عدّة الأصول

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

عدّة الأصول

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


المحقق: محمد مهدي نجف
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة على خير خلقه محمد، وآله الطيبين. قد سألتم أيدكم الله ، املاء مختصر في أصول الفقه، يحيط بجميع

____________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على سيدنا ونبينا ، وعدتنا في شدتنا محمد ، وعلى سيد الأوصياء ، وسند الأولياء ، أمير المؤمنين ، وآلهما الطيبين الطاهرين، ولاسيما حجة الله على العالمين ، وأمينه في أرضه وسمائه ، الحجة ابن الحسن ، الامام المنتظر ، القائم بالحق . رزقنا الله تعالى ادراك دولته ، وحسن ملازمته ، به و بآبائه عليهم‌السلام .

أما بعد : فيقول الغني بربه عما سواه ، خليل بن الغازي القزويني ، تجاوز الله تعالى عن سياتهما ، وآتاهما كتابهما بيمينهما . ان أكثر اخواننا في الدين من أهل زماننا ، قد رغبوا عن كتب أصول الفقه ، لاصحابنا الامامية رضوان الله عليهم ، زعماً منهم أن بعض كتب المعاصرين ، كالشرح العضدي

٣

أبوابه، على سبيل الايجاز والاختصار . على ما تقتضيه مذاهبنا ، وتوجبه اصولنا . فان من صنف في هذا الباب ، سلك كل قوم منهم

____________________________________________

للمختصر الحاجبي (١) ، أسد تحريراً بل أتقن حجة من كتب أصحابنا .

واني كنت برهة من الزمان مشغولا بقرائته، وبرهة اخرى مشغوفاً بمدارسته وترويجه ، بالتكلفات كما هو عادة المدرسين ، في دفع الاشكالات المتوجهة على الكتب المقروءة عليهم ، وكان توجه الاخوان اليه باعثاً على رواج كثير من أباطيل النواصب و برهانهم . حتى صار ذلك قادحاً في ايمان بعض من ضعفاء العقول ، بحيث لا يشعر ، وكبرهان النواصب على صدق مقالاتهم.

ثم تنبهت ، فرأيت ان صرف طلب العلم من أصحابنا وفقنا الله تعالى و اياهم للتقوى، عن مثل هذه الطريقة من أكرم المثوبات . فعلقت هذه الحواشي على كتاب العدة في اصول الفقه ، لشيخ الطائفة الامامية محمد بن الحسن الطوسي ، جزاه الله تعالى جزاء السابقين ، وبسطت بعض الحواشي بحيث يصلح لان يجعل رسالة مفردة ، ولا سيما الحاشية الأولى (٢) . افصاحاً عن بعض سر وجوب الائتمام بأهل البيت عليهم‌السلام ، وافضاحاً لمن لم يصف آثارهم عليهم السلام كائناً من كان .

وقصدت في أكثر المباحث التي يقع الخلاف فيها بينه وبين المختصر

__________________

(۱) منتهى السوؤل والأمل ، لجمال الدين ، عثمان بن عمر، المعروف بابن الحاجب المالكي . المتوفى سنة ٦٤٦ هـ . صنفه أولا ، ثم اختصره ، وهو المعروف اليوم بـ مختصر ابن الحاجب ، أو مختصر المنتهى)

وشرحه ، عضد الدين ، عبد الرحمان بن أحمد الايجى . المتوفى سنة ٧٥٦ هـ .

(۲) لعل المراد بالحاشية الأولى ، هي الحاشية التي ذكرناها في ذيل هذه المقدمة لانها أوسع الحواشي التي عثرنا عليها لحد الان .

٤

المسلك الذي اقتضاه اصولهم، ولم يعهد لأحد من أصحابنا في هذا المعنى، الا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله (۱) رحمه‌الله ، في المختصر

____________________________________________

أو متعلقاته الى رد المخالف ، اما بتقرير واف يظهر به على المنصف اللبيب بطلان المخالف . واما ينقله بقيل ، والتصريح بما يرد عليه .

هذا مع ان الحق الصريح في الاصولين ، والفقه ، والتفسير ، انما هو في الكتب الموثوق بها في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام .

فمن وفقه الله تعالى لحسن ملازمتها ، لا عبرة له كثيراً بغيرها من الكتب . ولكني أسففت اذ أسفوا ، وطرت اذ طاروا ، وأعوذ بالله من التورط في الجدال والمراء لغير المغفور في الدين ، والاحتجاج فيه بما لا يطابق كلام أهل الذكر الأئمة عليهم‌السلام من أهل البيت عليهم‌السلام .

فقد روي في الكافي، في باب النهي عن الكلام في الكيفية (٢) ، عن أبي

__________________

(۱) هو الشيخ المتقدم الوحيد ، أبو عبد الله ، محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن نعمان بن سعيد العربي ، الكبرى ، البغدادي ، الملقب بـ (الشيخ المفيد) ، والمعروف به (ابن المعلم) . كان من أجل مشايخ الشيعة ورئيسهم ، واستاذهم. و كل من تأخر عنه استفاد منه . و فضله أشهر من أن يوصف ، في الفقه و الكلام و الرواية . أوثق أهل زمانه وأعلمهم . انتهت رئاسة الامامية اليه في وقته .

خرجت له من صاحب الأمر صلوات الله عليه وعلى آبائه كتب ثلاث ، في كل سنة كتاباً ، وكان نسخة عنوان الكتاب : للاخ السديد ، والولى الرشيد ، الشيخ المفيد أبي عبد الله ، محمد بن محمد بن النعمان أدام الله اعزازه .

كان مولدة الشريف يوم الحادى عشر من شهر ذي القعدة سنة ست وثلاثين وقيل : ثمان وثلاثين وثلثمائة. وتوفى رحمه‌الله ، ليلة الجمعة ، لثلاث خلون من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة .

(۲) اصول الکافی ۱ : ۹۲ حدیث ٤ .

٥

الذي له في أصول الفقه ولم يستقصه . وشذ منه أشياء يحتاج الى استدراكها، وتحريرات غير ما حررها

وان سيدنا الاجل المرتضى (١) أدام الله علوه، وان كثر في

____________________________________________

عبيدة الحذاء (۲) انه قال: قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : يا زياد، اياك والخصومات فانها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردى صاحبها. وعسى أن يتكلم بالشيء لا يغفر له . الحديث

وفيه في باب الاضطرار الى الحجة، (۳) عن يونس بن يعقوب (۴) ، عن

__________________

(١) أبو القاسم ، على بن الحسين بن موسى بن محمد بن محمد بن ابراهيم بن الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام . المرتضى ، علم الهدى . حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه ، وسمع من الحديث فأكثر ، وكان متكلماً ، شاعراً ، أديباً ، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا . قاله النجاشي في رجاله : ۱۹۲ .

كان مولده الشريف في بغداد ، في رجب ، سنة ٣٥٥ هـ . و توفى رضى الله عنه الخمس بقين من شهر ربيع الأول ، سنة ست وثلاثين وأربعمائة

(۲) قال النجاشي في رجاله : ۱۲۲ : زياد بن عيسى ، أبو عبيدة الحذاء ، كوفي مولسى ، ثقة . روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام . . . وقال الحسن بن على بن فضال : ومن أصحاب أبي جعفر ، أبو عبيدة الحذاء ، واسمه زياد . مات في حياة أبي عبد الله عليه‌السلام . وقال سعد بن عبد الله الاشعرى : ومن أصحاب أبي جعفر ، أبو عبيدة ، وهو زياد بن رجاء ، كوفى ثقة صحيح . واسم أبى الرجا منذر ، وقيل : زياد بن أحرم ولم يصح . وذكر الكشى في رجاله : ٣٦٨ : عن الارقط ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : لما دفن أبو عبيدة الحذاء قال : قال : انطلق بنا حتى نصلى على أبي عبيدة ، قال فانطلقنا ، فلما انتهينا الى قبره ، لم يزد على أن دعا له فقال : (اللهم برد على أبي عبيدة ، اللهم نور له قبره ، اللهم الحقه بنبيه) .

(۳) اصول الکافی ۱ : ۱۷۱ حدیث ٤ .

(٤) قال النجاشي في رجاله : ۳۱۱ : يونس بن يعقوب بن قيس ، أبو على

٦

أماليه ، وما يقرأ عليه ، شرح ذلك . فلم يصنف في هذا المعنى شيئاً يرجع اليه

وقلتم ان هذا فن من العلم ، لابد من شدة الاهتمام به ، لان

____________________________________________

أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل، فقلت: جعلت فداك، اني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لاصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد، وهذا لا ينقاد. وهذا ينساق وهذا لا ينساق. وهذا نعقله، وهذا لانعقله. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ( انما قلت: ويل لهم ان تركوا ما أقول، وذهبوا الى ما يريدون). الحديث

وقد وردت تشديدات في النهي عن أمثال ذلك في الدين، عن أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام ، بطرق متعددة، مذكورة في كتب أصحابنا في الحديث (۱) وتوكلت على الله في الفتق والرتق، وهو حسبي ونعم الوكيل .

__________________

الجلاب البجلي الدهني . اختص بأبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام ، وكان يتوكل لابي الحسن ، ومات بالمدينة في أيام الرضا عليه‌السلام ، فتولى أمره ، وكان حظياً عندهم ، موثقاً . وقال الكشي في رجاله : ٣٨٦ : مات يونس بن يعقوب بالمدينة ، فبعث اليه أبو الحسن الرضا عليه‌السلام بحنوطه و كفته وجميع ما يحتاج اليه ، وأمر مواليه ، وموالى أبيه وجده أن يحضروا جنازته ، وقال لهم : (هذا مولى لابي عبد الله ، وكان يسكن بالعراق ، وقال لهم : احفروا له في البقيع).

(۱) انظر اصول الکافی ١ : ٤٢ ـ ٤٨ .

٧

الشريعة كلها مبنية عليه (۱) . ولا يتم العلم بشيء منها من دون احكام اصولها (۲) ومن لم يحكم اصولها فانما يكون حاكياً

____________________________________________

(۱) قوله (لان الشريعة كلها مبنية عليه الخ). اشارة الى دليل على وجوب شدة الاهتمام بعلم اصول الفقه، ليتبين به فائدته والحاجة اليه .

وتحرير الدليل: ان علم المكلف بجواز كل ما يصدر عنه، جوازاً شرعياً وأصلياً بالفعل انما هو بعلمه بجميع الواجبات الشرعية ، الواصلية بالفعل، و تميزها عما عداها . وعلمه بجميع المحظورات الشرعية الواصلية بالفعل و تميزها عما عداها. وهما موقوفان على العلم بقواعد كلية غير معلومة، الا بشدة الاهتمام بها .

اذ ليس هذان العلمان ضروريين ، لا منحصراً معلوماتهما في جزئيات متناهية. وهذه القواعد، مسماة باصول الفقه ، فيجب العلم بها وجوباً شرعياً، واصلياً ، وواقعياً

فالمراد بـ ( الشريعة) في كلام المصنف الاحكام الشرعية الواصلية .

والمراد بـ (كلها ) جميع أقسامها ، وجزئياتها، وانما جعله العلة مع ان العلة بناء الوجوب والحظر، وتمييز كل منهما عما عداه عليه . لأن العلم بهما مع التمييز، لا يمكن عادة بدون العلم بالباقي .

فمبناهما مبني للجميع . ثم الايجاب الكلي هنا مبني على الغالب ، لان بعض الواجبات والمحظورات معلوم قبل العلم باصول الفقه اما بعلم الكلام أو بغيره كما يظهر من بيان الحاجة .

(۲) والمراد بـ (احکام اصولها) بكسر الهمزة . العلم بالاصول . فان احكام الشيء في الاصل، اتقانه ومنعه عن احتمال تطرق الفساد. والضمير في اصولها لـ ( الشريعة) .

٨

ومقلداً ، (۱) ولا يكون عالماً . وهذه منزلة يرغب أهل الفضل عنها.

____________________________________________

(۱) والمراد بكونه (حاكياً ومقلداً) أن يعمل مثل عمل الغير بدون أن يعلم أنه لا يستحق العقاب عليه. و أهل الفضل أهل الدين والتقوى . والرغبة عن هذه المنزلة أي الحكاية والتقليد، انما هي لما ذكرنا من المقدمة الضرورية للدين بل للتكليف .

وهذا الدليل يدل على وجوب العلم بمسائل اصول الفقه، وانه لا يجوز الاكتفاء فيها بالظن. ولذا ذكروا في حدها العلم وجعلوها فناً من العلوم المدونة كما قال المصنف : هذا فن من العلم وقال : (من دون احكام اصولها ) ومن لم يحكم اصولها وصرح المصنف وغيره، بأن المبتغي بهذه الاصول ، العلم. كما سيجيء في آخر الفصل الاول .

لا يقال: كثيراً ما يستدل المصنف وغيره على مسائل الاصول بظاهر القرآن وهو لا يفيد العلم بجواز التأويل، والتخصيص فيه، وان بذل الجهد، ولم يطلع عليه .

وهذا يدل على جواز الاكتفاء فيها بالظن كما قيل : من انه لا يشترط القطع في الاصول . لان السلف أثبتوا حجية الاجماع والقياس بالظواهر من غیر نکیر، (انتهى) .

وهذا يعارض دليلكم، ولذا قيل : ان اشتراط القطع في الاصول وعدمه على كل منهما دلائل واعتراضات مشكلة من الجانبين، سواء استدل المستدل على عدم اشتراطه، أو على اشتراطه فالقوة للمعترض لضعف الادلة ، (انتهى) .

لانا نقول: هذا خلط بين الاحكام الأصولية الواصلية، والاحكام الاصولية الواقعية وهو كشبهة تورد في المشهور على كون الفقه علماً، وكون طريقه في الغالب

٩

وأنا مجيبكم الى ما سألتم عنه، مستعيناً بالله وحوله وقوته وأسأله

____________________________________________

ظاهر القرآن، ونحوه .

وقد بينا الفرق بينهما، بيان ذلك ، ان عمل المكلف بما علم أن وجوبه الواقعي مقتضى ظاهر القرآن، ولم يجد له تأويلا، أو تخصيصاً، مع بذل الجهد في الطلب واجب، واصلي ثابت وجوبه سواء كان من موضوعات مسائل الاصول أو الفروع بدليل قطعي، بل هو من ضروريات الدين .

ولذا لم يذكر المصنف في هذا الكتاب دليلا عليه، مع بناء بعض الاستدلالات عليه .

فاذا اقتضى ظاهر القرآن الوجوب الواقعي للعمل بخبر الواحد مثلا، كان قولنا : العمل بخبر الواحد واجب بالوجوب الواقعي، غير مقطوع به ، و غير داخل في مسائل اصول الفقه . وكان قولنا : العمل بخبر الواحد واجب بالوجوب الواصلي مقطوعاً به بعد بذل الجهد ، وفقد معارض للظاهر. وهو من جملة مسائل اصول الفقه.

وقد ذكرنا ان نتيجة المسائل الاصولية ، الاحكام الفقهية الواصلية لا الواقعية ، وقس على ذلك غير الوجوب من الاحكام . وقد ثبت أيضاً بدليل قطعي أنه يجب العمل بخبر الواحد ، الجامع للشروط المقررة في اصول الفقه .

فكان الوجوب الواصلي للعمل بخبر الواحد دل على أن الأمر يقتضي وجوب المأمور به معلوماً قطعاً، لكنه لم يثبت عند أكثر الأصوليين قالوا: لا يجوز العمل بخبر الواحد ، في مسائل اصول الفقه . لان غاية ما يفيده الظن (انتهى) .

١٠

أن يعين على ما يقرب من ثوابه . ويبعد من عقابه .

____________________________________________

ولا ينافي ذلك، أن يفيد خبر الواحد في مسائل الفروع العلم، والاصوب أن محمولات مسائل اصول الفقه، اقتضاء الاحكام. كما في قولهم : الامر يقتضي وجوب المأمور به. وسيجييء .

وحينئذ نقول: هذا خلط بين الاقتضاء الواقعي ، والاقتضاء الواصلي، و المراد بهما ظاهر بالمقايسة، وعلى هذا يندفع أيضاً ما قيل : على الاستدلال بظاهر القرآن، على حجية الاجماع، من أنه لا يصح . لان التمسك بالظاهر انما يثبت بالاجماع، ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن، فيكون اثباتاً للاجماع بما لا يثبت حجيته الا به فيصير دوراً .

واذا سلكنا في الاعتراض هذا الطريق، لا انه اثبات لاصل كلي بدليل ظني، فلا يجوز. لم يرد علينا القياس، نقضاً للاحتجاج عليه بالظواهر اذ لا يلزم دور (انتهى) .

لان جواز التمسك بظاهر القرآن في مسائل الاصول والفروع ثابت ، ضرورة من الدين أو باجماع خاص معلوم تحققه، وافادته القطع. وان لم يعلم حجية كل اجماع، ولا حجية كل اجماع بلغ المجمعون فيه عدد التواتر، ولا الاجماع المختلق ، الذي ادعاه في دليله المختار عنده على حجية الاجماع من حيث أنه اجماع من الاجماع على القطع بتخطئة المخالف، وتقديمه على القاطع كما سيتضح في فصل في ذكر اختلاف الناس في الاجماع انشاء الله تعالى .

وقوله ( واذا سلكنا الخ) فيه مع منافات ظاهرة لما نقلنا عنه من أن المعترض مستظهر من جانبي اشتراط العلم في الأصول وعدمه ، ولما ذكره في جواب

١١

من استدل بالظاهر على وجوب العمل بخبر الواحد ، ومن استدل به على المنع منه ، من أنه ظاهر في الاصل . فلا يجدي أن التمسك بظاهر القرآن قطعي كما ذكرنا دليل مناط التمسك به الظن ، بأنه مراد الله تعالى .

فانه قد يكون العمل واجباً مع ان الحكم الواقعي ليس بمعلوم ، ولا مظنون فليست الادلة المانعة من اتباع الظن مانعة بظاهرها منه كما سنذكره عند قول المصنف : (وأما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين) .

وبعد التنزل عن جميع ذلك نقول : قوله ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن غير محتاج اليه في الاعتراض لانه يكفي هنا فقد الدليل على جواز التمسك بالظاهر، وانما ذكره زيادة على المتن للاستظهار، وهو فاسد .

لان العموم المستفاد من الدلائل المانعة ان كان قطعياً بالنسبة اليها ، مع قطع النظر عن هذا الاجماع كما هو الحق وسنبينه، فكان تخصيصها بالاجماع ممتنعاً لاستلزامه تعارض القطعين، وان كان ظنياً فكيف يجب العمل بالدلائل المانعة على تقدير انتفاء هذا الاجماع وهي ظاهرة . ولم يثبت بعد جواز التمسك بالظاهر .

لا يقال: نختار الشق الأول ، نقول : لما جعل الاجماع المذكور التمسك بالظاهر من قبيل القطعيات ، لم يشمله عموم الدلائل المانعة حتى يحتاج الى تخصيص . كما سيذكره المصنف في (فصل في أن القياس في الشرع لا يجوز استعماله ) .

أو نختار الشق الثاني ، ونقول :

أولا : ان ما ذكرتم ، انما يتم لو كان المقصود ان يثبت بالظاهر جواز التمسك به. اما اذا كان المقصود أن يثبت بالظاهر حظر التمسك به كما فيما نحن

١٢

فيه ، فلايتم ، لان حاصل الكلام حينئذ يرجع الى قياس قطعي جامع لشروط الانتاج بأن يقال : لو جاز التمسك بشيء من الظواهر في مسائل اصول الفقه ، لجاز التمسك بهذه الدلائل المانعة فيها ، لانها من أقوى الظواهر . ولو جاز التمسك بهذه الدلائل لم يجز التمسك بشيء من الظواهر. ينتج لوجاز التمسك بشيء من الظواهر ، لم يجز التمسك بشيء من الظواهر ، ومعلوم ان ما يستلزم نقيضه باطل .

وثانياً أنه يجوز أن تكون الدلائل ظنية في أنفسها ، وتصير بانضمام انتفاء ذلك الاجماع قطعية .

لانا نقول في الجواب عن الأول : انه ان اريد به آن عموم الدلائل ، انما هو بالنسبة الى ظني ، ليس جواز التمسك به قطعياً ، فهو تعسف كما يظهر من تتبع الدلائل .

وان اريد به أن قطعية جواز التمسك بالظاهر، بجعل الحكم المدلول للظاهر قطعياً ، فهو خلط للحكم الواصلي بالواقعي، كما سنحققه ثمة انشاء الله تعالى.

على ان هذا غير مراد ، وليس نظره اليه . لانه حينئذ يرجع الاعتراض المرضي عنده ، الى الغير المرضي عنده . وأيضاً يصير دفع الاعتراض الغير المرضي عنده ، بما ذكره من النقض بالقياس، للاحتجاج عليه بالظواهر ظاهر البطلان

أيضاً قد صرح غير مرة موافقاً للماتن ، في مباحث خبر الواحد بأن هذه الدلائل ليست قطعية ، وخولفت للاجماع المخصص لها أحياناً .

وفي الجواب عن أول الثاني :

أولا : انا نعود فنقول : ان هذا القياس وان كان مفيداً للقطع بالعموم ، فتخصيصه بالاجماع مستلزم لتعارض القطعيين .

١٣

قال المحقق الحلي (۱) في رسالته في أصول الفقه (۲) في بحث خبر الواحد، في نظير هذا المقام : «لا يقال : لولا الاجماع لقلنابه لانا نقول: حيث منع الاجماع من اطراد هذه الحجة دل على بطلانها لان الدليل العقلي لا يختلف بحسب مظانة (۳) (انتهى) .

وذكر مثل ذلك في بحث القياس أيضاً . والا فلم يثبت بعد جواز التمسك بالظاهر ، وان عدتم عدنا .

وفيه انه خلط للحكم الواصلي بالواقعي ، لانه يجوز في البرهان العقلي على الحكم الواصلي، اخراج بعض موارده، بل كلها عن كونه مورداله ببرهان آخر، بخلاف البرهان على الحكم الواقعي ، وما نحن فيه من الأول .

وثانياً : لا نسلم كون الدلائل المانعة من اتباع الظن من أقوى الظواهر في المنع من العمل بالظاهر والذي مرقبل التنزل منع أصل الظهور .

وثالثاً : لوسلم فلا نسلم أنه يستلزم صدق الشرطية الأولى، لان المتنازع فيه ظاهر، لم يعارضه ما يساويه، أو ما يكون أقوى منه. وهذه الدلائل قد عارضها استلزامها للنقيض، لا يقال : لازمها أعم من النقيض فلتخصص بما عدا النقيض ويكفي فيما نحن فيه .

__________________

(١) الشيخ الاجل الاعظم ، شيخ الفقهاء والمحققين ، أبو القاسم ، نجم الدين ، جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلى ، قال تلميذه ابن داود في وصفه : المحقق المدقق الامام العلامة ، واحد عصره ، كان ألسن أهل زمانه وأقولهم بالحجة ، وأسرعهم استحضاراً .

كان مولده الشريف سنة اثنين وستمائة ، وتوفى رحمه‌الله تعالى في صبيحة يوم الخميس ثالث عشر ربيع الاخر سنة ست وسبعين وستمائة .

(۲) الموسومة : بمعارج الاصول . وقد طبعت في ايران على الحجر .

(۳) معارج الاصول : ۸۳ الفصل الثاني المسألة الثالثة

١٤

فانا نقرر القياس هكذا : لو جاز التمسك بأمثال هذا الظاهر ، لجاز التمسك بالدلائل المانعة من التمسك بالظاهر فيما عداها من الظواهر، لان هذه الدلائل من أقوى الظواهر فيه. ولوجاز التمسك بالدلائل المانعة فيه ، لم يجز التمسك بأمثال هذا الظاهر .

لانا نقول : حينئذ يكفي لنا في منع لزوم صدق الشرطية الأولى الفرق بانه لا يحتاج أمثال هذا الظاهر الى التأويل ويحتاج الدلائل المانعة اليه .

وعن ثاني الثاني : أولا : ان الاجماع كاشف عن مستند اما دليل أو امارة كشف الاجماع عن أنه لاخطاء فيها .

فلو ارتفع الاجماع لم يرتفع مستنده فلا تصير الدلائل قطعية ، اللهم الا أن يراد بارتفاع الاجماع انتفائه مع انتفاء ما يصلح لان يكون مستنداً له ، ويلتزم أن القائل مانع في الاستظهار أيضاً فيكفيه احتمال القطعية حينئذ .

وثانياً : أن لهذه الدلائل مدلولا ودلالة، والاجماع مقولها من حيث الدلالة ومضعف لها من حيث المدلول والقطعية والظنية متعلقان بها من حيث الدلالة فبارتفاع الاجماع لا يتقوى الدلالة حتى يصير قطعياً .

ويمكن دفع ما قبل التنزل سوى منافات ظاهر قوله (واذا سلكنا) لما نقل عنه بانا نعلم من الخارج أن مقصود المستدل التمسك بالظاهر في الحكم بان العمل بالاجماع واجب بالوجوب الواقعي، ليتوصل به الى الحكم بالاحكام الواقعية في المسائل الفقهية بالاجتهاد. لكن يرد على القائل، وحينئذ ان الاجماع لم ينعقد على جواز التمسك بالظاهر فيما ذكرتم وسنبينه عند قول المصنف (وأما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين ) ونقول هنا لو تحقق اجماع لبلغ الينا مستنده .

١٥

قال: صاحب الفوائد المدنية رحمه‌الله تعالى :(۱): وأقول بعد نطق كثيرة من الآيات الشريفة بالمنع عن العمل بالظن في نفس الاحكام الالهية ، لوظهر نص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المخصص لتلك الآيات بالاصول ، لتواتر الينا ، بل الى انقراض أهل الدنيا لتوفر الدواعي على أخذ مثل ذلك، وعلى ضبطه ونشره و لم يظهر باتفاق المتخاصمين، فعلم انتفائه في الواقع (انتهى) .

ويمكن أيضاً دفع ما بعد التنزل بان قول القائل : ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن، محتاج اليه في الاعتراض لانه لدفع أن يتوهم انه لا حاجة في التمسك بالظاهر الى الاجماع ، لانه مركوز في العقول انه يجوز عقلا ، الحكم بأي شيء كان بسبب ما يفيد الظن به . كما هو المتعارف في المخاطبات . كقولنا زيد حي في بلد كذا ، ونحو ذلك، مالم يدل دليل يساويه .

أو يكون أقوى على المنع منه نظير ما قالوا: من أن الاصل في بعض الاشياء الاباحة، مالم يرد شرع على المنع منه .

فنقول: نختار الشق الثاني، ونقول: قولكم ولم يثبت بعد جواز التمسك بالظاهر ، باطل لانه وان لم يثبت شرعاً ، لكنه ثابت عقلا . والمقصود بالعمل بالدلائل المانعة، ترك الحكم بالظن، لا الحكم بحظر الحكم بالظن، حتى يتوجه أن هذه الدلائل ضعيفة، لأنها قد عارضها استلزامها للنقيض .

لكن يرد على القائل. حينئذ ان هذه الدلائل قطعية كما سننبه عند قول المصنف (وأما القياس والاجتهاد الى آخره .

__________________

(١) الفوائد المدنية في الرد على القائل بالاجتهاد والتقليد في الاحكام الالهية للمولى المحدث ، محمد أمين بن محمد شريف الاسترابادى الاخباري المتوفى بمكة في سنة (۱۰۳۳ه.) وقيل : سنة (۱۰۳۰). الذريعة ١٦ : ٣٥٨ .

١٦

وأبدأ في أول الكتاب فصلا يتضمن ماهية اصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها (۱) وتعلق بعضها ببعض ، حتى ان الناظر اذا نظر فيه وقف على الغرض المقصود بالكتاب (۲)

____________________________________________

واما الاعتراض على المستدل بأن كل من قال بحجية الاجماع ، قائل بأنه حجة قطعية. فالتمسك بالظاهر فيه ، يستلزم جعل الظاهر دليلا على أقوى منه فيمكن الدفع ، لان له أن يقول : انما استدل به على أصل الحجية ، لا على القطعية أيضاً

(۱) قوله (أبدأ في أول الكتاب فصلا يتضمن ماهية اصول الفقه، وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها البدء، كالمنع الانشاء، والاحداث . وذكر في أول الكتاب، للاشعار بأن كلا من الفصول التي بعده أيضاً بدوي، ولكنه في وسط الكتاب، أو في آخره فيمكن أن يكون التشبيه في قوله تعالى في سورة الانبياء: كما بدأنا أول خلق نعيده (۳) للدلالة على ان هذه الاعادة بعد فناء الدنيا بأسرها، كما في نهج البلاغة، في خطبة أولها : «ما وحده من كيفه»  قوله عليه‌السلام : وان الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لاشيء معه. كما كان قبل ابتدائها الى قوله : « ثم يعيدها بعد الفناء ». (۴) وللرد على الفلاسفة الزنادقة في قولهم اعادة المعدوم بعينه محال .

(۲) قوله (وتعلق بعضها ببعض حتى ان الناظر اذا نظر فيه ، وقف على الغرض المقصود بالكتاب) أي نسبة بعضها الى بعض بالتقديم والتأخير. وهو عطف تفسير لترتيب أبوابها .

__________________

(٣) الانبياء: ١٠٤ .

(٤) نهج البلاغة، خطبة رقم ١٨٦ في التوحيد) ص ۲۷۲ .

١٧

وتبين من أوله الى آخره . والله تعالى الموفق للصواب (۱) .

فصل

في ماهية اصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها (٢)

اصول الفقه هي أدلة الفقه (۳) .

____________________________________________

(۱) قوله (وتبين من أوله الى آخره والله تعالى الموفق للصواب) التبين عرفاً : العلم الحادث عن دليل . كما سيجيء في (فصل في ذكر حقيقة البيان) و مفعوله محذوف أي : والضمير المحذوف للكتاب ، أو للغرض المقصود منه .

(۲) قوله قدس سره فصل في ماهية اصول الفقه ، وانقسامها ، وكيفية ترتيب أبوابها أي حدها اللفظي مضافة ولقباً. ولنمهد لتوضيح كلام المصنف في الحدين .

مقدمه : هي أنه معلوم من الخارج ، أن لفظ اصول الفقه منقول من معنى اضافي الى اللقبية . المسائل موضوعها ذلك المعنى الاضافي. فيجب تعيين ذلك المعنى الاضافي ، وبيان القيد المعتبر معه ، في المعنى اللقبي ، حتى يتضح المعنى اللقبي حق الاتضاح

(۳) قوله (اصول الفقه هي أدلة الفقه) هذاحد اصول الفقه ، باعتبار المعنى الاضافي ، المنقول عنه .

والاصول: جمع أصل ، وهو ما يبنى عليه شيء، واليه يرجع الراجح ، والسابق الزماني، والذاتي ، والقاعدة الكلية ، والدليل ، وغير ذلك . لانها أقسامه ، واذا أضيف الى العلوم أو المسائل ، كما فيما نحن فيه ، فالمتبادر منه

١٨

عرفاً الدليل .

والفقه لغة : الفهم (١) أي العلم المفضى الى العمل بمقتضاه ، فالتفقه التفهم أي أخذ الفقه من الفقيه . ومنه قوله تعالى في سورة التوبة : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون (۲) ضمير منهم، وضمير لعلهم يحذرون . لمنافقي الاعراب المذكورين سابقاً بقوله : «الاعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله» (۳) .

الحدود : اللوازم والمرافق ، وما أنزل الله على رسوله ، الآيات البينات المحكمات، الناهية عن اتباع الظن في نفس أحكام الله تعالى، وعن الاختلاف فيها عن ظن المشتملة على الوعيد بالنار على مخالفتها .

فحدود ما أنزل الله على رسوله المسائل التي لا يمكن العمل بها الامع العلم بها ، كوجوب سؤال أهل الذكر في كل مجهول احتيج اليه .

والفقه اصطلاحاً : الفهم في الدين . أي فيما أنزل الله على رسوله، وفي حدوده . فالتفقه اصطلاحاً : التفهم في الدين، هذا في المصدر السابق . وأما بعد ذلك ، فالفقه اصطلاحاً : مسائل تحمل فيها الاحكام الشرعية العملية ، على غير التصديق . والذي يكشف عن حقيقة هذا الحد ، ان محمولات المسائل اما من قبيل الاحكام ، كالوجوب والندب والاباحة ، وغير ذلك من الاقسام . واما من غيره ، كالتماثل والاختلاف

والاحكام اما مأخوذة من حيث انها متلقات من الشارع ، وهي الاحكام الشرعية . واما غير مأخوذة من هذه الحيثية ، وهي الاحكام العقلية ، المحمولة

__________________

(١) النهاية ٣ : ٤٦٥ ، ولسان العرب ٣ : ٥٢٢ مادة (فقه) ،

(٢) التوبة : ۱۲۲ .

(۳) التوبة : ٩٧

١٩

في مسائل فن الاخلاق ، والاداب ، والصنايع .

والاحكام الشرعية اما عملية ، يقصد بحملها على موضوعها الكلي ، أولا معرفة أحكام الاعمال الشخصية ، ليعمل على وفقها . نحو قولنا : حج البيت واجب على من استطاع اليه سبيلا . فان المقصود به (أولا) معرفة حكم حج زيد في سنة كذا مثلا ، وعمله به .

واما اعتقادية، يقصد بحملها أولا معرفة أحكام الاعمال الكلية ، أي الاحكام العملية المذكورة سابقاً . فمعرفة أحكام الاعمال الشخصية مقصودة بها .

(ثانياً) وبواسطة ، وهي محمولات مسائل اصول الفقه ، نحو قولنا : كل مأمور به واجب ، بشرط عدم الصارف . فان المقصود به أولا اعتقاد وجوب الصلاة بشرط كذا ، ثم بواسطته معرفة وجوب صلاة زيد في وقت كذا ، وعمله بها .

والتحقيق أن محمولات مسائل أصول الفقه هي اقتضاء الاحكام ، كما في قولهم : الامر يقتضي وجوب المأمور به ، وما مر من المثال ، تعبير عن ذلك ينبغي أن يرجع اليه .

والاحكام العملية، اما محمولة على التصديق، بمعنى المطوع القلبي الذي يعبر عنه في الفارسية : (بگرویدن) و (گردن نهادن) نحو وجوب التصديق بالله تعالى ، وبالنبي والامام عليهم‌السلام . مما لا يثاب تار كه على عبادة أصلا ، لان ترك تصديق واجب ، يستلزم عدم سوء سيئة ، وعدم سرور حسنة وهو كفر ، وهي أحكام اصول الدين .

واما محمولة على غير التصديق ، وهي الاحكام الفقهية . واشتقاق الفقيه من الفقه ، بهذا المعنى ، من قبيل النسبة ، كالتامر ، واللابن، أي من علم قدراً صالحاً من الفقه .

٢٠