مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٦
ولم يقتصر هذا النوع من الرجال على المشركين أو المنافقين وأصحاب المصالح من المؤلفة قلوبهم وغيرهم ، بل كان بينهم المسلمون الذين لا يعرفون ما للنبي من مكانة ومنزلة ، فترى هؤلاء يرفعون أصواتهم على صوت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ، ويعترضون على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في أعماله ، ويتبعون ما تمليه المصلحة التي يتخيلونها عليهم ، رغم وجود النصوص ، ويفتون بالرأي بحضرته ، وقد نزل الوحي بذلك في آيات كثيرة ، منها :
قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (١).
وقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) (٢) ..
وقوله سبحانه : (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله) (٣) ..
وقوله تعالى : (ومنهم الذين يؤذون النبي) (٤).
وعليه : فالصحابة المتعبدون هم الذين أخذوا بكلام الله ورسوله ، ولم يجتهدوا أمام النص ، ولم يطلبوا من الرسول تبديل حكم الله ، وقد جاء وصفهم في الذكر بقوله تعالى : (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (٥) ، ففي قوله تعالى ما يشير إلى وجود جمع يحاولون
__________________
(١) سورة الحجرات ٤٩ : ٢.
(٢) سورة التوبة ٩ : ٣٨.
(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٧.
(٤) سورة التوبة ٩ : ٦١.
(٥) سورة الأحزاب ٣٣ : ٢٣.
التبديل والتغيير ، وأن الشهداء لم يكونوا من أولئك الناس المعترضين على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل كانوا متعبدين بسنة الرسول وآخذين بها حتى النهاية.
هذا ، وإن دعاة التبديل والتغيير ـ نهج الاجتهاد والتأويل ـ لم يكونوا قلة قليلة لا يحسب لها حساب ، فهم قد عارضوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في أكثر من مشهد وموقف ، فنحن لو أردنا جمع ذلك لصار كتابا مستقلا بنفسه ، لكنا نشير هنا إلى بعض المواقف التي يتضح من خلالها ما نقوله :
فمنها : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى المسلمين عن صوم الدهر مشيرا إلى أن صوم ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صوم الدهر ، فامتثل أمره بعضهم ، وأبى آخرون إلا أن يصوموا الأيام جميعا!
ومنها : نهي الرسول عن الرهبانية ، فلم يمتثل كثير من الناس أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ تركوا لذائذ الدنيا ظنا منهم أن ذلك تقرب إلى الله.
ومثله الحال بالنسبة إلى نحر الإبل وأكل لحومها يوم تبوك ، فمع إجازة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نحرها ، برز هناك من الصحابة من أنكر نحرها.
ومن ذلك ما جاء عن صحابي قبل زوجته وهو صائم ، فوجد من ذلك وجدا شديدا ، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك ، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين فأخبرتها ، فقالت أم سلمة : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقبل وهو صائم.
فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته ، فزاده شرا!! وقال : لسنا مثل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يحل الله لرسوله ما يشاء.
فرجعت المرأة إلى أم سلمة ، فوجدت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عندها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما بال هذه المرأة؟
فأخبرته أم سلمة ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟!
فقالت أم سلمة : قد أخبرتها ، فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا ، وقال : لسنا مثل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يحل الله لرسوله ما شاء.
فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم قال : والله إني لأتقاكم لله ولأعملكم بحدوده (١).
وقريب منه هذا النص : جاء فتى من قريش إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم! إئذن لي في الزنا ، فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا : مه مه!!
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أدن ، فدنا منه قريبا فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أتحبه لأمك؟
قال : لا والله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أتحبه لابنتك؟
قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم.
ثم ذكر له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخته وعمته وخالته ، وفي كل ذلك يقول الفتى مقالته : «لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك».
قال : فوضع يده صلىاللهعليهوآلهوسلم عليه وقال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه.
قال الراوي : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شئ (٢).
ومنها قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أيتلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (٣).
__________________
(١) الرسالة ـ للشافعي ـ : ٤٠٤ فقرة ١١٠٩ ، وأخرجه مسلم عن عمرو بن أبي سلمة.
(٢) مجمع الزوائد ١ / ١٢٢.
(٣) صحيح مسلم كتاب الإيمان ، سنن النسائي ٦ / ١٤٢.
وفي آخر : أبهذا أمرتم؟! ولهذا خلقتم؟! أن تضربوا كتاب الله بعضا ببعض ، انظروا ما أمرتم به فاتبعوه ، وما نهيتم عنه فانتهوا (١).
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنه غضب حين أمر الصحابة بالحلق والإحلال من الإحرام في صلح الحديبية ، فلم يفعلوا ، إذ شق ذلك عليهم ، فانتظروا حتى أتم صلىاللهعليهوآلهوسلم مناسكه وأعماله وأحل فأحلوا ، مع أن تكليفهم كان الإحلال من قبل.
وهذه النصوص التي ذكرناها تؤكد وجود اتجاه كبير يرتضي لنفسه التشريع ولا يتعبد بقول الرسول ، وإن استقرار أمثال هؤلاء في صدارة التشريع بعد الرسول يبعث على التثبت أكثر من النصوص الصادرة عنهم ، وهل أنها قد تأثرت بالأفكار السابقة أم لا؟ فإن معرفة هذا الترابط يجعلنا نفهم الحقائق بصورة أخرى.
والآن مع بعض الأحاديث التي كتبها الخليفة الثاني عن كتب التوراة ، ومدى تأثير تلك الواقعة على سلوكه في العصر اللاحق.
مع أحاديث التهوك :
روي عن عمر أنه قال للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنا نسمع أحاديث من يهود ، تعجبنا ، أفترى أن نكتبها؟ فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية (٢).
وروى الخطيب بسنده عن عبد الله بن ثابت الأنصاري ـ خادم
__________________
(١) كنز العمال ١ / ١٩٣ ح ٩٧٧ ، عن مسند أحمد ٢ / ١٧٨.
(٢) النهاية ـ لابن الأثير ـ ٥ / ٢٨٢ ، حجية السنة : ٣١٧ ، جامع بيان العلم ٢ / ٤٢.
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ قال : جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومعه جوامع من التوراة ، فقال : مررت على أخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة أفلا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال [الأنصاري] : أما ترى ما بوجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟!
فقال عمر : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، فذهب ما كان بوجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : والذي نفسي بيده ، لو أن موسى أصبح فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنتم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين (١).
وعلق محقق كتاب الأسماء المبهمة للخطيب البغدادي على الخبر آنف الذكر بقوله : إن الذي قال لعمر هو عبد الله الذي أري الأذان ، قال لعمر : أمسخ الله عقلك؟! ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! (٢).
وفي المراسيل لأبي داود : أن عمر بن الخطاب مر بقوم من اليهود فسمعهم يذكرون دعاء من التوراة فاستحسنه ، ثم جاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فجعل يقرؤه ووجه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يتغير.
فقال رجل : يا بن الخطاب! ألا ترى ما في وجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟!
فوضع عمر الكتاب.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن الله بعثني خاتما ، وأعطيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي الحديث اختصارا ، فلا يلهينكم المتهوكون!
__________________
(١) مجمع الزوائد ١ / ١٧٤. المصنف ـ لعبد الرزاق ـ ١٠ / ٣١٣ ، وقريب منه في ١١ / ١١١ ، مسند أحمد ٣ / ٣٨٧.
(٢) الأسماء المبهمة : ١٨٩ ح ٩٥.
فقلت لأبي قلابة : ما المتهوكون؟
قال : المتحيرون (١).
وقال أبو عبيدة في تفسير معنى المتهوكين : أمتحيرون في الإسلام حتى تأخذوه من اليهود.
وقيل : التهوك : السقوط في هوة الردى (٢).
وقيل : التهوك : كالتهور ، الوقوع في الأمر دون روية (٣).
وقبل أن ننهي الحديث عن (حديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد البعثة) لا بد من الإشارة إلى أمرين آخرين حدثا في أخريات عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الأول منهما : حديث الأريكة ، والثاني : حديث الدواة.
فأما حديث الأريكة :
فقد روى ابن حزم بسنده عن العرباص بن سارية : أنه حضر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يخطب الناس ، وهو يقول : أيحسب أحدكم متكئا ، قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ، ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء ، إنها لمثل القرآن.
قال ابن حزم : صدق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هي مثل القرآن ، ولا فرق في وجوب كل ذلك علينا ، وقد صدق الله تعالى هذا ، إذ يقول : (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (٤) ، وهي أيضا مثل القرآن في أن كل ذلك وحي
__________________
(١) المراسيل ٣ / ٢٢٤.
(٢) لسان العرب ١٢ / ٤٠٠.
(٣) النهاية ـ لابن الأثير ـ ٥ / ٢٨٢.
(٤) سورة النساء ٤ : ٨٠.
من عند الله تعالى ، قال الله عزوجل : (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (١) (٢).
وجاء في مسند أحمد ، وسنن ابن ماجة ، وسنن أبي داود ، وسنن الدارمي ، وسنن البيهقي ، وغيرها ، أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : يوشك الرجل متكئ على أريكته ، يحدث بحديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدناه فيه من حلال أحللناه ومن حرام حرمناه (٣).
وفي آخر : «يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه ...» (٤).
وروى الخطيب البغدادي ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لعل أحدكم أن يأتيه حديث من حديثي وهو متكئ على أريكته فيقول : دعونا من هذا! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (٥).
في النصوص السابقة بعض النكات ..
منها : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يوشك الرجل متكئ على أريكته ، يحدث بحديثي ، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدناه فيه من حلال أحللناه ومن حرام حرمناه».
__________________
(١) سورة النجم ٥٣ : ٣ و ٤.
(٢) الإحكام ـ لابن حزم ـ ١ / ١٥٩.
(٣) أنظر : مسند أحمد ٤ / ١٣٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٦ ح ١٢ ، سنن أبي داود ٤ / ٢٠٠ ح ٤٦٠٤ ، سنن البيهقي ٩ / ٣٣١ ، دلائل النبوة ١ / ٢٥ وج ٦ / ٥٤٩ ، الإحكام ـ لابن حزم ـ ٢ / ١٦١ ، الكفاية في علم الدراية : ٩ ، وغيرها.
(٤) سنن ابن ماجة ١ / ٦ ح ١٣ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٨ ، الفقيه والمتفقه ١ / ٨٨.
(٥) الكفاية ـ للخطيب البغدادي ـ : ١٠.
فالفعل (يوشك) هو من أفعال المقاربة ، ويدل على قرب تحقق العمل ، وفي بعضها ما يؤكد على أن ما يقع هو مما لا يرتضيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كقوله : «لا أعرفن» و «لا ألفين» مؤكدا على أن كلامه من كلام الله ولا تنافي بينهما .. «ألا إن كلامي كلام الله».
وجملة : «يحدث بحديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدناه فيه من حلال أحللناه ومن حرام حرمناه» .. يزيدنا عزما للوقوف على القائل به!
ونحن لو طالعنا تاريخ التشريع الإسلامي لوقفنا على نص للخليفة الأول بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقوله للناس : إنكم تحدثون عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا ، فمن سألكم عن شئ فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (١).
ولو تأملت في نص الرسول وما جاء عن الخليفة الأول ـ بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لرأيت نفحات الوحي ظاهرة على كلامه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنك سترى أن الشيخين هما أول من سنا المعارضة للتحديث والتدوين عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكانا الأقرب عهدا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واللذين جلسا على أريكة الخلافة من بعده ، وأن منعهم شرع لعلل ك : «الناس بعدكم أشد اختلافا» ..
و «بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه» ..
و «إني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا ، فأكبوا عليها ، فتركوا كتاب
__________________
(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢ ـ ٣.
الله تعالى ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشئ أبدا» ..
و «أمنية كأمنية أهل الكتاب» .. و...
فإنك لو تأنيت وتدبرت في هذه العلل لرأيتها بنفسها تتحد مع أدلة الناهين عن الحديث عن رسول الله ، فالنصوص هنا جاءت عن الشيخين ، ومن الطبيعي في ظل مثل تلك الظروف أن تصدر نصوص ذامة للتدوين عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دعما لموقف الشيخين وتحكيما لما دعوا إليه ..
وقد مرت عليك مناقشتنا لمرويات أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهما ، فإنك لو قارنتها بتأمل بعيدا عن العصبية لعرفت اتحاد العلة وكثرة الشبه بينها وبين ما يصدر عن الخليفة ، وهي تدل على أن أنصار الخليفة كانوا وراء أدلة النهي لا محالة ، وأن ما قالوه لا يتفق مع تحريض الإسلام على التعلم والكتابة ، وهو الآخر لا يتفق مع تدوين الصحابة لأحاديثه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإجماع أهل بيته صلىاللهعليهوآلهوسلم على التدوين ، كل هذه تؤكد على سقم أدلة القائلين بحظر الرسول على حديثه ، بل تدل على جوازه إلى آخر حياته ، وقد كان ما ادعوه إحدى المؤثرات القبلية والجاهلية بعد الإسلام.
حديث الدواة والقلم :
أخرج الطبراني في الأوسط عن عمر أنه قال : لما مرض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا.
فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟!
قال عمر : فقلت : إنكن صويحبات يوسف ، إذا مرض عصرتن
أعينكن ، وإذا صح ركبتن عنقه!
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : دعوهن! فإنهن خير منكم!
وفي رواية أخرى : إن الرسول عندما قال : «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» ، تنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا : هجر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : دعوني! فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
وفي خبر البخاري : لما حضر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده.
فقال عمر : إن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله.
فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لهم : قوموا! (١).
قال عبد الله بن مسعود : فكان ابن عباس يقول : الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
وأخرج مسلم في كتاب الوصية من ـ ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه قال : يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ.
__________________
(١) البخاري ١ / ٦٦ ح ٥٥ كتاب العلم ، وكتاب المرضى ٤ / ٢١٢ ح ١٠.
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا».
فقالوا : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يهجر (١).
وفي طريق آخر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال ابن عباس : يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بل دمعه الحصى.
فقلت : يا بن عباس! وما يوم الخميس؟! قال : اشتد برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجعه ، فقال : «ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي» فتنازعوا ، وما ينبغي عند نبي تنازع ، وقالوا : ما شأنه؟! أهجر؟! استفهموه!
قال : «دعوني! فالذي أنا فيه خير ، أوصيكم بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» قال : وسكت عن الثالثة ، أو قالها فأنسيتها (٢).
وهذه النصوص توقفنا على واقعة مهمة مفادها انقسام المسلمين بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى قسمين :
أحدهما : يدعو إلى الأخذ بكلام الرسول ، وهم أهل بيته والمقربون من أصحابه.
والثاني : لا يرتضي التدوين ، تأييدا لمقولة عمر بن الخطاب : «غلبه الوجع» أو : «إن الرجل ليهجر» .. والباحث يعلم بأن هذه المقولة ما هي إلا تشكيك في سلامة عقل الرسول ، والعياذ بالله.
__________________
(١) صحيح مسلم ٣ / ١٢٥٩.
(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٢٥٧.
نعم ، إن أصحاب نهج الاجتهاد والرأي أرادوا التخلص من هذه المقولة فسعوا لتأويلها بأعذار اخترعوها ، كقولهم : إن كلام الرسول جاء للامتحان والاختبار ولم يلحظ فيه التشريع والعزيمة حتى يلزم فعله ، بل يجوز للمكلف تركه ، لكونه رخصة جائزة الترك ، وإن الله هدى عمر بن الخطاب لمعرفة كون هذا الأمر رخصة فمنعهم من أخطارها ، إشفاقا من أن يأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بشئ ولا يطاع في أمره ، أو إشفاقا منه على الأمة إذ خشي أن يكتب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمورا يعجز عنها الناس فيستحقون العقوبة بتركها ، لكونها منصوصة لا سبيل للاجتهاد فيها.
لكن هذه المقولات وما يضارعها باطلة لعدة جهات :
أولها : إن عد فعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ طلب إحضار الدواة ـ مجرد اختبار لا غيره يلزم منه تجويز رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للكذب الواضح ، الذي يجب تنزيه الأنبياء عنه ، ولا سيما في موضع كان ترك إحضار الدواة أولى من إحضارها حسب هذا التقول المزعوم ...
ثانيا : إن الوقت ، لم يكن وقت اختبار وامتحان ، ولو كان كذلك لحصل في طول المدة التي صاحبوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها ، بل كان الوقت وقت إنذار وإعذار وإبلاغ وإكمال.
ويمكن أن تفهم هذه الحقيقة من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تضلوا بعده» ، فهذه الجملة تؤكد على أن الطلب لم يكن طلب اختبار ـ كما يقولون ـ لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أعقب طلبه بجملة «لا تضلوا» ، وهي تفيد العزيمة لا الرخصة ، وإن السعي في تحقق الأمن من الضلال هو من شرائط الرسالة ومهام الرسول ، وهو مما يجب تحقيقه مع المقدرة عليه.
أضف إلى ذلك قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «قوموا عني» ، فهو الآخر يشير إلى أن
الأمر للإيجاب لا للمشورة ، فلو كان المانعون ـ من إتيان الكتاب للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ مصيبين في استنتاجهم لاستحسن صلىاللهعليهوآلهوسلم ممانعتهم ، وسر من موقفهم هذا ، لإصابتهم الحق ، لكن الحال أننا نراه قد امتعض واستاء من فعلهم وقال غاضبا : «قوموا عني» ، معرضا عن آرائهم وتقولاتهم ، لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم علم أن هذا القول سيكون بداية استحكام تيار الرأي أمام السنة المطهرة.
والأقوى من هذا كله أن جملة عمر بن الخطاب عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «غلبه الوجع» ، أو : «إن الرجل ليهجر» تؤكد على أن عمر عرف من الأمر العزيمة لا الرخصة ، لأنا نراه قد جد في عدم تحقق الكتابة ، فلو كانت رخصة لما ألزم عمر نفسه للقول بما قاله.
وبهذا فقد عرفنا أن هؤلاء قد ابتعدوا عن نهجه ، وعصوه في أمره ، وحكموا تيار الرأي أمام السنة وهو حي!
ثالثا : إن الواقعة واضحة وظاهرة في اختلاف الضوابط بين الاتجاهين ، فالذين نهوا عن الكتابة كانت حجتهم مرض النبي وعدم قدرته صلىاللهعليهوآلهوسلم على إقرار القرار الصائب ، لقولهم عنه : «غلبه الوجع» و : «إن الرجل ليهجر» ، لكن الآخرين كانوا لا يقبلون هذا التخرص في حق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومن الطريف أن نرى أتباع نهج الاجتهاد والرأي والداعين إلى ترك الأخذ بقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه ـ لقول عمر عنه : غلبه الوجع ـ نراهم يأخذون بما أضافه عثمان بن عفان في وصية أبي بكر قبيل موته ، مع علمهم بأن عثمان قد تصرف في وصية أبي بكر وهو مغمى عليه!!
فلم لم يعد إدخال اسم عمر بن الخطاب في وصية أبي بكر هجرا ،
مع علمهم بأنه مغمى عليه ولا يدرك الأمور؟!
وكيف يطلق «الهجر» و «غلبة الوجع» على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! ومن له كمال الوعي في انتخاب المواقف ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لهم : «ائتوني» ، ويقول : «قوموا عني» ، وغيره؟! ولا يمكن إطلاق الهجر على من تتخذ له المواقف وعلى لسانه وهو مغمى عليه لا يدري ماذا يجري من حوله؟!
نعم ، إنهم أخذوا بقول عمر بن الخطاب في تعيين أعضاء الشورى الستة وهو مريض ، ولا يأخذون بكلام سيد الأمة والمرسلين وهو يريد إبعادهم عن الضلالة ، والذي قال عنه الوحي : (ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)!!
رابعا : إن اتهام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالهجر وغلبة الوجع ، كان يستبطن دعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للمهادنة في أوامر الله تعالى ونواهيه ، ومنها دعوته لعدم كتبه للوصية التي أراد كتابتها ، فكأنهم دعوه إلى ترك الأمور سدى ، بترك تعيين الخليفة ، وترك التدوين ، كما دعوه من قبل لأن يمتثل لكثير من طلباتهم التشريعية ، كصوم الدهر ، وعدم الإحلال إلا معه ، و...
وفي مقابل ذلك كانوا يرون أن لا بد من فتح باب الرأي والاجتهاد وأن تختار قريش لأنفسها كما صرح بذلك عمر بن الخطاب من بعد!
فكان جواب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قاطعا وحاسما ، ذلك بقوله : «دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه» فقد دلل صلىاللهعليهوآلهوسلم على أنه كان بكامل قواه العقلية ، وأنه كان يأمر عن الله وينهى عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنه لا يبدل حكما من تلقاء نفسه ، فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم في وضع خير من الوضع الذي يريدونه له ويدعونه إليه من الإفتاء بالرأي والمساومة في أوامر الله ونواهيه ، فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى آخر حياته متعبدا بأوامر الله تعالى ، غير مفت في
الأحكام إلا بما أراه الله تعالى.
بقي شئ يجب الإشارة إليه ، وهو : لم ترك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كتابة كتابه بعد رزية يوم الخميس (٢٤ صفر) إلى يوم وفاته يوم الاثنين (٢٨ صفر) وقد كانت هذه الأيام الأربعة الباقية من عمره الشريف كافية لأن يصدع بما قاله وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم كان لا يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين ، فكيف بمخالفة المسلمين؟!!
والجواب :
نحن نعلم أن من وظائف الرسول هو تبليغ أحكام الله للناس ، وليس عليه امتثالهم لتلك الأحكام وعدم امتثالهم لها ، فقال سبحانه : (فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) (١) .. وقوله : (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) (٢) .. وقوله : (ما على الرسول إلا البلاغ) (٣) .. وقوله : (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) (٤) .. وقوله : (فهل على الرسل إلا البلاغ) (٥) .. وقوله : (وما علينا إلا البلاغ المبين) (٦) و... فرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبرهم بأنه يريد أن يكتب لهم كتابا لا يضلون بعده أبدا ، فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أدى ما عليه من الأمر في الإبلاغ والإنذار ولا ضرورة بعد هذا للمعاودة وتكرار الكلام ، وخصوصا أنه يعلم بأن المعاودة لا تفيد
__________________
(١) سورة المائدة ٥ : ٩٢.
(٢) سورة آل عمران ٣ : ٢٠.
(٣) سورة المائدة ٥ : ٩٩.
(٤) سورة النور ٢٤ : ٥٤ ، سورة العنكبوت ٢٩ : ١٨.
(٥) سورة النحل ١٦ : ٣٥.
(٦) سورة يس ٣٦ : ١٧.
مع هؤلاء ، وبعد هذا تكون وظيفة المكلف العمل أو الترك .. (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (١).
وعليه : فرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أدى ما عليه من واجب اتجاه الأمة ، وبالمعارضة سقط الوجوب عنه ، بعدم امتثالهم لكلامه .. (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ) (٢) .. وبقولهم عنه إنه «هجر» و «غلبه الوجع» أفهموا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنه لو أراد الاستمرار في تجديد الدعوة لشككوا في مكتوبته ، ولبقي عليها احتمال «الهجر» وبالتالي تصير ساقطة عن الاعتبار بنظر القائلين بهجر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم!
وأما القائلون بعصمة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد فهموا مراده صلىاللهعليهوآلهوسلم.
بل يمكننا القول بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لو أصر على كتابة الكتاب لحدثت ـ ولا شك ـ محاولات أكبر للتشكيك في أصل رسالته ، ولقالوا عنه أنه هجر في ما آتاهم من أحكام ، وبذلك لضاعت الرسالة المحمدية ، مع الإشارة إلى أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يعلم بأن لا فائدة للمعاودة وتكرار الإخبار ، لمعرفته بقوة تيار الرأي والاجتهاد ، وإخبار الله تعالى له بأن الأمة مختلفة من بعده ، وأنهم كما قال العزيز في كتابه : (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (٣) وحسبك حديث الحوض دليلا على اختلاف الأمة من بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
نعم ، إن نهج الاجتهاد والتأويل صور الرسول بصور ينبو اللسان عن ذكرها ، بدءا من تخلفه عن أوامر الله ـ كصلاته على المنافق ـ ، وتخلفه عن
__________________
(١) سورة الإنسان ٧٦ : ٣.
(٢) سورة الشورى ٤٢ : ٤٨.
(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.
الإنسانية ـ كعبوسه بوجه الأعمى عبد الله بن مكتوم ـ ، ومرورا بسبه صلىاللهعليهوآلهوسلم من لم يستحق السب واللعنة ، واعتبار هذا الفعل كفارة لذنوب ذلك الشخص الملعون!! ومشاهدته مع زوجاته صلىاللهعليهوآلهوسلم لعب الحبشة ، ولهوه في المسجد ، وانتهاء بما لا ينتهي من الدعاوي والجروح!!
فهذه هي اللبنات الأساسية التي ابتنيت عليها الأفكار لاحقا ، ومنها حصل التلاعب بقدسية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم التي حاول الأمويون جاهدين على طمسها من خلال مساواة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بمن هب ودب بحجة أنه صحابي وأن النبي مجتهد يخطئ ويصيب و...
ويبدو أن الذين منعوا عبد الله بن عمرو بن العاص ، كانوا من نفس الطراز الذي كمن وراء موقف عمر وأيده في منع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من كتابة ما ينجيهم من الضلالة ، وكذلك كانوا وراء منع التحديث في زمن الخليفة الأول وحرقه لمدونته ودعوته إلى الأخذ بكتاب الله فقط!
وبعد هذا فقد عرفت وجود اتجاهين في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنهما امتدا حتى يومنا الحاضر.
الأول : الرسول محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم والمتعبدون بقوله ، الداعون إلى كتابة سنته ، والناشرون لأحاديثه.
الثاني : قريش وأعلامها الذين اعترضوا عليه في حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم واجتهدوا بالرأي وأعملوه من بعده.
فأهل بيت الرسول ـ وعلى رأسهم علي بن أبي طالب وابن عباس ـ استنصروا لكتابه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واستنصر أصحاب الرأي للكفة المقابلة ، فدعوا إلى ما دعا إليه عمر بن الخطاب.
والذي حدث بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وحتى في حياته ـ هو أن أصحاب الرأي استخدموا الغلظة والعنف في تطبيق سياستهم وفرض آرائهم.
بل يظهر بجلاء أنهم استخدموا الغلظة والعنف حتى مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لما عرفت من إمساك عمر بن الخطاب برداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حينما أراد الصلاة على المنافق ، واعتراضه عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم اعتراضا شديدا في صلح الحديبية و... ، ومنعهم عبد الله بن عمرو بن العاص من كتابة حديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وختم عمر بن الخطاب اعتراضاته ـ في زمان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ باعتراضه على الكتابة ، عبر قوله بمحضر الرسول : «إن الرجل ليهجر» أو : «غلبه الوجع».
ومعنى هذا الكلام بحضرته صلىاللهعليهوآلهوسلم هو : أنه لا حاجة بنا إلى كلامك ، إذ القرآن كاف شاف ، وفيه تفسير كل شئ ، وهذا ما أخبر به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث الأريكة ، وما عمل به منكرو السنة المطهرة ، القائلون بلزوم الاكتفاء بالقرآن.
وكان هذا من التنبوءات الصادقة للصادق الأمين ، لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبر بأنه سيتسلم هذا الأمر من بعده من يقول : «بيننا وبينكم كتاب الله» و : «حسبنا كتاب الله» ، وهو ما سمعناه بعينه عن أبي بكر بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوائل خلافته : «... إنكم تحدثون عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا! فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله».
وهذا هو الذي جرأ أمثال الشيخ محمد رشيد رضا والدكتور توفيق
صدقي ومنكري السنة بالباكستان حديثا (١) ، والقائلين لعمران بن الحصين : يا أبا نجيد! حدثنا بالقرآن ... (٢) ، وقول أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن ... (٣) قديما.
وهذا هو الذي أعطى الجرأة لطائفة أن ترد الأخبار كلها وتنكر حجية السنة كمصدر للتشريع في نهاية القرن الثاني الهجري (٤) والقول بلزوم الاكتفاء بالقرآن عن السنة!
وبهذا ، فقد عرفنا أن ما روي من النهي ليس بأولى مما روي من الجواز ، إذ عرفنا أن كل من روي عنه النهي النبوي فقد روي عنه الجواز النبوي كذلك ، وهم الأكثر عددا ، وقد عملوا بقولهم ، فدونوا حديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأصروا على المحافظة عليه وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم ، وفيهم من هو أقرب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الناهين ، وأعلم بالسنة منهم ، مع التأكيد على أن أحاديث الإذن أوضح دلالة ، وأصح سندا ، وأكثر طرقا ورواة من روايات الحظر.
كل هذه الأمور تجعلنا نميل إلى القول بأن أحاديث النهي قد وضعت لاحقا ، ولتصحيح نهي الشيخين عن التدوين لا غير!
للبحث صلة ...
__________________
(١) سنتعرض لكلامهم لاحقا.
(٢) المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٩ ـ ١١٠ ، ونحوه مختصرا في الكفاية ـ للخطيب البغدادي ـ.
(٣) المستدرك على الصحيحين ١ / ٢٥٨.
(٤) الأم ـ للشافعي ـ ٧ / ٢٥٠ وفيه : «باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها».
أحسن الفوائد في أحوال المساعد (*) |
|
السيد محمد جواد الشبيري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، محمد وعترته أئمة الهدى ، واللعن على أعدائهم إلى يوم اللقا.
أما بعد :
فهذه رسالة وضعتها في البحث عن مسعدة ومن يسمى به في الأسناد ، وقد بحثنا فيها عن اتحاد بعض من يسمى بمسعدة مع بعض ، وهذا أمر جدير بالبحث خصوصا مع توثيق بعض هؤلاء ـ وهو مسعدة بن زياد ـ صريحا ، وعدم توثيق غيره من العناوين ، فنقول :
المعروف باسم مسعدة في كتب الرجال أربعة : مسعدة بن صدقة ، مسعدة بن زياد ، مسعدة بن اليسع ، ومسعدة بن الفرج ، وقد عدهم البرقي
__________________
(*) هذه الرسالة هي إحدى الرسائل التي صنفتها في أحوال الرواة وتوحيد المختلفات وتمييز المشتركات منهم في مركز البحوث الكمبيوترية للعلوم الإسلامية.