عدّة الأصول

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

عدّة الأصول

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


المحقق: محمد مهدي نجف
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

وليس لاحد أن يقول : فقد قال بعد ذلك والهدى» فيدخل فيه سائر الادلة، لان ذلك لا يصح من وجهين :

أحدهما: انه قال بعد ذلك من بعد ما بيناه للناس في الكتاب فقد عاد الامر الى أنه أراد به الكتاب.

والثاني: انه يقتضى وجوب اظهار ما هو دليل، ويحتاج أن يثبت أولا: ان خبر الواحد دليل بغير الآية حتى يتناوله قوله والهدى» فاذا لم يثبت دليل لا يمكن حمل الآية عليه، واذا اثبت استغنى عن الاستدلال بالاية .

وقد استدل الخلق منهم من الفقهاء والمتكلمين باجماع الصحابة بأن قالوا: وجدنا الصحابة قد عملت بأخبار لاحاد وشاع ذلك فيما بينهم، نحو ماروى عن عمر (۱) انه قبل خبر حمل بن

__________________

(۱) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبدالله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشى العدوى . أبو حفص ثاني من ولى الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . طعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبه في ذي الحجة من سنة (۲۳هـ ) .

٣٢١

مالك (۱) في الجنين (۲) وقال: كدنا أن نقضى فيه برأينا ، وخبر الضحاك (۳) في توريث المرأة من دية زوجها، وخبر عبد الرحمن (٤) في أخذ الجزية من المجوس .

____________________________________________

(۲) قوله ( في الجنين ) بوجوب غرة عبد أو أمة (٥)

(۳) قوله ( وخبر الضحاك ) هو الضحاك بن سفيان العامري (۶) عداده في أهل المدينة ، وكان ينزل بنجد، ولاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على من أسلم من قومه . وروى انه كتب اليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليورث امرأة

__________________

(۱) حمل بن مالك بن النابغة الهذلي بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر . نزل البصرة وله بها دار . من أهل المدينة ، ويعد في البصريين ، ومخرج حديثة في الجنين عند المدنيين ، وهو عند البصر بين أيضاً ، كانت عنده أمرأتان رمت احداهما الاخرى بحجر، أو مسطح ، أو عمود فسطاط فأصابت بطنها ، فألقت جنيناً فقضى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . قاله ابن عبد البرفي الاستيعاب .

(٤) عبد الرحمن بن عوف بن عبد بن الحرث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهرى يكنى أبا محمد . اسمه في الجاهلية عبد عمر ، وقيل : عبد الكعبة . اخرج ابو داود حديث ابن عباس قال فيه : جاء رجل من الاسبذيين من أهل البحرين ـ وهم مجوس هجر الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمكث عنده ثم خرج . فسألته ما قضى الله ورس وله فيكم؟ قال : شر، قلت : مه قال : الاسلام أو القتل . قال : وكان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الرحمن بن عوف ، فلما خرج سئل ؟ فقال : قبل منهم الجزية ، فقال ابن عباس : فأخذ الناس بقول عبد الرحمن ، وتركوا حديثي أنا عن الاسبذى .

(٥) من هنا سقط من النسخة المطبوعة .

(٦) الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب الكلابي ، یکنی با سعید . روى عنه سعيد بن المسيب والحسن البصرى .

٣٢٢

وكانوا في ذلك بين طائفتين، طائفة تعمل بهذه الاخبار، و الاخرى لا تنكر عليهم. فلولا ان العمل بها كان صحيحاً جائزاً والا كانوا (۱) قد أجمعوا على الخطاء وذلك لا يجوز .

والاستدلال بهذه الطريقة لا يصح من وجوه :

أحدها : ان هذه الاخبار التي رووها (۲) كلها أخبار آحاد، والطريق الى أنهم عملوا بها أيضاً أخبار آحاد، لانها لو كانت متواترة لكانت توجب العلم الضرورى عندهم، ونحن لا نعلم ضرورة أن الصحابة عملت بأخبار الاحاد، فاذا لا يصح الاعتماد على هذه الاخبار، لان المعتمد عليها يكون أوجب العمل بخبر الواحد وذلك لا يجوز (۳).

____________________________________________

أشيم الضبابي (۴) من دية زوجها. كذا في جامع الاصول لا بن الاثير (٥) .

(۱) قوله ( والا كانوا ) فيه تكرار معنى الشرط في النفي كما هو عادة المصنف رحمه‌الله .

(۲) قوله ( هذه الاخبار التي رووها ) أي ماروي من عمل عمر بما ذكر ويحتمل أن يراد بهذه الاخبار، خبر حمل، وخبر الضحاك ، وخبر عبد الرحمن قوله (و الطريق الى انهم عملوا أي الى ان الطائفة من الاصحاب عملوا بها.

(۳) قوله ( وذلك لا يجوز ) لاشتماله على الدور .

__________________

(٤) أشيم بوزن أحمد الضبابي . بكسر المعجمة بعدها موحدة وبعد الالف اخرى قتل في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسلما.

(٥) جامع الاصول ۵ : ۱۷۹ و ۱۸۰ .

٣٢٣

ولا خلاف أيضاً (۱) بين الاصوليين في أن وجوب العمل بأخبار الاحاد طريقة العلم دون الظن واخبار الاحاد. وقدد للناعلى انها لا توجب العلم، فسقط من هذا الوجه الاحتجاج بهذه الطريقة.

والثاني : انا لو سلمنا (۲) انهم عملوا بهذه الاخبار، من أين لهم انهم عملوا بها من حيث كانت اخبار آحاد، ومن أجلها وما ينكرون على من قال: انهم عملوا لدليل دلهم على صحة ما تضمنته هذه الاخبار أو قرينة اقترنت اليها (۳) أوجبت صحتها، أو يكون العامل بها كان قد سمع كما يسمع الراوى، فلما روى له ذلك تذكر ما كان

____________________________________________

(۱) قوله ( ولا خلاف أيضاً ) بحث آخر حاصله ان الاستدلال بما يفيد الظن بالحكم الاصولي الافادته الظن بالحكم الفروعي، ولا يفيد القطع بالحكم الأصولي ، لعدم قيام دليل قطعي على حجيته كالقياس وخبر الواحد على ما اعتبره العامة لا يكفي فيما نحن فيه وسيجيء تحقيق كون خبر الواحد على ما اعتبره العامة والقياس مفيدين للظن والفرق بينهما وبين ظاهر الكتاب في ذلك في ( فصل في تحقيق العموم باخبار الاحاد ) وقد مر أيضاً في أوائل هذه الحواشي ما يظهر منه .

(۲) قوله (والثاني انا لو سلمنا الخ) دعوى القطع في دلالة سياقها على ان العمل بها كما قيل محض اقتراح .

(۳) قوله (أو قرينة اقترنت اليها) الظاهر انه بناء على اعتقاد الحق الخلق المستدلين بهذه الطريقة أو عطف التفسير بأو بقرينة ما سبق في ابطال مذهب النظام من أن خبر الواحد لا يفيد العلم وان انضم اليه القرائن .

٣٢٤

نسیه فعمل به لاجل علمه لا لاجل روايته .

وليس لاحد أن يقول اذا عملوا عند سماع هذه الاخبار، ولم يعملوا قبل ذلك، علم ان عملهم لاجلها دون أمر آخر ويبين ذلك قول عمر في خبر الجنين كدنا أن نقضى فيه برأينا. وفي خبر آخر لولا هذا لقضيا فيه برأينا . فنبه انه عدل عن الرأى الى ما عمل به لاجل الخبر لا لاجل علمه أو أمر آخر .

وكذلك روى عنه انه كان ممن يرى المفاضلة في دية الاصابع حتى اخبر عن كتاب عمر و بن حزم (۱) ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «في كل اصبع عشرة من الابل (۲) فسوى بين الكل وفي ذلك ابطال قول من قال جوزوا أن يكونوا عملوا بهذه الاخبار لامر آخر .

وذلك انه لا يمتنع انهم قبل رواية هذه الاخبار لم يعملوا لانهم كانوا ناسين لذلك فلما روى لهم الخبر ذكروا ما كانوا نسوه فعملوا به لاجل الذكر لا لاجل الخبر. فأما قول عمر : كدنا ان نقضى فيه برأينا فلا يمتنع أيضاً أن يكون لما كان نسى الخبر وبعد عهده بـه

__________________

(۱) عمرو بن حازم بن زيد بن لوذان الخررجى النجارى من بني مالك بن النجار . استعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل نجران ، وهم بنو الحارث بن كعب ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن، وكتب له كتاباً فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات . مات بالمدينة سنة (٥١) هـ . وقيل غير ذلك .

(۲) جامع الاصول ٥ : ١٦٤ وفيه : (وفى كل اصبع مما هنالك عشر من الابل) .

٣٢٥

أراد أن يقضى برأيه فيه ، فلما روى له الخبر تذكر ما تضمنه الخبر فرجع الى ما علمه، واخبر انه لولا هذا الخبر الذي كان سبباً لتذكاره كاد أن يقضى برأيه.

وأما رجوعه الى كتاب عمر و بن حزم في الدية، فان كتاب عمرو بن حزم كان معلوماً بين الصحابة ، وانه من املاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يكن طريق ذلك خبر الواحد، فلاجل ذلك رجع اليه.

والثالث: انا لو سلمنا انهم عملوا بهذه الاخبار لاجلها لم يكن أيضاً فيه دلالة ، لانه ليس جميع الصحابة عمل بها، وانما عمل بها بعضهم وليس فعل بعضهم حجة ، وانما الحجة في فعل جميعهم .

وليس لهم أن يقولوا انهم بين طائفتين طائفة عملت بها وطائفة لم تنكر عليهم العمل بها، فلو لم يكن صحيحاً لكانوا قد أجمعوا على الخطاء، وذلك ان هذا لا يصح من وجهين :

أحدهما : أنه من أين لهم حيث لم ينكروا كانوا راضين بأفعالهم مصوبين لهم ما عملوا. وما المانع من أن يكونوا كارهين لذلك منكرين بقلوبهم، ومنع من اظهار ذلك بعض الموانع، وانما يمكن الاعتماد على سكوتهم ، اذا لم يكن لسكوتهم وجه غير الرضا فحينئذ يحمل عليه فاما ويمكن غير ذلك فينبغي أن لا يقطع به على الرضا.

وأيضاً فانما يجب عليهم انكار ذلك اذا علموا انهم عملوا بهذه

٣٢٦

الاخبار لاجلها وغير ممتنع أن يكونوا شاكين في حال العاملين بها مجوزين، لانهم عملوا بها لدليل دلهم على صحة هذه الاخبار أو لتذكرهم، فلاجل ذلك لم ينكروهم .

والوجه الثاني: انهم قد أنكروا اجمع العمل بخبر الاحاد، ألا ترى الى ماروى عن أبى بكر (۱) انه لم يقبل خبر المغيرة بن شعبة (۲) في الجدة (۳) حتى شهد معه محمد بن مسلمة (٤)

__________________

(١) أبو بكر بن أبي قحافة ، واسمه عتيق ، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة . واسم أبي بكر في الجاهلية عبد الكعبة، وسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله أول من ولى الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . ومات سنة (۱۳ هـ .).

(۲) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن قيس الثقفي أسلم قبل عمرة الحديبية ، وولى الكوفة من قبل عمر، وأقره عثمان في أول خلافته ثم عزله ، ثم ولاه معاوية الكوفة حتى مات سنة ( ٥٠ هـ . ) .

(۳) رواه ابن الأثير فى جامع الاصول ۱۰ : ۳۷۱ .

(٤) محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجذعة بن حارثة بن الحارث . مات بالمدينة سنة (٤٣هـ ). وقيل غير ذلك ، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ أمير على المدينة .

٣٢٧

و ماروى عن عمر (۱) انه لم يقبل خبر أبي موسى ( ۲ ) في الاستئذان (۳) حتى شهد معه أبو سعيد (٤) .

وماروى عن على عليه‌السلام انه لم يقبل خبر ابن سنان الاشجعي

____________________________________________

(۱) قوله ( وما روي عن عمر ( ذكر بعض العاملين أو جميعهم في المنكرين ليس رجوعاً عن التسليم ، لان هذا في مقام المعارضة أو النقض الاجمالي ، أو لان انكار العاملين في وقت آخر أشد دلالة على عدم الاجماع على جواز عملهم .

فالمراد لا نسلم ، عدم النكير حتى ان العاملين أيضاً أنكروا على أنفسهم في وقت آخر .

(۳) قوله (في الاستئذان) هو ما قال أبو موسى الاشعرى : سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول : اذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثأفلم يؤذن له فاليرجع ) (۵) فانكر عمر حتى رواه أبو سعيد الخدري .

__________________

(۲) أبو موسى ، عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن بكر الاشعرى . ولاه عمر بن الخطاب البصرة اذ عزل عنها المغيرة ، ولم يزل على البصرة الى صدر من خلافة عثمان . ثم أقر ولايته على الكوفة ، فلم يزل على الكوفة حتى مات عثمان ، ثم كان منه بصفين وفي التحكيم ما كان . قال ابن عبد البرفي الاستيعاب : وكان منحرفاً عن على رضى الله عنه لانه عزله و لم يستعمله مات سنة (٤٢هـ .) وقيل غير ذلك .

(٤) أبو سعيد ، سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر الخدري . صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وروى عنه . مات سنة (٧٤ هـ .) .

(٥) سنن أبى داود ٤ : ٣٤٥ الحديث ٥١٨٠ .

٣٢٨

وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ، ورد هذه الاخبار ظاهر بينهم (۱) كما ظهر بينهم العمل بما ذكروه من الاخبار .

فان كان عملهم بما عملوه دليلا على جوازه، فردهم لماردوه يجب أن يكون دليلا على المنع منه، ولا فرق بينهما على حال.

وليس لاحد أن يقول: نحن لا ننكر ردكثير من الاخبار اذا لم يكن شرط وجوب القبول فيه ثابتاً، وذلك ان هذا التأويل في رد هذه الاخبار، انما يسوغ اذا ثبت انهم عملوا بخبر الواحد (۲) فاما ولما يثبت ذلك بل نحن في سبر ذلك، فلا يمكن تأويل ذلك، ولا فرق بين (۱) تأول هذه الاخبار. وقال انهم ردوها لبعض العلل، ليسلم

____________________________________________

(۱) قوله (ظاهر بينهم) أي بين المخالفين .

(۲) قوله (اذا ثبت انهم عملوا بخبر الواحد) أي جميع الاصحاب ، اما صريحاً أو بترك النكير بحيث يحصل الاجماع ، وليس المراد الطائفة التي ذكر انهم عاملون ، لانه رجوع عن التسليم .

(۳) قوله (ولا فرق بين الخ) لا يقال بينهما فرق باعتبار التسليم ، لانا نقول المسلم عملهم بها لاجلها ، باعتبار دلالة الظاهر عليه لا مطلقاً . وهذا الظاهر قائم في رد هذه الاخبار ، فبعد التسليم أيضاً لو اول الرد اول القبول ، لعدم الفرق بينهما في دلالة الظاهر الحال تسليماً تاماً .

والتفاوت في قوة دلالة الظاهر في أحدهما دون الآخر لا يضر، لان المراد عدم الفرق في أصل الدلالة ، و هذا الكلام مع ما قبله مذكور في السند

٣٢٩

له العمل بتلك الاخبار وبين من عكس ذلك فقال: انهم عملوا بتلك الاخبار لقيام دليل دلهم على ذلك غير نفس الاخبار، لتسلم له ظواهره هذه الاخبار .

ولا فرق بينهما على حال على ان هذه الطريقة التي اعتمدوها يوجب عليهم وجوب النسخ بخبر الواحد، لانهم نسخوا القبلة بخبر الواحد ، لانه روى ان أهل قباء كانوا في الصلاة ، متوجهين الى بيت المقدس فجائهم مخبر فقال لهم : ان النبي صلى الله عليه و آله وسلم حول قبلته الى الكعبة، فداروا الى التوجه الى الكعبة، وكان ذلك في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم نجده صلى‌الله‌عليه‌وآله أنكر عليهم ذلك، فينبغى أن يكون على قانون طريقتهم يجوز النسخ بخبر الواحد، وذلك لا يقوله أحد .

وليس لهم أن يقولوا: ان أهل قبا كانوا قد علموا نسخ القبلة

____________________________________________

استظهاراً ، أو يكفي لمنع عدم وقوع النكير احتمال عدم تأويل أخبار الرد ، وان كان احتمالا مرجوحاً ، اذ طريق وجوب العمل باخبار الاحاد العلم دون الظن كما مر .

والقول بأن انضمام واحد لا يخرجه عن أخبار الاحاد ، ولا يضر، لانا بعد التسليم لا ننكر عملهم ، بل سندنا انكارهم له في بعض الاحيان . فانه يدل ظاهراً على عدم الاجماع على ما ادعى عليه الاجماع في الدليل ، لان احتمال اشتراط العدد لا يحتاجه ، لانه لم ينضم اليه أحد .

٣٣٠

بغير ذلك الخبر، فلاجل ذلك عملوا به، لان عليهم فيما استدلوا به من الاخبار مثله، بأن يقال: وانما عملوا بتلك الاخبار، لانه كان سبق لهم العلم بما تضمنته تلك الاخبار، فذكروه عند حصولها، كما قلتموه في أهل قباء حذو النعل بالنعل .

واستدلوا أيضاً بما كان من النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعثه رسله الى الاطراف ، وعماله ، وسعاته الى النواحي. وأمره اياهم بالدعاء الى الله تعالى والى رسوله وشريعته ، فلولا ان القبول كان واجباً منهم، والا لم يكن لذلك فائدة .

وهذا لا يمكن الاعتماد عليه، لان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث برسله ويأمرهم أولا بالدعاء الى الله تعالى والى رسوله صلى الله عليه و آله.

ولا خلاف ان ذلك طريقه الدليل، وانه لا يجوز قبول خبر الواحد فيه ، بل يجب الرجوع في ذلك الى الادلة الواضحة فيه فكذلك القول في الاحكام الشرعية .

فان قالوا: انهم كانوا يدعونهم الى معرفة الله تعالى وينبهونهم على ما هو مركوز في عقولهم من الادلة الدالة على توحيده وعدله وكذلك يدعونهم الى النبوة والاقرار به، ويقرؤن عليهم القرآن الدال على صدقه في دعواه .

قيل لهم : فاذا قد صار لدعائهم الى ما يدعون اليه فائدة غير

٣٣١

وجوب القبول منهم، واذا جاز ذلك فى المعرفة والنبوة، جاز له أن يقول في أحكام الشريعة مثله . بأن يقول انهم كانوا ينبهونهم على الطرق الدالة على أحكام الشريعة من الكتاب والسنة المتواترة بها ويجب عليهم النظر فيها، ليحصل لهم العلم بصحة ما يتضمنه

ثم يقال لهم : طريق التعبد بخبر الواحد ووجوب العمل به الشرع، لان العقل قد بينا انه لا يدل على ذلك، فمن اين يعلمون انهم قد تعبدوا وجوب القبول من الرسل والعمال وغيرهم ، حتى يجب عليهم القبول منهم ؟ فان أحالوا على جهة من الجهات من تواتر اوغير ذلك ، قلنا مثله في سائر الاحكام ، وسقط التعلق بهذه الطريقة.

فان قيل : فما قولكم في المواضع النائية التي يقطع على انه لا تواتر اتصل بهم بأحكام الشريعة ، أليس كان يجب عليهم القبول من الرسل والعمال ، وليس هناك طريق يعلمون به أحكام الشريعة .

قيل له: اذا فرضت المسألة في الموضع الذي ذكر في السؤال فلاصحابنا عن ذلك جوابان :

أحدهما : انه لا يجب عليهم القبول منهم، وينبغي أن يكونوا (۲)

____________________________________________

(۲) قوله (وينبغي أن يكونوا الخ) قد مر ما فيه ، فيجب عليهم ان لم يمكن لهم تحصيل العلم القبول فيما لا يجري فيه احتياط .

٣٣٢

متمسكين بحكم العقل الى أن ينقطع عذرهم بأحكام الشريعة فحينئذ يجب عليهم العمل به.

والجواب الثانى (۱): انه اذا كان القوم بحيث لم يتصل بهم الشريعة على وجه ينقطع العذر، وكانت المصلحة لهم في العمل بتلك الشريعة ، فانه لا يجوز ان يبعث اليهم الا معصوماً لا يجوز عليه التغير والتبديل، ويظهر على يده علم معجز يستدلون به على صدقه، فاذا علموا صدقه، وجب عليهم القبول منه، وعلى الوجهين جميعاً سقط السؤال .

ثم يقال لهم : اذا كان القوم، بحيث فرضتم من البعد، من أين يعلمون انهم متعبدون بوجوب قبول قول الرسل، والرجوع الى ما يقولونه في أحكام الشريعة؟ فلابد لهم من أن يحيلوا على جهة اخرى غير مجرد أقوالهم. فنقول لهم مثل ذلك في سائر الاحكام، وسقط السؤال .

واستدلوا أيضاً بأن قالوا : لا خلاف فى أنه يجب على المستفتي الرجوع الى المفتى مع تجويزه الغلط عليه، فكذلك أيضاً يجب الرجوع الى خبر الواحد، وان جوز على المخبر الغلط.

____________________________________________

(۱) قوله (والجواب الثاني الخ) هو الحق بحسب أصل الشريعة ، بناءاً علی مامر من ادلة العقل والنقل على عدم اتباع الظن، مع عدم حدث من الناس.

٣٣٣

وهذا أيضاً لا يصح الاستدلال به لان لاصحابنا في هذه المسألة مذهبين :

أحدهما : انه لا يجوز (۱) للمستفتى القبول من المفتى، بل يلزمه طلب الدليل. كما لزم المفتى، فعلى هذا سقط السؤال .

والمذهب الآخر : انه يجوز ذلك .

والجواب عنه على هذا المذهب: ان هذا قياس، ولا خلاف ان هذه المسألة لا تثبت بالقياس لان طريقها العلم (۲) ولم اذا

____________________________________________

(۱) قوله (أحدهما : انه لا يجوز الخ) هذا اشارة الى منع قول المستدل لاخلاف الخ).

والثاني : اشارة الى منع قول المستدل (فكذلك أيضاً الخ) . وانما ذكر الجوابين بعنوان النقل لعدم ارتضائه الأول منهما ، كما سيجيء في (فصل في صفات المفتي والمستفتي) .

واكتفاؤه في الجوب بهذين يدل على انه جعل المتنازع فيه، جواز العمل بخبر الواحد بدون الافتاء بمضمونه ، والقضاء به والا فالفرق بين المقيس والمقيس عليه يصير ظاهر آلانه لا يجوز للمستفتي الافتاء والقضاء بما استفتى فيه.

هذا وظاهر ابن بابويه جعل العمل بخبر الواحد فرداً من العمل بالفتوى حيث سمى كتابه (كتاب من لا يحضره الفقيه) وأدخل في جملة كتابه رسالة أبيه اليه، لحسن ظنه به انه لا يفتي الا عن علم وتدبر .

(۲) قوله (لا تثبت بالقياس لان طريقها العلم) يعني ان القياس انما يفيد الظن ، وسيجيء معنى افادة القياس وخبر الواحد على ما اعتبرته العامة مفيداً

٣٣٤

وجب ذلك في المستفتى والمفتى يجب مثل ذلك في خبر الواحد ؟ فان جمعوا بينهما بعلة انه يجوز (۱) على كل واحد منهما الخطأ كان ذلك قياساً، وقد اتفقنا على ان طريق وجوب العمل بخبر الواحد العلم دون القياس على ان ذلك انما يمكن أن يستدل به على جواز ورود العبادة بخبر الواحد دون أن يجعل طريقاً الى وجوب ذلك، وهذه الجملة كافية في ابطال الشبهة .

وقد استدلوا باشياء تجرى مجرى ما ذكر نساه مثل حملهم ذلك على الشهادة وغير ذلك، والجملة التي ذكرناها تنبه على طريقة الكلام على جميع ذلك، فلافائدة في التطويل

فأما من راعى أن يكون الراوى أكثر من واحد، واستدلاله

____________________________________________

للظن فقط في (فصل في تخصيص العموم بأخبار الاحاد) .

(۱) قوله (بعلة انه يجوز الخ) لا يتوهم العلية في جواز الخطاء بل انما يتوهم في الظن الصدق المشتمل على جواز الخطاء ، ولذا قال: (على ان ذلك الخ) يعني جواز الخطأ مع ورود التعبد يدل على عدم مانعية جواز الخطأ عن التعبد ولا يعلم مانع عقلي غير هذا في خبر الواحد فيجوز التعبد به عقلا

فهذه العلاوة بحث في الحقيقة على ظاهر التقرير، وأما جعله اشارة الى الفرق الذي ذكرنا بحمل قوله دون أن يجعل طريقاً الى وجوب ذلك ، على أن يكون المراد دون أن يجعل خبر الواحد دليلا على ثبوت الاحكام في نفسها يفتي بها ويقضي عليها فمن بعيد الحمل .

٣٣٥

على ذلك بخبر أبى بكر فى الجدة وخبر عمر في الاستئذان، وحديث ذي اليدين (۱) في سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانه لم يقبل منه حتى سأل غيره من الصحابة (۲) وحمله ذلك على الشهادة وغير ذلك، فما ذكرناه من الكلام على من لم يراع العدد كلام عليه .

لانا اعتبرنا المنع (۳) من كل خبر لا يوجب العلم ، فلا وجه لاعتبار هذا العدد .

وقلنا : ان هذه الاخبار كلها أخبار آحاد لا يصح التعلق بها ، و منعنا من انهم عملوا بها لاجلها، ومنعنا أيضاً من أن يكونوا كلهم عملوا بها. وبينا ايضاً (٤) انهم انكروا أيضاً العمل باخبار الاحاد في مواضع، فالطريق الى ابطال ذلك واحد .

فأما ما اخترته من المذهب، فهو ان خبر الواحد اذا كان وارداً

____________________________________________

(۱) قوله (لانا اعتبرنا المنع الخ) هنا محمول على الاصطلاحي، وقوله (وقلنا) الى قوله (فالطريق الى ابطال ذلك واحد) تفسير لاعتبار المنع .

(۲) قوله ( وبينا أيضاً الخ) لم يبين بما سبق انكارهم العمل بأخبار الاحاد اذا كان الراوي أكثر من واحد .

__________________

(۳) ذو اليدين : واسمه الخرباق السلمى من بني سليم . كان ينزل بذى جشب من ناحية المدينة ، عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين ، وشهده أبو هريرة لما سها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة . أسلم عام خيبر بعد بدر بأعوام . قاله ابن الاثير في اسد الغابة .

(٤) سنن ابی داود ١ : ٢٦٤ .

٣٣٦

من طريق أصحابنا القائلين بالامامة ، وكان ذلك مروياً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، أو عن واحد من الأئمة عليهم‌السلام .

وكان ممن لا يطعن في روايته (۱) ويكون سديداً في نقله (۲) ولم تكن هناك قرينة (۳) تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لانه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم. ونحن نذكر القرائن فيما بعد التي جاز العمل بها .

والذي يدل على ذلك (٤) اجماع الفرقة المحقة، فاني وجدتها

____________________________________________

(۱) قوله ( وكان ممن لا يطعن في روايته ضمير (كان ) لخبر الواحد ، والظرف في (ممن) متعلق بوارد ، و (لا يطعن) بصيغة مجهول باب منع، والظرف نائب الفاعل ، وضمير ( روايته ) لـ ( من ) ويجيء أقسام الطعن في ذيل هذا الفصل في قوله وقالوا فلان متهم في حديثه ، وفلان كذاب ، وفلان مخلط الخ ) .

(۲) قوله ( ويكون سديداً في نقله عطف على (يطعن) فالضمير لـ (من) والمراد أن يكون مستقيماً في نقل خبر الواحد، بأن لا يكون في متن خبره فساد، كاخبار الجبر والتشبيه ونحو ذلك .

(۳) قوله (ولم تكن هناك قرينة الخ) انما لم يذكر هذا الشرط فيما سبق في صدر البحث لظهوره ، فالظاهر ان المصنف لا يحوز العمل به فيما يمكن تحصيل العلم به ، ويجوز فيما لا يمكن ، ولا يوجب الاحتياط فيما يمكن فيه الاحتياط .

(٤) قوله (والذي يدل على ذلك الخ) يمكن الاستدلال على جواز العمل

٣٣٧

مجمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في اصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى ان واحداً منهم اذا أفتى بشيء لا يعرفونه (۱) سألوه من أين قلت هذا ؟ فاذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الامر في ذلك، وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمة عليهم‌السلام ومن زمن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزاً لما أجمعوا على ذلك ولا نكروه، لان اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو .

____________________________________________

بخبر الواحد في الجملة دون الفتوى والقضاء به ، بأنه لو لم يجز لكان الامر في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ضيقاً جداً على من لم يحضر مجلسهم، والعادة قاضية بأن الأمر لو كان بهذا الضيق في مثل هذا الامر العام البلوى ، لتواتر الينا من النبي والأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم المنع من العمل به والتضيقات فيه، ولم يبلغ الينا ذلك دون التواتر فضلا عن التواتر .

(۱) قوله (اذا افتى بشيء لا يعرفونه) ذكر الافتاء مسامحة ، والمراد رواية الفتوى ، أو الاخبار عن عمله بشيء للتبنية على طريقه ، والقرينة ما سيجيء في (فصل في صفات المفتي والمستفتي من اشتراط العلم في الافتاء ، فلو حمل على الظاهر لكان هذا داخلا فيما فيه قرينة موجبة للعلم .

٣٣٨

والذي يكشف عن ذلك انه لما كان العمل بالقياس محظوراً في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلا، واذا شذ منهم واحد عمل به في بعض المسائل، أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه، وان لم يعلم اعتقاده تركوا قوله أو أنكروا عليه وتبرأوا من قوله ، حتى انهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس فلو كان العمل بخبر الواحد يجرى ذلك المجرى، لوجب أيضاً فيه مثل ذلك وقد علمنا خلافه .

فان قيل : كيف تدعون الاجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد، والمعلوم من حالها انها لاترى العمل بخبر الواحد، كما ان المعلوم من حالها انها لا ترى العمل بالقياس، فان جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الآخر .

يقال لهم: من حالها الذى لا ينكر ولا يدفع انهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه فأما ما يكون راويه منهم، وطريقه أصحابهم ، فقد بينا ان المعلوم خلاف ذلك، وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضاً. وانه لو كان معلوماً حظر العمل بخبر الواحد، لجرى مجرى العلم بحظر القياس وقد علم خلاف ذلك .

فان قيل : أليس شيوخكم لاتزال يناظرون خصومهم في ان خبر الواحد لا يعمل به، ويدفعونهم عن صحة ذلك، حتى ان منهم

٣٣٩

من يقول: لا يجوز ذلك عقلا. ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك، لان السمع لم يرد به. وما رأينا أحداً منهم تكلم في جواز ذلك ، ولا صنف فيه كتاباً ، ولا أملا فيه مسألة ، فكيف تدعون أنتم خلاف ذلك ؟

قيل له : الذين أشرت اليهم من المنكرين لاخبار الاحاد، انما كلموا من خالفهم في الاعتقاد، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الاخبار المتضمنة الاحكام التي يروون هم خلافها ، وذلك صحيح على ما قدمناه ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم وأنكر بعضهم على بعض بما يروونه، الا مسائل دل الدليل الموجب للعلم على صحتها ، فاذا خالفوهم فيها ، أنكروا عليهم لمكان الادلة الموجبة للعلم، والاخبار المتواترة بخلافه .

فأما من أحال ذلك عقلا، فقد دللنا فيما مضى على بطلان قوله وبينا ان ذلك جائز . فمن أنكره كان محجوجاً بذلك، على ان الذين اشير اليهم فى السؤال، أقوالهم متميزة من بين أقوال الطائفة المحقة، وعلمنا انهم لم يكونوا أئمة معصومين وكل قول علم قائله، وعرف نسبه، وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقة، لم يعتد بذلك القول. لان قول الطائفة انما كان حجة من حيث كان فيها معصوم فاذا كان القول صادراً من غير معصوم، علم ان قول المعصوم داخل في باقي الاقوال، ووجب المصير اليه على ما نبينه في باب الاجماع.

٣٤٠