ، فإذا دخل الزوال إمّا تجب إمامة الجمعة على كلّ هؤلاء العدول ، أو على واحد مع عدم إمكان درك الجميع جمعته من رأس الفرسخين أو الفرسخ ، بل الأقلّ أيضا سيّما مع عدم الاطّلاع والقسمان باطلان.

وعلى الثاني ، أي وجوب التعيين قبل الزوال ـ فمع عدم دليل عليه ، واستلزامه مفاسد لو اختلفوا في التعيين ، ولا دليل على ما يرفع شيئا منها ـ إمّا يجتمعون على تعيين واحد ، أو لا ، بل يتركون ذلك الواجب.

فعلى الأوّل إمّا لا يتعيّن شرعا بهذا التعيين ، أو يتعين.

والأوّل باطل ؛ لاستلزامه انتفاء فائدة وجوب التعيين ، بل عود المحذورات اللازمة على عدم وجوب التعيين.

وإن تعيّن شرعا فإمّا لا تبطل جمعة غيره لو شرع فيها بعد التعيين ، أو تبطل.

والأوّل ينفي فائدة وجوب التعيين ، وتعود المحذورات ، والثاني يوجب زيادة شرط في إمام الجمعة لم يقل به أحد.

وإن لم يجتمعوا على التعيين حتّى دخل الزوال ، فإمّا تجوز لكلّ منهم إقامة الجمعة ، أو لواحد منهم.

والقسمان باطلان كما مرّ.

فلم يبق إلاّ عدم وجوب الجمعة إلاّ مع من عيّنه الله سبحانه.

وأيضا : من الضروريّات اشتراط العدالة في إمام الجمعة ، وعلى هذا فإمّا يجب على كلّ من في البلد وما دون الفرسخ من القرى تحصيل العلم بعدالة واحد معيّن شرعا ، أو لا.

والأوّل باطل ، سيّما في المدن الكبيرة الكثيرة القرى ، كأصبهان وشام‌

٣٣

وقسطنطنية ونحوها ؛ إذ حصول ذلك ليس اختياريا ، سيّما مع اختلاف العلماء في العدالة ومنافياتها ، فالتكليف به تكليف بغير الاختياريّ.

فتعيّن الثاني ، وحينئذ فإذا لم تظهر عدالة الإمام لجماعة بل للأكثر ، كما هو الأغلب ، فإمّا تجب عليهم إقامة جمعة أخرى ، أو تسقط الجمعة عنهم.

والقسمان باطلان ، أمّا الأوّل ، فللزوم إقامة جمعتين فيما دون فرسخ ، بل في مسجد وهو باطل ، سيّما مع عدم العلم ببطلان جمعة اخرى ، وأمّا الثاني فظاهر.

فإن قيل : يجب عليهم الخروج إلى ما فوق الفرسخ.

قلنا‌ ـ مع أنّه لا دليل عليه ، وأنّه في الأكثر يورث الفتنة ـ : قد لا يمكن الخروج لحرّ أو برد أو خوف ، أو تقام الجمعة أيضا من مجهول لهؤلاء فيما فوق الفرسخ ، أو لم ييأسوا من ظهور عدالة الأوّل إلى أوّل الزوال ، أو لم يعيّن الإمام إلاّ حينئذ ، مع أنّ اجتماع جميع هؤلاء على واحد أيضا قد لا يتيسّر ، فيلزم خروج جماعات إلى أطراف ، إلى غير ذلك من المفاسد. فيلزم أن يكون منصب إمامة الجمعة معيّنا من جانب الله سبحانه.

والإنصاف أنّ هذه الوجوه من الأدلة القويّة على نفي الوجوب العينيّ في زمن الغيبة.

وممّا يؤكّد نفيه : أنّه كان النبيّ والخلفاء بعده يعيّنون لصلاة الجمعة ، كما كانوا يعيّنون للأمارة والحكومة.

وممّا يؤكّده أيضا : كثرة الأخبار الدالّة على الوجوب بزعم الموجبين ، مع ذهاب أكثر المتقدّمين والمتأخّرين إلى نفيه ، وعدم العمل بها مع اطّلاعهم على هذه الأحاديث.

وأيضا : يحكم العرف والعادة بأنّ صلاة الجمعة لو كانت واجبة كصلاة العصر ، وسائر الصلوات اليوميّة لشاع ذلك ، بحيث لا يشكّ فيه أحد ، بل صار من الضروريّات كسائر الصلوات ، ولم يكن بهذه المثابة حتّى إنّه لم يفعلها من العلماء الإمامية في قريب من ألف سنة إلى زمن الشهيد الثاني ، ولم يشتهر وجوبها ،

٣٤

بل ذهب كثير منهم إلى حرمتها.

فإن قيل : لعلّ التقيّة كانت مانعة.

قلنا : هل التقيّة فيه كانت أشدّ منها في أمر المتعة؟ مع كونها مستحبّة ، ومع ذلك صار ضروريّا. وكذا مسح الرجلين ، والسجود على الأرض ، وعدم جواز التكفير ، إلى غير ذلك.

احتجّ المثبتون للوجوب العيني بوجوه :

الأوّل : الآية‌. وقد عرفت عدم دلالتها (١)

والثاني : الاستصحاب‌ ، فإنّ الجمعة كانت واجبة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه فيستصحب.

ويردّ أولا : بمعارضته باستصحاب وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ، فإنّ قبل إيجاب الجمعة كان الظهر واجبا ، والجمعة غير واجبة ، فإنّه علم انتفاء لأوّل وثبوت الثاني إلى زمان تمكّن المعصوم ، ولم يعلم فيما بعده ، فيستصحب وجوب الأوّل وعدم وجوب الثاني.

وثانيا : بمعارضته باستصحاب وجوب الظهر في زمان نزول الجمعة على من لم يتمكّن من حضور جمعة المعصوم.

فإن قلت : لا ينافي ذلك عند من يشترط المعصوم في عهده لكلّ أحد ، ولو لم يتمكّن الحضور إلى جمعته.

قلنا : فيسقط استصحابك رأسا ؛ إذ على هذا يكون الاشتراط في عهده مسلّما ، ولا يجري الاستصحاب في الواجب المشروط.

وثالثا : بأنّ الأصل في الواجب ما دام الوصف كونه بشرطه ، فلا يجري الاستصحاب. إلاّ أنّ تمامية ذلك إنّما هي على ما يأتي من عدم تماميّة دلالة الظواهر على وجوب الجمعة مطلقا. وإلاّ فلا يتمّ ؛ لأنّ الواجب ما دام الوصف لو ثبت‌

__________________

(١) راجع ص ٩‌

٣٥

بالإطلاق ، فالأصل فيه ليس كونه بشرطه.

ورابعا : بانتفاء الاستصحاب بما مرّ من الأدلّة على الاشتراط.

وقد يجاب عن الاستصحاب أيضا : بتغيّر الموضوع ، فإنّ موضوع الوجوب الموجودون في زمانهم ، والنزاع في غيرهم.

ويضعّف : بفرض الكلام في شخص واحد مدرك للزمانين ، ويتمّ المطلوب بالإجماع المركّب.

الثالث : أصل عدم اشتراط المعصوم‌ ، فإنّه لا خلاف في اشتراط إمام الجماعة ، والشك في اشتراط الزائد ، فينفى بالأصل.

وجوابه أوّلا : أنّه إن أريد إجراء الأصل من دون ملاحظة ما يدّعيه من إطلاقات وجوب الجمعة الآتية ، فالأصل مع الاشتراط ؛ لأصالة عدم الوجوب بدون الشرط.

وإن أريد إجراؤه بملاحظة الإطلاقات ، فهو إنّما يتمّ إن تمّت دلالتها على وجوب صلاة الجمعة مطلقا ، ثمَّ على ثبوت أنّ صلاة الجمعة صادقة على ما يقتدى فيه بغير إمام الأصل ، وسيأتي عدم التماميّة.

وثانيا : أنّ الأصل إنّما يعمل به إذا لم يكن هناك دليل يخرج عنه ، وإنّا قد بينّا الدليل على اشتراط إمام الأصل أو نائبه ، ولو منع صراحة ما مرّ فيه فغايته الإجمال ، وبه تخرج مطلقات وجوب الجمعة عن الحجيّة.

سلّمنا حجيّة المخصّص بالمجمل ، ولازمه حجيّة مطلقات الظهر أيضا ، كالمروي في الكافي في باب التفويض : إنّ الرسول زاد ركعتين في الظهر والعصر والعشاء ، فلا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر ، ولم يرخّص رسول الله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما ، بل ألزمهم إلزاما واجبا ، ولم يرخّص لأحد في شي‌ء من ذلك إلاّ للمسافر (١).

وصحيحة زرارة : « عشر ركعات : ركعتان من الظهر ، وركعتان من‌

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٦٦ الحجّة ب ٥٢ ح ٤.

٣٦

العصر ، وركعتا الصبح ، وركعتا المغرب ، وركعتا العشاء الآخرة ، لا يجوز الوهم فيهن » ـ إلى أن قال ـ : « وهي الصلاة التي فرضها الله على المؤمنين في القرآن ، وفوض إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فزاد النبي في الصلاة سبع ركعات » (١).

وموثّقة سماعة : « إذا زالت الشمس فصلّ ثماني ركعات ، ثمَّ صلّ الفريضة أربعا ، فإذا فرغت من سبحتك ، قصرت أو طوّلت ، فصلّ العصر » (٢).

وصحيحة محمّد بن أحمد : « إذا زالت الشمس ، فقد دخل وقت الصلاة ، وبين يديها سبحة ، وهي ثمان ركعات ، فإن شئت طوّلت وإن شئت قصرت ، ثمَّ صلّ الظهر » (٣) إلى غير ذلك.

فتتعارضان بالعموم من وجه ، ويرجع في مورد التعارض إلى التخيير.

الرابع : الروايات العديدة : كصحيحة زرارة : « فرض الله تعالى على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة ، منها صلاة [ واحدة ] (٤) فرضها الله عزّ وجلّ في جماعة ، وهي الجمعة » (٥).

وصحيحة أبي بصير ومحمّد : « إنّ الله فرض في كل سبعة أيام خمسا وثلاثين صلاة ، منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلاّ خمسة » (٦).

واخرى لزرارة : على من تجب الجمعة؟ قال : « على سبعة نفر من المسلمين ، ولا جمعة لأقلّ من خمسة من المسلمين ، أحدهم الإمام ، فإذا اجتمع سبعة ولم‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧٣ الصلاة ب ٣ ح ٧ ، الوسائل ٤ : ٤٩ أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ١٣ ح ١٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٤٥ ـ ٩٧٦ ، الاستبصار ١ : ٢٤٩ ـ ٨٩٥ ، الوسائل ٤ : ١٣٤ أبواب المواقيت ب ٥ ح ١١.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٤٩ ـ ٩٩٠ ، الاستبصار ١ : ٢٥٤ ـ ٩١٣ ، الوسائل ٤ : ١٣٤ أبواب المواقيت ب ٥ ح ١٣.

(٤) في النسخ : واجبة ، وما أثبتناه موافق للمصادر.

(٥) الكافي ٣ : ٤١٩ الصلاة ب ٧٣ ح ٦ ، الفقيه ١ : ٢٦٦ ـ ١٢١٧ ، التهذيب ٣ : ٢١ ـ ٧٧ ، الوسائل ٧ : ٢٩٥ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١ ح ١.

(٦) الكافي ٣ : ٤١٨ الصلاة ب ٧٣ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٢٩٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١ ح ١٤.

٣٧

يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم » (١).

وثالثة له قد تقدّمت (٢) : « لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقل من خمسة رهط : الإمام وأربعة ».

ورابعة له قد تقدّمت أيضا (٣) : « صلاة الجمعة فريضة ، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام ، فإن ترك رجل ثلاث جمع من غير علّة فقد ترك ثلاث فرائض ».

وصحيحة منصور : « يجمّع القوم إذا كانوا خمسة فما زاد » ـ إلى أن قال ـ : « الجمعة واجبة على كلّ أحد ، ولا يعذر الناس فيها إلاّ خمسة » (٤).

وصحيحة زرارة أيضا : « الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة » (٥).

وصحيحة عمر بن يزيد : « إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة ، وليلبس البرد والعمامة » (٦).

وصحيحة أخرى لأبي بصير ومحمّد : « من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات طبع الله على قلبه » (٧) وقريبة منها روايات أخر.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٦٧ ـ ١٢١٨ ، الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢ ح ٤.

(٢) في ص ٢٣.

(٣) في ص ٢٣.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٣٩ ـ ٦٣٦ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ ـ ١٦١٠ ، الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢ ح ٧.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٤٠ ـ ٦٤٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ ـ ١٦٢١ ، الوسائل ٧ : ٣٠٧ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٤ ح ١.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٤٥ ـ ٦٦٤ ، الاستبصار ١ : ٤١٨ ـ ١٦٠٧ ، الوسائل ٧ : ٣٤١ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢٤ ح ٢.

(٧) التهذيب ٣ : ٢٣٨ ـ ٦٣٢ ، المحاسن : ٨٥ ـ ٢٢ ، الوسائل ٧ : ٢٩٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١ ح ١٥.

٣٨

والنبوي المروي في بعض الكتب : « كتب عليكم الجمعة فريضة واجبة إلى يوم القيامة » (١).

والآخر : « لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمنّ الله على قلوبهم » (٢).

والثالث خطبته عليه‌السلام : « إنّ الله فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل ، استخفافا بها أو جحودا لها ، فلا جمع الله شمله ، ولا بارك له في أمره » (٣) الحديث.

وصحيحة محمّد المتقدّمة : « تجب الجمعة على من كان منها على رأس فرسخين ، ومعنى ذلك إذا كان إمام عادل » (٤).

وصحيحة زرارة السابقة أيضا ، المصدّرة بقوله : حثّنا أبو عبد الله .. » (٥).

وموثّقات البقباق ، وسماعة ، وعبد الملك المتقدمة جميعا (٦) ، وغير ذلك ممّا هو بمضمون ما مرّ أو قريب منه.

والجواب عنها‌ ـ مع أنّ بعض هذه الأخبار خطاب مشافهة ، ولا يثبت العموم فيها ـ إمّا بالخصوص أو الكلّية.

أمّا الأوّل : فأمّا عن الاولى : فبعدم دلالتها على أزيد من أنّ بعضا من الخمسة والثلاثين الواجبة من الجمعة إلى الجمعة صلاة الجمعة ، وهو أعمّ من أن يكون واحدا منها ، أو فردا من واحد ، فإنه إذا كانت الجمعة واجبة في بعض‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٢٧٧ ، الوسائل ٧ : ٣٠١ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١ ح ٢٢ ، وقريب منه في كنز العمّال ٧ : ٧٢١ ـ ٢١٠٩٢.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٥٩١ ـ ٨٦٥.

(٣) سنن ابن ماجه ١ : ٣٤٣ ـ ١٠٨١.

(٤) راجع ص ٢٣.

(٥) راجع ص ٣٠.

(٦) راجع ص ٢٢ ، ٢١ ، ٣١.

٣٩

الأوقات ، والظهر في بعض ، أو الأوّل على بعض الأشخاص ـ كما في زمن الغيبة على من يحضر عند الإمام الغائب من أولاده وأصحابه ـ والثاني على بعض آخر ، فلا محالة تكون الجمعة بعضا من الخمسة والثلاثين.

ولو لم تصدق البعضيّة على مثل ذلك ، لم تصدق على صلاة الجمعة أصلا ؛ لعدم وجوبها في شي‌ء من الأزمنة على قرية ليس فيها من لا يصلح للإمامة ، أو طائفة كذلك ، ولا على المرأة والمسافر ، والمملوك والمريض وغير ذلك.

والحاصل : أنّا نسلم وجوب الخمسة والثلاثين صلاة في كلّ جمعة إلى الجمعة على الناس ، وأنّ بعضا منها صلاة واجبة تجب فيها الجماعة ، ولكن لا نسلّم أنّ هذا البعض واجب على الكلّ ؛ لصدق البعضيّة بوجوبه (١) في الجملة.

بل لا يمكن أن يراد أنه واجب على الكلّ ؛ ضرورة عدم وجوبه على كثير من الناس. ولا يمكن أن يقال : خرج ما خرج بالدليل ؛ لأنّ هذا إنّما هو على تقدير وجود لفظ عامّ ، كأن يقول : منها صلاة واجبة على الكلّ ، وليس كذلك ، بل يجب التقدير ، فلا يقدّر إلاّ ما علم وجوب تقديره ، فمن أين يقدّر ما يعمّ فاقد الإمام أيضا؟.

مع أنّ في كثير من النسخ هكذا : « فرض الله تعالى على أولئك الناس » وعلى هذا ، فيسقط الاستدلال رأسا ؛ لجواز أن يكون إشارة إلى أهل زمانه عليه‌السلام.

وأمّا عن الثانية : فبأنّا نسلّم أنّ بعضا من الخمسة والثلاثين ممّا يجب على كلّ مسلم أن يشهدها ويحضرها ، ولكن بيّن لنا ذلك البعض ، هل هو الركعتان الصادرتان من مطلق إمام الجماعة ، أو من إمام الأصل؟.

ووجوبه على كلّ مسلم لا يدلّ إلاّ على وجوبه عليهم عند تحقق شرائطه ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال : إنّ الصلوات الواجبة كثيرة ، منها ما يجب على كلّ‌

__________________

(١) في « ق » : بوقوعه.

٤٠